النظام الطائفي السياسي في لبنان منهج تاريخي متخلَّف تأصيل تاريخي، وواقع مرحلي، وآفاق مستقبلية الحلقة الثانية / 2-3/


حسن خليل غريب
2022 / 12 / 2 - 12:14     

ثانياً: واقع الطائفية السياسية الراهن، وإشكاليات التفتيت الوطني
تراجع المنهج الوطني وصعود المنهج الطائفي:
انطلق الفكر القومي والوطني، منذ بداية الثلاثينيات من القرن العشرين، وتجسَّد بأحزاب وقوى، لم تعرفها مرحلة الحكم العثماني، بل كانت ممنوعة من النشاط، واستمرَّ زخم تأسيسها باستقطاب المزيد من الحواضن الشعبية، بلغت ذروتها في أوائل السبعينيات من القرن العشرين.
وفي المقابل، وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، والمتغيرات الانقلابية في تأسيس مرجعية دولية جديدة تمثَّلت بتأسيس نظام دولي جديد (شيوعي – رأسمالي)، تقوده ثنائية أميركية – سوفياتية بشكل رئيس. ولما كان لكل من طرفيها مشروع الاستيلاء على العالم ببناء أسس لإمبراطوريات عابرة للقوميات، توزَّعا الأدوار فيما بينهما، وكانت المنطقة العربية أحد أهم الساحات التي عرفت ذروة التنافس بين المعسكرين. وفي ذروة الصراع، استفادت حركة التغيير العربية الجديدة على المستويات القومية والوطنية من حماية دولية، ربما كان الاتحاد السوفياتي من أهمها. وإلى جانب الثنائية الإمبراطورية تأسست منظومة دول عدم الانحياز في تلك المرحلة.
في ظل هذه الأجواء، عرفت الأحزاب الطائفية ضيقاً وارتباكاً ابتداء من مرحلتي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، وبدأت حالة انحسارها واضحة، في مقابل صعود حركة التحرر العربية واليسارية. وذلك ما حصل أيضاً للموجة الاستعمارية الجديدة، بقيادة الولايات المتحدة الأميركية. وللعلاقة الوثيقة بين منهج الطائفية السياسية ومنهج الاستعمار والصهيونية، والمتمثلة بحالة العداء للمنهج القومي الوطني، كانت تلك العلاقة تتواصل، وتتكامل في تلك المرحلة. وكانت الساحة اللبنانية أكثر الدول العربية تأثراً بمظاهر المتغيرات الجديدة وأحداثها.
لقد استخدمت الساحة اللبنانية نقطة انطلاق لمشروع تطويع الحركة العربية الثورية، لأنها تميَّزت بوجود عاملين رئيسين، وهما:
1-تهديدها لكيان النظام اللبناني الطائفي السياسي.
2-تحالف تلك الحركة لحماية وجود المقاومة الفلسطينية وحماية حقها بالمقاومة ضد الاحتلال الصهيوني.
وإذا كان موضوع دراستنا التركيز على نقد منهج الطائفية السياسية ونقضه، ولأن العاملين المذكورين أعلاه، يمسَّان بأمن النظام الطائفي السياسي المدعوم تاريخياً من القوى الخارجية من جهة، والمسَّ بأمن العدو الصهيوني من جهة أخرى، سنركِّز على خطورة المساس بأمن النظام، لأن المساس به تهديد للركائز التي يستند إليها تدخل الولايات المتحدة الأميركية في الشؤون العربية، وخاصة في لبنان الذي يُعتبر ممراً له، ونقطة انطلاقة تجاه المنطقة العربية.
موقع النظام الطائفي السياسي وعوامل استمراره:
على الأسس المنهجية التي بُني عليها نظام المتصرفية، استمر النظام السياسي في لبنان بإنتاج نفسه. يهيمن على لبنان منهج حكم واحد، ويستفيد منه أمراء الطوائف يتوارثها الأبناء عن الآباء، ويتوارثها الأحفاد عن الأجداد. وإذا انقرضت عائلة من عوائل الأمراء تُولد عائلة أخرى، من بين أبناء الطائفة، ترث الإمارة التي سبقتها، بشروطها ومواصفاتها ووسائلها. فتتبدَّل أسماء العائلات ويبقى منهج حكم المحاصصة بين الطوائف واحداً منذ ما يزيد عن القرن ونصف القرن. وكلما ورثت عائلة جديدة كرسي إمارة الطائفة، يترحَّم اللبنانيون على العائلة التي سبقتها، لأن العائلة الجديدة تزيد على الكرسي الموروث خطايا أكبر وأشد إيلاماً. وفوق هذا كله، يترأس المنهج الحاكم متصرف أجنبي، لكي يدير شؤون المتصرفية، ويبرمج أداءها على مقاييس المصالح الأجنبية. وبزوال عهدين: التركي العثماني، والفرنسي، انتهت وسيلة الحكم الأجنبي مباشرة إلى الحكم مداورة. أي أن المتصرف لن يكون على رأس طاولة المحاصصة، بل ينوب عنه ممثل الطائفة الأقوى، بحيث يتلقى أوامر وتعليمات (الأم الحنون) ويقوم بتنفيذها.
