الرياضة -أفيون الشعوب-؟ ملاحظات على هامش بطولة العالم لكرة القدم 2022 بقَطَر


الطاهر المعز
2022 / 11 / 25 - 11:05     

الروائح الكريهة لغاز قَطَر

تُعدّ مشيخة قطر ثاني أكبر مُصدّر للمحروقات بمجلس التعاون الخليجي، وتمتلك ثالث أكبر احتياطي عالمي للغاز، في بلد لا يسكنه سوى نحو 2,9 مليون نسمة، منهم 330 ألف قَطَرِي و 2,57 مليون عامل أجنبي من آسيا الجنوبية، وبضعة آلاف من كبار الموظفين الأمريكيين والأوروبيين، ويقدّر معدّل الدّخل السنوي للفرد القَطَرِي، سنة 2020 بنحو 85 ألف دولار، وتُشكّل صادرات النفط والغاز نحو 70% من إيرادات ميزانية مشيخة قَطَر ونحو 60% من الناتج المحلي الإجمالي ونحو 85% من إيرادات الصّادرات أنفقت مشيخة قطر نحو 220 مليار دولارا على البنية التحتية والدّعاية لبطولة العالم لكرة القدم 2022 وقُتِلَ حوالي سبعة آلاف عامل طيلة عشر سنوات من الأشغال...
لا تُسدّد الشركات التي يمتلكها قَطَرِيُّون أو من دُويلات مجلس التعاون الخليجي، أي ضريبة على الأرباح، ولا تتجاوز نسبة الضريبة على أرباح الشركات الأجنبية 10% مع إعفائها من أي رسوم أو مساهمة في تأمين العُمّال الأجانب الذي لا حق لهم في الحماية الإجتماعية أو التأمين الصحي أو التقاعد، واجتذبت هذه الظروف المواتية لتعظيم الأرباح، 850 شركة أميركية و700 شركة بريطانية و330 شركة ألمانية وشركات أخرى من مختلف أنحاء العالم، للإستثمار في قطاعات مختلفة، وخصوصًا في البنية التحتية
صَدّرت قَطر، سنة 2021 ، نحو 75% من الغاز والنفط إلى آسيا: الصين واليابان والهند وكوريا الجنوبية ... وتستورد قطر جميع موادها الخام، باستثناء المحروقات، و 90% من استهلاكها الغذائي من الولايات المتحدة (16%) والصين (15%) وبريطانيا (7,3%) وغيرها، ويقدر فائض الميزان التجاري لدُوَيْلَة قطر بنحو 60 مليار دولار سنة 2021.
ورد في تقرير نشرته وكالة "بلومبرغ" تحليل للإقتصاد القطري، بنهاية 2021، وأكّد التقرير استثمار الصندوق السيادي "جهاز قطر للاستثمار" (QIA) مبالغ كبيرة في عقارات المدن الغربية الكبرى، وكذلك افي لعديد من المصارف والشركات في بريطانيا وفرنسا وألمانيا، واستحوذ جهاز قطر للإستثمار، خلال الأزمة المالية لسنة 2008، على أسهم في مصرفَيْ "باركليز" و"كريدي سويس"، بالإضافة إلى حصص في شركات صناعة السيارات الألمانية "بورش" و "فولكس فاغن" ...
يُعتبر تنظيم بطولة العالم لكرة القدم، والتطبيع مع الكيان الصهيوني وتخريب البلدان العربية ( سوريا وليبيا...) واحتضان الإخوان المسلمين، وشراء المُثقفين والباحثين، واستقبال القواعد العسكرية الأمريكية الضّخمة (وكذلك الفرنسية) جزءًا من خطة استثمارية واسعة النطاق تهدف إلى ترسيخ مكانة قَطَر و ترسيخ مصداقيتها المالية الدولية.

