روسيا: من الثورة إلى الثورة المضادة – تقييم ثورة أكتوبر: إنجازات الاقتصاد المخطط

تيد غرانت
2022 / 12 / 8 - 21:56     


«شاهدت منظر العالم ، وكل الروعة التي سيكونها». (ألفريد تينيسون)

كانت الثورة الروسية، عام 1917، واحدة من أعظم الأحداث في التاريخ. فإذا تركنا جانبا الحلقة البطولية لكومونة باريس، تكون ثورة 1917 هي المرة الأولى التي تمكن فيها ملايين العمال والفلاحين المضطهَدين من الاستيلاء على السلطة السياسية بأيديهم، والقضاء على الحكم الاستبدادي للرأسماليين وكبار ملاك الأراضي، وشرعوا في بناء نظام اشتراكي عالمي. لقد قاموا بتدمير النظام القيصري القديم الذي ساد طيلة ألف عام، وحكموا سدس مساحة اليابسة في العالم. تم استبدال النظام القديم بحكم نظام دولة ديمقراطية جديدة: نظام سوفييتات نواب العمال والجنود والفلاحين. بشرت ثورة أكتوبر ببداية الثورة العالمية، وألهمت آمال وأحلام الملايين الذين عاشوا كابوس الحرب العالمية الأولى. وعلى الرغم من التخلف الرهيب لروسيا، فقد شكلت الجمهورية السوفياتية الاشتراكية الجديدة تهديدا حاسما للنظام الرأسمالي العالمي. نشرت الرعب في الأوساط البرجوازية، التي اعتبرتها بحق تهديدا لسلطتها وامتيازاتها، لكنها طمأنت نفسها بفكرة أن النظام البلشفي من المحتمل أن يستمر لأسابيع فقط. لقد دخلت علاقات الملكية المؤممة التي انبثقت عن الثورة، والنظام الاجتماعي الجديد تماما، في صراع مباشر مع التنظيم الرأسمالي للمجتمع. وعلى الرغم من صعود الستالينية، فقد استمر هذا العداء الأساسي موجودا حتى انهيار الاتحاد السوفيتي. وحتى اليوم ما زالت الأحداث في روسيا تطارد السياسة العالمية، مثل شبح بانكو[1] الذي يفسد باستمرار احتفالات الطبقة الرأسمالية.

من أجل تقدير حجم تلك الإنجازات بشكل كامل، من الضروري أن نتذكر نقطة الانطلاق. إن المدافعين عن “السوق الحرة”، وبسبب حرصهم على تشويه سمعة الأفكار الاشتراكية الحقيقية، يفضلون نسيان بعض التفاصيل. ففي عام 1917، كانت روسيا القيصرية أكثر تخلفا من الهند الحالية. وكانت متخلفة بشكل كبير عن الغرب. كانت الأرض البربرية لمحراث العصور الوسطى الخشبي، الذي كان يستخدمه فلاحون لم يحققوا التحرر من القنانة إلا قبل جيلين فقط. كانت روسيا يحكمها الاستبداد القيصري لعدة قرون. وكانت الطبقة العاملة الصناعية أقلية صغيرة -أقل من أربعة ملايين عامل من إجمالي سكان عددهم 150 مليون نسمة. كان سبعون في المائة من السكان لا يستطيعون القراءة ولا الكتابة. كانت الرأسمالية الروسية ضعيفة للغاية واستندت إلى عكازات رأس المال الأجنبي: كانت فرنسا وبريطانيا وألمانيا وبلجيكيا وقوى غربية أخرى، تسيطر على تسعين في المائة من مناجم روسيا، وخمسين في المائة من صناعتها الكيميائية، وأكثر من أربعين في المائة من مهندسيها، واثنين وأربعين في المائة من أسهمها المصرفية. حاولت ثورة أكتوبر تغيير كل هذا، وبينت للعمال في كل مكان الطريق للتقدم إلى الأمام، وفتحت الطريق للثورة الاشتراكية العالمية. وعلى الرغم من كل المشاكل والعقبات الهائلة، فقد أحدث الاقتصاد المخطط ثورة في القوى المنتجة في الاتحاد السوفياتي وأرسى الأساس لاقتصاد حديث. لقد شهدت فترة ما قبل الحرب نمو الصناعة الثقيلة، بفضل سلسلة من المخططات الخماسية، وأرست الأسس للتقدم الذي شهدته سنوات ما بعد الحرب.

