الماركسية ضد التحررية

آدم بوث
2022 / 11 / 28 - 11:00     



هزت الرأسمالية، خلال الفترة العاصفة لأوائل القرن العشرين، اضطرابات ثورية، بينما كانت الأفكار الماركسية تخطو خطوات كبيرة إلى الأمام داخل الحركة العمالية الأوروبية. وردا على ذلك، حاول مجموعة من المثقفين في فيينا شن هجوم نظري على الماركسية. فسعوا من جهة إلى “دحض” نظرية قيمة العمل، التي هي مفتاح نظريات ماركس. وحاولوا، من جهة أخرى، “إثبات” أن التخطيط الاقتصادي الاشتراكي مستحيل من حيث المبدأ. في هذا المقال، الذي نشر في العدد العاشر من جريدة “الحرية والشيوعية”، يجيب الرفيق آدم بوث على حججهم، موضحا كيف أن محاولاتهم للإطاحة بالماركسية تمثل، في كلتا الحالتين، تراجعا عن النظرة العلمية والمادية نحو نهج مثالي ذاتي.


المدرسة الاقتصادية النمساوية: متعصبو السوق الرأسمالية الحرة
يتوقع بعض الخبراء أن الأمر سيستغرق سنوات قبل أن تتم تصفية متأخرات الديون وسد النقص في العمالة وتحقيق استقرار الأسعار. وفي غضون ذلك ستواجه الأسر ندرة المواد الأساسية مثل الغذاء والوقود، وتآكل الدخل الحقيقي بسبب الارتفاع السريع للتضخم.

التناقضات المجنونة ظاهرة في كل مكان. ففي بريطانيا، على سبيل المثال، من المقرر أن يتم ذبح 100.000 خنزير والتخلص منها كنفايات، بسبب نقص الجزارين المهرة. أو بعبارة أخرى فإن المنطق البارد للربح يؤدي إلى موت أعداد هائلة من الحيوانات بلا معنى، في حين أن الأسواق تعرف خصاصا رهيبا.

يمكن رؤية مثال مشابه في سوق العقارات في المملكة المتحدة، حيث ذلك المشهد المثير للاشمئزاز لمئات الآلاف من المنازل الفارغة التي تُستخدم وسيلة للمضاربة، في حين ينام مئات الآلاف من الأشخاص في الشوارع، وحيث قوائم الانتظار الطويلة لطلبات السكن المقدمة للمجالس البلدية، وأزمة سكن حادة.

وفي غضون ذلك تواجه البشرية، على الصعيد العالمي، أزمة وجودية بسبب كارثة المناخ. من الواضح أن الرأسمالية تقتل الكوكب. لكن السياسيين الرأسماليين ليست لديهم حلول لهذه الكارثة الوشيكة.

تشكل كل هذه الأحداث دليلا جيدا على ما يسمى بـ“كفاءة” و“دينامية” السوق الحرة؛ و“فضائل” المنافسة. لقد سلطت الضوء على إفلاس الرأسمالية، التي هي نظام للإنتاج من أجل الربح وليس من أجل تلبية الاحتياجات. وأظهرت لماذا نحتاج إلى بديل اشتراكي حقيقي، قائم على التخطيط الاقتصادي والملكية العامة والرقابة العمالية.


لتحميل المجلة اضغط على الصورة أو هنا
أمام هذه الفوضى والجنون، صار مناصرو السوق الحرة، بمن فيهم الأشد تعصبا، أكثر هدوءا في الآونة الأخيرة، سواء في المواقع الإلكترونية أو في وسائل الإعلام أو في الشوارع.

ومع ذلك فإن الموقف الأساسي الذي يدافعون عنه، بخصوص كفاءة السوق، ما يزال حيا وبصحة جيدة داخل أقسام الاقتصاد والكتب المدرسية بالجامعات، حيث تتم تغذية الطلاب بشكل إجباري وفق نظام غذائي قائم على “فرضية كفاءة السوق”.

ليس الاقتصاد، وفقا لمثل هذه “النظريات”، سوى سلسلة من الرسوم البيانية والمعادلات والنماذج الرياضية، لنظام مثالي من المفترض أن يكون في حالة توازن وتناغم مثاليين، لولا النقابيين المزعجين الذين يطالبون بأجور أعلى، والأبناك المركزية التي تطبع الكثير من الأموال وتنفخ الفقاعات، والسياسيين الذين يقيمون حواجز مشؤومة في وجه التجارة الحرة.

إن هذه الأفكار، في الواقع، قديمة قدم الرأسمالية نفسها. يمكن إرجاعها إلى “قانون ساي”، المنسوب إلى جان باتيست ساي (اقتصادي فرنسي كلاسيكي من أواخر القرن الثامن عشر / أوائل القرن التاسع عشر)، الذي أكد أن العرض يخلق طلبا خاصا به؛ وأن كل بائع يجلب مشتريا إلى السوق.

خلاصة هذا “القانون” المفترض هي أنه يجب ترك السوق دون عوائق ودون قيود، من أجل تحقيق التوازن في الاقتصاد. وبغض النظر عن العواقب الاجتماعية والتكلفة البشرية، فإنه على “المدى البعيد” سيكون كل شيء على ما يرام، لو تم فقط السماح لـ“اليد الخفية” للسوق بأن تمارس سحرها.

هذه هي الفرضية الأساسية لرأسمالية “دعه يعمل” التي تشبث بها التحرريون طيلة عقود بكل عناد.

المدرسة الكلاسيكية
يمكن العثور على الجذور النظرية للتحررية الحديثة في “المدرسة النمساوية” للاقتصاد، التي أشهر ممثليها هم فريدريك هايك وأستاذه لودفيغ فون ميزس.


وبدورهم فإن هؤلاء الرجعيين الصريحين يعتبرون أنفسهم الورثة الحقيقيين للمدرسة الليبرالية الكلاسيكية للاقتصاديين البرجوازيين، والذين من بين أشهرهم شخصيات مثل آدم سميث وديفيد ريكاردو.

ظهرت المدرسة الكلاسيكية باعتبارها فرعا من “الاقتصاد السياسي”، أي الاقتصاد باعتباره مجالا محددا للدراسة، والذي تطور مع صعود الرأسمالية. أنتجت هذه المدرسة مفكرين حاولوا فهم الاقتصاد بطريقة علمية؛ وسعوا لدراسة الرأسمالية باعتبارها نظاما له قوانينه ودينامياته.

وبينما اعتمدوا على قوة التجريد لكشف تلك القوانين، فإنهم لم ينحدروا إلى تلك “النماذج” الرياضية المثالية التي لا علاقة لها بالواقع، والتي هي سمة مميزة للاقتصاديين والأكاديميين البرجوازيين اليوم.

كان الاقتصاديون الكلاسيكيون جزءا من عصر التنوير في القرن الثامن عشر، أي حركة فكرية تستند إلى نظرة فلسفية مادية، حاولت إيجاد تفسير للظواهر الموجودة في الطبيعة والمجتمع يرتكز على “العقل” و“العقلانية”.

بلغت المدرسة الكلاسيكية ذروتها مع الاقتصاديين البريطانيين مثل سميث وريكاردو، اللذان بحثا في الأسئلة الرئيسية المتعلقة بأساليب عمل النظام الرأسمالي، بما في ذلك مفاهيم مثل القيمة والتجارة والأجور والريع وتقسيم العمل.

لقد عكست ليبراليتهم بدورها مصالح البرجوازية البريطانية، حيث قدمت مبررا نظريا لسياسات التجارة الحرة التي كانت طبقتهم الرأسمالية تنتهجها من أجل خلق السوق العالمية والسيطرة عليها.

وفيما يتعلق بمحاولة فهم الرأسمالية نظريا وعلميا، فقد واصل ماركس بوعي من النقطة التي توقف عندها ريكاردو. وبهذا المعنى أشار ماركس وإنجلز إلى أفكارهما على أنها “اشتراكية علمية”، حيث استندا إلى وجهة نظر مادية للتاريخ والاقتصاد، وليس إلى مخططات مثالية لكيفية ظهور المجتمع.

لكن وعلى عكس ريكاردو، لم يكن الغرض من كتابات ماركس الاقتصادية تمثيل مصالح البرجوازية، بل التسليح النظري للطبقة العاملة والحركة العمالية.

وانطلاقا من نفس فرضيات ريكاردو وأفضل الاقتصاديين الكلاسيكيين، أظهر ماركس في المجلدات الثلاثة لـ“رأس المال” -والعديد من الأعمال الاقتصادية الأخرى- كيف أن الرأسمالية مليئة بالتناقضات وعرضة للأزمات بطبيعتها.

ومن خلال استخدامه لهذه الطريقة، وتطويره لنظريات الاقتصاديين الكلاسيكيين، واستخلاصه للاستنتاجات المنطقية المتضمنة فيها، كان ماركس يهدف إلى “توجيه ضربة نظرية للبرجوازية لن تتعافى منها أبدا”[1].

لقد برهن ماركس على الاستنتاجات التي انبثقت من تطويره لأفكار سميث وريكاردو، وذلك على أساس مادي وعلمي صلب. لقد أظهر كيف أن الرأسمالية تحتوي على بذرة تدميرها، بفعل نفس تلك القوانين التي اكتشفها الاقتصاديون الكلاسيكيون.

ولذلك اضطر الاقتصاديون البرجوازيون، الذين جاءوا بعد ريكاردو، إلى الارتداد والتخلي عن المنهج العلمي للمدرسة الكلاسيكية، والرجوع إلى المثالية، وستر تناقضات الرأسمالية.

كان هذا هو السبب الذي جعل ماركس يسمي هؤلاء السيدات والسادة بالاقتصاديين “المبتذلين”. حيث أنهم عوض محاولة فهم وشرح النظام الرأسمالي بنزاهة، أصبح هؤلاء المفكرون الرجعيون مجرد “مدافعين” عنه.

هجوم مدرسة فيينا
بحلول نهاية القرن التاسع عشر صارت الطبقة العاملة المنظمة أكثر قوة. تم بناء النقابات العمالية الجماهيرية والأحزاب الاشتراكية. وفي 1889، تأسست الأممية الثانية لتنسيق جهود الحركة الاشتراكية الأممية.

لقد أعلنت تلك المنظمات -بالأقوال على الأقل- تبنيها لأفكار الماركسية والاشتراكية العلمية والثورة.

شعرت الطبقة السائدة بتهديد هذه الحركة العمالية الصاعدة والأفكار الماركسية التي ارتكزت عليها، وبدأت في شن هجوم أيديولوجي مضاد شامل. كان مركز هجماتهم في النمسا، ومن جامعة فيينا على وجه الخصوص.

كانت العاصمة الأصلية للإمبراطورية النمساوية المجرية، فيينا، خلال نهاية القرن التاسع عشر، موطنا لمجموعة من الحركات الفكرية والثقافية والعلمية، ومن بين الشخصيات الشهيرة التي كانت هناك الفيلسوف لودفيغ فيتجنشتاين، والفنان غوستاف كليمت، ومؤسس التحليل النفسي سيغموند فرويد.

وفي غضون ذلك أصبحت جامعة فيينا مرتعا للأفكار الرجعية. فمن الناحية الفلسفية كانت أرضا خصبة للمثالية الذاتية لإرنست ماخ، والتي أصبحت منتشرة حتى بين فئة من المثقفين والحركة الاشتراكية في روسيا.

ونتيجة لذلك فقد شعر لينين أنه من الضروري شن هجوم مضاد حاد ضد ماخ وأتباعه، وهو ما قام به ببراعة في كتابه المادية والنقد التجريبي، الذي هو جدال قوي فضح فيه عقم تلك الآراء الذاتية، وفي نفس الوقت وفر دفاعا شاملا عن المادية.

ومع ذلك فقد كانت أفكار ماخ مؤثرة في التطور اللاحق لمزيد من الاتجاهات الفلسفية المشؤومة، مثل الوضعية المنطقية، التي تبنتها حلقة فيينا. وهذه بدورها تركت بصماتها على المفكرين النمساويين مثل كارل بوبر، الذي شن حربا صريحة على الماركسية والمادية التاريخية.