التظاهرات الرياضية في ظل العَوْلَمة الرأسمالية
زاد حجم المُزايدات بحقوق الإنسان وحقوق العمال المهاجرين بالخليج، مع بطولة العالم لكرة القدم 2022، بدُوَيْلَة قَطَر، بينما يَصِف الإعلام السائد بالولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي المُهاجرين القادمين إلى أوروبا، بالغُزاة واللصوص والمجرمين وكل الأوصاف الشنيعة، ولا يعني ذلك تبرئة مشيخة الخليج التي تفوح منها رائحة الغاز النّتنة، من الفظائع والإجرام في حق الشعوب العربية واستعباد العُمال المهاجرين من جنوب آسيا، فضلاً عن عمالة الأُسرة الحاكمة للولايات المتحدة، إذْ تحتل إحدى القاعدتين العسكريتين الأمريكيتين (سيلا وعديد) نصف مساحة هذه الدّوَيْلَة التي يُقدّر عدد سكانها بنحو 2,9 مليون نسمة، يُشكّل المهاجرون غير العرب، نسبة 88,5% منهم، وفق تقديرات الرُّبع الثالث من سنة 2022. لم يتم تطوير الرياضة في هذه الدويْلة الصغيرة، ومع ذلك فازت بحق تنظيم كأس العالم لكرة القدم سنة 2022، وهي تظاهرة مكلفة (كما الألعاب الأولمبية) إذ تقدر تكلفتها بنحو 220 مليار دولار، استُخدمت لإنشاء البنية التحتية والمطارات والطرقات والنقل تحت الأرض والملاعب الجديدة والفنادق وغيرها، وتهدف الأُسرة الحاكمة بقطر استخدام الرياضة كوسيلة سياسية للتأثير على المستوى الدولي، ويشكل استحواذها على نادي باريس سان جيرمان ورعاية شركة الخطوط الجوية القطرية لنادي برشلونة وتنظيم العديد من المسابقات الدولية جزءًا من هذه الخطة.
يعتبر تنظيم كأس العالم فرصة لمناقشة أوضاع وظروف العمل أو المعيشة للعمال المهاجرين في قطر ودول الخليج الصغيرة الأخرى، رغم ما شاب بعض التّعليقات من عنصرية ونفاق، وتقدر صحيفة "الغارديان" البريطانية اليومية (شباط/فبراير 2021) عدد العُمّال الأجانب الذين لقوا حتفهم في مواقع البناء الخاصة بكأس العالم، بنحو 6500، فيما قدّرت مجلة "تايم" عددهم بأكثر من سبعة آلاف.
عندما قرر الإتحاد الدّولي لكرة القدم، سنة 2010، أن تستضيف دُوَيْلَة قَطَر بطولة كأس العالم لكرة القدم لدورة 2022، لم يكن لتلك الإمارة أي تُراث رياضي، ولم يتأهّل المنتخب القَطَرِي لكرة القدم ولو مرة واحدة إلى نهائيات كأس العالم، بل كان في المرتبة 113، وعناصره من حديثي التّجنيس، غير أن الدّولارات ذات الرّائحة الكريهة للغاز أغْمَضَت أعيُن عناصر الهيئات القيادية للإتحاد الدّولي لكرة القدم، ومن يدعمهم سياسيا من حُكّام الدّول الرأسمالية المتقدمة (الإمبريالية)، فأهملوا سَلْبِيّات ملفّ "قطر"، مثل قلة عدد السكان وغياب الملاعب والبنية التحتية الضرورية لاستقبال الوفود الرياضية وتدريبات الرياضيين، واستقبال الجمهور القادم من مختلف بلدان العالم (ومن مُستَوطني فلسطين المحتلة)، وافتقاد الجمهور المحلي وانعدام المناخ الذي يُشجّع كرة القدم (وأي رياضة أخرى) وعدم الخبرة التنظيمية والحر الشديد الممزوج برطوبة الهواء، ناهيك عن اعتماد مَشْيَخَة الغاز النّتِن على العمال المهاجرين من جنوب آسيا لبناء الملاعب والطرقات والمُنشآت في ظروف شبيهة بالعُبُودية، في غياب أي شكل من أشكال الحريات السياسية والفردية، وغياب النقابات التي يمكنها الدّفاع عن حقوق العاملين... يبدو أن قَدْر وضمائر الهيئات التنفيذية للإتحاد الدّولي لكرة القدم ومن يحميهم من قادة الدّول الإمبريالية لا يتجاوز 220 مليار دولار أنفقتها مَشْيَخَة قطر لشراء الضّمائر ولهضم حقوق العاملين لدى الشركات العابرة للقارات التي تُشغّلهم في مشاريع ضخمة للبنية التحتية...