في عام 1936، كتب تروتسكي أن: «الخدمة الأساسية التي قدمها النظام السوفياتي تكمن في صراعه المكثف والناجح ضد تخلف روسيا الذي عمره ألف عام… يمر النظام السوفياتي بمرحلة تحضيرية، حيث يستورد ويقترض ويتملك المكتسبات التقنية والثقافية الغربية»[2]. ومنذ ذلك الوقت تقدم الاقتصاد السوفياتي بخطوات عملاقة. فخلال الخمسين عاما من عام 1913 (ذروة إنتاج قبل الحرب) إلى عام 1963، وعلى الرغم من الحربين العالميتين والتدخل الأجنبي والحرب الأهلية ومختلف الكوارث الأخرى، ارتفع إجمالي الناتج الصناعي بأكثر من 52 ضعفا، بينما كان الرقم المقابل للولايات المتحدة هو أقل من ست مرات، بينما كافحت بريطانيا لمضاعفة إنتاجها بالكاد. وبعبارة أخرى فإن الاتحاد السوفياتي، على أساس الاقتصاد المؤمم، تحول، في غضون بضعة عقود، من اقتصاد فلاحي متخلف إلى ثاني أكبر قوة على وجه الأرض، مع قاعدة صناعية جبارة، ومستوى ثقافي عال وعدد علماء أكثر من الولايات المتحدة واليابان مجتمعتين.

إن وظيفة التقنية، من وجهة النظر الماركسية، هي توفير العمل البشري. ففي فترة الخمسين عاما، من عام 1913 إلى عام 1963، ارتفعت إنتاجية العمل في الصناعة، وهي المؤشر الرئيسي للتنمية الاقتصادية، بنسبة 73% في بريطانيا و332% في الولايات المتحدة الأمريكية. بينما في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، ارتفعت إنتاجية العمل، في نفس الفترة، بنسبة 1310%، رغم أنها كانت قد انطلقت من نقطة منخفضة للغاية. وقد تزامنت فترات التقدم الاقتصادي الهائل في روسيا إلى حد كبير مع فترات الأزمة أو الركود في الغرب الرأسمالي. تزامن تقدم الصناعة السوفياتية خلال الثلاثينيات مع الركود الكبير والكساد في العالم الرأسمالي، الذي كان مصحوبا بالبطالة الجماهيرية والفقر المزمن. بين عامي 1929 و1933، انخفض الإنتاج الصناعي الأمريكي بنسبة 48.7%. وقدرت الرابطة الوطنية الأمريكية للبحوث عدد العاطلين عن العمل في مارس 1933 بـ17.920.000 شخص. أما في ألمانيا فقد كان هناك أكثر من ستة ملايين عاطل عن العمل. توضح هذه المقارنات وحدها تفوق الاقتصاد المخطط على فوضى الإنتاج الرأسمالي.

في الاتحاد السوفياتي السابق، بينما نما عدد السكان بنسبة 15%، فقد زاد عدد التقنيين بمقدار 55 مرة؛ وتطورت أعداد المستفيدين من التعليم بدوام كامل بأكثر من ست مرات؛ وتضاعف عدد الكتب المنشورة 13 مرة. تضاعف عدد الأسرة في المستشفيات بما يقرب من عشر مرات؛ و عدد الأطفال في دور الحضانة بـ1385 مرة. وبلغ عدد الأطباء لكل 100 ألف نسمة 205 طبيبا، مقابل 170 في إيطاليا والنمسا، و150 في الولايات المتحدة، و144 في ألمانيا الغربية، و110 في بريطانيا وفرنسا وهولندا، و101 في السويد. تضاعف متوسط ​​العمر المتوقع وانخفض معدل وفيات الأطفال تسع مرات. وبين عامي 1955 و1959، ازدادت المساحات السكنية الحضرية (الحكومية والتعاونية) بأكثر من الضعف، بينما زاد حجم المساحات الخاصة بأكثر من ثلاثة أضعاف. وبحلول عام 1970، زاد عدد الأطباء من 135.000 إلى 484.000 وعدد أسرة المستشفيات من 791.000 إلى 2.224.000.