نظرية قيمة العمل
أما على الصعيد الاقتصادي فقد قاد الهجوم البرجوازي النمساوي شخصيات مثل يوجين فون بوهم بافيرك، وفريدريش فون فيزر، ومعلمهم كارل مينجر، الذين تأثروا بدورهم بالمثالية الذاتية التي كانت سائدة في جامعة فيينا وضواحيها.


لقد وجهوا أهم طلقاتهم ضد الماركسية على “نظرية قيمة العمل”، التي تمثل أساس الاقتصاد الماركسي، والتي تقدم تفسيرا لقانون القيمة الذي يقوم عليه تبادل السلع (السلع والخدمات المنتجة لغرض التبادل) وبالتالي ديناميات الرأسمالية.

وبدلا من نظرية قيمة العمل، كانت للمدرسة النمساوية نظريتها الخاصة، وهي: نظرية المنفعة الحدية.

باستنادها إلى الاختيارات الفردية للمستهلك، وليس على العوامل الاجتماعية الموضوعية، شكلت نظرية المنفعة الحدية “نظرية” غير علمية وذاتية تماما، والتي تم تطويرها بشكل متزامن من قبل العديد من الاقتصاديين المبتذلين في جميع أنحاء أوروبا، بمن في ذلك وليام ستانلي جيفون في بريطانيا، وليون والراس في فرنسا/سويسرا، وكارل مينجر في النمسا.

تتناقض نظرية المنفعة الحدية بشكل حاد مع نظرية قيمة العمل التي هي نظرية مادية يمكن تتبع جذورها وصولا إلى أرسطو، الذي شرح أن العمل -ووقت العمل- هو الذي يجعل الأشياء ذات قيمة.

وقد تم تبني هذا المفهوم وتطويره من قبل الاقتصاديين الكلاسيكيين، مثل سميث وريكاردو، وشكل ركيزة أساسية لنظرياتهم الاقتصادية. استند ماركس، بدوره، على نظرية قيمة العمل، وأعطاها عمقا ديالكتيكيا كانت النظرة الكلاسيكية تفتقر إليه.

كانت مشكلة أفكار سميث وريكاردو هي أنه على الرغم من سعيها وراء “العقلانية” على أساس نهج علمي، فإنها كانت مشبعة بفردانية الليبرالية البرجوازية التي كانا يمثلانها.

يجب الإشادة بهما لمحاولتهما تحليل الرأسمالية باعتبارها نظاما يتحرك وفق قوانين يمكن اكتشافها وفهمها. لكن هذا النظام كان بالنسبة لهما بسيطا ميكانيكيا.

لقد نظرا إلى الاقتصاد على أنه مجرد إضافة لأفراد يعملون ويتبادلون بشكل مباشر مع بعضهم البعض؛ أفراد معزولين على جزيرة جرداء، يقارنون في رؤوسهم وقت العمل الضروري لمختلف الأنشطة الإنتاجية.

في نموذج “روبنسون كروزو” هذا، لا يوجد سوى فرد واحد، هو في نفس الوقت المنتج الوحيد والمستهلك الوحيد. وعندما يتم فحص قوانين التبادل، فإن ذلك يتم على أساس معاملة النظام الرأسمالي على أنه مجرد نسخة موسعة لاقتصاد المقايضة.

وعلى سبيل المثال فقد يقضي ذلك الساكن المعزول لتلك الجزيرة الخيالية أربع ساعات في تقطيع الأشجار لإنتاج طوف خشبي، وأربع ساعات أخرى في حصاد مائة ثمرة جوز الهند؛ وهكذا يستنتج أن طوفا واحدا يساوي مائة ثمرة جوز الهند.

لكن من الواضح أن هذا السيناريو الافتراضي المجرد بعيد كل البعد عن حقائق الرأسمالية. نحن نعيش في اقتصاد لا يتألف من أفراد منعزلين، بل من طبقات: من العمال الذين يجب أن يكسبوا قوت يومهم من خلال الأجر؛ والرأسماليين الذين يستخدمون هؤلاء العمال ويستغلونهم من أجل جني الأرباح.

كما أن التجارة والتبادل لا تتمان بشكل مباشر بين المنتجين الأفراد، في شكل مقايضة، بل من خلال الشركات والمستهلكين؛ أي من خلال التفاعلات غير الشخصية للمال والسوق، وفي هذه الأيام عن طريق الدخول إلى المنصات التي توفرها الاحتكارات العملاقة مثل أمازون.

ماركس والقيمة
لهذا السبب أخذ ماركس هذه الفرضية الأساسية لقيمة العمل -أي أن العمل هو مصدر كل قيمة جديدة- وطورها أكثر.

وقد أوضح أنه ليس وقت العمل الفردي، بل وقت العمل الضروري اجتماعيا هو ما يجعل السلع ذات قيمة، أي: متوسط ​​الوقت اللازم لإنتاج سلعة للسوق، في ظل ظروف تكنولوجية وتاريخية معينة.

كانت هذه الفكرة، بدورها، أساس نظرية ماركس عن الاستغلال، التي كشفت لغز مصدر الأرباح، والذي هو لغز استعصى على الاقتصاديين الكلاسيكيين.

وباختصار فقد أوضح ماركس أن أرباح الرأسماليين تأتي من فائض القيمة، والذي هو ببساطة العمل غير مدفوع الأجر للطبقة العاملة.

قال ماركس إن ما يشتريه الرأسماليون من العمال ليس عملهم، بل قوة عملهم، أي قدرتهم أو مقدرتهم على العمل لفترة زمنية معينة (ساعة، يوم، شهر، إلخ)، التي يحصلون على أجر في مقابلها.

لكن خلال يوم العمل، ينتج العامل قيمة أكبر مما يُدفع له في شكل أجور؛ أي أن الطبقة العاملة لا تستغرق سوى جزء يسير من يوم العمل، في المتوسط، لإنتاج السلع اللازمة للحفاظ على قوة العمل الخاصة بها وإعادة إنتاجها.

وما تبقى من يوم العمل، فوق وقت العمل الضروري اجتماعيا المطلوب لإعادة إنتاج الطبقة العاملة، يشكل وقت عمل فائض، وبالتالي فائض في القيمة، يحصل عليه الرأسمالي مجانا في الواقع.

وبالتالي فإن قانون القيمة يكمن وراء كل ديناميات الرأسمالية الأخرى: تدافع أرباب العمل لتكثيف وتيرة العمل واعتصار المزيد من فائض القيمة من الطبقة العاملة؛ وزيادة الإنتاجية من خلال الاستثمار في التكنولوجيا، من أجل التنافس مع المنتجين الآخرين، وبالتالي تحقيق أرباح هائلة؛ والميل المتأصل نحو التراكم والتوسع والنمو.

والأهم من ذلك هو أن نفس قانون القيمة هذا، يشرح أيضا لماذا تغرق الرأسمالية بشكل دوري في الأزمات -أزمات فائض الإنتاج- التي تنشأ بسبب مصادر الربح، أي حقيقة أن الطبقة العاملة، التي لا تتلقى إلا جزءا فقط من القيمة التي تخلقها، لا يمكنها أبدا أن تشتري جميع السلع التي تنتجها. أو بعبارة أخرى حقيقة أن قوى الإنتاج، في ظل الرأسمالية، تتجاوز باستمرار حدود السوق.

السعر مقابل القيمة
يمكن لمنظري المدرسة النمساوية أيضا أن يروا أهمية نظرية قيمة العمل بالنسبة للماركسية. ولذلك سعوا صراحة إلى تركيز هجماتهم على ما اعتبروه نقطة ضعف الاشتراكية العلمية.

كانوا يعتقدون أنه إذا تمكنوا من تقويض هذا الأساس، فإن بقية النظرية الماركسية ستنهار، وستنهار معها الحركة الاشتراكية بأكملها.

وقد صار يوجين فون بوهم باورك، الذي هو أحد تلاميذ كارل مينجر، بطلا للكلاسيكيين الجدد النمساويين في معركتهم ضد الماركسية. كتب عنه جانيك واسرمان، مؤلف كتاب “الحديون الثوريون” الذي هو سيرة جماعية للمدرسة النمساوية، قائلا: «لقد أدرك خطر الاشتراكية الماركسية الذي يلوح في الأفق، سياسيا واقتصاديا، وحاول تقويضها باستخدام نظرية المنفعة الحدية»[2].

قام بوهم باورك بتوجيه العديد من الانتقادات لنظرية قيمة العمل وللماركسية، والتي كان معظمها مبنيا على سوء فهم (ربما يكون مقصودا) للفرق بين العمل وقوة العمل؛ لكن الأهم من ذلك خلطه بين القيمة والسعر.

لقد سبق لماركس نفسه أن ميز بينهما بوضوح شديد. إنه لم ينف دور قوى السوق -العرض والطلب- في تحديد الأسعار. لكن هذه الأخيرة، كما أوضح ماركس، مجرد تذبذبات حول مقياس أساسي.

وأوضح أن هناك نظام وراء ما يبدو أنه عشوائية وفوضى في الأسعار؛ هناك قانون موضوعي. أو بعبارة أخرى فإنه وسط تلك التقلبات و“الحوادث العرضية”، هناك “ضرورة”: قانون القيمة.

يشرح ماركس في كتاب “رأس المال” قائلا:

«في خضم علاقات التبادل العرضية والمتقلبة باستمرار بين المنتجات، يؤكد وقت العمل الضروري اجتماعيا لإنتاجها نفسه كقانون تنظيمي للطبيعة.
وبنفس الطريقة التي يؤكد بها قانون الجاذبية نفسه عندما ينهار منزل الشخص فوق رأسه، فإن تحديد حجم القيمة حسب وقت العمل هو سر مخفي تحت الحركات الظاهرة في القيم النسبية للسلع»[3].

واستمرارا لتشبيه ماركس لقانون القيمة بقانون الجاذبية فإن ما نراه من حيث حركة الكواكب هو مجرد مظهر. لكن القوى الكامنة وراء ذلك هي قوانين غير مرئية وغير ملموسة -لكنها موضوعية ومادية؛ قوانين يمكن اكتشافها وفهمها.


لا توجد مثل هذه القوانين منفصلة عن الطبيعة أو المجتمع؛ فهي ليست أشياء مجردة أو من نسج الخيال، بل هي ديناميات ديالكتيكية ومعممة للحركة تنشأ من التفاعلات المعقدة التي تحدث داخل النظام قيد البحث.

وبالمثل فإن قانون القيمة ليس شيئا مجردا وخارجيا، بل إنه قانون يظهر فقط عند المرحلة التاريخية التي يصبح فيها إنتاج السلع وتبادلها معمما وعالميا ومسيطرا، بحيث يفقد الإنتاج أي طابع فردي أو خاص، وحيث لا يواجه الفاعلون في السوق بعضهم البعض، بل يواجهون بسعر موضوعي.

وعليه فإن تبادل السلع يتم، في المتوسط، على أساس قيمتها، أي على أساس وقت العمل الضروري اجتماعيا المتبلور في سلعة ما. وهذا يشمل كلا من “العمل الميت” المتجسد والمنتقل في شكل مواد أولية وأدوات عمل وآلات، وما إلى ذلك، مستهلكة في سياق عملية الإنتاج؛ و“العمل الحي” الذي يضيفه العامل، والذي هو وحده ما يخلق قيمة جديدة.

تعمل قوى السوق على دفع الأسعار إلى أعلى وإلى أسفل هذه القيمة. فعلى سبيل المثال عندما يتجاوز الطلب على سلعة معينة العرض المتاح، سيرتفع سعرها فوق قيمتها. والعكس صحيح عندما يتجاوز العرض الطلب.

هذا، في الواقع، هو الحال في معظم الأوقات، مع كل أنواع “التشوهات” -مثل وجود الاحتكارات- التي تمنع العرض والطلب من أن يكونا في حالة توازن تام. وبالتالي سوف تميل الأسعار إلى التقلب.

لكن هذه التذبذبات تحدث حول نقطة متوسطة. تميل سلع معينة دائما إلى أن تبادل بنسب أعلى من سلع أخرى. حيث أن سيارة واحدة سوف تساوي دائما سعرا أعلى من سعر العديد من الأقلام، إلا إذا كانت تلك السيارة متضررة جدا، أو كان القلم فاخرا بشكل لا يصدق.

