لماذا عقدت اسرايل اتفاقية أوسلو ؟


رمضان عيسى
2022 / 12 / 10 - 02:10     

من البداية نقول : ليس بسبب أنها لم تعد قادرة على الاستمرار في مرحلة النزاع الدائم ، بل لأن هذا النزاع يعطلها عن الدخول في اقتصاد السوق ويخسرها أرباحاً ضخمة.
وهذا ما قصدته الكاتبة الكندية نعومي كلاين في كتابها الشهير "عقيدة الصدمة" إنه سادت قناعة لدى مجتمع الأعمال الإسرائيلي أن الاحتلال الدموي لغزة والضفة الغربية يهدد مستقبل إسرائيل الاقتصادي، وأن هذه الحرب تؤخرهم وتضيع عليهم فرصة اللحاق بفورة الأسواق الناشئة، وبالتالي أرادوا أن يكونوا جزءاً من عالم الأرباح تلك. وأن يكون لهم وجود في الثورة المعلوماتية التي تحدث.
وتداركاً للموقف كان يجب التوصل إلى اتفاق للسلام مع الفلسطينيين، حتى لو لم يكن ذلك الاتفاق أكثر من صيغة جديدة ومختلفة لدولة الاحتلال التي أرادت إخبار العالم أنها لا تخوض حرباً، حتى ترفع الدول المتقدمة مقاطعتها لإسرائيل وتصبح إسرائيل في موقع اقتصادي ممتاز ومركز التبادل الحر في الشرق الأوسط. وعبّر "شيمون بيريز" وزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك عن واقع تلك السياسات الجديدة، عندما قال للصحفيين الإسرائيليين: "نحن لا نبحث عن سلام رايات، بل نهتم بسلام الأسواق".
ان تفكك الاتحاد السوفياتي الذي كان من نتائجه "هجرة الأدمغة الروسية" قد كان لهم الدور الرئيسي في إنجاح استراتيجية الاحتلال الجديدة نحو دخول الأسواق الحرة واللحاق بالثورة المعلوماتية، حيث هاجر في تلك الفترة أكثر من مليون يهودي من الاتحاد السوفييتي المنهار إلى إسرائيل، وشكل هؤلاء المهاجرون أكثر من 18% من إجمالي سكان إسرائيل. وهاجر بعد ذلك 600 ألف شخص إضافي من الدول المنشقة حديثاً من الاتحاد السوفييتي.
وتورد نعومي كلاين في كتابها: "كان عدد كبير من اليهود السوفييت الذين توجهوا إلى إسرائيل يسعون إلى العيش في دولة يهودية، ولكن هناك نسبة كبيرة من الروس الذين ذهبوا إلى هناك لم يكونوا صهيونيين مثاليين، وإيمان معظمهم باليهودية كان ضعيفاً، لكنهم ذهبوا بسبب تدهور الأوضاع داخل روسيا، ومعاناتهم مع اقتصاد الصدمة داخل روسيا".
وبعد ذلك نرى كيف استخدمت اسرائيل المهاجرين الروس في عزل فلسطين ، حيث استغلت إسرائيل هذا العدد الضخم من المهاجرين السوفييت في الاستغناء عن 150 ألفاً من العمال الفلسطينيين الذي كانوا يغادرون منازلهم كل يوم في غزة والضفة الغربية وينتقلون إلى إسرائيل للعمل في الحقول والمصانع وتنظيف الطرق وبنائها، وكان المزارعون والتجار الفلسطينيون يملؤون الشاحنات بالسلع ويذهبون لبيعها في إسرائيل، وكان كل طرف يعتمد على الآخر اقتصادياً.
وقبل قدوم السوفييت لم يكن اقتصاد إسرائيل ليصمد لولا مساهمة الفلسطينيين، ولكن تلك العلاقة المستحيلة انتهت مع قدوم المهاجرين السوفييت، ما ساهم في تفاقم الوضع داخل فلسطين وارتفاع البطالة، والعيش في وضع من الحصار الاقتصادي الذي فرضته إسرائيل حينما منعت السلطات الفلسطينية من إنشاء علاقات تجارية مع الدول العربية، فضلاً عن الحصار الاستيطاني الذي توسع داخل الأراضي الفلسطينية بفضل المهاجرين السوفييت.
وامتلك الاحتلال الإسرائيلي سلطات جديدة مكنته من بدء عصر جديد مع الجانب الفلسطيني، وتأزمت الحياة الاقتصادية للشعب الفلسطيني، بعد التضييق عليهم وإغلاق الحدود، وبدأت تظهر الحواجز ونقاط التفتيش وجدار الفصل العنصري.
