اتجاهات البحث فى قضية الهوية المصرية


صلاح السروى
2022 / 12 / 5 - 21:16     

انقسم الباحثون حول العوامل والأسباب الموضوعية التى أدت الى نشأة وتكون الهوية المصرية. فمنهم من رأى أن المكان والعامل البيئى (الأيكولوجى) هو العامل الحاسم والمؤثر، وهو السبب الرئيسى فى تلك النشأة وذلك التكون. وأبرز من يمثل هذا الاتجاه الدكتور جمال حمدان، ومعه آخرون.
أما الاتجاه الثانى فهو يرى أن الهوية المصرية قد تكونت بفعل الطبقات الحضارية المتراكمة عبر التاريخ، والتى يسميها الدكتور ميلاد حنان الذى يعد أبرز من كتب فى هذا الاتجاه، "الرقائق الحضارية". فى اشارة الى تعاقب الحضارات على مصر منذ القدم الى وقتنا هذا. سواء، أكانت الحضارة المصرية القديمة (الكيميتية)، أو اليونانية والرومانية، ومعهما المرحلة القبطية المسيحية، أو كانت المرحلة العربية الاسلامية. فضلا عن التأثيرات المتوسطية والافريقية.
أما الاتجاه الثالث، فهو الذى ينطلق من رؤية اجتماعية - تاريخية لتكون وتطور مفهوم الهوية المصرية. فلقد تكونت هذه عبر مرحلتين رئيسيتين، يمثلهما تحول نظام ملكية الأراضى الزراعية فى مصر. من مرحلة ملكية الدولة لكل المقدرات المادية، الى مرحلة ظهور الملكية الخاصة، وبداية تكون طبقة وسطى مصرية ذات خصائص وتأثيرات محددة على المستوى التاريخى. وعلاقة كل ذلك بالوعى والخصائص النفسية والثقافية لدى الشعب المصرى.
وسأفصل القول، فى ذلك، على النحو التالى:

أولا: الهوية - المكان (الجغرافيا)
يستند أنصار الاتجاه البيئى الزراعى، فى محاولتهم لتفسير ظهور الدولة المركزية ونشأة نوع من التنظيم السياسى والاجتماعى المتطور (نسبيا)، قياسا بالمعطيات التاريخية السائدة فى تلك الأزمان القديمة، وما ترتب عليها من سمات ثقافية وروحية مائزة، الى بيئة النهر السهلية والزراعة الفيضية، التى تحتم وجود حكم مركزى يشمل كل بقاع الاقليم النهرى. ومن هؤلاء: رفاعة رافع الطهطاوى فى كتابه "مناهج الألباب"، الذى أشار الى أن اعمار مصر انما يعتمد على حسن التصرف فى مياه النيل بحفر المجارى المائية وصيانتها الدائمة. وأن هذا الأمر يحتاج الى نوع من التنظيم الصارم والحزم الادارى. وأن قوة الدولة المركزية هى الضامن الوحيد لتحقيق هذا التنظيم وذلك الحزم. بما يؤدى فى النهاية الى استقرار وازدهار البلاد. ويعد رفاعة الطهطاوى أول من فرق بين الزراعة النهرية والزراعة المطرية، ورتب على الأولى ضرورة وجود دولة مركزية (طاغية)، ورتب على الثانية ضعف السلطة المركزية للدولة. (رفاعة رافع الطهطاوى، الأعمال الكاملة، ج1، كتاب مناهج الألباب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1973، ص432 – 433)
ومن هؤلاء، أيضا، ابراهيم عامر فى مقال له بعنوان "مصر النهرية"، والذى حاول فيه تطبيق أفكار كارل فيتفوجل صاحب نظرية "الاستبداد الشرقى" (سيلى الحديث عنه بعد قليل) الذى قطع بأن الزراعة والرى يتطلبان السيطرة على الفيضان، وهذا جهد كبير لايمكن أن يتم بصورة فردية، ولكنه يتطلب جهود الدولة المركزية. وبالتالى فان الدولة المركزية تمثل ضرورة ملحة لنجاح نظام الرى الموحد.(ابراهيم عامر، مصر النهرية، مجلة الفكر المعاصر، العدد 50، القاهرة، 1969 )
ومن هؤلاء، أيضا، ولعله أهمهم، الدكتور جمال حمدان الذى أرجع كل شئ فى مصر من مظاهر طبيعية الى نوع السلطة والمزاج النفسى .. الخ، الى طبيعة البيئة النهرية والمكان الجغرافى اللذين تختص بهما مصر. ومن ضمن ما حاول تفسيره، ظاهرتا "التجانس" والتكاثف"، اللتين يعتبرهما ممثلتين لفكرة جامعة تنطبق على كل شئ فى مصر تقريبا، من طرائق للحياة، الى معتقدات دينية، الى اثنولوجيا البشر .. الخ. وفى محاولته تلك، عزا كل هذه المظاهر الى التجانس الطبيعى (الجيولوجى) والمناخى للاقليم المصرى، متحدثا عن أن مصر هبة المكان (العبقرى). حيث أن "المكان"، بما يحتويه من مكونات بيئية (نهرية – زراعية، ومناخية معتدلة)، هو العنصر الفاعل فى تكوين الشخصية المصرية وما يتبعها من ثقافة وسلوك وأنماط حكم وادارة وأمن .. الخ. فيقول :
"التجانس بعد التكاثف، تلك يقينا هى الكلمة المفتاح والنغمة الأساس داخل هذه البلورة المركزة المضغوطة. فرغم عديد الفوارق الموضعية والمحلية والاقليمية، يسود أجزاء الوادى قدر غير عادى من التشابه طبيعيا وماديا وبشريا. ففى هذه البيئة الفيضية، النهر هو موزع كل شئ: الغرين والماء، التربة والخصوبة، الطبوغرافيا ذاتها. الزراعة والانتاج والعمران والسكان. ان النيل جغرافى مصر الأول وربما الأوحد، انه النهر الخالد بامتياز. وبحكم قوانين الارساب النهرى، تميل هذه التوزيعات جميعا الى الحد الأقصى من التجانس والعدالة والتشابه، والى الحد الأدنى من التنافر والاختلال والتباين. وبالتالى فلا انقطاعات داخلية حاسمة ولا نطاقات متبلورة". (جمال حمدان، مرجع سابق، ص 39)
و"التكاثف" الذى يذكره جمال حمدان فى صدر هذا الاقتباس، يعنى لديه، تكدس السكان والنشاط الزراعى، على السواء، فى هذا الوادى الضيق المحفوف بالصحراء من ضفتيه. بما يخلق حالة من الكثافة السكانية والزراعية، على حد سواء.
ولعل هذا التكاثف نفسه هو الذى أفضى الى "التجانس" والتشابه والانسجام الفكرى – العقيدى، والسلوكى، لدى المصريين، من سكان الوادى. والمسؤل عن كل ذلك هو النهر الذى يوزع خيراته بعدل وتماثل على طول مجراه. وهو ما جعل من المصريين سبيكة واحدة لاسبيل الى اختراقها فى رأى جمال حمدان.
ويقول، فى موضع آخر، مكرسا لهذه الفرضية، ومستطردا عليها:
".. فاذا كان ثمة تغيير أو اختلاف فعلى الهوامش والأطراف. ومن ثم تبدو مصر الوادى طبيعيا وبشريا، من التضاريس والمناخ حتى العرق والعقيدة والقرية والمدينة ، جسما متجانسا الى أبعد حد ممكن، لا تتطور نحو التباين التدريجى الا على الأطراف وحدها، حيث تبزغ او تبرز بعض الملامح المحلية أو الابتعادات الخاصة سواء فى المناخ أو البيئة الطبيعية أو المحاصيل الزراعية أو الحرف والمهن أو الموانى والمدن أو حتى العناصر الجنسية والجاليات الأجنبية". (جمال حمدان ، مرجع سابق ، ص 39)
ان جمال حمدان، اذن، يرجع كل شئ، متعلق بالسكان وطبائعهم وثقافتهم، الى الجغرافيا والبيئة الطبيعية. فالاختلافات أو "الابتعادات" التى يمكن أن تنشأ على "الأطراف"، بالنسبة للاقليم المصرى، ليست ناتجة، عنده، الا عن اختلاف المناخ أو "البيئة الطبيعية". ف"البيئة" تعد الصانع الأول للانسان والتاريخ. وذلك، على الرغم من تحفظه فى ثنايا حديثه على القول بأن "الجغرافيا" تقوم بممارسة نوع من الحتمية على "التاريخ". بيد أن فحوى وجوهر توجهه انما ينصب على حقيقية هذه الحتمية الجغرافية وأثرها الحاسم.