عندما يكون العرض والطلب في حالة “توازن”، يكون وقت العمل الضروري اجتماعيا، كما يوضح ماركس، هو ما يحدد لماذا تكون بعض السلع أكثر قيمة من غيرها.

بينما نظرية المنفعة الحدية لا تنظر إلا إلى الأسعار فقط؛ لا تنظر إلا إلى المظهر السطحي، وليس إلى القوانين الأساسية للحركة. وكما قال أوسكار وايلد ساخرا، فإن الحديين يعرفون سعر كل شيء، بينما لا يعرفون قيمة أي شيء.

الحدية والذاتية
من خلال رفض أنصار نظرية المنفعة الحدية لنظرية قيمة العمل، يقطعون بوعي مع إرث المدرسة الكلاسيكية، التي أسست تحليلها للرأسمالية في الإنتاج. في حين أن نظرية المنفعة الحدية، على النقيض من ذلك، تنظر الآن إلى المستهلك لتحديد قيمة السلع.

يلاحظ واسرمان في كتابه الحديون الثوريون:

«لقد قلب الحديون الاقتصاد الكلاسيكي رأسا على عقب. فبدلا من التركيز على الإنتاج، تحولوا إلى الاستهلاك. إن إرضاء رغبات المستهلكين هو المهم بالنسبة للقيمة، وليس العمل المطلوب للإنتاج»[4].

وبعبارة أخرى فإن القيمة، حسب أنصار نظرية المنفعة الحدية، هي شيء ذاتي بحت، مبني على “منفعة” السلعة: فائدتها للمستهلك مقارنة بالسلع الأخرى، عند “الحد”.

قال مينجر، وفقا لكتيب أصدره معهد لودفيج فون ميسز، عنوانه “المدرسة النمساوية للاقتصاد: تاريخ أفكارها وسفرائها ومؤسساتها”:

«القيمة هي… الأهمية التي تكتسبها السلع الفردية أو كميات البضائع بالنسبة لنا لأننا ندرك أننا نعتمد على طلبها من أجل تلبية احتياجاتنا»[5].

ومن المفارقات أن معهد لودفيج فون ميسز قد جعل هذا الكتيب متاحا بشكل مجاني عبر الإنترنت، وهو اعتراف ضمني بأن مثل هذه الأفكار ليس لها “فائدة” للمجتمع.

وبالمثل فإن واسرمان يقدم تعريفا مختصرا للمنفعة الحدية قائلا: «ببساطة، يتم تحديد قيمة وحدة فردية [لسلعة ما] من خلال أقل الاستخدامات المسموح بها اقتصاديا لتلك الوحدة»[6].

لقد أدرك ماركس بدوره أهمية وجود منفعة للسلع؛ “القيمة الاستعمالية” بالنسبة للمجتمع. فإذا كانت سلعة ما بدون فائدة لأي أحد، لن يكون من الممكن بيعها. ونتيجة لذلك فإن مثل تلك السلعة ليس لها “قيمة تبادلية”؛ ولا سعر. ستكون بدون أي قيمة على الإطلاق.

هذا هو الرد على النقد التافه الذي يسمى بـ“مفارقة فطيرة الطين”، حيث يحاول معارضو الاقتصاد الماركسي السخرية من الفكرة القائلة بأن العمل هو مصدر القيمة، قائلين: “من المؤكد أنه إذا قضيت ساعات في صنع فطيرة من الطين، فمن المفترض أن تكون لها قيمة كبيرة؟”.

لكن هذا القول خاطئ من جهتين، كما سبق لماركس أن أوضح بشكل أكثر من كاف: أولا، وكما قلنا أعلاه، يجب أن تكون لجميع السلع قيمة استعمالية -فائدة- حتى يمكن تبادلها، وبالتالي تكون لها قيمة تبادلية.

ثانيا، حتى لو كانت فطيرة الطين مفيدة لشخص ما، فإنه ليس وقت العمل الشخصي أو الفردي المستثمر في إنتاجها هو ما يجعلها ذات قيمة، بل متوسط، أو ​​وقت العمل الضروري اجتماعيا اللازم لصنع مثل تلك السلعة بشكل عام، ضمن الظروف التاريخية والتكنولوجية المحددة.

وبعبارة أخرى فإن ما نراه في ظل الرأسمالية ليس أفرادا يقارنون بشكل مباشر وذاتي منتجات عملهم الشخصي مع منتجات بعضهم البعض، بل إن كلا من المنتجين والمستهلكين يحصلون في السوق على سعر موضوعي.

وكما أوضحنا من قبل فإننا لا نقوم بالتبادل على أساس المقايضة، في جزيرة خالية مثل روبنسون كروسو، بل عبر وساطة المال والسوق.

وبالعودة إلى مثال سابق، عندما تبحث عن أشياء لشرائها على Amazon أو Google، فأنت لا تواجه عددا من صغار المنتجين، الذين يمكنك المساومة معهم. بل، بدلا من ذلك، يتم منحك (في الغالب) خيارا بين موردين يتنافسون مع بعضهم البعض لتقديم أرخص سعر ممكن؛ سعر يميل نحو مستوى معين لأي سلعة.

كيف، إذن، يمكن مقارنة هذه الكميات الهائلة من السلع المعروضة مع بعضها البعض؟ ما الذي يحدد في النهاية قيمتها التبادلية أو سعرها، أي الشكل النقدي للتعبير عن قيمتها؟

من الواضح أن مثل هذه المقارنة لا يمكن إجراؤها على أساس فائدتها، والتي هي شيء ذاتي ونوعي. لكل نوع من أنواع السلع خصائصه ومميزاته الفيزيائية الخاصة؛ صفاته الخاصة، الموجهة لاستعمال محتمل أو مقصود. وعلاوة على ذلك فإن فائدة سلعة ما تختلف اختلافا كبيرا بين المستهلكين المختلفين.

والأهم من ذلك هو أن أولئك الذين يتطلعون إلى بيع سلعهم عبر الإنترنت لا يقومون بتسعيرها وفقا “لفائدتها” ولا من وجهة نظر المنتج أو المستهلك.

نادرا ما يكون لمثل هؤلاء الموردين أي صلة شخصية بزبائنهم قد تمكنهم من تحديد الفائدة الذاتية للسلعة.

وعلاوة على ذلك فإن السلعة، من وجهة نظر المنتج، ليس لديها أي نفع لهم؛ إنهم ينتجونها لغرض التبادل فقط -لتحقيق الربح، وليس لتلبية أي احتياجات شخصية.

لذلك لا يمكن مقارنة السلع على أساس تعسفي، “نفعها”. إن المطلوب، لقياس القيمة، هو صفة مشتركة تكون نسبية وقابلة للقياس وموضوعية. والشيء الأساسي الذي تشترك فيه جميع السلع، والذي يسمح بمقارنتها في التبادل، كما يشرح ماركس، هو أنها نتاج للعمل، للعمل الاجتماعي على وجه الخصوص.

المثالية مقابل المادية
وفي النهاية انتهى الأمر بالحديين إلى تقييد أنفسهم. زعموا، على سبيل المثال، أن القيمة تحددها التفضيلات الذاتية للأفراد المستقلين. لكن السؤال هو ما الذي يحدد بدوره تلك التفضيلات الذاتية؟

من الواضح أن تقييماتنا لقيمة السلع والخدمات المختلفة ليست مثبتة في أدمغتنا. بل هي نتاج الخبرة والأعراف الاجتماعية. لدينا توقع لمقدار تكلفة الأشياء، وذلك من خلال تراكم المعرفة التاريخية حول أسعار السلع المماثلة.

إلا أن اقتصاديي المدرسة النمساوية يعتمدون على الفرد المعزول، الذي اقتلع من كل سياق اجتماعي. إنهم يختزلون ديناميات الرأسمالية في سلوكات البائعين والمشترين المجردة وغير التاريخية، ولا يرون أن الكل أكبر من مجموع أجزائه. لا تفسر القيمة، بالنسبة لهم، إلا من خلال الدوافع الذاتية للفرد.

لكن النهج العلمي الحقيقي للاقتصاد يجب أن يقوم على اكتشاف قوانين موضوعية، وليس على تحليل الأهواء الذاتية. يجب أن يسعى إلى الكشف عن ديناميات النظام الرأسمالي، أي القوانين التي تنشأ عن ملايين التفاعلات التي تحدث في سياق إنتاج السلع وتبادلها، دون أن تختزل في هذه التفاعلات. إن القوانين الأساسية تفرض نفسها، في الواقع، على تفاعلات السوق المتعددة.

ومثلهم مثل ماركس، والاقتصاديين الكلاسيكيين من قبله، رأى منظرو المدرسة النمساوية أنفسهم أنهم أيضا مكتشفون للقوانين الاقتصادية للرأسمالية. لكنهم نظروا إلى هذه القوانين على أنها “حقائق أبدية” تستند إلى “الطبيعة البشرية”، وليس على أنها نتاج ديالكتيكي لنمط إنتاج متطور تاريخيا؛ أي لمرحلة معينة من تطور المجتمع.

القوانين، بالنسبة للماركسيين، هي الديناميات العامة الأساسية لظاهرة أو نظام معين. وفي هذا الصدد فإن قوانين الرأسمالية ليست خالدة ولا مطلقة. إنها لا توجد في عالم مثالي منفصل، مفروض على المجتمع من الخارج. لكن المثاليين، مثل أنصار المدرسة النمساوية، ينظرون إلى القوانين الاقتصادية على وجه التحديد بهذه الطريقة.

صرح إميل ساكس، الذي هو أحد معاصري مينجر وخريج آخر من جامعة فيينا، قائلا: «تسقط التفاحة من الشجرة وتتحرك النجوم وفقا لنفس القانون: قانون الجاذبية. وفي النشاط الاقتصادي، يتبع كل من روبنسون كروزو وإمبراطورية يبلغ عدد سكانها مائة مليون نسمة نفس القانون: قانون القيمة».

بل إن بعض منظري المدرسة النمساوية اللاحقين، مثل ميزس، اعتقدوا أن القوانين الاقتصادية خالدة، ويمكن وضعها بشكل مسبق ومنفصل تماما عن أي سياق اجتماعي أو دليل تجريبي. أطلق ميزس على تصوره اسم علم الممارسة (Praxeology)، أي نظرية الفعل البشري بناء على دراسة الفاعلين الاقتصاديين “العقلانيين” و“سلوكهم الهادف”[7].

ليست المدرسة النمساوية هي التي اخترعت هذا النهج غير التاريخي والتجريدي والمثالي. بل هو موروث عن أسلافهم الليبراليين، الاقتصاديين البرجوازيين الكلاسيكيين، الذين رأوا أن الرأسمالية وقوانينها أشياء أبدية؛ نتاج “طبيعة بشرية” فطرية.

كما سبق لماركس أن شرح، عند مناقشته لحدود المدرسة الكلاسيكية في مساهمته في نقد الاقتصاد السياسي، «ينظر ريكاردو إلى الشكل البرجوازي للعمل باعتباره الشكل الطبيعي الأبدي للعمل الاجتماعي».

ويتابع قائلا: «الصياد البدائي والقناص البدائي، بالنسبة لريكاردو، هما منذ البداية أصحاب سلع يتبادلان أسماكهما وقنصهما بما يتناسب مع وقت العمل الذي يتجسد في قيم التبادل تلك».

ويضيف ساخرا: «وفي هذه المناسبة، ينزلق إلى المفارقة التاريخية بسماحه للصياد والقناص البدائيين بحساب قيمة أدواتهما وفقا لجداول الأقساط السنوية المستخدمة في بورصة لندن عام 1817»[8].

ومثلها مثل “روبنسون كروزو” أو “الصياد البدائي” الذي افترضه سميث وريكاردو ، كانت جميع السيناريوهات الافتراضية التي اختارها الحديون منفصلة تماما عن حقائق الرأسمالية.

تمتلئ أعمال بوهم بوريك ومينجر بالإشارات إلى مثل هذه الأمثلة المجردة، بما في ذلك: “رجل يجلس بجانب عين ماء تتدفق بغزارة”، و“مسافر في الصحراء”، و“مستوطن بمقصورة خشبية وحيدا في غابة بدائية”، و“سكان واحة”، و“شخص في جزيرة منعزلة”، و“مزارع منعزل”، و“أناس يغرقون”[9].