ولتوضيح قصَّة الخلف الذي يرث السلف، تُسعفنا دائماً الحكايات الشعبية المتداولة على ألسنة اللبنانيين، والتي من أشهرها، قصة (أبو فلان، حارس أحد المقابر)، و(فلان ابنه الذي ورث وظيفة الحراسة بعد وفاة والده).
كان أبو فلان يسرق الذهب من كل ميت جديد. فكان يستجلب اللعنات عليه وعلى أفعاله. فأقسم ابنه (فلان) أنه سيجعل الناس تترحم على أبيه. ولما ورث فلان المهنة، لم يكتف بسرقة الذهب من كل ميت جديد، بل يفتعل فيه الفاحشة. ولهذا راح الناس يترحمون على أبيه لأنه كان أقل إجراماً وأقل بشاعة. وهكذا انتشر المثل العامي كلما ورث الخلف زعامة السلف، بالقول: (الله يرحم أيام أبي فلان)، و(رزق الله على أيام زمان).
وعن هوية المتصرف الأجنبي الذي كان يرأس (مجلس المتصرفية المكون عن ممثلي الطوائف اللبنانية) لم يكن يخضع لاختيار هؤلاء، بل يختاره السلطان العثماني، بموافقة الدول الأوروبية. وإذا كان نهج المتصرفية سابقاً يخضع لمتصرف واحد كانت تعيِّنه الإمبراطورية العثمانية، ومن بعده المندوب السامي الذي تعينه الحكومة الفرنسية. ومن بعد بعده الانتداب الأميركي الذي لم يكن يوافق على أي نظام لبناني لا يستجيب لمصالح الولايات المتحدة الأميركية أولاً، ولصالح حلفائها ثانياً. واستمر التخطيط الأميركي لتطبيع وضع النظام اللبناني بعد إعلان الطلاق مع النظام السوري، والذي كانت من أهم مظاهره انفراط عقد التحالف السعودي – السوري في مطلع العام 2011، أي ما كانت تُسمى برمز معادلة (س – س)، والتي ترافقت مع بداية ظهور معالم الخلافات الأميركية - الإيرانية. والتي فيها تصاعدت حدة الخلاف شيئاً فشيئاً تتجه تصاعدياً طالما ظل أحد الفريقين عاجزاً عن حسم الصراع لمصلحته. أو عجز الطرفين عن الاتفاق على حل ثالث يضمن مصالحهما معاً.
والمرحلة التي أعقبت انفراط عقد المعادلة ظلت على هذا المنوال، حتى أواخر العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين. في بداية تلك المرحلة انتهت مرحلة التوفيق بين الطوائف لأن المرجعية الخارجية لم تعد واحدة، وبها ابتدأ عصر ما كانت تُسمى بـ(حكومات الوحدة الوطنية) ينكفئ شيئاً فشيئاً، وراحت تخضع لامتحانات عسيرة. ويزداد مأزقها كلما اتَّسعت رقعة الخلافات الخارجية.
وفي العشرية الثانية، ابتدأت مرحلة جديدة بالخلاف بين أحزاب السلطة على هوية من ستكون له الوصاية: البعض يريدها غربية، والبعض الآخر يريدها إقليمية. فدخلت تلك الأحزاب في متاهة تصل إلى حدود إلغاء بعضها للبعض الآخر. ودخل لبنان مرحلة جديدة، افترقت فيه أحزاب السلطة إلى فريقين كل منهما يعمل على تثبيت صاحبه، ويرفض أن يخلعه. فانقسمت، بعد تشكيل حكومة الدكتور حسان ذياب، إلى فريق يؤيدها وفريق معارض لها. وأما السبب للأسف فيقف وراءه صراع النفوذ الأجنبي، بعد أن تباينت مصالح أقطابها على مستوى الساحة العربية والإقليمية.
