عن الانتفاضة الطلابية الفرنسية 1968


رضي السماك
2022 / 11 / 26 - 18:53     

قبل أربعة أعوام، وفيما العالم منشغل بأحداث جسام متسارعة، مرت في صمت ذكرى مرور نصف قرن على أكبر الأنتفاضات الطلابية في تاريخنا المعاصر، ألا هي الانتفاضة الطلابية الجامعية الفرنسية في شهر مايو/ ايار من عام 1968، والتي انطلقت من جامعة السوربون بقلب العاصمة باريس، ثم عمت سائر الجامعات الفرنسية، وجذبت النقابات والحركات العمالية، وشاركت فيها صفوة من المثقفين والأدباء والفنانين. إلا أنها ما زالت زاخرة بالعِبر والدروس، ليس على الصعيد الفرنسي فحسب، بل وعلى الصعيدين الغربي والعالمي، وبضمنه عالمنا العربي.كان العام 1968 حافلا بالتحولات الفكرية والمساجلات، عربياً جرت واحدة من أعظم المظاهرات الطلابية المصرية بعد هزيمة 1967، بعد هجوع طويل غطى كامل الحقبة الناصرية، حيث تفاجأ الرئيس الراحل جمال عبد الناصر باحتجاجها على الأحكام المخففة بحق ضباط الطيران المتسببين في الهزيمة ، بعدما كان أغلب هؤاء الطلبة في مقدمة من جددوا الثقة فيه مطالبين إياه بالبقاء في الحكم غداة الهزيمة،رغم إعلانه في خطاب التنحي عن مسؤوليته وحده عن الكارثة، ولم تكن احتجاجاتهم في 1968شتاء سوى تعبير عن حدوث أنعطافة نحو اليسار شهدته معظم الحركات القومية العربية في ذلك العام، ولتتنامي وتتجذر بعدئذ الحركة الطلابية المصرية بهذا الاتجاه بعد رحيل الرئيس والزعيم العربي عبد الناصر 1970 ، ولتندلع مرة اخرى الانتفاضة الطلابية الجامعية خلال عامي 1972 و1973 بشكل أقوى احتجاجاً على تباطؤ خلفه أنور السادات في شن معركة تحرير سيناء، التي لمّح عبد الناصر بخوضها في 1971، وكان واضحاً حينئذ مراهنته على الحلول الاستسلامية مراهنته على الحلول الاستسلامية من خلال سياسة التقارب مع أميركا، تمهيداً للصلح مع إسرائيل.
العام نفسه وفي العام نفسه 1968جرت أكبر الاحتجاجات الشبابية الأميركية ضد التجنيد الاجباري للحرب العدوانية الأميركية على الشعب الفيتنامي وما يرتكب بحقه من جرائم حرب، وفي أغسطس من العام نفسه جرت أقوى محاولة إصلاحية معتدلة من داخل أحد الأنظمة الاشتراكية(النظام التشيكوسلوفاكي بقيادة الرئيس الكسندر دوبتشيك )، ومع أنها كانت أقل بكثير من سقف إصلاحات البيروسترويكا التي قام ميخائيل بها جورباتشوف آخر رئيس سوفييتي،إلا أن دبابات بلاده سحقتها بقوة
مهما يكن من أمر، فإن الانتفاضة الطلابية الفرنسية التي فاجأت هي الاخرى الرئيس شارل ديجول، وأستقطبت العمال أيضاً بالانضمام إليها باحتجاجاتهم، إنما كانت ضد الرأسماليتين الفرنسية والأميركية، وبفعل تراكمات من المصاعب الاقتصادية وركود اقتصادي لا سابق له جراء تقلص المستعمرات الفرنسية في آسيا وأفريقيا، وخسارة الجزائر بانتصار ثورتها 1962 والتضييق على الحريات).
ورغم اخماد جذوة الانتفاضة، بالقمع والاحتواء والحيل بمنح الطلبة والعمال مكاسب جزئية، واجراء انتخابات برلمانية في يونيو 1968، وتمكن حزب شارل ديجول بالفوز بالأغلبية، فعمليا تمكنت الانتفاضة من اجباره على ترك السلطة بعدما فشل في تحقيق مقترحاته الاصلاحية على الأغلبية في اقتراع شعبي.
تقول استاذة علم الاجتماع في جامعة باريس السابعة، فنسان دي غولجاك، الطالبة الجامعية وقت الانتفاضة: واليوم ندرك أثر الفخ. فالأكثر تسييساً رجعوا للتروتسكية والماوية لقلب سلطة الرأسمالية،وآخرون كانوا أكثر طوباوية(…) ". أما المؤرخة فلورنس جوتييه، وهي استاذة زائرة في جامعة باريس السابعة، وكانت من نشطاء الانتفاضة أيضاً فتقول: لم يكن العالم في نظري متسامحاً، وكنت أريد أن أفهم لماذا وكيف يحدث ذلك هنا، وفهمت بعدئذ أن ذلك ليس لأسباب خارجية، وإنما له أسباب في تكويننا الشخصي. وتشرح كيف كان الطلبة يتألمون لبنايات المهاجرين الآيلة للسقوط،وأشباه البروليتاريا من النساء والمهاجرين. ولم يكن تنامي قوة الحزب الشيوعي الفرنسي في أوائل السبعينيات الذي يتمتع بالشرعية وانتهاج خطاً أكثر واقعية بعيداً عن انتقال كثرة من طلبة الانتفاضة إليه بعد تخرجهم، وازدياد نضوجهم السياسي، والحزب الشيوعي وهو واحد من ثلاث أحزاب شيوعية اوروبية قوية وقتئذ إلى-جانب الحزبين الشيوعيين الإيطالي والأسباني- عُرفت ب" الأوروشيوعية" لاتباعها سياسة مستقلة عن الحزب الشيوعي السوفييتي التي تقتدي بنهجه معظم الأحزاب الشيوعية العالمية. وتقول جاكلين بارو ميشيل استاذة بجامعة باريس السابعة:إن الحلم في غاية الجمال يدفع بالحماس للأخوة البشرية، شريطة عدم الأندفاع لحرق المراحل حتى يتحول الحلم إلى حقيقة. وهذا لعمري مالم تتعلم منه للأسف جُل الحركات الإسلامية في منطقتنا رغم مضي نحو أربعة عقود ونيف على صعودها!
لكن هل مازال الإحساس ينتاب جيل الشباب الفرنسي اليوم مقارنة بجيل عام 1968 ؟ فأين هو من واقع أسوأ بكثير يتعرض له المهاجرون اليوم؟ وأين هو من مواقف عنصرية ما برحت الرئاسة الفرنسية تتبناها تجاه الشعوب التي أستعمرتها ناهيك عن سياساتها الداخلية اليمينية التي تخدم كبار الرأسماليين وينعدم في ظلها الحد الأدنى من المساواة الاجتماعية ؟