كما قام الحديون باستمرار بفحص سلع خاصة، مثل الماس أو التحف الفنية، من أجل “إثبات” صحة نظرية المنفعة الحدية.

ومع ذلك، فإن معظم الاقتصاد الرأسمالي ليس مكرسا لإنتاج سلع نادرة مثل خواتم الألماس أو قلادات اللؤلؤ أو الأعمال الفنية الجميلة، بل لإنتاج وفرة من السلع اليومية، بسعر يميل نحو متوسط ​​المبلغ الذي يحدده وقت العمل الضروري اجتماعيا.

إذن يدور العالم كله، بالنسبة للمدرسة النمساوية، حول وجهة النظر الذاتية للفرد. كانت هذه المثالية الذاتية سمة مشتركة مع الاتجاهات الفلسفية الرجعية لتلك الفترة، مثل الفلسفة الوضعية لمفكرين مثل ماخ و“الوضعيين المنطقيين” في حلقة فيينا.

لكن الطبقة السائدة لم تستطع على هذا الأساس تحدي الماركسية بشكل حقيقي، بـ“نظريات” كانت بوضوح مجرد تبرير للرأسمالية، وليس تفسيرا لها.

نقاش الحساب الاشتراكي
لقد استمرت الحركة الاشتراكية في النمو على الرغم من كل جهود المدرسة النمساوية. انقطعت تلك السيرورة بسبب الحرب العالمية الأولى. لكن مزاج الوطنية والقومية سرعان ما تراجع بعد سنوات قليلة، وتحول إلى حالة من الغضب والتجذر بين الجماهير، حيث تسبب حمام الدم الإمبريالي في إثارة موجة من الثورات في جميع أنحاء أوروبا، وعلى الأخص في روسيا، مع الثورة البلشفية في أكتوبر 1917، والثورة في ألمانيا بعد 12 شهرا تقريبا.

كانت الطبقة السائدة مرعوبة من هذه التطورات الثورية. وفي الوقت نفسه كان أنصار اللبرالية الاقتصادية أيضا قلقين من الاتجاه المتزايد نحو تخطيط الدولة واحتكارها، والابتعاد عن الملكية الخاصة والمنافسة.

فعلى أساس تجارب الحرب العالمية الأولى صارت حتى بعض شرائح البرجوازية تنجذب نحو فكرة التخطيط الاقتصادي. ففي مواجهة المهمة الملحة المتمثلة في كسب الحرب، لم تتجه الحكومات نحو السوق لإنتاج الأسلحة والمنتجات الأساسية الأخرى، بل جعلت الاقتصاد مركزيا وفي يد الدولة.

يقول جانيك واسرمان في كتاب “الحديون الثوريون”: «في ألمانيا والنمسا أنشأت الأنظمة هيئات تخطيط الحرب، أطلق عليها اسم “اشتراكية الحرب”، لتركيز الموارد». ويتابع كاتب السيرة قائلا: «للمرة الأولى، أصبح التأميم والقطاع العام مواقف سياسية مقبولة»[10].

أدى ذلك إلى موجة جديدة من الهجمات من قبل جيل جديد من المدرسة النمساوية، بقيادة شخصيات مثل ميزس، الذي أطلق، منذ حوالي عام 1920 فصاعدا، ما سيشار إليه لاحقا باسم: “نقاش الحساب الاشتراكي”.

كان ميزس يهدف إلى إظهار أن الاشتراكية، وفق عبارته، لم تكن “صحيحة من الناحية النظرية، وخاطئة في الممارسة”، بل إنها “خاطئة في النظرية والممارسة” معا.

باختصار، أكد ميزس أن التخطيط الاشتراكي مستحيل، بسبب التعقيد الهائل للاقتصاد. وجادل بأن حجم الحساب المطلوب كان أكبر من أن تخطط له أي بيروقراطية مركزية.

كما زعم ميزس أنه مع وجود العديد من الأشياء التي يجب إنتاجها وتوزيعها، تكون المعلومات التي توفرها مؤشرات الأسعار النقدية -من خلال قوى السوق- هي وحدها القادرة على تسيير الموارد والعمالة بكفاءة.

وعلاوة على ذلك قال إن أي تدخل للدولة أو تنظيم من طرفها من شأنه أن يؤدي إلى تشويه الأسعار، مما يعيق فعالية السوق. ولذلك فإن الحل الوحيد هو السماح للسوق التنافسية الحرة تماما بالقيام بعملها.

أكد ميزس في كتابه “الاشتراكية” أنه: «بمجرد أن يتخلى المجتمع عن التسعير الحر للسلع، يصبح الإنتاج العقلاني مستحيلا».

وخلص الخبير الاقتصادي النمساوي إلى أن: «كل خطوة تؤدي بعيدا عن الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج واستخدام المال، هي خطوة تؤدي بعيدا عن النشاط الاقتصادي العقلاني».

لكن الأمثلة الملموسة للغاية التي قدمها كل من الاتحاد السوفياتي، من جهة، والكساد العظيم، من جهة أخرى، كانت بمثابة ضربة قوية لهذه الحجة المجردة والمثالية للغاية.

وكما أوضح ليون تروتسكي في رائعته “الثورة المغدورة”، معلقا على التقدم الاقتصادي الهائل الذي تم إحرازه في ظل الاقتصاد السوفياتي المخطط:

«إنجاز ضخم في الصناعة؛ بدايات واعدة للغاية في الزراعة؛ نمو غير عادي للمدن الصناعية القديمة وبناء مدن جديدة؛ زيادة سريعة في أعداد العمال؛ ارتفاع في المستوى الثقافي والطلب الثقافي: هذه هي النتائج التي لا جدال فيها لثورة أكتوبر، التي حاول أنبياء العالم القديم أن يروا فيها قبر الحضارة الإنسانية.
لم يعد لدينا أي شيء نتشاجر عليه مع الاقتصاديين البرجوازيين. لقد أثبتت الاشتراكية حقها في الانتصار، ليس على صفحات “رأس المال”، بل في الساحة الصناعية التي تضم سدس سطح الأرض، ليس بلغة الديالكتيك، بل بلغة الفولاذ والإسمنت والكهرباء»[11].

في غضون ذلك أدت السوق الحرة الجامحة إلى انهيار وول ستريت عام 1929 ، والكساد العظيم الذي تلاه في الثلاثينيات، التي كانت أعمق أزمة في تاريخ الرأسمالية، والتي لم يكن لمنظري المدرسة النمساوية أي تفسير حقيقي لها ولا أي حل لها.

وفي الواقع بدت الأدوية التي اقترحها الاقتصاديون النمساويون، بالنسبة للكثيرين في الحكومات، أسوء من المرض نفسه: استقرار معيار الذهب؛ ميزانيات متوازنة وحرية التجارة… والتي كانت كلها تهدد بتعميق الاتجاهات الانكماشية وتفاقم البطالة وإطالة أمد الأزمة.

كان النمساويون، باختصار، يقترحون أن تتراجع الحكومات إلى الوراء وتسحب أي شبكات أمان، وتشد أحزمتها، وتسمح للاقتصاد بتحقيق “التكيف الذاتي”. كان شعارهم: “لا ربح بدون ألم”. وغني عن القول إن سياسات التقشف المتطرفة تلك لم تكن مستساغة بشكل خاص من جانب السياسيين الساعين للفوز في الانتخابات.

فتدخل فريدريك هايك، الذي حاول تغيير بعض القواعد استجابة لتلك الأحداث.


فعوض وصف التخطيط الاشتراكي بكونه مستحيلا، بدأ هايك يؤكد في سلسلة من المقالات التي كتبها بين عامي 1935 و1940، أنه صعب من الناحية التقنية، وأنه أقل كفاءة من الناحية الاقتصادية وغير مرغوب فيه أخلاقيا وسياسيا[12].

لكن حجج هايك لم تكن، من حيث الجوهر، مختلفة عن حجج ميزس. ولا مختلفة في الواقع عن حجج آدم سميث. والتي تقول بالتحديد إنه إذا سعى كل فرد إلى تحقيق مصلحته الذاتية، من شأن ذلك، بفعل “اليد الخفية” للسوق، أن يحقق أفضل النتائج الاقتصادية للمجتمع، وبالتالي للجميع.

وأكد هايك أنه لن يكون في مقدور أي سلطة تخطيط مركزية أن تتبع المشهد غير المؤكد والمتغير باستمرار للاختيارات والأولويات الشخصية. وأنه وحدها السوق الحرة التي تستطيع، من خلال معلومات الأسعار، أن تعالج مثل هذه الحسابات الدينامية والمعقدة.

لكنه ولكي يثبت وجهة نظره لم يهاجم بشكل أساسي الاشتراكية الحقيقية، بل هاجم صورتها الكاريكاتيرية الستالينية للتخطيط البيروقراطي من فوق إلى أسفل، الذي كان موجودا في الاتحاد السوفياتي في ذلك الوقت.

وبدلا من التركيز على إعطاء الدليل على صحة أفكاره، كرس هايك جهوده في المقام الأول لمهاجمة المدافعين عن التخطيط الاشتراكي بأشكال مختلفة.

ينقسم هؤلاء في المقام الأول إلى معسكرين: إما المدافعون عن البيروقراطية الستالينية -شخصيات مثل الشيوعي الإنجليزي وخبير الاقتصاد في كامبريدج: موريس دوب-؛ أو الإصلاحيين والأكاديميين، مثل أوسكار لانج، وفريد ​​تايلور.

وفي حين أن الأول قد غض الطرف إلى حد كبير عن الكوارث الاقتصادية التي كانت تتكشف في الاتحاد السوفياتي، بسبب الآثار الخانقة للبيروقراطية، فقد كان الأخيرون من أنصار ما يسمى بـ“اشتراكية السوق”: اقتصاد طوباوي مختلط، قائم على أساس مزيج مشوش (دائم) من الملكية المشتركة والتخطيط المركزي والسوق الرأسمالية.

وعلى الرغم من أن هايك يعاني من ضعف فكري هائل، فإنه لم يواجه مشكلة كبيرة في تحطيم تلك الرؤوس المشوشة إلى أشلاء. حيث أن هؤلاء الناس المفتقدين لأي أساس ماركسي متين يمكنهم أن يبنوا عليه حججهم، سقطوا بسهولة أمام جدالات هايك.

موقف تروتسكي من التخطيط
الشخص الوحيد الذي كان بإمكانه تقديم دفاع حقيقي عن التخطيط الاشتراكي -إلى جانب تفسير صحيح للمخاطر ذات الصلة بالبيروقراطية- هو ليون تروتسكي. وهذا ما فعله في كتابه “الثورة المغدورة”. وأيضا في مقاله الرائع بعنوان “الاقتصاد السوفياتي في خطر”.


لقد شرح تروتسكي ببراعة كلا من إنجازات الاقتصاد السوفياتي المخطط، وكيف تم خنق تلك الإمكانيات بسبب النمو السرطاني للبيروقراطية الستالينية.

والأهم من ذلك هو أن تروتسكي ناقش أيضا طبيعة تلك البيروقراطية، وقدم تفسيرا ماديا لكيف تمكنت من السيطرة على مكتسبات ثورة أكتوبر وتخريبها.

وباختصار فإن تروتسكي شرح أن صعود البيروقراطية لم يكن نتيجة حتمية للتخطيط الاشتراكي، كما يدعي هايك والنمساويون بتحليلهم المثالي، بل كان نتيجة لمحاولة بناء الاشتراكية في ظروف التخلف الاقتصادي والعزلة، كما رأينا في روسيا:

«أساس الحكم البيروقراطي هو فقر المجتمع في مواد الاستهلاك، مما ينتج عنه صراع الكل ضد الكل. عندما يكون هناك ما يكفي من البضائع في المتجر، يمكن للمشترين القدوم متى أرادوا ذلك. لكن عندما يكون هناك القليل من البضائع، فإن المشترين يضطرون إلى الوقوف في الطابور. وعندما تكون الطوابير طويلة جدا، يصير من الضروري تعيين شرطي للحفاظ على النظام. هذه هي نقطة البداية لسلطة البيروقراطية السوفياتية. إنها “تعرف” من سوف يحصل على شيء ما ومن عليه الانتظار»[13].