ولا شك، عندى، فى أن سكان اقليم السهل يتمتعون بقابلية كبيرة للاندماج والتداخل والتفاعل، قياسا بسكان البادية أو الجبل. نظرا لقرب التواجد وسهولة التنقل بين أماكن هذا التواجد. ومن ثم، يتم التداخل والتفاعل، على نحو قوى وفعال، كما أسلفت من قبل.
بيد أن هذه النظرية، فى جوانب أخرى قد تنطوى على عدة مزالق مفاهيمية: أهمها هذا التفسير التبسيطى الميكانيكى لطبيعة وتطور المجتمعات البشرية. بينما الأمر، فيما أذهب، اعقد من ذلك بكثير. لأنه مرتبط، أيضا، بطبيعة ودرجة احتدام التناقضات، قيما يتعلق بمصالح القوى الممثلة للمكونات الاجتماعية والاقتصادية الداخلية. وكذلك، صراعات الداخل، ككل، مع التحديات وعوامل التاثير الخارجية .. وما الى ذلك من عناصر متداخلة ومتفاعلة، تمثل فى المحصلة "جدل الخاص والعام"، فى الآن نفسه.
وفى الواقع، فان هذه النظرية، تعد احدى تجليات "النظرية الوضعية" فى تفسير التاريخ، والتى نجدها متمثلة عند واحد من أبرز باحثيها هو كارل أوجوست فدفوجل، صاحب "نظرية الطغيان" أو الاستبداد despotism theory ، التى طرحها فى كتابه: "الاستبداد الشرقى – دراسة مقارنة فى السلطة الشمولية"، والصادر عام 1957 . (فى الهامش: لقد سبق طرح هذا المصطلح، أى الاستبداد الشرقى، عند كارل ماركس، فى باب ما أسماه ب "النمط الآسيوى للانتاج". ولكن فيتفوجل حوله فى كتابه، ذاك، الى نظرية تاريخية ذات انتماء وضعى كامل). وتعد نظرية فيدفوجل المصدر الرئيسى لتجدد طرح مصطلح "الاستبداد الشرقى" oriental despotism ، وشيوعه. بما أدى الى الصاق صفة "الاستبداد" بالشرق، على نحو اطلاقى. دون النظر الى الأوضاع التاريخية الاجتماعية التى أدت الى سيادة هذه الصفة وامكانيات تبدلها بتبدل الظروف التى خلقتها.
ويتبدى انتماء هذه النظرية الى الفلسفة "الوضعية"، فى كونها تقوم على أساس اعتبار أن "البيئة"، بما فيها الطبيعة الجيولوجية والموقع الجغرافي والمناخ والنهر .. الخ، هى التى تحدد طبيعة السكان وأنماط الحكم .. الخ. وعلى هذا الأساس تفسر تلك النظرية تغاير طبائع الشعوب والحضارات والدول التى قامت على الزراعة النهرية، عن مثيلاتها من أصحاب الزراعة "المطرية". فالبلدان التى يقوم اقتصادها على الزراعة النهرية، تتيح ظروفها البيئية، من حيث الطبيعة (السهلية) للوادى الذى يجرى فيه النهر، امكانية قيام حكم مركزي "استبدادي"، بما يكفل اقامة الدولة وبسط سيطرتها على كامل اقليم النهر. بينما تتميز الشعوب والحضارات والدول التى قامت على الزراعة المطرية، والتى لا تحتاج الى (اقليم) كامل، اضافة الى وعورة الأرض (غير السهلية) يمكن أن تقوم دولتها فى مدينة واحدة (نموذج الدولة المدينة) أو عدة مدن صغيرة متجاورة. ولذا فانها تتمتع بنوع من الحكم المستقل و"الديمقراطى" مثل اثينا وكورنثة واسبرطة .. الخ. نظرا لقلة عدد السكان، من ناحية. وكذلك، صعوبة التضاريس التى تقلل من امكانية الاخضاع والهيمنة، من ناحية أخرى (انظر: كارل فيدفوجل، الاستبداد الشرقى – دراسة مقارنة للسلطة الشمولية، ترجمة محمد الرشودى ، 1957https://hekmah.org/%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%A8%D8%AF%D8%A7%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B1%D9%82%D9%8A/ . )
ان خطورة هذه النظرية انما تكمن فى أنها تحكم (بضم التاء وتشديد وكسرالكاف) الثابت (المكان) فى المتغير (المجتمع), ومن ثم فهى تجعل من السمات الشخصية، لشعب بعينه، سمات عامة (أى مهيمنة على نحو شامل) وأبدية، لا تتغير عبر الزمن. كما أنها تجعل أنماط الحكم واساليب الممارسة السياسية أنماطا وأساليب أبدية، بحيث تبدو وكأنها نوع من القدر "التاريخي"، الذى تفرضه الطبيعة "الجغرافيا"، ولا فكاك منه مهما حاولت الشعوب.
وهذا الاتجاه هو ما يصفه محمود أمين العالم، فى معرض تعليقه النقدى على كتاب "شخصية مصر" لجمال حمدان، بأنه يجنح .. "الى الجانب الطبيعى الخالص، مما يرجح رؤية مادية ميكانيكية الى بعض الظواهر". (محمود أمين العالم، الوعى والوعى الزائف فى الفكر العربى المعاصر، ضمن الأعمال الكاملة (الأعمال الفكرية)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2015، ص 739.)
وغير خاف أن "المادية الميكانيكية" تمثل المنهج الذى توصف به توجهات "المدرسة الوضعية"، فى المجال الفلسفى. وذلك على النقيض من "المادية الجدلية"، التى تتبناها الفلسفة الماركسية.
والحقيقة أن السمات الشخصية للشعوب اذا كانت تقوم، جزئيا، على اساس ومعطيات الواقع البيئى الذى يمثل "المكان" والبيئة الطبيعية مكونه الرئيسى، (كما أسلفت) فان سماتها الشخصية وملامحها الفكرية والحضارية تتحدد، أيضا، على ضوء مستوى التطور التقنى والطبقى - الاجتماعى، وليس مجرد طبيعة المناخ أو التضاريس. حيث أن هذه العناصر البيئية لا تعمل منفردة، بل تعمل بالتجادل مع عوامل انسانية أخرى، مثل تطور اساليب الانتاج وعلاقاته، وكذلك على ضوء الظروف التى تخلقها علاقاتها بالخارج من حروب وانتصارات وهزائم .. الخ. ومثال ذلك أن "المرحلة العبودية"، من تطور عملية الانتاج، بكل سماتها، سواء، المتمثلة فى التكوين الهرمى الحاد للمجتمعات، أو سيطرة الأدوات التكنولوجية البدائية، أو الوعى الأسطورى الذى يميز خصائصها الدينية والثقافية (بما فيها من مفاهيم السلطة والتنظيم الادارى والحكم .. الخ) المتناسبة معها. هى مرحلة لا تكاد تستثنى شعبا من الشعوب، (باشكال وصيغ متفاوتة قد يكون من بينها ماطرحه ماركس من قبيل "نمط الانتاج الآسيوى").
وكذلك الأمر فى المراحل اللاحقة من اقطاع وراسمالية، وما يقابلهما من تنويعات طبقية، تخص كل مجتمع وثقافة على حدة. بكل مستتبعات تلك المراحل من أنماط حكم ومفاهيم وتصورات عن الدولة والسلطة والشعب والأخلاق والعقائد وأنماط السلوك .. الخ. وان اختلفت بعض البلدان فى التفاصيل من حيث درجة التطور الاجتماعى والحضارى. كما يمكن أن تختلف، كذلك، من حيث قدرتها على الاستفادة، أو التأذى، من معطيات الموقع. وذلك بصرف النظر عن طبيعة المكان الجغرافى الذى يتنوع بتنوع التواجدات البشرية.
من هنا نستطيع القول بأن "الجغرافيا" لايمكنها أن تحكم "التاريخ"، وان أثرت فيه على نحو معين، بكل تأكيد. كما أن "المكان" لايمكنه أن يوقف عجلة "الزمان"، وان أثر فى سرعته وطبيعة حركته، بلا مراء.
وعلى ذلك، فان الشخصية المصرية قد تأثرت، بالطبع، بموقعها الجغرافى ونشاطها الزراعى المعتمد على النهر، فى بداية التكوين الحضارى التاريخى لها. بيد أن تطور هذه الشخصية لم يقف عند هذين العاملين، خاصة أن مصر، فى المراحل الحضارية اللاحقة، لم تعد مجرد دولة زراعية نهرية. بل دخلت، أنماط انتاج ونشاط اقتصادى، أخرى، الى حيز الحياة الاجتماعية المصرية، مثل الصناعة والسياحة والتعدين .. الخ. خاصة فى العصور الحديثة. فضلا عن وجود تماس حضارى وثقافى أقوى وأكثر عمقا، مع الآخر الأجنبى، بصفة عامة.
وهو ما يعنى دخول عوامل ثقافية وحضارية جديدة على مصر، لم يكن لها بها سابق عهد. ولعل هذا ما يؤكد، كما يفسر، لنا عدم اطلاقية ما يعرف بثبات السمات المميزة لهذه الشخصية. بما يعنى تغيرها مع تغير الزمن، وتعدد انماطها الثقافية والحضارية عبر الدهور. شأنها فى ذلك شأن كل الأمم والشعوب، وان كان ذلك يتم، بالطبع، بوتائر ومناحى مختلفة، باختلاف الظروف والملابسات التاريخية.
ولولا ذلك لأمكننا القول بأن هذه الهوية مصمتة لا تمايزات ولا اختلافات بين مكوناتها العامة. بينما أثبتنا، فى الفصل السابق، أن الهويات الثقافية (والمقصود أية هوية، أيا كانت) انما هى كيانات متحركة ومتحولة عبر الأزمان، كما أنها متعددة داخل الزمان والمكان المحددين، وليست كيانا مصمتا. فلا يمكن تصور وجود شعب بكامله يتكون من قوالب متماثلة لا تمايز فيها، أو يتميز بسمات واحدة، مهما تعددت أقاليمه وطبقاته وفئاته الاجتماعية. وان كان من الممكن أن تتسيد بعض السمات على بعضها الآخر فى مرحلة زمنية محددة. كما لايمكن تصور أن هذه السمات والخصائص خالدة ومتواصلة، بحالتها الأولى، عبر الأزمان والأجيال. بما تحمله تلك الأزمان من تعاقب سياسى وحضارى ودينى وثقافى عام. على النحو الذى يمكن تصوره من ما خلفته الحروب والتجارة والهجرات والتطورات التكنولوجية والعناصر الناتجة عن الاتصال بالآخر .. الخ، بالقدر ذاته.
كما أن هذا التصور التعميمى، فى حال تبنيه، فانه يفضى، على نحو مباشر، الى التعصب القومى، القائم على دمغ أمة كاملة بسمات واحدة لافروق بينها. وهو صنيع مرادف "للشوفينية" و"العنصرية"، المفضية الى "كراهية" نوع، والحكم بأفضلية نوع آخر. فضلا عن كون هذا المنحى من التفكير أوالاعتقاد يقوم على رؤية تعميمية "مثالية"، لا ترتكز على أساس علمى، من حيث الوعى بالقوانين الموضوعية التى تحكم تطور المجتمعات والشعوب.

ثانيا: الهوية - "الرقائق الحضارية"
ولعل معنى التعدد والتنوع يمكن أن يتجسد من خلال مفهوم "الرقائق الحضارية" الذى صكه د. ميلاد حنا فى كتابه : "الأعمدة السبعة للشخصية المصرية". حيث يبرز مراحل التعاقب الحضارى التى مرت على مصر، بداية من الأسرة الأولى فى الدولة القديمة الى الدولة الوسطى، ومن ثم، الحديثة. ومن بعد ذلك، المرحلة المتوسطية حيث العصرين اليونانى على يد الاسكندر الأكبر (عام 332 ق. م)، والرومانى، بعد هزيمة كليوباترا فى معركة أكتيوم (عام 31 ق. م). ويشتبك معهما العصر القبطى منذ القرن الأول الميلادى، حتى القرن السابع (عام 641) عندما دخل العرب المسلمون الى مصر . حيث يبدأ البعد العربى الاسلامى للشخصية المصرية.
وهو البعد الذى يتميز، بدوره، بعدد آخر من الرقائق الحضارية تضم المرحلة التى تبدأ بدخول عمرو بن العاص حتى مراحل الضعف فى أخريات العصر العباسى. ثم تبدأ المرحلة الفاطمية التى يمكن أن تعد، بحد ذاتها، طورا حضاريا متميزا. من حيث أنها فرضت المذهب الشيعى الاسماعيلى على مصر، كما فرضت اللغة العربية والدين الاسلامى، على نحو اتخذ طابعا جبريا، فى كثير من الأحيان، قياسا على المراحل السابقة عليها، واللاحقة لها. ولعل هذه المرحلة هى التى شهدت أوسع انتشار للغة العربية والديانة الاسلامية فى مصر، بعد أن كانا منحصرين فى أعداد قليلة من العرب الوافدين والمصريين المقيمين.
وبنهاية العصر الفاطمى بدأ عصر سيطرة العرق التركى. سواء، أكان من المماليك (الذين بدأ حضورهم فى المشهد السلطوى والعسكرى، فى مصر منذ ظهور الأيوبيين)، أو الأتراك العثمانيين. وتلك المرحلة الأخير كانت هى الأخطر فى تاريخ الوجود الحضارى المصرى، وبخاصة فى مرحلة الاحتلال العثمانى لمصر. حيث بلغت فيه مصر أسوأ درجات تخلفها الحضارى.
ومن البدهى القول بأن كل واحدة من هذه المراحل التاريخية، تركت آثارا غائرة فى مكونات الشخصية المصرية، بما لايمكن معه الحديث عن عنصر وحيد فاعل فى التكوين الثقافى للشعب المصرى.
وبالطبع، فان البعد القبطى الممثل لأحد أبعاد التغيرات الثقافية والحضارية المهمة التى طرات على الكيان الثقافى المصرى، منذ العصر الرومانى، مثله فى ذلك مثل البعد العربى الاسلامى، لم ينقض من الوجود، بل لا يزال حاضرا فى صميم هذا التكوين الثقافى، الى يومنا هذا.
ولا ينسى ميلاد حنا ذكر البعد الأفريقى للشخصية المصرية، من حيث العلاقة التاريخية مع السودان والعلاقة المصيرية مع دول حوض النيل من أيام فتوحات محمد على والخديوى اسماعيل، حتى عصر عبد الناصر.
وفى هذا الاطار يؤكد ميلاد حنا على ما يمكن التعبير عنه باسم "الانقطاع الحضارى"، بمعنى عدم تواصل المسيرة الحضارية المصرية الأولى، أو (الكيميتية – كما أفضل أن أسميها)، بل نهاية هذه المسيرة، وبداية مسيرة أخرى هى اليونانية الرومانية – القبطية، ونهايتها، ثم المسيرة العربية الاسلامية، الأخيرة، بعصورها المتعددة. فقد غيرت مصر دينها ولغتها (أى أبدلت العناصر الأهم فى مكونات هويتها الحضارية) ثلاث مرات، منذ الحضارة المصرية القديمة بديانتها الأوزيرية – الآمونية، ولغتها الهيروغليفية، الى المرحلة القبطية حيث سادت الديانة المسيحية بلغتها الديموطيقية، الى الديانة الاسلامية بلغتها العربية. وذلك خلافا لدول قديمة، أيضا، مثل الصين، على سبيل المثال، والتى بقيت على لغتها وأديانها منذ القدم الى الآن، على الرغم من ما يمكن تصوره أو اثباته من وجود تأثيرات حضارية وثقافية وافدة، على نحو أو آخر.
ولا أظن أن هذا "الانقطاع الحضارى" يمثل نقيصة أو مشكلة جوهرية، بالنسبة لمصر. وهو على أى حال، يعد أمرا واقعا لا سبيل الى تغييره أو التنصل منه أو الغاؤه. بل، ربما، يعد، من وجهة نظر معينة، ميزة كبرى. لأنها خلقت نوعا من الثراء والغنى من خلال الروافد المتعددة التى صبت كلها فى مكونات هذه الشخصية. حيث تفاعلت ومنحت هذا الشعب "سبيكة" حضارية وثقافية، ذات طبيعة خاصة، لا يدانيها شعب آخر فى الفرادة والخصوصية.
ويؤكد ميلاد حنا على أن هذه "الرقائق" ليست منفصلة عن بعضها البعض، كما أنها غير متصارعة ولا متضادة، بل انها .. يقول:
" .. متصلة ومتداخلة، كما أنها رقائق شفافة غير معتمة، تركت بصماتها على الهوية المصرية وأعطت للشخصية المصرية هذه النكهة الخاصة، بل هذا التفرد غير المتكرر والذى وفر للمصري السماحة وقبول الآخر، باستمرار المسيحية المصرية متعايشة مع الاسلام المصرى." (ميلاد حنا، الأعمدة السبعة للشخصية المصرية، دار نهضة مصر، القاهرة، 1999، ص26) .
بما يعنى أن هذه "الرقائق" قد انصهرت، معا، وتحولت الى تلك ا"لسبيكة" الثقافية والحضارية التى تم ذكرها. وانها بذلك قد اكتسبت خصوصيتها وتميزها الشديدين.
ولعلنا قد لاحظنا أن عرض ميلاد حنا لطبيعة الشخصية المصرية قد غلبت عليه آلية الكتابة الصحفية، التى تهيمن عليها الرؤية الانطباعية الذاتية، بأكثر مما تغلب عليها الرؤية البحثية الأكاديمية المحايدة. وكذلك نلاحظ التعامل "الاعلامى" مع مادة كتابته، من حيث توجيهها نحو معالجة قضايا العلاقة بين المسلمين والمسيحيين، فى مصر. ساعيا، بوضوح الى محولة اثبات وتأكيد خاصية "التسامح"، لدى الشعب المصرى. وهى الخاصية التى يرى أنها قد سادت بين المسلمين والمسيحيين، من هذا الشعب، عبر التاريخ. وخاصة، منذ دخول عمرو بن العاص فى القرن السابع الميلادى (على الرغم من بعض المشاحنات والتوترات التى أشار اليها) !!! ولم يذكر ميلاد حنا، بالطبع، أيا من الثورات التى قام بها المسيحيون فى مواجهة بعض ممارسات الحكام ابان العصر العباسى (ثورة البشموريين، مثلا) أو غيرها.
كما أنه لم يذكر لنا سببا واحدا أدى الى هذا التسامح، سوى أن المصريين قد تعلموه من تلك "الرقائق الحضارية" المتتابعة، والدليل، عنده، على هذا التسامح، هو بقاء المسيحية فى مصر متعايشة مع الاسلام.
وأتفق مع الدكتور ميلاد حنا على أن "التسامح" و"الوداعة" يعدان من الخصائص المميزة للشخصية المصرية، بالفعل. وبشهادة الواقع اليومى الملموس. سواء، تمثل ذلك فى علاقة المصريين ببعضهم البعض، حتى مع الاختلاف الدينى – المذهبى، والعرقى .. الخ، أو تمثل فى علاقتهم بالوافدين من الجاليات الأجنبية. حيث تغلب، دائما، صفة الترحاب والاستيعاب، بعيدا عن العنصرية والاستعلاء. والشواهد على ذلك كثيرة من الوقائع التاريخية المعروفة، ويمكن التدليل على صحتها من خلال كون مصر كانت على الدوام بلدا مفضلا للهجرة واللجوء لأعداد ليست بالقليلة من بلدان الشرق الأوسط وأفريقيا، وكذلك، بعض البلدان الأوربية على مدار التاريخ، وبخاصة فى العصر الحديث، (قبل فترة الحربين العالميتين : الأولى والثانية، وبعدها). حيث وفد اليها واستوطن فيها أعداد من اليونانيين والايطاليين واليهود والترك والأرمن .. الخ. جنبا الى جنب مع الشوام والمغاربة والأفارقة والأفغان والعراقيين والليبيين واليمنيين والسودانيين .. الخ. ولا يزال هذا التوافد على مصر مستمرا حتى أيامنا هذه، حيث تتحدث احصائيات (عام 2022)عن ما يقرب من 9 ملايين لاجئ يقيمون فى مصر، معظمهم ينتمون الى بلدان تعانى من الحروب والأزمات الاقتصادية. على الرغم من الظروف الاقتصادية غير الرغيدة التى تعيشها مصر.
حتى فى ثورات المصريين المتعددة، دائما ما كان هذا الشعب من أقل الشعوب ميلا للعنف واراقة الدماء، أو التخريب والفوضى. وذلك، قياسا على باقى الثورات فى المنطقة والعالم.
ولكن هل يمكن تبرير ذلك "التسامح" وتلك "الوداعة"، التى تمثل السمة الغالبة، بحق، على طبيعة الشعب المصرى، بمجرد وجود تلك الرقائق الحضارية ؟؟ وماذا عن الشعوب الأخرى التى مرت عليها حضارات متتابعة لا تختلف كثيرا عما حدث للشعب المصرى، مثل معظم شعوب العالم القديم ؟؟