مكانة كرة القدم في الإعلام والإقتصاد والسياسة
تُشكل كرة القدم مرآة للمجتمع، حيث ازداد عدم المساواة بشكل كبير خلال العقود الثلاثة الماضية، بعد تعميم وانتشار الاحتراف الرياضي والتغطية الإعلامية، في سياق نيوليبرالي يجعل من الرياضيين الشباب - وخاصة من البلدان الفقيرة – سلعة تُباع وتُشترى، بحجة "تحرير سوق العمل "، في حين أن تشدّدت سياسات الهجرة والدراسة والعمل للمهاجرين إلى الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد الأوروبي، أصبحت الحدود مغلقة بإحكام بالنسبة للعمال اليدويين أو الفلاحين الذين فقدوا أراضيهم في البلدان الفقيرة، وفقًا لعالم الاجتماع ريتشارد جوليانوتي.
في مجال الرياضة (كرة القدم على وجه الخصوص) كما هو الحال في قطاعات الاقتصاد الأخرى، هناك تفاوت متزايد بين الأندية، ليُهَيْن عدد قليل من الأندية الأكثر ثراءً على البطولات الوطنية والإقليمية والقَارِّيّة والعالمية، واستهدفت الشركات العابرة للقارات والأثرياء هذه النّوادي، واشترت صناديق الاستثمار العامة والخاصة، ومعظمها أمريكية ولا علاقة لها بكرة القدم ولا بالرياضة، أنديةً أوروبيةً لتجعل منها شركات مربحة ماليًا، وبذلك طورت الرأسمالية عولمة الاستهلاك الرياضي والأندية التي تدر عائدات تجارية ضخمة بالإضافة إلى حقوق البث الدولية.
يخضع اقتصاد كرة القدم لقواعد الرأسمالية وعدم المساواة في توزيع الثروة، حيث يتشكل دخل النوادي من أربعة مصادر رئيسية: حقوق البث وحجز التذاكر والرعاية والمنتجات المشتقة (مثل بيع القمصان)، بالإضافة إلى الدخل من انتقالات وبَيْع اللاعبين، ومنذ سبعينيات القرن العشرين، تراجعت حصة التذاكر التي كانت مَصْدَرًا ماليا رئيسيا قبل خمسين عامًا، بشكل تدريجي لصالح حقوق البث التلفزيوني والرعاية، في الأندية الأوروبية الكبرى، مما أدى إلى زيادة عدم المساواة بين الأندية، إذ زادت حصة إيرادات الأندية الكبيرة، مما أدى، من الناحية الرياضية، إلى زيادة احتكارها الألقاب والكؤوس والميداليات، كما إن التفاوتات في رواتب اللاعبين (وعائدات الإعلانات) صارخة، كما هو الحال في قطاعات الاقتصاد الأخرى، حيث يكسب جزء صغير من اللاعبين الملايين بينما تحصل الأغلبية على دخل متواضع خلال حياة مهنية قصيرة، بمتوسط أربع سنوات تقريبًا في الدرجة الأولى.
أثار الدور المتنامي للبث التلفزيوني وحقوق التليفزيون في ميزانيات الأندية رد فعل اللاعب الأرجنتيني دييغو مارادونا (30 تشرين الأول/أكتوبر 1960- 25 تشرين الثاني/نوفمبر 2020) الذي أشار إلى أهمية أجواء الملعب والجمهور بقوله: "اللعب خلف الأبواب المغلقة، بدون جمهور، يشبه اللعب في مقبرة ".