ومن المفارقات في نقاش هايك هي أن المرة الوحيدة التي تعامل فيها مع حجج تروتسكي كانت عندما وجد أنه من المناسب له أخذ اقتباسات بشكل انتقائي من كتاباته، وتمزيقها بشكل كامل خارج السياق من أجل السخرية من خصومه.

وعلى سبيل المثال فقد قدم تروتسكي في مقاله “الاقتصاد السوفياتي في خطر”، عددا من التأكيدات الصحيحة تماما، حيث قال: «من المستحيل أن يتم بشكل مسبق إنشاء نظام كامل من الانسجام الاقتصادي»؛ وأنه لا يوجد «عقل شامل… يمكنه أن يسجل في نفس الوقت كل عمليات الطبيعة والمجتمع»، من أجل «أن يضع بشكل مسبق خطة اقتصادية شاملة وخالية من العيوب».

لكن ما فشل هايك في ذكره هو ما يأتي بعد هذه المقاطع، حيث يواصل تروتسكي شرح الإجراءات المطلوبة للتخطيط الناجح للاقتصاد على أساس اشتراكي، وقبل كل شيء الحاجة إلى الديمقراطية العمالية والرقابة والإدارة العماليتين.

يقول تروتسكي: «وحده التنظيم المستمر للخطة في خضم عملية تحقيقها، وإعادة بنائها بشكل جزئي وبشكل كلي، هو ما يمكن أن يضمن فعاليتها الاقتصادية».

ويضيف قائلا: «فن التخطيط الاشتراكي لا يسقط من السماء ولا يوضع بالكامل في أيدي المرء مع الاستيلاء على السلطة. لا يتم إتقان هذا الفن إلا عن طريق النضال فقط، خطوة بخطوة، ليس من قبل القلة بل من قبل الملايين، باعتباره جزءا من الاقتصاد الجديد والثقافة الجديدة»[14].

وعلاوة على ذلك يستمر تروتسكي في شرح أن مثل هذه الدولة العمالية يجب أن تستخدم المعلومات التي توفرها مؤشرات أسعار السوق خلال الانتقال من الاشتراكية إلى الشيوعية –أي خلال الانتقال من الندرة إلى الوفرة– من أجل التأكد أين يوجد أكبر خصاص، وبالتالي حيث توجد الحاجة الماسة للاستثمار.

يوضح تروتسكي أنه:

«يجب على ذلك العدد الذي لا يحصى من المشاركين الأحياء في الاقتصاد، الحكومي والخاص، الجماعي والفردي، أن يقدموا إشعارا باحتياجاتهم وقوتهم النسبية، ليس فقط من خلال المؤشرات الإحصائية للجان التخطيط، بل وكذلك من خلال الضغط المباشر للعرض والطلب.
يتم فحص الخطة، وإلى حد كبير يتم تحقيقها، من خلال السوق. يجب أن يعتمد تنظيم السوق نفسه على التيارات التي تبرز من خلال آلياته. المخططات التي تنتجها الإدارات يجب أن تثبت فعاليتها الاقتصادية من خلال الحسابات التجارية. نظام الاقتصاد الانتقالي لا يمكن تصوره بدون الروبل. وهذا يفترض، بدوره، أن للروبل قيمة فعلية. فبدون وحدة نقدية ثابتة، لا يمكن للمحاسبة التجارية إلا أن تزيد الفوضى»[15].

وقد كرر تروتسكي، في وقت لاحق، هذه النقاط نفسها في كتابه “الثورة المغدورة”، حيث قال: «لا يمكن للاقتصاد المخطط أن يرتكز فقط على البيانات النظرية. فلعبة العرض والطلب تبقى لفترة طويلة أساسا ماديا ضروريا وتصحيحيا لا غنى عنه»[16].

وقد توقع تروتسكي هذه المشاكل بشكل مسبق. ففي وقت مبكر من عام 1922، أكد على أنه لا يمكن إنشاء أساليب التخطيط الاشتراكي البحتة، بشكل مسبق، من خلال التأمل، أو داخل جدران المكتب الأربعة[17].

وشرح أنه بين الرأسمالية وبين المجتمع الاشتراكي كامل الوفرة، ستكون هناك عدد من المراحل الانتقالية، حيث لا يمكن الاستغناء بالكامل عن أساليب السوق.

السياسة والاقتصاد
لقد شرح تروتسكي أن التخطيط البيروقراطي من أعلى إلى أسفل لا يمكنه أن ينجح. وقبل أيضا بالحاجة إلى مؤشرات الأسعار، لكن فقط بكونها دليلا مؤقتا، خلال الانتقال من الاشتراكية إلى الشيوعية، حيث سيتلاشى كل من المال والسوق والدولة والطبقات؛ أو، على حد تعبير إنجلز، «حيث سيتم استبدال حكم الناس بإدارة الأشياء، وبتسيير عمليات الإنتاج»[18].

وبالطبع فإن أي تشابه شكلي بين مواقف هايك ومواقف تروتسكي بخصوص هذه المسألة هو تشابه سطحي تماما. إذ أن المنظرين، في الواقع، ينطلقان من منظورين طبقيين متناقضين تماما. كان هايك ينتقد التخطيط السوفياتي البيروقراطي من اليمين، في حين أن تروتسكي ينتقده من اليسار.

وبالتالي فإنه من المخادع تماما، في هذا الصدد، أن يستغل التحرريون (آنذاك والآن) حجج تروتسكي -الذي كان حاسما في دفاعه عن الاتحاد السوفياتي ومكاسب ثورة أكتوبر- من أجل دعم أفكارهم الرجعية.

قال تروتسكي، في تعليقه على الدولة العمالية المنحطة في روسيا: «على الرغم مما ورثته من التخلف، وعلى الرغم من الجوع والركود، وعلى الرغم من الأخطاء وحتى الفظائع البيروقراطية، فإنه يتوجب على عمال العالم بأسره الدفاع بكل قواهم عن وطنهم الاشتراكي المستقبلي الذي تمثله هذه الدولة»[19].

وبينما كان هايك ولانج وشركاؤهما منخرطين في جدالات مجردة حول المخططات المثالية، نرى كيف تعامل تروتسكي مع مسألة التخطيط الاقتصادي ديالكتيكيا وماديا.

وشدد على أن الاقتصاد الاشتراكي الكامل لا يمكن تنفيذه من أعلى، وفقا للخطط التي حلمت بها أذهان الزمرة البيروقراطية، بل سوف ينشأ من الظروف المادية الموروثة عن الرأسمالية، بعد أن استيلاء الطبقة العاملة على السلطة.

ويؤكد أن الشرط المسبق لاستخدام قوى السوق ومؤشرات الأسعار كبوصلة للتخطيط الاشتراكي المباشر، هو أن تقوم الثورة بالقضاء على الرأسمالية، والاستيلاء على مفاتيح الاقتصاد الرئيسية، ووضعها في أيدي دولة العمال.

وبعبارة أخرى فإنه بدلا من التخطيط البيروقراطي الستاليني، أو ما يسمى “باشتراكية السوق”، يجب أن تكون هناك خطة اشتراكية عقلانية حقيقية تتضمن نظاما للديمقراطية العمالية والرقابة والإدارة العماليتين.

بمرور الوقت، ومع تطور قوى الإنتاج، وتوسع الملكية الجماعية، وتضاءل العداوات الاقتصادية، ستحل المعلومات من نظام الديمقراطية العمالية هذا تدريجيا محل الحاجة إلى مؤشرات الأسعار النقدية.

وبدلا من أن تستمر الطبقة العاملة المنظمة بالاسترشاد بقوى السوق، فإنها ستصير هي نفسها من يحدد ما يمكن وما ينبغي إنتاجه؛ وما الذي يجب إعطاء الأولوية للاستثمار فيه؛ وكيف ينبغي توزيع العمالة والموارد المادية.

عندها سيستخدم الممثلون المنتخبون، الخاضعون للمساءلة والقابلون للعزل، أحدث وأفضل ما توصلت إليه العلوم والتكنولوجيا والتقنية والتخطيط والبيانات واللوجستيات والأساليب المحاسباتية الموروثة عن الرأسمالية.

النقطة المهمة، كما أكد تروتسكي، هي أن “مشكلة” التخطيط الاشتراكي ليست مشكلة “حساب اقتصادي”، كما يزعم هايك وميسز. وبالمثل فقد سقط مفكرون مثل لانج في خطأ التركيز على هذه التفاصيل. المسألة ليست مجرد بناء أجهزة كمبيوتر أكبر وأفضل. إذا لا يمكننا حساب طريقنا إلى الشيوعية.

ليس الاقتصاد مجموعة من المعادلات المتزامنة المطلوب حلها، أو نموذجا حاسوبيا يمكن برمجته من فوق. كما أنه ليس مجموعة من الأفراد المجردين والمعزولين والمذررين في جزيرة خالية افتراضية.

الاقتصاد هو، بالأحرى، نظام حي يتنفس ويتألف من لحم ودم. إنه الناس العاديون الذين يحاولون وضع الطعام على المائدة ويحاولون تغطية نفقاتهم.

إنه، قبل كل شيء، صراع بين الطبقات المتعارضة ومصالحها المادية: بين المستغِلين والمستغَلين؛ بين الرأسماليين الساعين إلى تعظيم أرباحهم، وبين العمال الذين يسعون للدفاع عن حياتهم ومستويات عيشهم.

لذلك، فإن المشكلة الحقيقية، كما أكد تروتسكي، ليست “حسابا اقتصاديا”، بل هي مشكلة سياسية. إنها ليست مسألة حساب، بل مسألة طبقية؛ مسألة قوة -أي من هي الطبقة التي تمتلك وسائل الإنتاج وتديرها؟ ووفق أية قوانين؟ وعلى أي أساس- هل لتلبية الاحتياجات أم لتحقيق الأرباح؟

وكما يلخص تروتسكي ببراعة فإن:

«الصراع بين المصالح الحية، باعتباره عاملا أساسيا في التخطيط، يقودنا إلى مجال السياسة، التي هي تكثيف للاقتصاد. إن وسائل الفئات الاجتماعية في المجتمع السوفياتي هي -ينبغي أن تكون-: السوفييتات والنقابات والتعاونيات، وفي المقام الأول الحزب الحاكم.
فقط من خلال التفاعل المتبادل بين هذه العناصر الثلاثة – تخطيط الدولة والسوق والديمقراطية السوفياتية- يمكن تحقيق الاتجاه الصحيح لاقتصاد الحقبة الانتقالية.
بهذه الطريقة فقط يمكن ليس ضمان التغلب التام على التناقضات والتفاوتات في غضون سنوات قليلة (هذا طوباوي!)، بل التخفيف منها، ومن خلال ذلك تقوية الأسس المادية لديكتاتورية البروليتاريا حتى اللحظة التي تحدث فيها ثورة جديدة منتصرة والتي ستوسع ساحة التخطيط الاشتراكي وستعيد بناء النظام»[20].

التخطيط الرأسمالي
الحقيقة هي أننا نرى اليوم بالفعل مستويات هائلة من التخطيط، ليس من قبل الحكومات أو الدول القومية، بل داخل الاحتكارات الكبرى والشركات متعددة الجنسيات التي تهيمن على الاقتصاد العالمي.

وبعيدا عن كون الاقتصاد عبارة عن مجموعة من الأشخاص المعزولين –من أمثال روبنسون كروزو- الذين يتبادلون مع بعضهم البعض، فإن الرأسمالية، منذ أيام ماركس نفسه، تميزت بشكل رئيسي بوجود صناعة واسعة النطاق وسوق عالمية، مع تنظيم الإنتاج داخل شركات ضخمة وشركات المتعددة الجنسيات.

لا تجري غالبية النشاط الاقتصادي اليوم في السوق، بل تحت إشراف الرؤساء داخل تلك الشركات. إنهم لا يتركون “اليد الخفية” تتخذ القرارات المتعلقة بالإنتاج داخل قطاعاتهم. بل إنهم يخططون لكل شيء: من المزارع والمصانع إلى المتاجر والأسواق الممتازة.