وعلى الرغم من الضربة الرهيبة التي لحقت بالزراعة بسبب سياسة التجميع القسري التي انتهجها ستالين في أوائل ثلاثينيات القرن العشرين، والتي لم تتعاف منها الزراعة بشكل كامل أبدا، فقد تم إحراز تقدم، مما سمح لروسيا بإطعام سكانها بشكل كاف. ليس لهذا التقدم الاقتصادي، الذي تحقق في وقت قصير جدا، مثيل في أي مكان في العالم. زادت مساحة الأراضي المزروعة في غضون ثلاث سنوات فقط، بين عامي 1953 و1956، برقم مذهل قدره 35,9 مليون هكتار، وهي مساحة تعادل إجمالي الأراضي المزروعة في كندا. يقف هذا الإنجاز في تناقض صارخ مع الوضع السيء الذي تعيشه الجماهير في الهند وباكستان وبقية بلدان العالم الثالث. يصير هذا التقدم الذي حققه الاقتصاد السوفياتي أكثر إثارة للعجب إذا نظرنا إلى التخلف المزمن الذي ميز نقطة البداية. كان الاقتصاد القيصري القديم، في بلد شبه إقطاعي مع بعض المراكز الصناعية الحديثة المملوكة بشكل رئيسي من طرف الرأسمال الأجنبي، قد تحطم خلال الحرب العالمية الأولى. ثم جاءت ثورتان وحرب أهلية وحصار إمبريالي وتدخل أجنبي، ومجاعة راح ضحيتها ستة ملايين شخص. ويجب أن نضيف إلى كل هذا ملايين لا حصر لها من العمال والفلاحين والتقنيين والعلماء الذين لقوا حتفهم، أولا خلال فترة التجميع القسري، ثم خلال عمليات التطهيرات الكبرى في الثلاثينيات. لقد دفع التخطيط البيروقراطي الاقتصاد إلى الأمام، لكن بثلاثة أضعاف التكلفة مقارنة بالثورة الصناعية في الغرب. لقد ألقى العبء الثقيل لسوء الإدارة والهدر والفساد والبيروقراطية بثقله على الاقتصاد، مما أدى في النهاية إلى توقفه.

كانت الحرب العالمية الثانية في أوروبا شهادة أخرى على إنجازات الاقتصاد المخطط. لقد تقلصت الحرب في الواقع إلى مواجهة عملاقة بين الاتحاد السوفياتي وبين ألمانيا النازية، بينما وقفت بريطانيا والولايات المتحدة مجرد متفرجتين. كلفت الاتحاد السوفياتي حوالي 27 مليون قتيل. ومات مليون شخص في حصار لينينغراد وحدها. قام هتلر بضم مناطق شاسعة من روسيا أو دمرها بالكامل بسياسة “الأرض المحروقة” التي طبقتها النازية. وتم تدمير ما يقرب من خمسين في المائة من جميع المناطق الحضرية في الأراضي المحتلة -1,2 مليون منزل-، وكذلك 3,5 مليون منزل في المناطق الريفية. قال المؤرخ أليك نوفي بأن «العديد من المدن في حالة خراب. تم تدمير آلاف القرى. وعاش الناس في حفر في الأرض. عدد كبير من المصانع والسدود والجسور، التي تم تشييدها بالكثير من التضحيات في فترة الخطة الخماسية الأولى، صار من الضروري الآن إعادة بنائها»[3].