كرة القدم أفيون الشعوب؟
في 17 تشرين الأول/أكتوبر 2022 ، ذكرى القمع الدموي للمظاهرة التي دعت لها جبهة التحرير الوطني الجزائرية في باريس (17 تشرين الأول/أكتوبر 1961)، أُعلن فوز كريم مصطفى بنزيمة (35 عاما)، ابن الجيل الثالث من المهاجرين الجزائريين في فرنسا (منطقة ليون) بجائزة الكرة الذهبية للعام 2022، وهي جائزة تُتَوِّجُ أفضل لاعب كرة قدم في أوروبا، من قِبَلِ لجنة تحكيم دولية، وأعلن الفائز إنها "الكرة الذهبية الشعبية".
لقد شكّل فوز كريم بنزيمة ثأرًا هادئًا، في مجال الرياضة، ضد كل من حاول (في فرنسا) عرقلة مسيرته الرياضية، فهو لاعب مُحترف منذ بلوغه سن السابعة عشر، وأصبح هدفًا للعنصرية الهيكلية والمؤسسية في فرنسا التي تستهدف أبناء المهاجرين، عنصرية واضحة وصريحة، صادرة عن الأوساط السياسية من اليمين المتطرف إلى رئيس الوزراء السابق مانويل فالس، وعن الأوساط الرياضية، ووسائل الإعلام التي أثرت (بطريقة سلبية) على الرأي العام، وهذا ما يفسر سبب الاحتفال بهذا الحدث بشكل خاص داخل فريق ريال مدريد، حيث يلعب بنزيمة منذ 2009، وبين أبناء وأحفاد المهاجرين العرب والأفارقة في فرنسا الذين تبنّوا وصف الجائزة ب"الكرة الذهبية الشعبية"، ما يضيف لها مغزى سياسي، فضلاً عن الجانب الرياضي.
على الصعيد الرياضي ، توج اللاعب كريم بنزيمة مع ناديه (ريال مدريد) بدوري أبطال أوروبا أربع مرات، منها ثلاث مرات متتالية، وهو حدث فريد في تاريخ المسابقة، وحصل على جائزة أحسن هَدّاف في مسابقتين رئيسيتين، وهو ثاني أكبر هداف في تاريخ كرة القدم، بعد رونالدو، لكنه مَنْبُوذ في منتخب فرنسا من قبل وسائل الإعلام والإتحاد الفرنسي لكرة القدم، ومن ثم من قبل قسم هام من الجمهور، حيث تعرض لانتقادات بسبب عدم أدائه النشيد الوطني الفرنسي (لا مارسييز) ولذلك فهو مُتّهم بأنه "غير وطني"، أي غير شوفيني وغير متحمس للراية (العلم) والنشيد الفرنسيَّيْن، خاصة بعد إعلانه أن قلبه جزائري، رغم ولادته ونشوئه في فرنسا، وهو ابن مهاجرين من الجيل الثالث، لكنه ابن الطبقة العاملة، فأبواه وجدّه عُمّال مهاجرون في أسفل السلم الاجتماعي، ما يُؤكّد أن المجتمع الفرنسي ليس متناغمًا كما يَدّعي السياسيون، ولكنه مجتمع طبقي، مجتمع تهيمن عليه البرجوازية مالكة وسائل الإنتاج والمصارف ووسائل الإعلام المهيمنة والتي تُمَجِّدُ الاستعمار والإمبريالية، والتي تنشر العنصرية ذات الصّبغة الطبقية ضد العمال المهاجرين وذريتهم من اللاعبين النابغين مثل بنزيمة ونصري وبن عرفة الذين عانوا من العنصرية في ملاعب كرة القدم وخارجها، بالإضافة إلى لاعبين آخرين من أصدقاء العرب أو من المناهضين للعنصرية مثل ريبيري أو أنيلكا، وهم يتعرضون باستمرار لحملات تشويه لا علاقة لها بصفتهم رياضيين بل يكمن خطأُهم الوحيد في كونهم أبناء مهاجرين أو أصدقاء مهاجرين. ولهذا السبب أعلن بنزيمة، بعد تقديم الكأس، أنها "الكرة الذهبية للشعب".