وكما أوضح المؤلفان الاشتراكيان: لي فيليبس وميشال روزورسكي، في مؤلفهما الممتاز “مناظرة حول الحساب الاشتراكي”، بعنوان “جمهورية وول مارت الشعبية”:

«ربما تكون وول مارت أفضل دليل لدينا على أنه بينما يبدو أن التخطيط لا يعمل في نظرية ميزس، فإنه بالتأكيد يعمل في الممارسة…
وإذا كانت دولة – فلنسمها جمهورية وول مارت الشعبية- فإن اقتصادها سيكون تقريبا بحجم اقتصاد السويد أو سويسرا…
ومع ذلك فإنه بينما تعمل الشركة داخل السوق، فإنها داخليا، وكما هو الحال في أي شركة أخرى، كل شيء يتم التخطيط له. لا وجود لسوق داخلية. لا تتنافس الأقسام والمخازن والشاحنات والموردين المختلفين فيما بينها في السوق؛ كل شيء منسق.
ليست وول مارت مجرد اقتصاد مخطط، بل هي اقتصاد مخطط بحجم اقتصاد الاتحاد السوفياتي في منتصف الحرب الباردة. (سجل الناتج المحلي الإجمالي السوفياتي، في عام 1970، حوالي 800 مليار دولار بقيمة العملة اليوم، وكان ثاني أكبر اقتصاد في العالم؛ في حين بلغت عائدات وول مارت عام 2017: 485 مليار دولار)»[21].

وبينما يردد الببغاوات الهايكيين الهراء القائل إن الرأسمالية تحمي “الحرية” و“الحقوق”، فإن أرباب العمل هم في الواقع أكبر الديكتاتوريين داخل مكان العمل، مما يترك موظفيهم بلا خيار ولا حرية ولا فردية. كما يعلق ماركس في “رأس المال”:

«إن الوعي البرجوازي الذي يحتفي بتقسيم العمل في المَشْغل، وتثبيت العامل مدى الحياة في عملية جزئية واحدة، وإخضاعه الكامل لرأس المال، باعتبار ذلك تنظيما للعمل يزيد من قوته الإنتاجية، هو نفسه الوعي الذي يشجب بنفس القوة كل محاولة واعية للسيطرة على عملية الإنتاج وتنظيمها اجتماعيا، باعتبارها انتهاكا لأشياء مقدسة مثل حقوق الملكية وحرية الفرد الرأسمالي و“عبقريته”.
والشيء الذي له دلالة كبيرة للغاية هو أن المدافعين المتحمسين عن نظام المصنع ليس لديهم شيء يشجبون به التنظيم العام للعمل في المجتمع أكثر من قولهم إن ذلك سيحول المجتمع بأسره إلى مصنع».[22]

لكن وفي حين أن هناك مستوى لا يصدق من التخطيط داخل الشركات، فإنه ما تزال هناك فوضى بينها. فبسبب الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، تنتج كل شركة بشكل أعمى لسوق مجهول؛ من أجل تحقيق الربح الفردي، وليس في إطار خطة مشتركة تستند إلى احتياجات المجتمع.


والنتيجة هي فوضى الرأسمالية التي نراها اليوم، حيث تؤدي عقلية القطيع التي تحكم المستثمرين الباحثين عن الربح إلى حدوث تقلبات شديدة بين الخصاص والفائض.

يقول إنجلز في كتابه أنتي دوهرينغ: «إن التناقض بين الإنتاج الاجتماعي وبين التملك الرأسمالي، يقدم نفسه الآن على أنه تناقض بين تنظيم الإنتاج في ورشة العمل الفردية، وبين فوضى الإنتاج في المجتمع بشكل عام»[23].

مع وجود التكنولوجيا والتقنيات الحديثة، صرنا اليوم نرى إمكانات هائلة للتخطيط. يسلط غلاف أحد الأعداد الأخيرة لمجلة إيكونوميست، على سبيل المثال، الضوء على ظهور اقتصاد “الوقت الفعلي”، حيث تجمع شركات التكنولوجيا الكبرى كميات لا يمكن تخيلها من البيانات، ساعة بساعة ودقيقة بدقيقة، حول ما نشتريه، وإلى أين نسافر، وما نبحث عنه.

كما تعلق المجلة الليبرالية في افتتاحيتها حول هذا الموضوع، قائلة:

«إن الاقتصاديين وعلى الرغم من جميع معادلاتهم ونظرياتهم، غالبا ما يتخبطون في الظلام، مع القليل من المعلومات لاختيار السياسات التي من شأنها خلق المزيد من الوظائف والنمو.
ومع ذلك فإن عصر الحيرة بدأ يفسح المجال لمزيد من الاستنارة. إن العالم على شفا ثورة حقيقية في الاقتصاد، مع تحسن جودة المعلومة وسرعة وصولها…
ما تزال النتائج أولية، لكن مع انتشار الأجهزة الرقمية وأجهزة الاستشعار ووسائل الدفع (Payments) السريعة في كل مكان، ستتحسن القدرة على مراقبة الاقتصاد بدقة وبسرعة.»[24]

لكن في ظل ملكية الشركات الاحتكارية الخاصة مثل Google وFacebook وAmazon وأمثالها، يتم استخدام كل هذه المعلومات للسيطرة علينا، بدلا من منحنا السيطرة. مثلما يتم استخدام كل التكنولوجيا والابتكارات والتخطيط، الذي نراه في ظل الرأسمالية، من أجل تعظيم أرباح الرأسماليين وليس لتلبية احتياجاتنا.

لذلك نرى حدود التخطيط في ظل الرأسمالية. ففي النهاية لا يمكنك التخطيط حقا لما لا تتحكم فيه؛ ولا يمكنك التحكم في ما لا تملك.

المنافسة والاحتكار
لقد عارض هايك وميزس بشدة ليس الاشتراكية فحسب، بل كل أشكال التخطيط. اعتقد هايك، في الواقع، أن الحكومات المتأثرة بالكينزية، من خلال إضفاءها الشرعية على فكرة تدخل الدولة في الاقتصاد، تمهد بذلك الطريق لانتشار البلشفية؛ ودفع الناس في طريق من شأنه أن يؤدي إلى الاستبداد والعبودية: ما يسمى بالطريق إلى القنانة.

لكن التخطيط، كما أوضح ماركس وإنجلز في كتاباتهما، هو حقيقة نشأت بسبب قوانين الرأسمالية: الميل نحو الاحتكار ومركزية وتركيز الإنتاج.

لكن بالنسبة إلى التحرريين، مثل هايك، لا يُنظر إلى الاحتكار على أنه اتجاه موضوعي ينشأ عن الملكية الخاصة والإنتاج من أجل الربح، بل بكونه نتاجا لقرارات ذاتية؛ بكونه انحرافا بسبب أخطاء سياسية.

زعم هايك في كتابه “الطريق إلى القنانة” أن «الميل نحو الاحتكار والتخطيط ليس نتيجة لأي “حقائق موضوعية” خارجة عن سيطرتنا، بل هو نتاج لآراء تم تكريسها ونشرها على مدى نصف قرن حتى أصبحت تسيطر على سياساتنا»[25].

تكشف مثل هذه التأكيدات، مرة أخرى، النظرة المثالية للمدرسة النمساوية. ومرة أخرى، عوض تقديم تفسير علمي للنظام الرأسمالي، يختبئ هايك وأسلافه خلف واجهة من التصوف والظلامية، من أجل تقديم تبرير للوضع الراهن.

لكن ومهما أنكر هايك، فإن سيرورة الاحتكار هي حقيقة موضوعية، شرح ماركس وإنجلز ديناميتها بوضوح شديد.

تضطر الشركات المتنافسة، في سياق بحثها عن الأرباح، إلى الاستثمار في التكنولوجيات الجديدة، من أجل الإنتاج بشكل أكثر كفاءة، وخفض تكاليفها، وخفض أسعارها إلى ما دون المعدل المتوسط، وإخراج منافسيها من السوق. هذا، في جوهره، هو قانون قيمة العمل.

ستلتهم الشركات الأقوى والأكثر قدرة على المنافسة الشركات الأضعف. وهذا بدوره يسمح لها بالتوسع أكثر؛ لتحقيق “وفورات الحجم” ؛ وإقامة حواجز أكبر أمام دخول أسواقها. وتوضح لعبة Monopoly هذه العملية بجدارة (وقد صُممت خصيصا لذلك).

والنتيجة هي أننا نرى مستوى لا يُصدق من تقسيم العمل داخل المجتمع، إلى جانب مركزية وسائل الإنتاج في يد حفنة صغيرة من الاحتكارات العملاقة وأصحابها الرأسماليين.

يوضح إنجلز أن «حرية المنافسة تتحول إلى نقيضها تماما: إلى الاحتكار؛ والإنتاج بدون أي خطة محددة للمجتمع الرأسمالي يستسلم أمام الإنتاج وفق خطة محددة للمجتمع الاشتراكي الصاعد»[26].

تناقضات الرأسمالية
والأهم من ذلك هو أن قوانين المنافسة الرأسمالية، والملكية الخاصة، والإنتاج من أجل الربح، هي نفسها التي تقود النظام بشكل حتمي إلى الانغماس في الأزمات بشكل دوري.

وبعبارة أخرى فإن ما نراه هو أن النظام الفاشل نظريا وعمليا هو الرأسمالية، وليس الاشتراكية.

لقد اختار ماركس في كتاب “رأس المال”، صراحة أن يبدأ من نفس الافتراضات التي اعتمدها سميث وريكاردو. أراد أن يبدأ من حيث توقف الاقتصاديون الكلاسيكيون، وأخذ أفكارهم الخاصة واشتغل بها، من أجل إظهار تناقضاتهم المتأصلة: تناقضات الرأسمالية.

ومن بين تلك الافتراضات أن السلع تُباع جميعها بقيمتها (أي: الأسعار = القيم)، مع عدم وجود احتكارات أو قيود أخرى على تدفق رأس المال. وبالمثل فقد افترض ماركس، في المجلد الأول على الأقل، أن المال كمعدن، بدون أي شكل من أشكال الائتمان.

لقد فعل ماركس ذلك من أجل دراسة قانون القيمة وديناميات النظام الرأسمالي في أنقى صورها، وبالتالي شرح الأسباب العامة الكامنة وراء الظواهر الاقتصادية المختلفة التي نراها في المجتمع في ظل الرأسمالية.

إن ما تعنيه هذه الافتراضات هو، في الواقع، نفس الرأسمالية المثالية التي يدعو إليها هايك والتحرريون، أي: سوق حرة بمنافسة خالصة، بدون تشوهات في الأسعار، ولا فقاعات.

ومع ذلك، حتى على هذا الأساس، فإن الرأسمالية، كما يوضح ماركس، تؤدي بطبيعتها إلى أزمات فائض الإنتاج، بسبب طبيعة نظام الربح.

وباختصار فإن هذه الأزمات متأصلة في الرأسمالية، بسبب أصل الربح، أي: العمل غير مدفوع الأجر للطبقة العاملة.

ينتج العمال، كما أوضحنا سابقا، قيمة أكبر مما يُدفع لهم في شكل أجور. وبالتالي فإن الطبقة العاملة، في مجموعها، لا تستطيع إعادة شراء كل السلع التي تنتجها. لكن إذا تعذر بيع السلع، فإن الرأسماليين -الذين لا ينتجون إلا من أجل الربح فقط- سيغلقون أبواب مصانعهم. فتنشأ حلقة مفرغة من انخفاض الطلب وانخفاض الاستثمار، مما يؤدي إلى توقف الاقتصاد.

يمكن للرأسماليين استخدام كل أنواع الحيل لتجنب أو تأخير هذه الأزمة، لكن فقط «من خلال تمهيد الطريق لحدوث أزمات أكثر اتساعا وتدميرا، وتقليص الوسائل التي يتم من خلالها منع الأزمات»، كما قال ماركس وإنجلز في البيان الشيوعي.

والنتيجة الإجمالية لهذا التناقض، إذن، ليست “الكفاءة”، بل الهدر الهائل، في شكل بطالة جماهيرية؛ ومصانع خاملة؛ وفقر وسط الوفرة؛ وتدمير –وليس تطوير- قوى الإنتاج.