وكان للمهاجرين الجدد آثاراً أُخرى لم ينتبه لها الكثير من المحللين حيث تضاعف عدد المستوطنات الإسرائيلية داخل الأراضي الفلسطينية، وشقت الطرق، وتم بناء المساكن الفخمة والفنادق وملاعب الغولف، وبدأت إسرائيل في تسكين تلك المستوطنات بالمهاجرين السوفييت، ومنها مستوطنة "آربيل" التي أصبحت تبدو نموذجاً مصغراً عن موسكو، حتى إن الإشارات على الطرق كتبت باللغة الروسية والعبرية معاً، حيث كان هؤلاء المهاجرون لا يتقنون العبرية. وصرح عدد كبير من الروس بعد ذلك أنهم خطوا هذه الخطوة من دون أن يعرفوا إلى أين هم ذاهبون.
وبهذا ندرك كيف أصبحت العقول الروسية وقوداً للثورة التكنولوجية في إسرائيل مع توقيع اتفاقية "أوسلو" .... فمع قدوم خيرة العقول السوفيييتية، دخلت الشركات الإسرائيلية غمار الاقتصاد العالمي بشغف، ولاسيما شركات التكنولوجيا عالية التقنية، والمتخصصة في الاتصالات وتقنيات الإنترنت الآخذة في الازدهار.
أصبحت "تل أبيب" وادي السيليكون الخاص بالشرق المتوسط، وفي ذروة ثورة الإنترنت حينها في منتصف التسعينيات ومطلع الألفية أصبح 15% من إجمالي الناتج المحلي ونصف الصادرات الخارجية لإسرائيل تأتي من قطاع التكنولوجيا عالية التقنية. ومنذ ذلك الوقت أصبح اقتصاد إسرائيل أكثر اقتصاد معتمد على التكنولوجيا في العالم، حتى إنها ضاهت الولايات المتحدة في ذلك المجال بمرتين. بحسب مجلة الأعمال الأمريكية "بيزنس ويك".
وكان القادمون الجدد الذين لم يكلفوا اقتصاد إسرائيل دولاراً واحداً هم السبب الرئيسي في تلك الفورة، وكان بعضهم أكثر احترافاً من العلماء المتخرجين من معاهد إسرائيل الكبرى خلال السنين الثمانين من عمر وجودها، لأن هؤلاء أنفسهم هم من حافظوا في السابق على ريادة الاتحاد السوفييتي أثناء الحرب الباردة، واتفق الخبراء الاقتصاديون داخل إسرائيل، أنهم هم المحرك الرئيسي لصناعة إسرائيل التكنولوجية.
وبعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول وتفجير البرجين، باتت الولايات المتحدة والدول كلها حول العالم مهووسة بكل ما يمكنه محاربة الإرهاب، في الوقت التي تمكنت فيه إسرائيل من توجيه قطاع صناعة التكنولوجيا وتحويله، لينتقل من المعلومات والاتصالات إلى المراقبة والأمن، وأصبحت دولة الاحتلال الصهيوني حاضنة لهذه النوعية من التقنيات التي تتكون من أنظمة شبكات وأجهزة مراقبة، وازداد الطلب على هذه المنتجات في الأعوام التي تلت أحداث 11 سبتمبر/أيلول.
وتقول الكاتبة الكندية "نعومي كلاين" في تناولها لتلك التجربة: "تمكنت إسرائيل من تحقيق انتعاش بارز ونمو اقتصادي ناتج عن فورة الأمن القومي ومحاربة الإرهاب في العالم، وبحلول عام 2004 بدا البلد كأن معجزة قد حولته، إذ بات أداؤه أفضل من أي بلد غربي، ويعود الجزء الأكبر من هذا النمو إلى موقف إسرائيل الذكي، حيث جعلت نفسها مركزاً تجارياً كبيراً لتكنولوجيات الأمن القومي، وكان التوقيت ممتازاً في ظل هوس العالم بتلك التقنيات. حتى أصبحت إسرائيل كما قالت مجلة "فوربس"، "البلد الذي يجب قصده من أجل تكنولوجيا محاربة الإرهاب".
وبفضل فورة التكنولوجيا التي قادتها الأدمغة الروسية المهاجرة لإسرائيل في بداية التسعينيات، تمكنت إسرائيل من زيادة صادراتها من تقنيات محاربة الإرهاب إلى 3.4 مليار دولار في عام 2006، ما جعلها البلد الرابع على العالم في تصدير الأسلحة، ويشكل قطاع التكنولوجيا في الوقت الحالي 60% من صادرات إسرائيل، وبلغت قيمته نحو 44.4 مليار دولار في عام 2021.
بعد تأمل تلك التجربة، هناك تساؤلات عن التداعيات التي يمكن أن تلحق بروسيا جراء هجرة عقولها، وهل يتكرر الأمر وتستغلهم الدول على غرار ما فعلته إسرائيل؟
بهذا كانت اتفاقية أُوسلو خدعة مكتملة الأركان جلبت الفوائد الكثيرة لاسرائيل ، وجلبت الكوارث الكثيرة للفلسطينيين .