اختزل الناس مقولةً شهيرة لكارل ماركس في جملة واحدة "الدّين أفْيُون الشُّعُوب"، ولكنه "إيجازٌ مُخِلٌّ" حيث كتب كارل ماركس مقولته الشهيرة في أطروحته "مساهمة في نقد فلسفة الحق" لدى أستاذه هيغل، ما مفادُهُ: "الشقاء الديني هو من جهة يمثل التعبير عن الشقاء الواقعي، وهو من جهة ثانية احتجاجٌ على هذا الشقاء. إن الدين هو زفرة الإنسان المظلوم الذي هدّه الشقاء، هو قلبُ عالمٍ بلا قَلْب، هو مثل الروح في عالم بلا روح... إنه أفيون الشعب".
تنطبق هذه المقولة في عالم اليوم على كرة القدم، "أفْيُون الشّعب"، إنه الشعب الكادح والمُناضل من أجل حُقُوقِهِ والمُقاوم للإستغلال والقَهْر والظُّلْم...

من أجل حركة رياضية تقدّمية
لاحظْتُ اهتمام العديد من الأصدقاء والرفاق بالرّياضة، وأجْهَلُ نسبة مُمارِسِي الرياضة من بيْن هؤلاء، لكني لاحظْتُ اهتمامًا كبيرًا ببعض نوادي كرة القدم الأوروبية، إلى درجة استخدام البعض ضمير المُتكلّم الجَمْع عند التعليق على حدث رياضي، من قبيل "فُزْنا" أو خَسِرْنا" أو "ارتكبنا أخطاء تكتيكية" وما إلى ذلك، وسبق أن كتبْتُ تعليقًا قصيرًا بهذا الشأن على صفحة فيسبوك لأحَد الأصدقاء، قبل بضعة أشْهُرٍ، وحَفّزَتْني بعض التعليقات والملاحظات على التّفكير بشكل جِدِّي في هذه الظّاهرة، وكيفية تحويل هذا الإهتمام المُفْرِط بالرياضة إلى جزء من برنامج سياسي مُسْتَقْبَلِي.
تثير التّظاهرات الرياضية اهتمام الملايين من الأشخاص الذين يقدمون تضحيات مالية هامّة، لكنهم غالبًا ما لا يتجاوزون دور حب الرياضة "عن بُعْد"، ما يجعل منهم مناصرين ومُؤَيِّدِين سلبيين، أي لا يُمارسون الرياضة. أما الملاعب فهي من أعظم أماكن التجمع الدّوْرِي المنتظم لملايين الأشخاص، ولهذا السبب، تهتم دوائر القرار السياسي والإقتصادي بالرياضة وبجمهورها، من خلال الإعلام والإشهار والرعاية والاستثمار، وتظُمّ جماهير الملاعب الرياضية (خاصة ملاعب كرة القدم) فاشيين وعنصريين، لا يُخْفُون مُيُولاتهم السياسية، بل يحملون اللافتات ويهتفون بالشتائم والشعارات الرجعية والعُنصرية، كما تَظُمُّ مدارج الملاعب تقدميين يكافحون ضد العنصرية والتمييز، وضد تحويل الرياضة والرياضيين إلى سلعة، منذ أصبحت النوادي الرياضية ملكًا للأثرياء وشركاتهم التي تفرض خياراتها باسم "الرّعاية"، رعاية المليارديرات والشركات أو شبكات التلفزيون، الأمر الذي يؤدي إلى "تَسْلِيع" النوادي واللاعبين والمشجعين.