ان الاجابة على هذه الأسئلة تقتضى عدم الاكتفاء بقراءة المراحل المتعاقبة للتاريخ السياسى والحضارى لمصر، بل أتصور ان هناك ضرورة لمراجعة التاريخ الاجتماعى. بما يمكن أن يقربنا أكثر من امكانية تحديد وتفسير السمات الثقافية والهوياتية المائزة للمصريين. فالى جانب الرقائق الحضارية توجد، أيضا رقائق من النظم الاجتماعية المتتابعة التى وردت على الزمان المصرى. والتى كان لها الدور الأكبر فى صياغة وعى وثقافة المصريين. فالوجود الاجتماعى التاريخى كان، على الدوام، سابقا على الوعى والثقافة، ومنتجا لهما.

ثالثا : الهوية - التحول الاجتماعى - التاريخى
الواقع أن فكرة "الرقائق"، أى تعاقب وتراكم المراحل التاريخية، بحد ذاتها، ليست جديدة تماما. فقد تحدث عنها، من قبل ذلك بقليل، وان كان ذلك بدون استخدام التسمية اللفظية، على نحو محدد، د. طاهر عبدالحكيم فى كتابه: "الشخصية الوطنية المصرية – قراءة جديدة فى تاريخ مصر" الذى صدر فى طبعته الأولى عام 1986 (د. طاهر عبدالحكيم، الشخصية الوطنية المصرية – قراءة جديدة لتاريخ مصر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2012)
بيد أنه قد اتضح لنا فى نهاية النقطة السابقة أن فكرة ربط تكون الهوية الوطنية بمجرد توالى الحضارات عبر الحقب والعصور غير كافية، وحدها، لتفسير طبيعة الهوية المصرية وتحولاتها عبر الأزمان، كما أنها غير كافية لتبرير مكونات هذه الهوية وما تتميز به عن الهويات الأخرى. وبالتالى، فاننى أعتبر أن هذا البحث عن طبيعة الهوية المصرية، لا يمكنه أن يصل الى نتائج ذات بال، الا اذا قام بدراسة تطور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للواقع فى مصر. خاصة، أن الأفكار (وتشمل الأديان والأوضاع السياسية)، وحدها، لايمكنها أن تخلق واقعا. وانما الواقع الاجتماعى (من حيث مستوى تطور نمط الانتاج وعلاقاته وطبيعة الملكية)، على التحديد، هو الذى يمكنه أن يخلق الأفكار والأنماط السلوكية والخصائص النفسية، فى المحصلة النهائية.
وكما أن طاهر عبد الحكيم لم يقم بتجاهل نظرية "الرقائق الحضارية"، التى تبناها ميلاد حنا، فانه لم يتجاهل، كذلك، نظرية "خصوصية المكان" التى تبناها جمال حمدان من قبل. ولكنه اعتبر أن العامل الأكثر حسما، انما يتمثل فى أن طبيعة "نمط الانتاج" السائد وتبدلاته، عبر الحقب والعصور، هى التى يترتب عليها كل مكونات الفكر ومنطلقات السياسة ومفاهيم الحكم واتجاهات الوعى والثقافة .. الخ. ومن هنا، تتبدى أهمية ربط مراحل تحول سمات الشخصية الوطنية المصرية بتحولات "نمط الانتاج" و"أشكال الملكية"، على مدار التاريخ المصرى، من قديمه الى حديثه. وذلك فى نظرة بانورامية شاملة لمجمل تلك التحولات.
حيث يمكن تقسيم ذلك التاريخ الى مرحلتين رئيسيتين:

المرحلة الأولى:
وهى التى تميزت بهيمنة "نمط الانتاج الآسيوى"، (فى الهامش، وهى فكرة ماركسية، كما سبق أن أوضحت، وقد سبقه الى الحديث عنها فى كتاب كامل المفكر المصرى: أحمد صادق سعد، تحت عنوان : "تاريخ مصر الاقتصادى والاجتماعى فى ضوء نمط الانتاج الآسيوى، بيروت 1979. وكان قد سبق نشر معظم فصول هذا الكتاب فى مجلة "الطليعة" المصرية بدءا من عام 1974). باعتبار أن نمط الانتاج الآسيوى، هذا، انما هو النمط الذى ساد على طول فترة تاريخية كبرى تمتد من بداية قيام الدولة المركزية الأولى فى العصر المصرى "الكيميتى" القديم، وصولا الى مشارف العصر الحديث. وذلك على أساس القاعدة التى صاغها د. جمال حمدان فى كتابه سالف الذكر: "أعطنى أرضك، أعطك أنا مياهى". وفى المحصلة، فقد كانت المياه والأرض، والشعب، كلهم، ملكا للحاكم، سواء، أكان الملك، أو الخليفة، أو السلطان. بما يعنى أن أهم ما يميز هذه الفترة، أن ملكية الأرض فيها كانت مقصورة على الملوك والحكام. حيث انتفت، بصورة شبه كاملة، الملكية الخاصة للأرض الزراعية، بوصفها وسيلة الانتاج الرئيسية، بالنسبة للفلاحين وأفراد الشعب العاديين. بينما كان الفلاحون، يعملون فى الأرض بحق الانتفاع، فقط. ولم يكونوا مالكين لها. فكانوا، بذلك ليسوا أكثر من أجراء تابعين، يدفعون الضرائب نظير السماح لهم بالعمل. وبالتالى لم يكن المصريون، الذين تتشكل أغلبيتهم الكاسحة من الفلاحين، متمتعين بأى نوع الرفاه أو الحرية، بمعناهما المعروف فى أيامنا الراهنة، بل كانوا دائما موضوعا للاستغلال من الحكام وموظفيهم، الذين كانوا، جميعا، يتمتعون بصلاحيات مطلقة وغير مقننة. وبالتالى، تعين على الفلاحين الخضوع التام والطاعة الكاملة لهؤلاء الحكام والمتنفذين.
وعلى الرغم من وجود نوع من "الاقطاع"، تم استحداثه فى عصر الدولة الأيوبية، حيث أقطع صلاح الدين الأيوبى نفسه وأمراءه وأبناء عمومته وأحفاده وأمراء الجند، قطعا كبيرة من الأراضى. لكن، سواء، فى تلك الحالة، أو فى كل الحالات التى تم فيها اقطاع الأرض لأى شخص أو أسرة أو جهة (مثل الكنيسة، منذ العصر الرومانى حتى ما بعد دخول العرب، وكذلك بعض رجال الدين المسلمين، ابان العصر المملوكى والتركى) فقد ظل من حق السلطان أو الحاكم، دائما، وفى كل العصور، أن يحرم هؤلاء المستفيدين من الأرض التى أقطعهم اياها. خصوصا، اذا أخلوا بالواجبات المترتبة على اقطاعهم (وفى المجمل كانت هذه الواجبات ذات طبيعة مالية أو عسكرية).
وقد قام صلاح الدين نفسه بهذا التصرف. حيث منح بعض الاقطاعات ثم نزعها من بعض ممن منحهم اياها. كما نزع أخوه العادل كل الاقطاعات وقصرها على أبنائه وحدهم. والأمر نفسه قام به السلطان نجم الدين أيوب. وزاد عليه الصالح أيوب بمنح مماليكه، من الترك، اقطاعات واسعة مقابل ما قدموه من خدمات حربية. (انظر: د. سيدة اسماعيل الكاشف، الأرض والفلاح فى مصر الاسلامية، ضمن كتاب "الأرض والفلاح فى مصر على مر العصور"، الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، القاهرة، 1974 ، ص 217، نقلا عن طاهر عبدالحكيم، مرجع سابق، ص 32 )
فلقد ظلت القاعدة السائدة متمثلة فى أن يبقى "الاقطاع" شخصيا وانتقائيا بحتا، ولم يصل، أبدا، الى أن يكون نظاما مميزا لمرحلة من مراحل التاريخ الاقتصادى – السياسى – الاجتماعى، فى مصر. بما يخالف ما هو معروف من "اقطاع" فى التاريخ الأوربى.
من هنا يمكن أن نقول بثقة كاملة أن اقطاع بعض الأراضى لبعض الشخصيات أو الأسر، كان مجرد حالة عارضة فى التاريخ المصرى، ولم يكن فى يوم من الأيام .. "نظاما اجتماعيا، ولم يشكل نمطا للانتاج". كما أن أصحاب هذا الاقطاع لم يشكلوا طبقة اجتماعية متكاملة الأركان، مثلما كان الحال فى أوربا .. "بل ظلوا مجرد أتباع للحاكم، أو من أفراد أسرته، أو كبار موظفيه. وكان استمرارهم ومصيرهم مرتبطين بالحاكم، وليس بالأرض، فهو الذى يمنحهم موقعهم الاجتماعى، ويمكنه أن يسلبه منهم عندما يشاء". وهو الوضع الذى يمكن معه تسميتهم بأنهم كانوا مجرد .. "أعضاء فى الأوليجاركية الحاكمة، وغالبا ما كانت تلك الأوليجاركية عسكرية".
يضاف الى ذلك، أن فائض الانتاج فى مصر، سواء فى ذلك، كل العصور القديمة، كان يذهب للدولة. وكانت كل الفئات يتم الانعام عليها، بدرجات متفاوتة، بحصة من هذا الفائض، بتقدير من السلطان أو وزرائه وموظفيه، وليس عن طريق الريع العقارى المستحق للمالك. وبالمقابل، كانت الدولة على مدار هذا التاريخ، هى التى تقوم بالوظائف الخدمية الضرورية للسكان. مثل أعمال الانشاءات وتنظيم الرى وتوفير الاحتياجات الغذائية فى أوقات المجاعات والحروب أو الكوارث .. الخ. ولذلك كانت الدولة، دائما، تتميز بطابع مركزى صارم. بينما تميز الاقطاع الأوربى بنوع من اللامركزية الموسعة فى كل المجالات تقريبا. ومن هنا، كانت عملية الاستغلال التى تمارس على الفلاحين المصريين، انما تصدر من رجال الدولة، نفسها، وليس من الاقطاعيين.


لقد أدت أوضاع الاستبداد، تلك، من ناحية أخرى، الى استمرار ما يسمى ب"المشترك القروى" طوال 60 ستين قرنا من الزمان هى عمر هذا النظام الاجتماعى - الاقتصادى. الذى عرف باسم "نمط الانتاج الآسيوى". وقد نتج ذلك عن أن المسئولية عن دفع الضرائب والخراج والقيام بأعمال السخرة فى صيانة مرافق الرى وما شابهها، مسئولية جماعية لكل سكان القرية المحددة، وهو ما اصطلح على تسميته ب"العبودية المعممة" . (مثال ذلك الذى لا يمكن أن ينسى، هو أعمال السخرة التى سيق اليها الفلاحون المصريون فى حفر قناة السويس، وكذلك فى شق الترع والرياحات وبناء القناطر والسدود .. الخ. فى مختلف مراحل التاريخ القديم وحتى عصر اسماعيل. وهو ما جعل مفهوم "الجماعية"، أى التكافل والاعتماد المتبادل والتقارب الفكرى والانصهار النفسى، يشكل السمة الرئيسية للسلوك الاجتماعى العام للشعب المصرى.