خلال فترة ما بعد الحرب، وبدون أي برنامج مساعدة كمشروع مارشال، تمكن الاتحاد السوفياتي من تحقيق تقدم هائل على جميع الجبهات. بفضل الاقتصاد المؤمم والتخطيط، بنى الاتحاد السوفياتي بسرعة صناعاته المدمرة، مع معدلات نمو تزيد عن 10%. وإلى جانب الإمبريالية الأمريكية، خرج الاتحاد السوفياتي من الحرب قوة عالمية عظمى. قال نوفي: «لم يعرف تاريخ العالم شيئا مماثلا». وفي وقت مبكر من عام 1953، قام الاتحاد السوفياتي بتكوين مخزون من 1,3 مليون آلة من جميع الأنواع، وهو ضعف ما كان عليه الحال قبل الحرب. بين عامي 1945 و1960، نما إنتاج الصلب من 12,25 مليون طن إلى 65 مليون طن. وفي نفس الفترة ارتفع انتاج النفط من 19,4 مليون طن الى 148 مليون طن، والفحم من 149,3 مليون الى 513 مليونا. وبين عامي 1945 و1964، ارتفع الدخل القومي السوفياتي بنسبة 570%، مقارنة بنسبة 55% في الولايات المتحدة. ودعونا لا ننسى أن الولايات المتحدة قد خرجت من الحرب وصناعاتها سليمة وثلثي ذهب العالم في خزائنها. بل إنها، في الواقع، استفادت بشكل كبير من المجهود الحربي وتمكنت نتيجة لذلك من فرض هيمنتها في جميع أنحاء العالم الرأسمالي.

قبل الحرب، كان الاتحاد السوفياتي متخلفا ليس فقط عن الولايات المتحدة، بل أيضا عن بريطانيا وأوروبا. والمثير للدهشة أنه بحلول منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، تمكن الاتحاد السوفياتي من تجاوز بريطانيا ومعظم الاقتصادات الرأسمالية الأخرى، باستثناء الولايات المتحدة الأمريكية. احتل الاتحاد السوفياتي، على الأقل من حيث القيمة المطلقة، المركز الأول في العديد من مجالات الإنتاج الرئيسية، من قبيل، على سبيل المثال، الصلب والحديد والفحم والنفط والغاز والإسمنت والجرارات والقطن والعديد من الأدوات الفولاذية. وفي منتصف الثمانينيات، وصفت جمعية كامبريدج للبحوث الهندسية في ماساتشوستس صناعة الغاز الطبيعي السوفياتي -التي ضاعفت إنتاجها في أقل من عشر سنوات- بأنها “قصة نجاح مذهلة”[4]. وحتى في مجال الحواسيب، حيث قيل إن روسيا في السبعينيات كانت متأخرة عن الغرب بعشر سنوات، تم تضييق الفجوة إلى درجة أن الخبراء الغربيين اعترفوا بأنها صارت حوالي 2 -3 سنوات. كان الدليل الأكثر إثارة على تفوق الاقتصاد المخطط هو برنامج الفضاء السوفياتي. احتلت روسيا منذ عام 1957 موقع الريادة في “سباق الفضاء”. وبينما هبط الأمريكيون على سطح القمر، كان الروس يبنون محطة فضائية تنقلهم إلى أبعد المناطق في النظام الشمسي. وكمنتج ثانوي لذلك، كان الاتحاد السوفياتي يبيع صواريخ بروتون الرخيصة والموثوقة في الأسواق العالمية بسعر يقل بنحو 10 ملايين جنيه إسترليني عن مشروع الفضاء الأوروبي أريان.