«يجد المجتمع نفسه فجأة في حالة من الهمجية المؤقتة؛ يبدو كما لو أن مجاعة أو حرب دمار شاملة، قد قطعت إمداد كل وسائل العيش؛ يبدو كما لو أن الصناعة والتجارة قد تم تدميرهما؛ ولماذا؟ لأن هناك الكثير من الحضارة، والكثير من وسائل العيش، والكثير من الصناعة، والكثير من التجارة»[27].

ولذلك فإن النقاشات حول “الحساب الاقتصادي” وكيفية تخصيص الموارد النادرة بأكبر قدر من الكفاءة هي بالتالي نقاشات مضللة.

إن المهمة التي تواجه البشرية ليست حساب كيفية تخصيص الموارد الشحيحة، بل هي تحويل القوى الإنتاجية الهائلة والوفرة الفائضة تحت تصرف المجتمع إلى ملكية عامة تحت الرقابة العمالية؛ وتطوير هذه القوى بشكل أكبر، بحيث يمكن استخدامها بشكل عقلاني وديمقراطي، من أجل تلبية احتياجاتنا وليس مراكمة الأرباح للرأسماليين.

في هذا الصدد يؤكد تروتسكي، في كتابه الثورة المغدورة، أن «الشر الأساسي للنظام الرأسمالي ليس إسراف الطبقات المالكة، مهما كان ذلك مقززا في حد ذاته، بل حقيقة أنه من أجل ضمان حقها في الإسراف تحافظ البرجوازية على ملكيتها الخاصة لوسائل الإنتاج، وبالتالي تحكم على النظام الاقتصادي بالفوضى والتدهور»[28].

لا يعود أي من هذا إلى القرارات السياسية السيئة، كما يدعي النمساويون بشكل مثالي، بل هو نتاج للتناقضات المتأصلة في الرأسمالية.

لذا فإنه حتى عندما يتصرف الجميع “بعقلانية”، ويتبعون مصلحتهم الذاتية، كما يقترح سميث وهايك وجميع الليبراليين والتحرريين الآخرين، فإن النتيجة تكون غير عقلانية على الإطلاق بالنسبة للمجتمع ككل.

وبعبارة أخرى فإنه حتى عندما (أو بالضبط عندما) تعمل الرأسمالية كما ينبغي، تكون بالضبط غير صالحة على الإطلاق.

هايك مقابل كينز
إن ما لم يستطع أي من خبراء الاقتصاد في المدرسة النمساوية تفسيره حقا هو لماذا تدخل الرأسمالية في أزمة.


بالنسبة لكل من هايك وميسز، كان انهيار وول ستريت والكساد العظيم على سبيل المثال، كله خطأ الحكومات غير المسؤولة ومحافظو البنوك المركزية الذين لا يبالون بضبط القروض، مما سمح بتكون فقاعات الأصول.

وبالمثل، يقدم التحرريون المعاصرون نفس التحليل فيما يتعلق بانهيار عام 2008. حيث يقولون لنا إنه عوض تأجيج أزمة الرهن العقاري من خلال تخفيض أسعار الفائدة بشكل مصطنع وتبني سياسة نقدية متراخية، كان ينبغي على الأشخاص الذين يتحكمون في السياسات الاقتصادية أن يتراجعوا إلى الوراء ويتركوا السوق تقوم بسحرها.

لكن مثل هذا الإجراء (أو التقاعس عن أي إجراء) لم يكن ليؤدي إلى أي “توازن” اقتصادي ونظام. بل لو أن السياسيين وصانعي السياسة لم يضخوا القروض في شرايين النظام خلال عشرينيات القرن الماضي، ومرة ​​أخرى في الثمانينيات والتسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لكانت الانهيارات اللاحقة قد حدثت بسرعة أكبر، ولكانت أزمة فائض الإنتاج قد عبرت عن نفسها في وقت مبكر.

لكل هذه الأسباب حتى الطبقة السائدة نفسها لم تقتنع أبدا بأفكار هايك.

بل يمكن للمرء، في الواقع، أن يقول إن هايك نفسه لم يكن مقتنعا تماما بما يقوله هايك. فبعد إخفاقه في “نقاش الحساب الاشتراكي”، قام بالتراجع عن حججه الاقتصادية.

وتحول بدلا من ذلك نحو تقديم حجة سياسية للتحررية، كما ورد في كتاب “الطريق إلى القنانة”، حيث ادعى بأن التخطيط يؤدي حتما إلى الشمولية، وأن السوق التنافسية هي وحدها التي يمكن أن توفر “الحرية” الحقيقية، و“الاختيار”، و“الفردانية”.

ومع ذلك، فإنه، في وقت لاحق من حياته، لم يجد هو وأتباعه المنافقون أي حرج في أن يدعموا بشكل علني القبضة الحديدية لدكتاتورية بينوشيه، من أجل تحطيم حكومة أليندي الاشتراكية في تشيلي وفرض اليد الخفية للسوق بالقوة.

عندما أرادت الطبقة السائدة في الثلاثينيات (في الولايات المتحدة على الأقل) مواجهة الكساد الكبير، لم تعتمد على تحررية هايك الطوباوية، بل اتجهت نحو “البراغماتية” الكينزية المفترضة، وخاصة مع الرئيس روزفلت وخطته الجديدة للتحفيز الحكومي ومشاريع الأشغال العامة الكبرى.

كان ذلك في حد ذاته اعترافا ضمنيا بالحاجة إلى التخطيط. لقد فشل السوق. لقد كان تدخل الدولة ضروريا لانتشال الرأسمالية من مستنقعها. على الرغم من أن هذه السياسات الكينزية لم تنجح حتى في ذلك الوقت، حيث استمرت الأزمة -مع فترات صعود وهبوط- لعقد من الزمان، حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية.

لم تستطع الطبقة السائدة أن تتحمل التبعات الاجتماعية لما كان يقترحه النمساويون، بدعواتهم لما يسمى بـ“التدمير الخلاق”؛ أي جعل الطبقة العاملة تدفع ثمن الأزمة على الفور، من خلال التقشف والبطالة الجماهيرية والهجمات على الأجور وظروف العمل ومستويات المعيشة.

أما تطمينات هايك وشركاه بأن مثل هذا الألم الهائل والمعاناة سيكونان مؤقتين، وأن الأمور ستصير على ما يرام “على المدى البعيد”، فلم تقدم سوى القليل من الراحة أو الاطمئنان، إذ أنه كما قال كينز ذات مرة:

«هذا المدى البعيد هو دليل مضلل للقضايا الحالية. فعلى المدى البعيد سنكون جميعا في عداد الأموات. لقد وضع الاقتصاديون لأنفسهم مهمة سهلة للغاية وعديمة الجدوى إذ لم يتمكنوا في المواسم العاصفة إلا من إخبارنا أنه عندما ستمر العاصفة، سيصبح البحر هادئا مرة أخرى»[29].

لم تكن الطبقة السائدة مهتمة بتبرير السوق الحرة التي من الواضح أنها لا تعمل. بل كانت بدلا من ذلك تتطلع إلى إنقاذ الرأسمالية، باستخدام الدولة: لإنقاذ الرأسمالية من نفسها.

وهذا ما يبدو أن كينز والكينزية يقدمانه: “حل” يعتمد على إدارة وإصلاح الرأسمالية، دون الحاجة إلى شن الهجوم ضد الطبقة العاملة، والمخاطرة بالانفجارات الاجتماعية والاضطراب السياسي.

وبالمثل فقد اندفع حتى أكثر المدافعين عن السوق الحرة حماسا اليوم للوقوف على أعتاب الحكومات خلال الجائحة. وفي غضون ذلك لم يعترض سوى عدد قليل من الاقتصاديين البرجوازيين على تدخل الدولة غير المسبوق الذي شوهد خلال أزمة فيروس كورونا، مع ضخ 17 تريليون دولار من الدعم المالي المباشر والتحفيزات، وضخ 10 تريليون دولار أخرى في الاقتصاد من قبل البنوك المركزية، كل ذلك لدعم النظام ومنع الانهيار التام.

شهدنا الشيء نفسه أيضا في أعقاب انهيار عام 2008، مع تسول الطبقة الرأسمالية لعمليات الإنقاذ لصالح الاحتكارات المالية العملاقة التي اعتُبرت “أكبر من أن تسقط”. وبالطبع فعندما تعلق الأمر بسداد فاتورة ذلك، لم يظهر لهؤلاء الرؤساء والمصرفيين أي أثر. وبدلا من ذلك فإن العمال هم الذين دفعوا الفاتورة خلال عقد أو أكثر من الاقتطاعات.

ظلت الكينزية بفضل طفرة ما بعد الحرب، رائجة بين السياسيين والأكاديميين على حد سواء لعدة عقود، حتى انهارت سياسات التحفيز الحكومي وتنظيم الدولة، وإدارة الطلب، وتمويل العجز، في السبعينيات، مما مهد الطريق من أجل الانعطاف نحو ما يسمى بـ “النيوليبرالية”.

لكن يجب أن نكون واضحين: على الرغم من الارتباك الذي أحدثه الإصلاحيون، الذين يعبدون كينز “الجيد” ويلعنون هايك “السيء”، فإن الكينزية والهايكية وجهان لعملة الرأسمالية الليبرالية نفسها.

في الواقع رغم أن كينز وهايك اشتهرا بالتنافس الفكري خلال ثلاثينيات القرن الماضي، فقد كانت لديهما قواسم مشتركة أكثر بكثير مما كانا يودان الاعتراف به.

كان كلاهما يقفان بحزم وبشكل قاطع ضد الثورة والطبقة العاملة، وإلى جانب الرأسمالية والطبقة السائدة. وقد رأى كلاهما في نفسه على أنه الوريث الحقيقي للاقتصاديين الكلاسيكيين وعصر التنوير. وكلاهما جاء من أوساط برجوازية، وكانا يتوقان إلى عودة العصر الفيكتوري و“العصر الذهبي للرأسمالية”[30].

وكان كلاهما متشبعين بالنظرة الطوباوية والمثالية التي تميز الليبرالية البرجوازية التي مثلاها. كانت لدى كليهما نظرة ميكانيكية وتجريدية للاقتصاد، بدلا من المنظور الديالكتيكي والمادي. والأهم من كل ذلك هو أن كلا الرجلين – وأفكارهما- قد قبلا ودافعا بشكل أساسي عن النظام الرأسمالي.

كانت خلافاتهما تدور حول شكل هذا النظام الاقتصادي، وليس محتواه الطبقي. حول درجات تدخل الدولة الرأسمالية مقابل السوق الرأسمالية الحرة.

كان كينز يؤيد السوق بشكل واضح، لكنه كان قلقا ببساطة من المدى الذي وصلته مبادئ عدم التدخل والرأسمالية الريعية. وفي الوقت نفسه فإن هايك، في حين كان يعارض التخطيط بدلا من المنافسة، لم يكن ضد تدخل الدولة وبرامج الرعاية الحكومية من حيث المبدأ.

والأهم من ذلك فإنه لا الكينزية ولا “النيوليبرالية” يقدمان للطبقة العاملة أي طريق للمضي قدما. إن المحاولات الكينزية لإدارة الرأسمالية لا تنجح. وفي الوقت نفسه فإن ترك حياتنا ومستقبلنا في أيدي -“اليد الخفية”- للسوق، هو طريق نحو البؤس والكوارث.

الحرية والضرورة
لقد تخلى معظم التحرريين اليوم، إلى حد كبير، عن أي محاولة حتى لتبرير الرأسمالية اقتصاديا. وبدلا من ذلك فقد تم اختزال التحررية في الغالب إلى سلسلة من التحيزات الفردية والأخلاقية حول “التحرر” و“الحرية” ، كما حددها هايك في “الطريق إلى القنانة”.

وفي هذه الأثناء، فإن أفكار وحجج هايك، بالإضافة إلى كونها تشكل عنصرا أساسيا في معظم الدورات الدراسية والكتب الدراسية في الاقتصاد الجامعي، يتم الترويج لها بشكل أساسي من قبل العديد من مؤسسات الفكر والرأي الممولة جيدا ومعاهد السوق الحرة، التي، ويا للمفارقة، تمولها الشركات الاحتكارية الكبيرة جدا (مثل روكفلرز) التي ادعى أنه يمقتها.