ومما لاشك فيه أن دخول المسيحية الى مصر ومن ثم الاسلام قد أثر على نحو كبير فى الثقافة الشعبية لدى المصريين. ولكنه بكل تأكيد لم يقم بعملية محو كامل لثقافتهم الموروثة عن العصر الكيميتى. بل ربما كان العكس هو الصحيح، فلقد منحت مصر لكل من الديانتين سمتها الحضارى الخاص بها، وطبعتهما بطابعها الخاص. وفى المقابل فان القول بخلود الثقافة المصرية الموروثة عن العهد الكيميتى، واستمرارها بدون أى تغيير جوهرى، يعد، فى نظرى، نوعا من المغالاة المجافية لطبيعة الواقع المتحول أبدا. ولايمكن قبولها، من الناحية العلمية. كما أن القول بانسلاخ حضارى كامل للمصريين عن ماضيهم، بدخول الاسلام أو المسيحية، فهذا، أيضا، لا يقل عن سابقه فى المبالغة والمغالاة ومجانبة الصواب. حيث يتراءى لى جذر رئيسي يصل كل هذه العصور، ألا وهو أن المصرى الفلاح قد بقى حاله على ماهو عليه على مدار هذا التاريخ المحدد بنظام الملكية، مما جعله يبقى على تلاحمه وتضاغطه وتوارثه لثقافة التواؤم مع كل الحكام والعصور، وبالتالى أبقى على جزء كبير من خصائصه، مادامت الظروف المنتجة لهذه الخصائص لاتزال قائمة. ومن ثمن أنتج فكره وفنه وأدبه فى ضوء وضعه الاجتماعى المتواصل، ذاك. وهى تلك الخصائص التى يمكن اجماها فى العناصر الأربعة التالية أدناه.

وعلى ذلك نستطيع أن نرتب عددا من السمات التى ميزت تلك المرحلة الأولى من التاريخ الاجتماعى الاقتصادى فى مصر بما يكاد يجعلها متشابهة، الى حد كبير، مع مثيلاتها من بلدان المشرق:
- غياب الملكية الفردية للأرض والتبعية المطلقة للحاكم.
- احتكار الدولة المركزية كل شئ، وهى "المقاول" الوحيد لكل الأنشطة الاقتصادية والخدمية.
- علاقة الدولة بالشعب هى علاقة قهر وارغام واستبداد.(انظر: طاهر عبدالحكيم، السابق، ص 38 – 39)

وبناء عليه، يمكن أن تصبح عبارة "الاستبداد الشرقى"، التى تعنى: تميز الشرق بهيمنة الاستبداد على شعوبه، وشيوع الطغيان فى أنظمة الحكم لديه، عبارة صحيحة تماما، فى ذاتها. وتصدر عن فهم موضوعى للملابسات والأوضاع الاجتماعية المحيطة بالظاهرة، فى تلك الآونة. حيث تم ذلك فى ضوء ظروف خاصة بطبيعة محددة لنمط الملكية. أى أنه كان موقوتا بها ويمكن أن يتغير بتغيرها. ومن ثم، فهو ليس أبديا، ولا قدرا معلقا على الرقاب، على النحو الذى توحى به عبارة "الاستبداد الشرقى" الصادرة عن النظرة الجغرافية، التى سبق ذكرها ومناقشتها.

التواكل والخضوع والصبر والجدعنة
لعل وضعية "العبودية المعممة"، والعجز عن التغيير فى ظل أوضاع الحكم الاستبدادى المطلق، المتمترس خلف قدسية الدين، المشار اليها قبل قليل، هى على التحديد، ما تسبب فى بروز ظاهرة "التواكل الدينى" وتعليق كل شئ على القدر والمشيئة الالهية، وتعطيل قدرة الانسان على الفعل والتغيير.
وأدت هذه الوضعية، كذلك، الى شيوع حالة من "التوجس" والحذر، التى ربما اتخذت طابعا تاريخيا، امتد أثره عبر الأجيال، لدى الفلاحين المصريين، باتجاه الدولة وموظفيها وعسسها. وأيضا، باتجاه الغيب، وكل حدث طارئ وجديد، على السواء. حيث استقرت تلك الحالة فى صميم الوجدان الشعبى العام. فلا أحد يدرى ماطبيعة الشر القادم هذه المرة، وربما كان أسوأ مما لاقوه من قبل.
وربما كان واقع العسف والظلم السلطوى ذاك، والذى وصل الى مستوى "العبودية المعممة"، هو ذاته، المسئول عما شاع من الادعاء بأن الشخصية المصرية تتميز "بالخضوع".
ويبدو أن هذه الصفة كانت شائعة وملموسة، بدرجة جعلت الكثير من المؤرخين والكتاب. يفردون لها أبوابا فى حديثهم عن طبيعة الفلاح المصرى. وقد أورد طاهر عبدالحكيم عددا من النصوص، التى كتبها بعض المؤرخين حول تلك القضية. وربما كان أقدمهم المؤرخ المصرى عبدالرحمن الجبرتى الذى يقول عن الفلاحين المصريين فى كتابه عجائب الآثار فى التراجم والأخبار، المجلد الثالث، تحقيق د. عبدالرحيم عبدالرحمن عبدالرحيم : "واذا التزم بهم ذو رحمة ازدروه واستهانوا به وتمنوا زوال التزامه وولاية غيره من الجبارين". بمعنى اذا تولى مسئولية الالتزام بجبى الخراج منهم شخص طيب أو رحيم استهانوا به ولم يطيعوه فى دفع ما عليهم منها. وأتساءل هل المطلوب أن يطيعوا كل مطالب لهم بالدفع ؟؟ وماذا اذا استطاعوا عدم الدفع ؟؟ هل من الضرورى أن يقوموا بذلك ونحن نعرف كم التعسف فى فرض الضرائب عليهم من كل حدب وصوب؟؟
ومن هذه الأقوال، فى الاتجاه نفسه، ما قاله الأب هنرى عيروط، عن ما يسميه "سكينة" (بمعنى مسالمة) الفلاح المصرى من قبيل: "هذه هى سكينة الفلاح المصرى ولكنها تصل الى حد المهانة والتدنى اللتين يفرضهما الفقر عليه، بقدر ما فرضهما القهر المتواصل من سيده ومجتمعه، وعادة ما تزعم هذه الطبقة أن الفلاح لايستطيع أن يقدر سلطة تتعامل معه بانسانية، وهذا صحيح، ولكنه صحيح لأن الفلاحين فى الماضى لم يربوا الا على الضرب والغرامات واللعنات والاهانات والترهيب، الأمر الذى حولهم فى النهاية الى مخلوقات عديمة الحس". ولم يوضح لنا الأب عيروط: هل يعدون، فى هذه الحالة، جناة أم ضحايا ؟؟
ولقد قال المفكر المصرى أحمد لطفى السيد (باشا) وغيره من الباحثين شيئا من هذا القبيل. من حيث النفاق ومراءاة الأقوياء .. الخ. (انظر : طاهر عبد الحكيم، مرجع سابق، ص 67)
وقد مر بنا ما قاله اللورد كرومر عن المصريين، فى الفصل السابق من هذا الكتاب، بما يمكن أن يصل الى مستوى الهجاء الصريح لهذا الشعب ولقيمه وأبنيته الثقافية والأخلاقية.
وعلى العكس من كل هؤلاء، فقد انفرد عباس محمود العقاد بوصفه الفلاح المصرى بأنه لم يكن خاضعا بصورة مطلقة، بل كان على الدوام متحفزا للثورة والتغيير، فى مواجهة المظالم الواقعة عليه. بيد أن هذا الفلاح فى ثورته كان .. "يريد أن يرى الصفوف حوله ولا يحب أن يخاطر وحده". (عباس محمود العقاد، سيرة وتحية – سعد زغلول، دار الشروق، القاهرة – بيروت، د. ت.، ص 26 – 27)
وهو ما يعنى أن تمرد الفلاحين كان يشبه طريقة حياتهم، ذاتها، فكان ينزع نحو الجماعية، ويتهيب من العمل الفردى والمغامرة الفردية. ولا أظن أن هذا تصرف معيب. وعلى أى حال، فان التاريخ المصرى القديم (أما العصر الحديث فسيلى الحديث عنه بعد قليل) لم يخل من الاحتجاجات الجماهيرية واندلاع الثورات على الحكام الظالمين. بدءا من شكاوى المصرى الفصيح أواخر الدولة القديمة، وثورة البشموريين اثناء الحكم العباسى، وليس انتهاء بثورات وهبات الفلاحين فى العصرين المملوكى والتركى، وهى كثيرة جدا.
ومثال على ذلك ما أورده عبدالرحمن الجبرتى، متحدثا عن أحد أمراء المماليك ويسمى (ابراهيم بيك) واصفا اياه بأنه .. "كان عسوفا ظالما على الفلاحين لا يرحمهم، وله مقدم (أى رئيس شرطة – الباحث) من أقبح خليقة الله ، من منية حلفة، فيغرى بالفلاحين ويسجنهم ويعذبهم، ويستخلص لمخدومه منهم الأموال ظلما وعدوانا، فلما حصلت تلك الحادثة (معركة بين أمراء المماليك وما أكثرها فى ذلك الزمن) وهرب ابراهيم بيك المذكور مع اسماعيل بيك، اجتمع الفلاحون على ذلك المقدم وقتلوه وحرقوه بالنار." (عبدالرحمن الجبرتى، عجائب الآثار فى التراجم والأخبار، المجلد الثالث، تحقيق د. عبدالرحيم عبدالرحمن عبدالرحيم، الهيئة المصرية العامة للكتاب (مكتبة الأسرة)، 2003، ص 57)
ان الجبرتى الذى أورد هذا النص عن تمرد الفلاحين وثورتهم العنيفة ضد مستغليهم متى واتتهم الفرصة، هو نفسه الذى وصم الفلاحين بعبادة القوة فى النص الذى اوردته له قبل قليل، وأنهم لايطيعون الا "الجبارين" من الولاة والملتزمين، فى الكتاب المذكور، ذاته.
وأرى أنه من غير الممكن تصديق أو تصور أن المصريين كانوا خانعين أو خاضعين، على نحو مطلق، حسبا يقول الأب عيروط أو أحمد لطفى السيد. والأقرب الى الدقة أنهم كانوا، فى ذلك، مثل غيرهم من الشعوب التى خضعت الى أنواع من الحكم المطلق، يعيشون حياة مليئة بالألم والمعاناة، فيثورون ويحتجون كلما واتتهم الفرصة. سواء فى ذلك، أكانوا من فلاحى الشعوب القديمة (مصر - الهند – الصين – فارس .. الخ) أو حتى من شعوب أوربا التى عانى فلاحوها أيضا سوء العذاب على أيدى نبلائها من الاقطاعيين.. ولنا فى أسطورة دراكيولا، والماركيز دو ساد، والقيصر الروسى ايفان الرهيب .. وغيرهم، أمثلة قوية ودالة للغاية على سيطرة العنف الرهيب فى تعامل هؤلاء النبلاء مع الفلاحين وعامة الشعب، لديهم .
كما أن سمة الخضوع والطاعة لم تكن مقصورة على شعوب الشرق وحدها، فى تلك المرحلة من تطور الحياة الاجتماعية والاقتصادية، بل كانت شائعة فى كل بلاد العالم التى شهدت قيام الدول والامبراطوريات، بما فيها أوربا. وتقبلت معظم هذه الشعوب المظالم الواقعة عليها بصبر واحتساب. بيد أنه حتى فى تلك الظروف القاسية كانت تقوم دائما هبات وثورات، سواء من العبيد أو الأقنان أو الفلاحين المصريين، على النحو الذى أشرت اليه آنفا.
ان هذا الواقع الاستبدادى الأليم هو الذى أدى الى أن يخترع المصريون، أيضا مثل غيرهم من الشعوب، أسطورة "البطل المخلص" الذى سيقتص من الظالمين وينتصر للمظلومين. بدءا من أسطورة ميلاد حورس الذى سيقتص لأبيه الملك أوزيريس، اله الخير العادل، من الاله الشرير (ست)، الذى ينشر الظلم والظلام. حيث كانت مهمة حوريس، هى النضال ضد الملك الظالم والقصاص منه، من أجل تحقيق القيم التى قتل من أجلها أبوه، معبرا عن آمال وطموحات العامة والبسطاء. الا وهى قيم الحق والعدل والخصب والخير. ونظرا للطبيعة الاحتجاجية النضالية، التى تتمتع بها هذه الأسطورة، فقد تحولت الى عقيدة دينية، أخذ تتناسخ فى أنبياء الأديان وأبطال الملاحم الشعبية، التى توالت، على مدار الأزمنة.
وعلى هذا المنوال جاء أبطال الملاحم والسير التى أنتجتها قريحة الجماعة الشعبية المصرية فى العصور القديمة. فهى، جميعا، تترجم شوق هذه الجماعة الى اقرار الحق والعدل والحرية. ولأنها لاتمتلك القدرة على تحقيق ذلك بنفسها، فقد أوكلت المهمة الى البطل المخلص، الذى سيقضى على الشر، سواء، أكان آتيا من داخل البلاد، أو من خارجها، ليصل بها الى بر الأمان. ومثال ذلك شخصية (أبى زيد الهلالى)، بطل "السيرة الهلالية"، الذى ينقذ جماعته من القحط والموت، ويجتاز بها الفيافى، وينجو بها من المهالك، ليصل بهم، فى النهاية، الى بلاد (تونس) حيث الخير والزرع. وهناك البطل المصرى (على الزيبق) فى السيرة المعروفة باسمه، الذى تتجسد مهمته فى القصاص والسخرية من كل الظالمين من شرطة وأمراء المماليك. وكذلك الأمر فى سيرة "السيد أحمد البدوى" وسيرة "الظاهر بيبرس" وسيرة "عنترة بن شداد".. وغيرها. فكلها تبحث عن بطل مغوار لا يشق له غبار، يخلص الأمة من شرور الداخل والخارج، معا.
من ذلك، يتضح أن فكرة البطل المخلص، انما هى فكرة قديمة للغاية. بل تكاد تعادل قدم هذا النظام السياسى – الاقتصادى، ذاته.
ويرتبط بذلك من أشكال المقاومة، عند المصريين، ظهور ما يمكن تسميته بثقافة "العزاء والسلوى"، التى تقوم على ازكاء القدرة على الصبر والاحتمال. حيث ظهرت الأشعار والأمثال التى تؤكد على حتمية الانتقام الالهى من الظالمين، وبالتالى، ليس على المرء الا أن يتحلى بالصبر والاحتساب، واعتبار ذلك من مقتضيات الايمان الدينى، نفسه.
وهنا تاتى أهمية ماتركه الأقدمون لنا من ألوان الأدب الشعبى، من الأشعار والمواويل والحكايات والملاحم .. الخ. فهى تنبئ عن كل السمات والخصال المميزة للهوية الثقافية لدى الشعب المصرى، فى تلك الآونة.
ومن ذلك، "مربعات ابن عروس"، وهى تنتمى الى الأدب الشعبى، الذى وصلنا عن طريق الرواية الشفاهية، والتى يمكن أن يكون عنوانها المربع الأشهر:

لابد من يوم معلوم
تترد فيه المظالم
أبيض على كل مظلوم
أسود على كل ظالم
(مربعات ابن عروس، دراسة وتحقيق: مسعود شومان، دار سما للنشر والتوزيع، القاهرة، 2000، ص 88)

حيث نلاحظ الاحساس المفعم بالظلم، والايمان القاطع بيوم الخلاص، الذى سوف يأتى لامحالة، بالانتقام، الالهى أو الدنيوى، من الظالم، والانتصار للمظلوم ورجوع حقه.
ولعل هذا الاحساس بالظلم هو الذى أدى الى انتشار الأشعار والقصص التى تحث على "الصبر" على الشدائد، واعتبار ذلك من المثل العليا التى ينبغى على المرء التحلى بها. وتبدو ماثلة أمامنا قصة "أيوب ورحمة"،
(فى الهامش. وهى القصة التى عرفت اعلاميا بعنوان: "أيوب وناعسة"، بعد أن اعدها للاذاعة المصرية، زكريا الحجاوى، فى فترة الخمسينيات. وهو واحد من أصحاب الأدوار الرائدة فى مجال جمع التراث الشعبى).
بوصفها نموذجا بالغ الدلالة على مايمكن اعتباره نوعا من "عبادة الصبر" عند المصريين. فهى تعبر عن "فضيلة" الصبر على آلام المرض وما يصحبها من النكران والقسوة، حيث تقبلها ايوب، جميعا، محتسبا وصابرا (لذا لقب بأيوب الصابر) ، الى جانب التضحية والوفاء من قبل زوجته التى لم تتركه فى محنته وضحت من أجل رعايته والنجاة به. حيث تطرح القصة هذه القيم وعلى رأسها قيمة الصبر، بالطبع، بوصفها رأس القيم جميعا، وأن نتيجتها لابد أن تكون خيرا عميما وخلاصا أكيدا. بل ربما تصل فى بعض الأحيان الى الحض على استعذاب الألم والمغالاة فى الصبر. فتقول القصة فى أحد مقاطعها:

"وتطلع الدودة يا ناس من بين الهدوم
يحطها على جرحه بايده اليمين الطاهرة
ويقول لها يادودة سليمة وتهربى
ايش حال أنا جسمى داب واتهرى
والله يادودة لو ما كلتى نصيبك
لاشكيك لله يوم حساب الآخرة"

فأيوب هنا يكاد يتماهى مع فكرة المرض والألم، ويتعامل معها بوصفها مهمة جليلة تستحق التضحية والمعاناة من أجلها. بما يجعلنا نتصور أنه يحترف الصبر ويستسلم له تمام الاستسلام. وهو لا ينتظر مقابل ذلك أى جزاء، ولا ينقم أو يحزن. انه فقط صابر ومستسلم لآلامه. وبالطبع، فان الذهنية الشعبية تعتبر أن هذا الصبر، هو وحده طريق الخلاص ولا طريق غيره. ومن هنا تحتم أن يكون جزاء ذلك الصبر هو المكافآت الغيبية والمعجزات الكبرى وابدال الحال الى حال أفضل. فتقول القصة:

"شوف ربنا رحمته أكبر من كل شئ
باعت ملكين لايوب
واحد سليم والتانى حالته مغيرة
شوف السليم يقطف ويدهن للعليل
خفت جراحه اللى كانت فاجرة
أيوب يقوم عالرعراع (فى الهامش ، العرعر وهو نبات طبى) ويدهن بلاه
وخفت جراحاته اللى كانت فاجرة"

حيث نلاحظ أن المعجزة الالهية، التى تمثل جائزة الصبر بالنسبة لأيوب، قد أدت الى ارسال ملكين لمداواته وتطبيبه. بيد أن أحدهما مختلف عن الآخر، ربما حزنا على ايوب. وزادت عليها معجزة أخرى، الا وهى تبديل وضعه المادى من الفقر وشظف العيش الى اليسر والعيش فى القصور.
ومثال ذلك، أيضا، ما يرد فى الأمثال الشعبية السائرة، بكثرة لافتة، مثل : "الصبر طيب"، و"الصبر مفتاح الفرج"، و "أصبر على جارك السو ، ليرحل لتجيله داهية تاخده". ومن قول ابن عروس :
"لانام على الشوك عريان
واصبر على ما جرالى
واصبر عليك يازمان
حتى ينعدل حالى" (ابن عروس، ص 108)


ولعل فكرة "الصبر" قريبة، أيضا، الى حد يقترب من التماهى، مع فكرة التسليم بقوة "القضاء القدر"، ومايشبهها من المفاهيم الغيبية، مثل: "الوعد" و"المكتوب" و"القسمة" و"النصيب" و"الرزق" و"الحظ" .. الخ. وهى القيم التى تفضى، فى نهاية المطاف، الى معنى التواكل، الناتج عن التسليم بالعجز التام، وانعدام القدرة على التأثير فى مجرى الأحداث والمصائر .. ومن ذلك المثل الشعبى القائل: "العبد فى التفكير والرب فى التدبير"، وكذلك : "المكتوب عالجبين لازم تشوفه العين". وكذلك: "اجرى يا ابن آدم جرى الوحوش، غير رزقك لم تحوش". ومنه قول ابن عروس:
سلم أمورك لمولاك
دارى بحالك وعالم
تنسر فى يوم لقياك
وترتد للأهل غانم. (ابن عروس، ص 106)

ويقول:
والله ماهى بسعيك
ولا بكتر الخطاوى
الا اذا كان سعدك
فى كل لحوال مساوى (ابن عروس، ص 64)

ويقول:
"كسرة من الزاد تكفيك
وتبقى نفسك عفيفة
والقبر بكرة يطويك
وتنام فى جار الخليفة" (ابن عروس، ص 89)

ويشمل ذلك، ما ارتبط بقيمة الصبر من قيمة الحذر والتحوط، من قبيل: "امشى سنة ولا تخطى قنا"، و"اللى نعرفه أحسن من اللى مانعرفهوش"، و"ياقاعدين يكفيكوا شر الجايين" و"فى التأنى السلامة وفى العجلة الندامة" .. الخ. وفى هذا المقام يقول ابن عروس:
"صابونة العدو ما ترغيش
وان رغت ياللا السلامة
ان قعدت فى مطرح ما ترغيش
حتى تقوم بالسلامة". (ابن عروس، ص 119)

بيد أنه، فى مقابل قيم التواكل والتحوط، تلك، انتشرت أيضا قيم المواجهة والتعامل الندى، وتمجيد العمل، وضرورة السعى من أجل الرزق والكفاح من أجله .. الخ. ومن ذلك المثل الشعبى : "اداين وازرع ولا تداين وتبلع". وتقال فى الانفاق على العمل والانتاج، بدلا من الانفاق على الطعام والاستمتاع. وأيضا: "اللى تزرعه تقلعه". ومن ذلك ما اورده الجبرتى فى كتابه المذكور، من حوادث عام 1142 حيث احتشد العامة امام منزل أحد الأمراء عندما زاد عليهم الضرائب وأخذوا يهتفون:
"باشا يا باشا ياوش القملة
مين قالك تعمل دى العملة
باشا يا باشا يا عين الصيرة
مين قالك تعمل دى التدبيرة" (عبدالرحمن الجبرتى، مرجع سابق، الجزء الأول، ص 209)

ومن ذلك أيضا ماقاله ابن عروس:
"اللى يداديك داديه
واجعل عيالك عبيده
واللى يعاديك عاديه
لو كانت روحك بايده". (ابن عروس، ص 75)

وقوله فى أهمية الاجتهاد والسعى على الرزق:
"لا تنام قوم اسهر الليل
سهر الليالى شطارة
من لازرع لاحصد كيل
ولا امتلت له غرارة" (ابن عروس، ص 67)

ومن ذلك، أيضا، الاحتفاء بسير وحكايات الخارجين على السلطة (الحكومة)، من الفتاك (بضم الفاء وتشديد التاء وهى جمع فاتك، والمقصود بها قاطع الطريق) والعيارين (وهم العاطلون المنفلتون الذين لا عمل لهم سوى التجوال والاحتيال) والشطار (اللصوص). وتحويل هذه السير الى حكايات وملاحم تتغنى بها الجماعة الشعبية. حيث كان هؤلاء الخارجون انما يخرجون على النظام الذى يراه العامة ظالما جائرا. وبالتالى كانت أفعالهم تعد، فى الوجدان الشعبى العام نوعا من البطولة والمقاومة والنكاية بالظالمين. (انظر: د. محمد رجب النجار ، الشطار والعيارون فى التراث العربى، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1981) ولعل أكثر هذه السير لفتا للانتباه، ما جاء فى موال أدهم الشرقاوى، (فى الهامش: وعلى الرغم من أن تاريخ ظهوره يعد متأخرا نسبيا، قياسا على ما سبق ايراده من نماذج، فقد ظهر هذا الموال (الذى جاء على هيئة سيرة مغناة)، بناء على واقعة حقيقية حدثت عام 1921) فان الصورة التى يقدمها للعلاقة بين المجتمع الفلاحى والسلطة، من حيث عدم كفاية الحكومة، ممثلة فى القانون، لاقامة العدل والقصاص من الظالمين، بل انها هى نفسها مصدر الظلم والجور، تجعل القصاص من رجالها والاستهزاء بهم، أمرا يثلج الصدور ويستحق الذكر والتخليد، وأن يوضع فى عداد الأعمال البطولية. انظر: د. عبدالحميد حواس، أوراق فى الثقافة الشعبية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2005، ص 168)

وفى ضوء ما سبق، يمكن القول بأن تلك المرحلة التاريخية الشاسعة الممتدة منذ فجر التاريخ حتى أواسط القرن التاسع عشر، والتى ساد فيها نمط الانتاج الآسيوى، سادت قيم تبدو على قدر ملحوظ من التضاد والتناقض، مثل سيطرة فكرة البحث عن البطل المخلص، الذى سيملأ الأرض عدلا، بعد أن ملئت جورا. وأيضا سيطرت مفاهيم الخضوع والخنوع، من ناحية، والتذمر والثورة، من ناحية أخرى. الى جانب ذلك، فقد شاعت قيم ومفاهيم تناسب المرحلة، مثل قيمة "الصبر" و"الحذر" و"التواكل"، وانتشار الايمان بالغيبيات والاستسلام لتصاريف القدر .. الخ. جنبا الى جنب مع تقديس قيمة العمل وبذل الجهد. وربما لا تزال بعض هذه القيم المتضادة أو بقاياها على الأقل، موجودة لدينا، حتى أيامنا هذه.

ومن زاوية أخرى فان تلك المرحلة قد ولدت قيما اضافية، ذات طابع ايجابى، لاتزال تميز الجماعة الشعبية المصرية. وتلك هى المتمثلة فى قيمة التضامن والتكافل والتآزر. فلعل الواقع الذى أدى الى ظهور، ما أوردت الحديث عنه، فى ما عرف باسم "المشترك القروى" أو المسؤلية الجماعية، هو نفسه، الذى خلق روح التضامن والتآزر بين أبناء الجماعة الشعبية، وتم التمسك بتلك السمات بوصفها موروثا أثيرا، وهو ما يسمى فى أيامنا باسم "الجدعنة" والشهامة، وأخلاق "أولاد البلد"، و"الوفاء"، و"الاخلاص للصديق" .. الخ.
ولقد مجدت الآثار الشعبية هذه القيمة بقوة لافتة ، مثل قولهم: "اعمل المعروف وارميه البحر". وكذلك : "اقصد اللى يعرفك تقضى حاجتك". ومنه أيضا: "اللى ماله خير فى أخاه الغريب ما يسترجاه". ومن ذلك قول ابن عروس فى مربعاته:
"الندل له طعم مالح
وله خصايل ذميمة
القرب منه فضايح
والبعد عنه غنيمة" "ابن عروس، ص86)

ونلاحظ أن أهم ما ميز تلك المرحلة الطويلة من التاريخ هو هيمنة الثقافة الدينية على نحو شبه تام، فى مصر، وغيرها من البلاد التى عايشت هذه المرحلة الاجتماعية – الاقتصادية، وأرى أن هذا أمر طبيعى تماما، فتلك هى مرحلة ما قبل عصر العقلانية والعلم.