في أواخر عام 1940، كان ثلثا السكان يعيشون في ظروف التخلف في الأرياف. بينما الآن تم عكس الموقف بالكامل. صار ثلثا السكان يعيشون في المدن والثلث فقط من يعيشون على الفلاحة، أي، بمعنى آخر، شهدنا نفس السيرورات التي رأيناها في الغرب على مدار الخمسين عاما الماضية، أي تطوير الصناعة الذي أدى إلى تعزيز هائل للبروليتاريا على حساب الفلاحين والطبقات الوسطى من المجتمع. لكن في الاتحاد السوفياتي تم إيصال سيرورة “البلترة” إلى أبعد مدى، مع تركيز القوى العاملة في مؤسسات صناعية عملاقة تضم مائة ألف عامل أو أكثر. البروليتاريا السوفياتية اليوم بعيدة كل البعد عن أن تكون متخلفة وضعيفة، فهي أقوى طبقة عاملة على وجه الأرض. وضع التعليم تغير بشكل كامل. وكان ذلك أحد المكاسب التاريخية الرئيسية لثورة أكتوبر. في الاتحاد السوفياتي كان هناك عامل مؤهل من بين كل ثلاثة عمال، وكان في مقدور عدد كبير من شباب الطبقة العاملة الالتحاق بالجامعة. تضاعف العدد الإجمالي للطلاب الذين تلقوا التعليم التقني العالي والثانوي أربع مرات بين عامي 1940 و1964. وبحلول عام 1970، كان هناك 4,6 مليون طالب في الاتحاد السوفياتي، مع 257.000 خريج في الهندسة (في حين كان هناك 50.000 خريج في هذا المجال في الولايات المتحدة). في روسيا كان الإنفاق على التعليم يتجاوز بأربعة أضعاف ما يتم إنفاقه في بريطانيا. وبمجرد إلقاء نظرة على الأرقام يتضح تفوق الاقتصاد المخطط على كل الضجة التافهة التي يثيرها القادة الإصلاحيون في الغرب الذين قبلوا بضرورة تقليص الإنفاق بشكل جذري على التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية بشكل عام.

كان نمو الاقتصاد يعني التحسن المطرد في مستويات المعيشة. كانت الغالبية العظمى من الروس في الفترة الماضية[5] يمتلكون أشياء مثل أجهزة التلفزيون والثلاجات والغسالات. وقد تحقق كل ذلك بدون بطالة أو تضخم. تم تثبيت سعر الإيجارات بنحو06% من الدخل الشهري، وكانت آخر مرة ارتفع فيها عام 1928. كان سعر ايجار شقة صغيرة في موسكو، حتى وقت قريب، يكلف حوالي 11 جنيها إسترلينيا في الشهر، وهو السعر الذي يشمل الغاز والكهرباء والهاتف والمياه الساخنة بشكل غير محدود. كان سعر الخبز حوالي 16 بنسا للكيلوغرام، ومثله مثل السكر ومعظم المواد الغذائية الأساسية، لم يرتفع سعره منذ عام 1955. كانت آخر مرة ارتفعت فيها أسعار اللحوم ومنتجات الألبان هي عام 1962. ولم يبدأ هذا الوضع في التغير إلا في الثمانينيات. ومع بداية التحرك نحو إعادة الرأسمالية، تغير هذا الوضع بشكل جذري، مع قطع الدعم وإلغاء ضوابط الأسعار. في عام 1993 بلغ معدل التضخم 2600%، وعلى الرغم من انخفاضه منذ ذلك الحين، فإنه ما يزال مرتفعا.

لكن على الرغم من كل المزايا الهائلة التي حققها المجتمع الذي ألغى الرأسمالية والاقطاع، والتي يوضحها، على الأقل في الخطوط العريضة، هذا النمو غير المسبوق؛ فقد كان تقدم الاقتصاد السوفياتي على مدى الستين عاما الأولى متفاوتا ومتناقضا للغاية. لقد كان أبعد ما يكون عن الصورة المثالية التي رسمها له في الماضي “أصدقاء الاتحاد السوفياتي”. لا شك أن نظام الديمقراطية العمالية كان سيتفوق بكثير على ما تم تحقيقه في ظل الستالينية بكل فسادها وسوء إدارتها. في ذلك التطور المتناقض للاقتصاد السوفياتي يكمن المفتاح لفهم أسباب انهيار الستالينية في أواخر الثمانينيات والتحرك نحو إعادة الرأسمالية.