كتب جانيك واسرمان:

«أظهر معهد أبحاث دورة الأعمال، الذي أسسه ميزس عام 1927 ويديره هايك، التقارب الموجود بين الأفكار الليبرالية وبين رأس المال.
تلقى أعضاء المدرسة النمساوية رعاية متبرعين أثرياء من النمسا والولايات المتحدة. وفي المقابل قدموا لهم خبراتهم الاقتصادية…
وإلقاء نظرة على مجلس الأمناء تكشف عن العلاقات المهمة التي طورها ميزس وهايك مع المؤسسة المحافظة. وإلى جانب ميزس وهايك… فإنه من بين الأعضاء الخمسة والأربعين الآخرين، كان هناك ممثلون عن الحكومة الفيدرالية المحافظة، ومجموعات الضغط التابعة للصناعيين وأصحاب الأبناك والمديرين التنفيذيين والأساتذة القوميين».

وفي مقابل هذا العمل الخيري للشركات الكبرى، قدم النمساويون للسياسيين اليمينيين (مثل تاتشر وريغان) ورقة تين نظرية مناسبة لستر أنفسهم، حين قاموا بتحطيم النقابات العمالية وهاجموا حقوق العمال وأجورهم، في مسعاهم لزيادة أرباح الرأسماليين.

الخلاصة من كل ما قيل أعلاه هو أنه من الواضح أن أفكار و“نظريات” المدرسة النمساوية ليس لها أي أساس علمي. لكن الشيء نفسه ينطبق على النداءات التحررية من أجل “الحرية”.

في الواقع، لا يمكن أن تكون هناك حرية حقيقية لأي فرد داخل نظام خارج عن سيطرتنا؛ في نظام، نشأ بشكل غير واع عن ضرورة تاريخية واقتصادية، ويفرض نفسه علينا الآن؛ في نظام لا يعمل فيه الاقتصاد وقوانينه من أجلنا، بل ضدنا؛ في نظام لا يتم اتخاذ جميع القرارات المهمة فيه بشكل ديمقراطي، من قبل الناس العاديين، بل بدكتاتورية رأس المال: دكتاتورية نخبة استبدادية غير خاضعة للمساءلة من أرباب العمل والمصرفيين وأصحاب الملايير.

كانت الحرية، بالنسبة إلى هايك، تعني غياب “الإكراه” السياسي واستعمال “القوة” على الأفراد، ورفض الاعتراف بالإكراه الاقتصادي الحقيقي والقوة المفروضة على الطبقة العاملة بموجب قوانين الرأسمالية. وبعبارة أخرى كانت الحرية، بالنسبة له، هي حرية البرجوازية في جني الأموال دون أي قيود.

لكن وكما لاحظ إنجلز في جداله اللامع مع دوهرنغ، بالاعتماد على الفلسفة الديالكتيكية الهيغيلية، فإنه لا يمكننا الحصول على الحرية الحقيقية بتخيل أنفسنا أحرارا من القوانين التي تنظم المجتمع والاقتصاد والطبيعة -القوانين التي تعمل بشكل أعمى وراء ظهور الأفراد، سواء الرأسماليين أو العمال على حد سواء.

بل يأتي التحرر الحقيقي على وجه التحديد من فهم تلك القوانين، والقدرة على توجيهها لصالحنا نحن البشر. أو باختصار “وعي الضرورة”.

«لا تتأتى الحرية من أي استقلال متخيل عن القوانين الطبيعية، بل من معرفة هذه القوانين، وفي الإمكانية التي توفرها هذه المعرفة لجعلها تعمل بشكل منهجي لتحقيق غايات محددة.
يصح هذا على كل من قوانين الطبيعة الخارجية وتلك التي تحكم الوجود الجسدي والعقلي للبشر أنفسهم. نوعان من القوانين التي لا يمكننا فصلها عن بعضها البعض إلا في الفكر فقط لكن ليس في الواقع…
تتمثل الحرية إذن في سيطرتنا على أنفسنا وعلى الطبيعة الخارجية، وهي سيطرة تقوم على معرفة الضرورة الطبيعية؛ لذلك فهي بالضرورة نتاج تطور تاريخي»[31].


يمكن للمرء، على سبيل المثال، أن يتخيل نفسه على أنه طائر، له الحرية في الطيران عاليا، لكن هذا لا يعني أنه سيصير قادرا على النجاة من السقوط والموت إذا قفز من نافذة الطابق الثالث.

لكن من خلال فهمنا لقوانين الجاذبية والحركة والميكانيكا النيوتونية والديناميكا الهوائية، يصير في إمكاننا إنشاء آلات -طائرات- تمكننا من الطيران.

وبالمثل ففي حين تبدو حركة جزيئات الغاز في الأسطوانة عشوائية وغير متوقعة، فإنه بفضل تاريخ طويل من البحث العلمي، صرنا نعلم الآن أن هناك قوانين للديناميكا الحرارية تحكم ديناميات هذا النظام ككل، مع علاقات محددة بين درجة الحرارة والضغط والحجم وما إلى ذلك.

وعلاوة على ذلك فإن من خلال فهم هذه القوانين، يصير في إمكاننا تحويل الحرارة الموجودة في كتلة الغاز إلى بخار، واستخدام هذا لتدوير التوربينات التي يمكنها توليد الكهرباء؛ أي خلق القوة التي تقف وراء الثورة الصناعية والتي غيرت المجتمع والطبيعة.

ينطبق الشيء نفسه على علم الاقتصاد. لكن التحرريين لا يهتمون بالفهم العلمي للنظام الرأسمالي. هدفهم ليس شرح طريقة عمل الاقتصاد، بل إلقاء الغبار في عيون العمال، وتقديم تبرير نظري لعدم المساواة والظلم في ظل الرأسمالية.

وعلى النقيض من ذلك فإن الماركسية تهدف إلى فهم العالم بشكل حقيقي من أجل تغييره. تهدف بوعي إلى فهم قوانين الرأسمالية -قوانين الضرورة التي هي، كما يقول هيغل، “عمياء فقط بقدر ما لا يتم فهمها”- حتى نتمكن من إسقاطها من خلال الثورة، واستبدالها بمجموعة جديدة من القوانين القائمة على التخطيط الاشتراكي والديمقراطية العمالية.

هذه هي المهمة التي تواجهنا: تنظيم العمال والشباب، بالاستناد على الأسس الصلبة للنظرية الماركسية؛ وتسليح أنفسنا بسلاح الأفكار الماركسية في الكفاح من أجل الثورة.

فقط على هذا الأساس يمكن للبشرية أن تحرر نفسها من قيود الفوضى والأزمات الرأسمالية.

نترك الكلمة الأخيرة لإنجلز:

«مع استيلاء المجتمع على وسائل الإنتاج، يتم التخلص من إنتاج السلع، وفي نفس الوق، إلغاء سيطرة المنتج على المنتج. يتم استبدال الفوضى في الإنتاج الاجتماعي بتنظيم منهجي محدد. الصراع من أجل الوجود الفردي يختفي.
ثم للمرة الأولى ، بشكل ما ، يتم تمييز الإنسان أخيرًا عن بقية مملكة الحيوان ، ويخرج من مجرد ظروف حيوانية إلى ظروف بشرية حقًا.
إن المجال الكامل لظروف الحياة التي تحيط بالإنسان ، والتي حكمت الإنسان حتى الآن ، أصبحت الآن تحت سيطرة وسيطرة الإنسان الذي أصبح للمرة الأولى سيد الطبيعة الحقيقي الواعي لأنه أصبح الآن سيدًا له. التنظيم الاجتماعي الخاص.
قوانين عمله الاجتماعي الخاص ، التي كانت تقف حتى الآن وجهاً لوجه مع الإنسان كقوانين طبيعية غريبة عنه وتهيمن عليه، سوف تستخدم بعد ذلك بفهم كامل ، وسيتقنها. التنظيم الاجتماعي للإنسان ، الذي كان يواجهه حتى الآن كضرورة تفرضه الطبيعة والتاريخ ، يصبح الآن نتيجة لعمله الحر. القوى الموضوعية الدخيلة التي حكمت التاريخ حتى الآن تمر تحت سيطرة الإنسان نفسه.
فقط من ذلك الوقت ، سيصنع الإنسان نفسه ، بوعي كامل ، تاريخه الخاص – فقط من ذلك الوقت سوف يكون للأسباب الاجتماعية التي حددها حركته ، النتائج التي يقصدها بشكل رئيسي وفي تدبير متزايد باستمرار.
إنها قفزة البشرية من مملكة الضرورة إلى مملكة الحرية.»[32]

مراجع وهوامش:
[1]: Marx to Carl Klings, October 4, 1864, Marx and Engels Collected Works vol. 42, pg 3.

[2]: Janek Wasserman, The Marginal Revolutionaries, (Yale: Yale University Press, 2019), pg 41.

[3]: Karl Marx, Capital, Volume One, (London: Penguin Classics, 1990), pg 168.

[4]: Janek Wasserman, The Marginal Revolutionaries, (Yale: Yale University Press, 2019), pg 28.

[5]: Eugen-Maria Schulak & Herbert Unterköfler, The Austrian School of Economics: A History of Its Ideas, Ambassadors, and Institutions, (Vienna: Ludwig von Mises Institute, 2011), pg 16.

[6]: Janek Wasserman, The Marginal Revolutionaries, (Yale: Yale University Press, 2019), pg 41.

[7]: Ibid., pg 143.

[8]: Karl Marx, A Contribution to the Critique of Political Economy, (Moscow: Progress Publishers,

[9]: Nikolai Bukharin, Economic Theory of the Leisure Class, (Monthly Review Press, 1972), pg 41.

[10]: Janek Wasserman, The Marginal Revolutionaries, (Yale: Yale University Press, 2019), pg 103.

[11]: Leon Trotsky, The Revolution Betrayed, (London: Wellred Books, 2015), pg 3.

[12]: Friedrich Hayek, ed., Collectivist Economic Planning, (London: Routledge, 1935).

[13]: Leon Trotsky, The Revolution Betrayed, (London: Wellred Books, 2015), pg 79.

[14]: Leon Trotsky, “The Soviet Economy in Danger”, The Militant, October 1932, Marxist Internet Archive.

[15]: Ibid

[16]: Leon Trotsky, The Revolution Betrayed, (London: Wellred Books, 2015), pg 15.

[17]: Leon Trotsky, The First Five Years of the Communist International, Vols 1 & 2, (London: Wellred Books, 2020), pg 611.

[18]: Friedrich Engels, Anti-Dühring, (London: Wellred Books, 2017), pg 333.

[19]: Leon Trotsky, “The Soviet Economy in Danger”, The Militant, October 1932, Marxist Internet Archive.

[20]: Ibid.

[21]: Leigh Phillips & Michal Rozworski, The People’s Republic of Walmart, (London: Verso, 2019), pg 30-31.

[22]: Marx, Capital, pg 477

[23]: Friedrich Engels, Anti-Dühring, (London: Wellred Books, 2017), pg 324, (emphasis in the original).

[24]: “Instant Economics: The real-time revolution”, The Economist, October 23, 2021.

[25]: Friedrich Hayek, The Road to Serfdom, (London: Routledge, 2001), pg 45-46.

[26]: Friedrich Engels, Anti-Dühring, (London: Wellred Books, 2017), pg 329.

[27]: Karl Marx & Friedrich Engels, “The Communist Manifesto”, in Classics of Marxism: Volume One, (London: Wellred Books, 2013), pg 8.

[28]: Leon Trotsky, The Revolution Betrayed, (London: Wellred Books, 2015), pg 11.

[29]: John Maynard Keynes, A Tract on Monetary Reform.

[30]: العصر الذهبي مصطلح يطلق على الفترة الممتدة من 1870 إلى 1900 حيث عرفت الرأسمالية، خاصة في الولايات المتحدة، ازدهارا كبيرا. المترجم.

[31]: Friedrich Engels, Anti-Dühring, (London: Wellred Books, 2017), pg 136-37.

[32] : Engels, Anti-Dühring, chapter 24