أما المرحلة الثانية من التاريخ الاجتماعى المصرى: فهى تلك التى يتم التأريخ بها لبداية العصر الحديث، بحسب رؤية هذا الاتجاه الاجتماعى. وهى تلك المرحلة التى تتميز بظهور الملكية الخاصة للأراضى الزراعية، فى عصر اسماعيل. فهى، على هذا الأساس، لم تبدأ بالحملة الفرنسية كما قد يذهب البعض. وذلك لأن الحملة لم تعمر طويلا، كما أن كل الاصلاحات (المدنية العصرية) التى شرعت فيها، وبخاصة، المتعلقة باجازة الملكية الخاصة ودعم التجار والطبقة الوسطى، قام محمد على بالغائها، وأعاد مصر الى عهدها السابق. ولذا فانه ليس من الصحيح، أيضا، اعتبار تولى محمد على السلطة فى مصر بداية لدخول مصر فى هذا العصر الحديث، بل الأصح أنه يعد امتدادا للعصور القديمة، من حيث استمرار نمط الملكية القائم على أساس "نمط الانتاج الآسيوى". فغنى عن القول أن محمد على، بوصفه حاكما لمصر، قد كرس ما كان عليه الوضع فى العهود السابقة، فكان مالكا لكل شئ فى البلاد، وكان، كما تردد معظم الكتابات التاريخية، هو "الزارع الوحيد" و"الصانع الوحيد" و"التاجر الوحيد"، فى مصر.
أما بقية "الرعية" فى أى مجال انتاجى، فلم يكونوا أكثر من مجرد أجراء أو منتفعين، فى أفضل الأحوال، ولا يمتلكون أية وسيلة من وسائل الانتاج. سواء فى ذلك، من ينتمون الى الحاشية المقربة من محمد على، أو من ينتمون الى أبناء الشعب. وكانت طموح محمد على فى بناء امبراطورية كبرى، انطلاقا من مصر واستنادا الى موقعها المتميز وامكانياتها المادية والسكانية والحضارية، الكبيرة، ليس أكثر من طموح قائد لأقلية (أوليجاركية) طبقية عسكرية، تتكون تحديدا من الأجانب (الترك والشركس والألبان وبقايا المماليك). شأنه فى ذلك شأن كثيرين ممن تولوا حكم مصر، مثل أحمد بن طولون، ومحمد بن طغج الأخشيد، والمعز لدين الله الفاطمى، وصلاح الدين الأيوبى، وعلى بك الكبير .. الخ.
ومن زاوية أخرى، فلابد من ذكر أن محمد على، على الرغم مما سبق، يعد مؤسسا لأهم لبنات الحداثة فى مصر، حيث قاد أهم عملية تنمية تعليمية وتصنيعية وزراعية شاملة وواسعة النطاق، فى تاريخ مصر، حتى زمنه. كما قام بتحقيق الاتصال العلمى والثقافى الأول والأهم بين مصر وأوربا، عن طريق البعثات العلمية التى أرسلها، وعادت لتبنى مصر بعلوم العصر، وقتها. ويعد هذا الاتصال من أهم عوامل الانتقال والتطور الثقافى والحضارى فى تاريخ مصر، نحو الحداثة.

ويمكن التأريخ لدخول مصر الى العصر الحديث، بصدور قانون "المقابلة" فى 30 أغسطس عام 1871 . الذى منح، بمقتضاه، الخديوى اسماعيل حق ملكية (غير كاملة) لمن يدفع الضرائب عن الأرض التى ينتفع بها، بما يعادل مدة 6 سنوات، دفعة واحدة. ومن الواضح ان صدور هذا القانون قد تم تحت ضغط الضائقة الاقتصادية التى مر بها اسماعيل فى تلك الفترة. خاصة، بعد النفقات الترفية الباذخة والباهظة التى اثقل بها الميزانية المصرية. وعلى الرغم من أنه قد تراجع عن هذا القانون فى عام 1876، فقد اضطر الى اعادة اقراره تحت ضغط كبار المنتفعين الذين طالبوا بحقهم بعد أن دفعوا المبالغ التى قررها القانون المذكور. خاصة، أن هؤلاء المنتفعين قد أضحوا طبقة كبيرة مؤثرة، ولها مصالح تدافع عنها فى مواجهة القصر والنفوذ الأجنبى، فى الآن نفسه. (طاهر عبدالحكيم، مرجع سابق، ص 134)
ومن هنا، يمكن القول بأن طبقة وسطى جديدة قد ولدت للتو، وأن معظم أبنائها ينتمون الى أهل البلاد الأصليين. وقد تملكوا، لأول مرة فى التاريخ، ملكية كاملة، جزءا من أراضى بلادهم. وهو ما يعد انعطافا تاريخيا مهما، حيث ظهرت آثاره السياسية والاجتماعية والثقافية الكبرى، سريعا جدا. حيث ظهر لأول مرة شعار "مصر للمصريين"، أثناء اشتعال أحداث الثورة العرابية. والتى يمكن أن تعد أول تعبير سياسى عن هذه الطبقة الجديدة.
ان اندلاع الثورة العرابية، بحد ذاته، يمكن أن يمثل، دلالة ثقافية مهمة، من حيث تراجع المفاهيم المنتمية، على نحو معين، الى الأفكار الدينية، فى تكييف طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكومين. وفى المقابل، وظهور أفكار يمكن تصنيفها تحت صفة العلمانية: مثل أفكار "الوطنية" و"الحرية"، و"الحياة النيابية"، و"تقييد الصلاحيات المطلقة للخديوى" فى اصار الفرمانات والتصرف فى مصير البلاد والعباد .. الخ. وفى هذا السياق، يجدر بنا ذكر أن الثورة العرابية قد اختصمت، ضمنيا، السلطة العثمانية، ذاتها، على الرغم مما تتمتع بع به من هالة دينية الى جانب نفوذه الدنيوى. مما أدى الى أن يصدر السلطان العثمانى فرمانا بعصيان عرابى. وهو ما يدل على عملية "قطع معرفى" مع أنظمة الاستبداد و"العبودية المعممة"، ومحاولة "تحرير قوة العمل وتحويلها الى سلعة كما أضحت الأرض سلعة"، كذلك. (طاهر عبدالحكيم، مرجع سابق، ص 134).
ولذا، فمن الممكن اعتبار هذه الثورة تعبيرا حقيقيا عن المشاعر الوطنية المصرية الأكثر تبلورا. كما تعد باكورة الثورات الوطنية الديمقراطية، التى خاضتها الطبقة الوسطى المصرية الوليدة، مدافعة عن مصالحها ضد الاستبداد الداخلى والتبعية العثمانية، والاستعمار الأجنبى، جميعا. معبرة فى ذلك عن توق كامن منذ القدم فى نفوس المصريين، الى تحقيق حالة نهوض وطنى شاملة، تبدأ من محاولة بناء الكيان الوطنى المصرى المستقل، ومشاركة الشعب فى السلطة.
ولقد ترتب على تلك التطورات، حدوث تحولات مهمة فى بناءالشخصية المصرية، خرج بها الى سمات أخرى مغايرة. أبرزها ظهور الفكر العلمانى والليبرالى، الذى تجلت بداياته فى قيام الثورة العرابية، على النحو المذكور، آنفا. وتراجع فكرة الخضوع وعبادة الحاكم، بل الثورة عليه، اذا لزم الأمر. وكذلك بروز الانهمام الواضح بالقضية الوطنية والعمل من أجل الاستقلال الوطنى.
كما اقتربت مصر كثيرا، فى تلك الآونة، من فكرة الاصلاح الدينى على أيدى الامام محمد عبده. وكذلك التطور السياسى الذى تبدى من خلال ظهور الأحزاب. كما زاد الوعى بأهمية العلم المدنى والالتحاق بتكنولوجيا وثقافة العصر، فظهرت فكرة بناء الجامعة (تم بناء الجامعة الأهلية وهى أول جامعة مدنية فى تاريخ مصر عام 1908)، مما أدى الى زيادة نسبة المتعلمين وتطلعهم للعب دور أكثر فاعلية فى تقرير الشأن الوطنى.
وكان لحركة الطلاب وخريجى الجامعة شأن كبير فى الحياة السياسية المصرية، تمثل بادئ ذى بدء فى ظهور زعامتى مصطفى كامل ومحمد فريد ونشأة الحزب الوطنى الأول على أسس من الروح الوطنية الخالصة. وقد تلقيا دروسهما الوطنية الأولى عندما كانا طلابا فى (مدرسة) الحقوق. وكذلك، فقد أسهم الطلاب فى اشعال شرارة الثورة فى مارس 1919، وقاموا بالدور القيادى لحركة "لجان الوفد"، التى تأسست بعد رفض الانجليز الاعتراف بالوفد الذى يقوده سعد زغلول، مطالبا بالاستقلال، ممثلا للشعب المصرى. ولم يتوقف دور الطلاب الفاعل فى الحياة السياسية المصرية، منذ ذلك الوقت.
وفى الحقيقة فان ثورة 19، كانت بمثابة بعث عارم للمشاعر الوطنية المصرية. وهى التى أعادت الزخم الذى كان قد خبا (نسبيا) بعد فشل الثورة العرابية. كما أنها أعادت الى الواجهة فكرة الكيان المصرى المستقل، وكرست الوعى المتطلع نحو الحرية والتقدم والديمقراطية. كما أن الثورتين (العرابية وثورة 19) قد ساهمتا، من طرف ما، فى تطور الوعى الطبقى عند الفلاحين، وهم الطبقة الأكثر تعرضا للاستغلال والقهر، تاريخيا، فى المجتمع المصرى. حيث أقدم الفلاحون، فى كلتا الثورتين، على حرق عدد من قصور ومخازن الباشوات. وتماشيا مع صحوة الوعى الطبقى والوطنى، التى انتابت طبقة الفلاحين المصريين، قال سعد زغلول فى خطاب القاه يوم 20 سبتمبر 1920: "أنه ليس فينا طبقة تسمى الباشوات وطبقة تسمى الفلاحين، بل كلنا طبقة واحدة، وليس هناك طبقة ممتازة على الأخرى". (طاهر عبدالحكيم، مرجع سابق، ص230) وأيا ما كانت بواعث سعد زغلول فى هذا القول. وأيا ماكان قصده الواعى منه، الذى أظنه داخلا فى اطار جهود الحشد للثورة وضم صفوف القوى الشعبية، فهو لم يكن يقصد، بالتأكيد المعنى المباشر للكلمات، فان كل تلك الأجواء الثورية قد زرعت الثقة والقوة فى قلوب الفلاحين والعمال وفقراء المدن. وأزاحت، بالمقابل ثقافة الرهبة والخوف والتقديس، وكل تلك الصفات التى رسمت ملامح الخضوع التاريخى الذى سيطر عليهم فى الماضى.
كما ظهرت، على أثر هذا التألق للأفكار الليبرالية، حركة "تحرير المرأة" على أيدى قاسم أمين، وهدى شعراوى، وسيزا نبراوى. مما أدى الى نزع البراقع، وانخراط المرأة فى العمل المهنى والعمل العام، ومشاركتها الفعالة فى مختلف مجالات الحياة.

بيد أنه من الضرورى التأكيد على أن هذه النشأة للطبقة الوسطى المصرية، لم تكن تشابه، الا فى القليل، الطبقة البرجوازية الأوربية. مثلها فى ذلك مثل اختلاف الاقطاع المصرى عن الاقطاع الأوربى. فبينما نشأت البرجوازية الأوربية فى الثغور البحرية، بوصفها نقيضا اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا للطبقة الاقطاعية، وتعمل باستقلال تام عنها. حيث تمكنت، فى وقت لاحق من القضاء عليها (أى على الطبقة الاقطاعية) وتسييد نظمها السياسية والثقافية - الفكرية والقيمية. فان الطبقة الوسطى المصرية قد قامت على أساس تملك الأرض الزراعية. ومن ثم، قامت باستثمار الفائض من ريع الأرض فى التجارة والمشروعات الصناعية والتجارية والمالية. وبذلك كانت الطبقة الوسطى المصرية طبقة زراعية – صناعية، فى الآن نفسه. ولم ترق الى أن تكون طبقة صناعية كاملة، كما كان الحال فى أوربا. وبالتالى لم تدعم قيم المدنية والحداثة على النحو المرجو. كما أنها لم تمتلك وعى الصناعة وأفكارها المدنية: السياسية والثقافية، بشكل كامل. ولذلك كان وعيها الفكرى يراوح بين القيم الريفية البتريركية، وقيم الفردية المدنية. كما أن وعيها الوطنى جاء على درجة كبيرة من التذبذب، وأخذ يراوح ما بين العداء، والمهادنة، فى الآن نفسه، للقصر والاحتلال الانجليزى. وكان ذلك بقدر ما تمليه مصالحها الطبقية المتطلعة، وطبيعة وعيها السياسى المحافظ وغير الجذرى.
ولعل هذه الفهم لوضعية الطبقة الوسطى المصرية هو الذى يمكننا من تفسير السلوك المريب للأحزاب الليبرالية المعبرة عنها من قضيتى: الديمقراطية الاستقلال. ومثال على ذلك موقف اسماعيل صدقى القمعى الدموى بحق الوطنيين المصريين، لصالح الملك والانجليز، حتى أنه سمى "جلاد الشعب". بينما "كان يشغل منصب رئيس اتحاد الصناعات" فيما قبل توليه رئاسة الوزراء. أى أنه كان فى قيادة الطبقة المفترض أنها الأكثر ليبرالية فى المجتمع المصرى. ومثيله كان موقف حزب الأمة الذى يعبر عن كبار ملاك الأراضى، بقيادة عدلى يكن (باشا) الذى كان سعد زغلول قد فصله من حزب الوفد. وكذلك موقف أحمد لطفى السيد (باشا) رئيس تحرير جريدة "الجريدة"، وهى لسان حال حزب الأمة. الذى جاء متذبذبا ومترددا تجاه تقييمه السلبى للشعب المصرى، كما سبقت الاشارة. وكذلك، عدم جذرية معارضته للاحتلال البريطانى، حتى أنه صرح قائلا: "سياستنا مع الانجليز لا تخلو من أحد وضعين: اما سياسة عناد وعداء، واما سياسة مسالمة لا استسلام. ولا شك أن سياسة المعاندة عقيمة. فلم يبق الا سياسة المسالمة والمحاسنة مقرونة بالمحاسبة، وأول مظاهر المحاسبة هو المجاملة فى المعاملة". (طاهر عبدالحكم، مرجع سابق، ص211) . بينما كان موقف حزب الوفد أكثر جذرية فى مواجهة الملك والانجليز، على الرغم من أنه كان ينتمى الى الطبقة، ذاتها.
وبالتالى فان فكرة "الأمة المصرية"، ذات المنطلق الليبرالى، والتى كان أحد منظريها الرئيسيين أحمد لطفى السيد، نفسه ، والتى سادت فى الحياة الثقافية المصرية منذ ثورة 1919، كانت فى حقيقة الأمر، ذات طابع نخبوى ضيق ومحدود للغاية. وبالتالى أخفقت تلك القوى الليبرالية فى تحقيق أى تقدم فى موضوع الجلاء، فخاضت مفاوضات اثر مفاوضات، لم تفض أى منها الى أى نتيجة. وبالتالى، وقعت عملية تحرير البلاد على عاتق طبقات وقوى اجتماعية أخرى، أكثر انتماء الى الجمهور الشعبى والجسد الوطنى العريض. وهو ذلك الجمهور الذى لم يتوقف عن ممارسة النضال وتقديم التضحيات، طوال هذا التاريخ، حتى الاستقلال التام عام 1954 بتوقيع اتفاقية الجلاء. وانهاء الوجود الاستعمارى بصورة فعلية عام 1956. لتدخل مصر فى دورة تاريخية جديدة تماما. شعارها : "ارفع رأسك يا أخى فقد مضى عهد الاستعباد".