لقد حلل ماركس ببراعة في المجلدات الثلاثة لرأس المال قوانين تطور الرأسمالية، باعتبارها نظاما اجتماعيا اقتصاديا. لكن تطور الاقتصاد المؤمم المخطط، الذي هو شرط أساسي للحركة نحو الاشتراكية، يتم بطريقة مختلفة تماما. تعبر قوانين الرأسمالية عن نفسها من خلال الحركة العمياء لقوى السوق، والتي يتم من خلالها نمو القوى المنتجة بطريقة تلقائية. يعمل قانون القيمة، الذي يعبر عن نفسه من خلال آلية العرض والطلب، على توزيع الموارد من قطاع إلى آخر. لا توجد خطة أو تدخل واع. لا يمكن أن يكون هذا هو الحال عندما تركز الدولة الاقتصاد بين أيديها. هنا تحتل الدولة العمالية، فيما يتعلق بالاقتصاد ككل، نفس المكانة التي يحتلها الرأسمالي الفردي فيما يتعلق بمصنع واحد.

لهذا السبب بالذات لعبت سياسات الحكومة السوفياتية على مدى العقود السبعة الماضية دورا حاسما -سواء كان جيدا أم سيئا- في التنمية الاقتصادية. أشار تروتسكي إلى أنه «لا توجد حكومة أخرى في العالم، يتركز في يديها إلى هذه الدرجة مصير البلد بأكمله… إن الطابع الممركز للاقتصاد الوطني يحول سلطة الدولة إلى عامل ذي أهمية هائلة». في ظل هذه الظروف كانت سياسة النظام حاسمة. كان المأزق المسدود للحكم البيروقراطي هو الذي أدى إلى توقف التطور العظيم للاقتصاد. وعلى عكس تطور الرأسمالية، الذي يعتمد على السوق لتوزيع الموارد، يتطلب الاقتصاد المؤمم تخطيطا وتوجيها واعيين. لا يمكن القيام بذلك بنجاح من قبل حفنة من البيروقراطيين في موسكو، حتى لو كانوا ماركس وإنجلز ولينين وتروتسكي أنفسهم. يتطلب مثل هذا الوضع مشاركة الجماهير في تسيير الصناعة والدولة. وحده نظام الديمقراطية العمالية القادر على تسخير مواهب المجتمع ومبادراته. إن نظام سوء الإدارة البيروقراطية سيؤدي حتما في نهاية المطاف إلى شل الاقتصاد عنما يصير أكثر تطورا وتقدما من الناحية التكنولوجية. وبحلول السبعينيات وصل الاقتصاد السوفياتي إلى طريق مسدود بالكامل. لكن أسباب ذلك موضوع فصل لاحق.

يكفي هنا أن نقول إنه على الرغم من القبضة البيروقراطية للستالينية، فإن نجاحات الاقتصاد المخطط قد ظهرت ليس على صفحات كتاب رأس المال، بل في ساحة الصناعة التي كانت تضم سدس مساحة سطح الأرض، ليس بلغة الديالكتيك، بل بلغة الصلب والاسمنت والكهرباء. وكما أوضح تروتسكي فإنه:

«حتى ولو انهار الاتحاد السوفياتي، نتيجة للصعوبات الداخلية والضربات الخارجية وأخطاء قيادته -وهو ما نأمل بشدة ألا يحدث- فستبقى هذه الحقيقة غير القابلة للتدمير في المستقبل، وهي أنه فقط بفضل الثورة البروليتارية، تمكن بلد متخلف من أن يحقق، في أقل من عشر سنوات، نجاحات لم يسبق لها مثيل في التاريخ»[6].

هوامش:
[1] بانكو: أحد شخصيات مسرحية مكبث لشكسبير. المترجم.

[2] Trotsky, The Revolution Betrayed, p. 20.

[3] Alec Nove, An Economic History of the USSR, p. 292.

[4] Financial Times, 14/11/85.

[5] ملاحظة المحرر: الفصول من 1 إلى 8 كتبها تيد غرانت في عام 1997، في الطبعة الأولى من العمل الحالي. لمزيد من المعلومات انظر المقدمة والتمهيد.

[6] Trotsky, The Revolution Betrayed, p. 8.

مصدر الكتاب بالإنجليزية:
Russia: From Revolution to Counter-Revolution