إن أقطاب الطائفية السياسية في واد، وهموم الشعب في واد آخر. أهدافهم هي نفسها، في وقت الائتلاف كما هي في وقت الاختلاف. وإن وقائع الأحداث، منذ عشرات السنين، أثبتت أن ما تُسمى أحزاب الحكومة، وأحزاب المعارضة، وُلدتا من طينة واحدة. وهذا شبيه بتقسيمات الأحزاب الأميركية، والتي ينطبق عليها إلى حد كبير القول: على الأميركي أن يختار بين استغلالين: إما الاستغلال عن طريق الحزب الجمهوري، وإما الاستغلال عن طريق الحزب الديموقراطي. وقياساً على الواقع الأميركي، نرى أن الواقع اللبناني يشبهه تماماً. فعلى اللبناني، إذا فرَّقت الظروف والمتغيرات بين أحزاب الطائفية السياسية، أن يختار بين طريقة نهب أحزاب الموالاة، وطريقة النهب التي تمارسها أحزاب المعارضة. فكلاهما يريد نهب الشعب اللبناني على طريقته، فرَّقتهما في هذه المرحلة خلافاتهما على تسمية متصرف لبنان القرن الواحد والعشرين، ووحدَّتهما مسألة حماية أنفسهم من الكشف عن جرائمهم في الفساد والنهب. ولكن لن تنطلي وسائلهم بالخداع على أحد.
إن اتفاقهما في السابق كان السبب وراء ما حصل من انهيار اقتصادي مريع أوصل لبنان إلى حافة الهاوية، وهو الأمر الذي أيقظ وعي شريحة كبيرة من اللبنانيين، ممن لم يرتبطوا بأي حزب من أحزاب سلطة (حكومة الوحدة الوطنية). وعلى الرغم من استفحال الجوع والفاقة وازدياد عدد اللبنانيين إلى مستوى أدنى من الفقر، ووصول ما كانت تسمى بـ(الطبقة الوسطى) إلى حافة الفقر، لم يأبه أي منهما بتلك المعاناة. لا بل عملا على الاستفادة من انتفاضة اللبنانيين، إما سلباً وإما إيجاباً. فالبعض استخدمها أداة للتحريض ضدها وكأنها كانت السبب فيما آلت إليه الأوضاع من تردي. والبعض الآخر قام بتأييدها لعلَّه يكسب شعبوياً من أهدافها، في الوقت الذي يعمل فيه الطرفان على كسب أوراق قوة تسمح له بأن يكون مقرراً في تحديد هوية (المتصرف الجديد)، الذي سيكون ثمنه، كما يتوهم كل منهما، أنها ستزيده حظوة عند الجهات الخارجية التي يستقوي بها.
وعلى هذا الشكل، تسير الأوضاع في لبنان في هذه المرحلة، كل من طرفيْ الموالاة والمعارضة يشد اللحاف الشعبي ليتغطى به. ولكن كل منهما يعمل على تقوية دعائمه السياسية لمنع الحبل من أن يلتفَّ على عنقه جراء ارتكابه جرائم الفساد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.
لكي لا تضيع حقوق الفقراء بين (حانا) أحزاب الحكومة و(مانا) أحزاب المعارضة، وكي لا تنشغل قوى الحراك المدني، والشرائح الاجتماعية، بـ(الترحم على السلف) الذي يرمز إليه (أبو فلان)، لا بُدَّ من أن يصروا على رفضه ورفض خلفه (ابنه فلان). وهذا يقتضي رفض كل أهداف أمراء الطوائف ووسائلهم في الصراع على السلطة لأنهم جميعاً ارتكبوا الفواحش بحق شعبهم وبالأخص منهم الفقراء والأشد فقراً. لا بل عليهم ولكي يضمنوا وجود وطن يتظلَّلون بخيمته. ولأن هيكل نهج (نظام المتصرفية) ينهار تحت ضغط قبضات الانتفاضة فلا تتركوا أدواته يتنفسون الصعداء، وأعلنوها انتفاضة مستمرة، على ألا يتنازل المنتفضون عن مسألتين أساسيتين، وهما:
-رفض نهج المتصرفية، نظام المحاصصة الطائفية، وإسقاطه، لأنه شاخ كثيراً فقد استهلك قرناً ونصف القرن من حياة الفقراء تحت جريمة الادعاء بحمايتهم من الطوائف الأخرى.
-والاستمرار بالانتفاضة، بأهدافها ووسائلها، التي رفعتها منذ السابع العشر من شهر تشرين الأول من العام 2019.
وإنه بغير ذلك، سيبقى لبنان يعيش بإرادة المتصرف المُعيَّن من الخارج، وسيعمل أمراء نظام الطائفية السياسية تحت إمرته، وسوف يستمر الشعب اللبناني بدفع الثمن لخدمة الخارج وخدمة أوتاده ممن اختاروا الولاء للطائفة، على حساب الولاء للوطن.