العروبة والاسلام والفرعونية
فى كل الأحوال، فقد كان لهذا التحول التاريخى، (المرتبط بظهور الملكية الخاصة للأرض الزراعية وانهاء زمن الحاكم الذى يملك البلاد والعباد)، الدور الأساسى فى انطلاق ما يمكن تسميته ب"عصر النهضة المصرية". فتكاثرت الأحزاب السياسية المعبرة عن كل القوى الاجتماعية، بدءا من أحزاب كبار ملاك الأراضى، المترددة والمتوجسة من الحركة الشعبية، فى اليمين، الى الأحزاب المعبرة عن الطبقة العاملة والفلاحين، فى اليسار. وما بينهما من الأحزاب المعبرة عن البرجوازية الصغيرة. كما ظهرت حركة احياء الشعر العربى على أيدى محمود سامى البارودى وأحمد شوقى وحافظ ابراهيم. وظهر الأدب الروائى، بقوة أخاذة. كما ازدهرت فنون الغناء والموسيقى والمسرح والسينما. وتألقت أسماء مصرية كبيرة أنارت الثقافة العربية ووصل بعضها الى العالمية فى معظم هذه المجالات.
وعلى الرغم مما ساد مصر طوال فترة حكم الزعيم جمال عبدالناصر بعد ثورة يوليو 1952 حتى عام وفاته 1970 ، من تضييق أمنى وحساسية تجاه فكرة الاختلاف والمعارضة السياسية، ورقابة سلطوية على الصحافة والمطبوعات والكتب والأفلام السينمائية .. الخ. فلقد شهدت هذه الفترة ازدهار المشروعات التنموية وانتشارها فى كل ربوع مصر، فتم تأميم قناة السويس وتم الشروع فى بناء السد العالى والانتهاء من بناء وتشغيل آلاف المصانع واستصلاح ملايين الأفدنة من الأراضى الصحراوية وزراعتها، وتشغيل جميع أبناء الشعب المصرى، وبناء الآلاف من المستشفيات والوحدات الصحية .. الخ. فلقد كان هناك مشروع نهضوى وطنى كامل على كل المستويات.
وقد أخذت الثقافة المصرية نصيب الأسد ،من كل هذه الجهود. فقد بنيت آلاف المدارس وافتتح الآلاف من قصور وبيوت الثقافة والمكتبات العامة فى كل ربوع مصر. وازدهر تأليف الكتب وترجمتها فى كل المجالات، فتألقت صناعة نشر الكتب، وأنشئت من أجلها دور النشر العملاقة، التى تعد الأكبر فى الشرق الأوسط، وأخذت تبيع مطبوعاتها بأسعار رمزية. وازدهرت فنون الموسيقى والغناء والمسرح والسينما والباليه والأوبرا، وأنشئت أكاديمية الفنون وواصلت مصر احتلالها، بتألق كامل، المركز الأول فى التأليف والابداع، بين جميع البلدان العربية. وتواجدت على الصعيد الثقافى كل الاتجاهات الفكرية دون استثناء، فتجاور محمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس وعبدالرحمن الشرقاوى وألفريد فرج، ونعمان عاشور وفؤاد حداد وعبدالرحمن الأبنودى ولويس عوض وغالى شكرى .. الى آخر الكتاب والشعراء المحسوبين على التيار اليسارى، سياسيا وفكريا، جنبا الى جنب، مع ثروت أباظة وتوفيق الحكيم ويوسف السباعى واحسان عبدالقدوس وعبدالحميد جودة السحار ومحمد عبدالحليم عبدالله .. الى آخر الكتاب المحسوبين على تيار اليمين. وما بينهما بالطبع. فانتشرت، عن حق، عبارة: "القاهرة تؤلف وبيروت تطبع وبغداد تقرأ". لقد كان ازدهار للفكر والثقافة المصرية، على نحو غير مسبوق أو ملحوق، حتى الآن.
حيث كانت النتيجة الطبيعية لكل ذلك هى زيادة نسبة المتعلمين فى المجتمع المصرى، وانتشار الثقافة المستنيرة والفكر التقدمى، والثراء المعرفى والثقافى، والالتحاق القوى بالثقافة الانسانية، بصورة ملموسة للغاية.
ومرد ذلك فى ظنى هو ان السلطة المصرية. فى ذلك الوقت، وقدكانت سلطة وطنية تحررية ثورية، قد رأت أن التحرر السياسى من الاستعمار والتبعية، لايمكن أن يكون حقيقيا ومنيعا مالم يتبعه تحرر وتطور اقتصادى وصناعى، بما يحمى استقلال مصر من الضغوط الاقتصادية الخارجية، وبخاصة الغربية. ومن هنا كان المشروع التنموى الطموح ذاك. كما أن هذا التحرر والتطور لابد وأن يحميه نوع من الوعى والاستنارة العقلية والفهم السياسى والانفتاح العقلى والفكرى على الثقافة والفكر العالمى. ومن هنا كانت النهضة الثقافية.
ومن المثير أن كل ذلك قد تم تحت قبضة أمنية عاتية، فقد سجن عدد مؤثر من المثقفين، وقضوا مددا ليست بالقليلة فى السجون. وأعتقد أن السبب فى ذلك يكمن فى أن التعامل السياسى للسلطة المصرية كان مختلفا عن تعاملها فى المجال الثقافى. فلقد قامت ثورة يوليو بدون أيديولوجية سياسية وضحة، اللهم الا توجهات عامة أجملت فى المبادئ الستة المشهورة التى تم اعلانها فور قيام ثورة 23 يوليو. وهى مبادئ عامة وان كانت تركز على فكرة التحرر الوطنى والعداء للاستعمار وحلفائه فى الداخل. وبالتالى لم تجد سلطة عبدالناصر غضاضة فى التعامل الفكرى مع كل الاتجاهات. كما أن هذه السلطة، بعد أن اتجهت نحو ما اعتبرته النهج "الاشتراكى"، فى أوائل الستينيات، لم تعتنق الفكر الشيوعى، وان اقتربت بصورة واضحة وملموسة من خندق اليسار، بمعناه العام. كما أنها لم تكن بالطبع فى خندق اليمين الرأسمالى. ولعل هذه الوضعية (البينية)، بحد ذاتها، هى المسئولة عن هذا الانفتاح المحسوب على كل الاتجاهات، فى مجال الثقافة.
كما أن الحياة الاجتماعية كانت فى اعلى درجات استقرارها ورضاها عن الأداء الحكومى. وعلى الرغم من هزيمة يونيو الكارثية عام 1967 ، فقد أنتفض الشعب المصرى لمنع الرئيس عبدالناصر من التنحى، نتيجة اقراره بتحمل مسئولية الهزيمة. وكانت جنازة الرئيس عبدالناصر الأسطورية هى الدليل الأبلغ على المكانة التى وصل اليها هذا الزعيم ونظامه السياسى فى قلوب شعبه.
فى هذا الاطار لابد أيضا، من ابراز وجه آخر من وجوه المرحلة الناصرية، فالى جانب آثارها الاجتماعية والسياسية التحررية والنهضوية العصرية، فلقد كان لتلك المرحلة نزوع آخر يتماس مع مفهوم الهوية، على نحو مباشر. ألا وهو الدمج والمزاوجة بين "الوطنية المصرية"، من ناحية، والانتماء الى "القومية العربية"، من ناحية ثانية. وأظن أن التوجه العروبى، بالنسبة لعبدالناصر، كان سياسيا بالدرجة الأولى. فلقد تم تحت وطأة قيام دولة اسرائيل المدعومة من الغرب الاستعمارى. ولذا فان توجهه التحررى الوطنى كان يستتبع مكافحة الاستعمار والصهيونية، معا. ومن هنا فلابد له أن يبحث عن حلفاء فى المنطقة العربية يمكن أن توحدهم قضية النضال ضد الصهيونية والاستعمار. ومن هنا كانت تجربة الوحدة مع سوريا، تارة، واليمن تارة أخرى. فلقد كانت العروبة بالنسبة له تمثل الباب الملكى لجمع الشعوب العربية فى مواجهة اسرائيل والاستعمار وحلفائهما فى المنطقة والعالم.
لقد كانت هزيمة 67 ووفاة جمال عبدالناصر 1970، ايذانا بنهاية المشروع الناصرى بالكامل. جيث جاء السادات بمشروع معاكس، تم من خلاله النكوص عن المشروع الوطنى التنموى التحررى الذى اختطه عبدالناصر، وصولا الى الانفتاح على السوق الامبريالى العالمى، وسيطرة نمط آخر من النشاط الاقتصادى ذى الطابع الكومبرادورى – الريعى، المعادى للتصنيع والتنمية المستقلة، والذى كرس القيم الثقافية والفكرية ذات الطابع الاستهلاكى، والانتهازى القائم على الفهلوة. وانتشار مفاهيم الثراء السريع والمكسب السهل، والاستهلاك الباذخ. فى مقابل الاستخفاف بفكرة العمل المنتج وتراجع قيمة العلم والتعليم والاستقامة الأخلاقية.
وعلى الرغم من انجاز نصر أكتوبر العظيم والمآثر البطولية الكبرى التى اجترحها جنودنا فى العبور والصمود، وما ترتب على ذلك من ارتفاع للروح الوطنية عند المصريين حتى بلغت عنان السماء، فان التحولات التى أعقبت هذا النصر قد أهدرت جزءا كبير من المكاسب السياسية والنفسية التى نتجت عنه. فقد طرأ تحول مهم وخطير فى مسيرة الحداثة المصرية منذ حوالى منتصف سبعينيات القرن الماضى، مع بداية تلك المرحلة المسماة ب"الانفتاح الاقتصادى"، وانتهاج سياسة اقتصادية تقوم على المنهج الرأسمالى الليبرالى، بما يعنى العداء مع كل الانجازات التنموية والانحيازات الاجتماعية التى اختطها الزعيم جمال عبدالناصر.
وهو التحول الذى قام على الارتباط بالمعسكر الغربى العالمى بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، من ناحية، والتحالف مع قوى الرجعية العربية، من ناحية ثانية. وبالتالى، كانت نقطة الالتقاء بينهم جميعا هى العداء للناصرية وتيار اليسار برمته. ولم يكن لديهم من أداة لمكافحته الا ايقاظ واستدعاء الأصولية الدينية، واللعب على وتر الدين. فسمى السادات نفسه "الرئيس المؤمن"، وسمى دولته "دولة العلم والايمان"، وأنه "رئيس مسلم لدولة مسلمة". وكانت تلك هى المرة الأولى التى يظهر فيها حاكم مصرى بموقف دينى واضح وهو على رأس نظام الحكم، من بعد القضاء على الامبراطورية العثمانية والغاء "الخلافة"، رسميا عام 1924.
ومن الغريب أن هذا التوجه الاسلامى قد برز متزامنا مع دعوة هوياتية أخرى، ألا وهى الدعوة الى الفرعونية، وهى الدعوة التى تزعمها توفيق الحكيم وحسين فوزى ولويس عوض وآخرين.
ويبدو أن كلتا الدعوتين: الاسلامية، والفرعونية قد انطلقتا من محاولة ملء الفراغ الذى تركته الناصرية، التى كانت تتبنى الهوية العربية لمصر. خاصة، أن هاتين الدعوتين قد ظهرتا عقب توقيع السادات اتفاقية كامب ديفيد واتفاقية السلام مع اسرائيل عام 1979، وما استتبع ذلك من تنصل مصر من مسئولياتها العروبية، وبخاصة تجاه القضية الفلسطينية. و أيضا، حتى لايتم اغضاب العدو القديم، الذى أصبح الصديق الجديد (اسرائيل). هذا، اذا أسأنا الظن بأصحاب الدعوتين. ولكنى أرجح أن التوجه الرسمى لمصر فى عهد السادات، كان متشعب الاتجاهات. فهو من ناحية، لم يعد قادرا على تحمل تبعات الانتماء القومى العروبى، ولا راغبا فيه، للأسباب السابق ذكرها، ومن ناحية أخرى، كان نظام السادات بحاجة ماسة الى قوى الاسلام السياسى، لتجهز له على اليساريين وأنصار المشروع الناصرى، الذين كادوا أن يشكلوا خطرا حقيقيا على سلطته، وبخاصة بعد انتفاضة يناير 1977. وبما أنه لم يعد عروبيا، فلم لا يلتمس غطاء هوياتيا جديدا هو الأقرب الى مصلحته السياسية المباشرة، وله من "القداسة" بما يضع معارضيه فى موقف حرج أمام الرأى العام. خاصة أن أعداء الأمس (بالنسبة للناصرية) من دول الخليج والملكيات العربية والقوى الغربية واسرائيل، على السواء، قد صاروا حلفاء اليوم. وهؤلاء الحلفاء الجدد يفضلون الخطاب الدينى، ويرون أنه الأقدر على مكافحة اليسار والشيوعية فى المنطقة والعالم. كما أنهم رأوا فى الخطاب العروبى عدوا أساسيا ويمكن أن يشكل خطرا على عروش الأنظمة الملكية العربية، من ناحية، وعلى مصالح الغرب فى الهيمنة على المنطقة، من ناحية ثانية، وعلى أمن الكيان الصهيونى، من ناحية ثالثة. وهؤلاء جميعا يفضلون مصر معزولة وغير مؤثرة. والمنطقة مفككة ولا تخضع الا لقيادة الولايات المتحدة والغرب. وكان لهم ما أرادوا.
وفى هذا الاطار جرى الترحيب بأى طرح هوياتى، ومنه الطرح الفرعونى، مادام ضد العروبة، من جانب، وخارج نطاق العداء للصهيونية والامبريالية، من جانب آخر. ولكن بالطبع كان الأقوى والأقرب لكسب هذه الجولة هو الطرح الاسلامى، خاصة أن الدولة قد تبنته واصطفته بصفة رسمية.
ولقد تبلور هذا التوجه، فيما سمى "بالصحوة الاسلامية"، التى لم تكن فى المحصلة، سوى "غزوة" صحراوية ضارية، مثلت خطرا وجوديا حقيقيا على الهوية الثقافية المصرية بالمعنى الحرفى للعبارة. حيث ارتكزت هذه الصحوة على فكرة توطين أفكار وأنماط الحياة البدوية البعيدة عن الحضارة والتمدن. وهى أنماط بالغة الرجعية والتخلف، فى المجال الحياتى والثقافى المصرى العام.
ولقد استهدفت هذه الغزوة كل مجالات الحياة تقريبا، بدءا من استهداف وضع المرأة فى المجتمع، والحط من شأنها وتكبيلها بكل القيود الممكنة، مرورا بتحريم الفنون والآداب، كافة، من موسيقى وغناء الى سينما ومسرح .. الخ. وليس انتهاء بتحريم البنوك وتكفير الدولة والمجتمع.
وقد دخلت مصر، اثر ذلك، فى مرحلة قاسية من الارهاب والقتل لكل المخالفين لهذه الجماعات. وكان نصيب رئيس الجمهورية أنور السادات، نفسه، وهو الذى أوجدها ودعمها وفرضها على المجتمع المصرى، أن يكون أول ضحاياها. فتم اغتياله فى يوم السادس من أكتوبر عام 1981. ومن بعده، تم اغتيال رئيس مجلس الشعب د. رفعت المحجوب، ومن ثم جاءت محاولة اغتيال رئيس الوزراء د. عاطف صدقى ، ووزير الاعلام صفوت الشريف. ومن بعد ذلك كله جرت محاولة لاغتيال الرئيس مبارك فى أديس أبابا.
وعلى الصعيد الثقافى، قامت هذه الجماعات باغتيال الكاتب التنويرى الدكتور فرج فودة، ومحاولة قتل الكاتب الكبير نجيب محفوظ، والحكم بطلاق المفكر د. نصر حامد ابوزيد. فضلا عن تهديد وملاحقة الكتاب والفنانين بقضايا الحسبة والاتهام "بازدراء الأديان"، واغواء الفنانات بالمال أو بالمواعظ لاعلان "توبتهن" عن ممارسة الفن، الذى هو فى تفكيرهم يعد من "الموبقات" ان لم يكن من "المحرمات". فكانت تلك الموجة بمثابة موجة تصحر و "ردة حضارية" حقيقية.
ومن الجدير بالذكر، أنه قد صاحب تلك "الموجة الصحراوية"، زيادة معدل تدخل رجال الأزهر فى الشئون الفكرية والأدبية. وتوالت توصياتهم بمنع عرض بعض الأفلام، ومصادرة بعض الكتب أو منع صدورها من الأصل. وأبرز ماتم فى هذا الصدد، منع نشر كتاب ألف ليلة وليلة، ومصادرة ثلاث روايات صدرت عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، ومصادرة بعض الكتب للدكتور سيد القمنى ومنع عرض فيلم "القاهرة منورة بأهلها" ليوسف شاهين، وملاحقة الكاتبة نوال السعداوى بتهمة ازدراء الدين .. والقائمة طويلة للغاية.
وفى سبيل ذلك، تم تجنيد مئات الدعاة واصدار آلاف المطبوعات، وانفاق مليارات الدولارات، من قبل أنظمة تأتمر بأوامر أمريكية وأوربية – غربية. وقد تم الاعتراف لا حقا من أعلى مستويات القيادة فى احدى الدول الخليجية النفطية، بأن كل تلك الأموال قد تم انفاقها دعما لهذه المهمة، وبناء على هذه الأوامر .
وللأسف تحقق بعض من تلك الأهداف. فتراجع أداء الثقافة المصرية بشكل عام، الى حد كبير. واهتزت الصدارة الثقافية للقاهرة، على الصعيد العربى، لصالح مراكز ثقافية أخرى فى المغرب والمشرق، على السواء. كما تراجعت كثير من الأفكار والسلوكيات وأنماط الوعى الشعبى العام، الذى تميز، على مدار عقود طويلة، بالطابع المدنى الحداثى. وهيمنت على المجتمع المصرى حالة من الانغلاق الثقافى والدينى، على نحو سافر. بحيث طالت قطاعات واسعة من المجتمع المصرى ومن كل الطبقات، بدرجات متفاوتة.
وبمقتضى هذه الحالة من الانغلاق، تمت العودة عن معظم مكتسبات المرحلتين: الليبرالية والناصرية، على مختلف الأصعدة الثقافية. بل لقد كانت المرحلتان السابقتان (الليبرالية والناصرية، على اختلافهما، أكثر تقدما وعصرية بمراحل شاسعة.
والسبب فى انحياز هذه القطاعات الاجتماعية، الى هذه الجماعات والاتجاهات المتطرفة قد يكون، فى رأيى، ناتجا عما أفرزته المرحلة الساداتية من توجه رأسمالى مشوه، أدى الى افقار شديد للطبقة الوسطى والطبقات الأدنى، وانقلاب وتبدل سلم القيم الأخلاقية والوطنية. فاصبح اتقان العمل سذاجة، والسمسرة والانتهازية شطارة، والخيانة دهاء، والوطنية قصر نظر .. الخ. فضلا عن تصفية انتصار أكتوبر العظيم، بعقد عقد اتفاقية السلام مع الكيان الصهيونى، وتحول العدو المغتصب الى صديق مقربأ كما سبق القول. مما جعل هذه الطبقات تفقد الثقة فى المشروع الرأسمالى الليبرالى الذى جاء به السادات، بعد أن فقدت الثقة، على نحو نسبى، فى المشروع الاشتراكى القومى، بعد هزيمة السابع والستين. وبالتالى نتج لديها نوع من الفراغ الايديولوجى والخواء الروحى والاحباط النفسى، الذى حاولت هذه الاتجاهات المتطرفة ملأه. فقبلت بعض القطاعات الاجتماعية ذلك المشروع الدينى المتطرف بوصفه بديلا ايديولوجيا سهلا وقريبا من موروثها الدينى العام.

وقد تجسدت حصيلة كل ذلك، فى تولى جماعة الاخوان، بوصفها جماعة دينية، حكم مصر بين عامى 2012 – 2013. لأول مرة فى التاريخ المصرى الحديث، بدعم من الولايات المتحدة وبعض الدول الخليجية، وعلى رأسها امارة قطر. فى سرقة واضحة للعيان لثورة 25 يناير 2011 .
حيث برز، للمرة الأولى، الحديث عن ما يمكن تسميته "أممية اسلامية"، ومحاولة احياء فكرة "الخلافة"، لتكون بديلا عن فكرة "الوطنية المصرية". بل جرى الاستخفاف باسم مصر، وانتشرت عبارة "طظ فى مصر" التى قالها المرشد السابق، مهدى عاكف. والذى قال أيضا، "لأن يحكمنى ماليزى مسلم خير من أن يحكمنى مصرى مسيحى". بما يعنى أنه يعمل بشكل مباشر على تقويض مفهوم "المواطنة"، وضرب السلم الأهلى والوحدة الوطنية. وكذلك، جرى احتقار وحدة التراب الوطنى وسيادة الدولة المصرية على كل أقاليمها وحدودها الجغرافية، عندما تحدث الرئيس محمد مرسى العياط بغير اكتراث، عن عدم وجود مشكلة فى أن يكون اقليم "حلايب وشلاتين" تابعا لمصر أو للسودان، فكلاهما بلد اسلامى !!!. ومن هنا تبدى الوجه غير الوطنى لهذه الجماعة وحليفاتها من الجماعات الدينية الأخرى، وأن خطرها لم يعد يقتصر على الحياة المدنية والحضارية، فقط، بل أضحت، أيضا خطرا على الكيان الوطنى المصرى، بحد ذاته.
وفى هذه السنة السوداء ظهرت كل سوءات الاسلام السياسى. فقد نشطت، على نحو مفاجئ، ما سمى بجماعات "الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر"، حيث كانت توقف الشباب فى الطرقات لاستجوابهم عن طبيعة علاقتهم بالفتاة أو السيدة التى تسير فى رفقة أى منهم. ونتج عن ذلك قتل شاب بمدينة السويس كان يسير برفقة خطيبته، فى حادثة اهتزت لها ربوع مصر. كما ظهرت عجرفة وتكبر عناصر الاخوان فى وسائل الاعلام، بعد أن كانوا يسوقون أنفسهم فى السابق، بوصفهم أهل الورع والتواضع والتقوى.
وبعد أن تمت ازاحة الاخوان من السلطة بواسطة ثورة الشعب المصرى فى الثلاثين من يونيو 2013 ظهر وجه ارهابى جديد لهذه الجماعة والجماعات المتحالفة معها، فسادت موجة ارهاب عاتية، استهدفت الشعب المصرى العادى عن طريق وضع القنابل فى الميادين العامة. وكذلك استهداف المرافق العامة (مثل أبراج ومحولات الكهرباء)، وكذلك، رجال الجيش والشرطة والقضاء.
ان عجز جماعة الاخوان عن ايجاد حلول حقيقية لمشكلات وتعقيدات المجتمع المصرى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والدينية، الذى أوضح بؤسهم وخواءهم الفكرى والسياسى، الى جانب وعى وحركية الشعب المصرى، هما العاملان اللذان عجلا بانهيار سلطتهم ولم يسمح باستقرار هيمنتهم على الدولة، ولو لوقت قصير. اذ تبين للمصريين أن هذا التيار لا يمتلك من اجابات على أسئلة الواقع، سوى تهويمات دينية وبلاغة خطابية جوفاء. ولذلك سرعان ما انكشف خواؤهم ونفاقهم وتجارتهم المشينة بالدين. ففقدوا بريقهم السابق، وظهرت سوءاتهم.
ولذا يمكن القول بأن مرحلة حضور الاسلام السياسى فى المجال الثقافى والسياسى العام فى مصر، وان نجم عنها نتائج كارثية، فلقد قاربت على الأفول والانكسار التام، ان لم تكن قد انكسرت بالفعل. بعد انفضاض الشعب عنهم واكتشافه لحقيقتهم. ولا أجازف اذا قلت أن الروح الحضارية المصرية العريقة الكامنة فى أعماق وعى هذا الشعب قد انتصرت فى النهاية وأسقطت هذا التيار، بمختلف جماعاته وفرقه. على الرغم من وجود بعض الذيول التى لا زالت تتحرك هنا أوهناك. لكن أصبح من الممكن، الآن، القول بأن دورة كاملة من دورات التاريخ قد اكتملت. ولم يعد من الممكن العودة الى الوراء. فالهوية المصرية المحبة للحياة والفرح والوداعة والتسامح، أثبتت صلابتها وقدرتها على البقاء رغم عتو التحديات.
ان الحصيلة الثمينة، من كل ذلك، تتمثل فى أن نقلة تاريخية كبرى قد حدثت، ألا وهى الحضور الباهر للشعب فى المشهد السياسى المصرى وتحوله الى رقم صعب لايمكن تجاوزه، حتى فى أحلك الظروف وأكثرها قمعا واستبدادا وعداء للجماهير الشعبية. وهو ما تبدى جليا فى ثورتى الخامس والعشرين من يناير 2011 والثلاثين من يونيو 2013. وعلى الرغم من كل محاولات سرقة الثورتين، فان هاجس المحاسبة الشعبية قد أضحى سيفا مسلطا على رقاب كل الحكام.