كيف يمكن تطبيق رؤية تقدمية على الرياضة في ظل الوضع الحالي؟
لن تختفي الرعاية والمكافآت والامتيازات المالية والاجتماعية في ظل النظام الرّأسمالي، ولذلك يمكننا أن نطرح خطّة لا تبْدُو مِثالية بل منطقية و"معقولة"، تتضمّن المُطالبة بحد أقصى للرواتب وفرض الشفافية على الدّخل الإجمالي (الرواتب والحوافز و"الهدايا"...) وإقرار ضرائب متصاعدة على دخل أغنى الرياضيين، وهذا يُؤَدّي إلى الحد من قوة وهيمنة الأعيان الماسكين بزمام الاتحادات الرياضية والرعاة وأصحاب الأندية الوطنية والدولية، ويكون تقديم هذه الخطّة بالتّوازي مع العمل على إنشاء اتحادات رياضية موازية (مثل اتحاد الرياضيين العاملين والهواة) بهدف تقوية وزن الآلاف من الرياضيين الذين يعيشون في ظروف هشّة، مثل الرياضيين الأفارقة المهاجرين في أوروبا الذين يعيشون نوعًا من القنانة. يجب أن تمثل اتحادات اللاعبين مصالح الآلاف من الرياضيين في الأندية الصغيرة، ولا تقتصر على مصالح النجوم ذوي الرواتب الضخمة، ويمكن تقاسم الأموال المكتسبة من خلال بيع حقوق البث بشكل أكثر إنصافًا، مع العمل على الحدّ من قوة شبكات البث التلفزيوني، وخفض أسعار تذاكر الدّخول إلى الملاعب، لتصبح في متناول الطبقة العاملة، كما يمكن تنظيم المسابقات بطريقة لا تحابي الأندية الأكثر ثراءً، وإعادة تصميم نظام نقل اللاعبين من ناد إلى آخر لحماية الفئات الأكثر ضعفاً، مثل الشباب والمهاجرين من البلدان الفقيرة.
تراعي هذه الخطّة التّدرّج وصعوبة نَشْر الأفكار الجديدة البديلة، وصعوبة التغيير في ظل منظومة فاسدة في كل المجالات، بما فيها الرياضة، حيث يرفض مالكو النّوادي من الأثرياء (ومن ورائهم النظام السياسي القائم) إضفاء الطابع التّقدّمي والديمقراطي والشّعبي على اتحادات كرة القدم التي تُسَوِّغُ هيمنة رأس المال على الرياضة من خلال الرعاية وحقوق البث التلفزيوني والإشهار والتّسْوِيق...
يمكن أن تكون هذه الخطة التقدّمية بمثابة أداة دعاية بين عشرات الملايين من الرياضيين وأنصارهم وأحبائهم، فلا تقتصر هذه الدعاية على النقد، بل تهتم ببناء بديل تقدمي يُمكن تطويره بالنقاش بين كل المهتمين بالرياضة، لأني لم أشأ الإطالة وكتبت هذا النص القصير لمجرد إثارة النقاش، فلم أتطرق إلى عنف الشرطة ضد المُشجّعين والمُتفرّجين، ولا إلى فساد مسؤولي الإتحادات والنوادي وجهاز التّحكيم، كما لم يتطرق هذا النص القصير إلى معضلات إنشاء ومسائل تنسيق الهياكل التقدمية للرياضيين أو المؤيدين، على المستويين الوطني والدولي، إلخ.
هناك صعوبات تتطلب إجابات وحُلُول، منها: كيف يجب أن تندمج هذه الأنشطة - التي تخص الرياضة - في حركة اجتماعية تقدّمية واسعة، وكيف يمكن رفع مستوى النقاش العام والتواصل مع الحركات الاجتماعية الأخرى من أجل المساواة والعدالة وكيفية تحويل الأفكار إلى أحداث ملموسة، وكيفية تنظيم البطولات الرياضية الشعبية وما إلى ذلك.
يبين لنا التاريخ أن إنشاء حركة رياضية تقدمية منظمة، ضد الثقافة الرأسمالية السّائدة أمر ممكن، ويجب التّذكير أن الحركة الرياضية العمالية في أوائل القرن العشرين جمعت الملايين من الرياضيين العماليين ونظمت أحداثًا جماهيرية (شارك ما يقرب من ثمانين ألف شخص في أولمبياد العمال سنة 1931 في فيينا، عاصمة النّمسا) ، وتم تنظيم بطولات كرة القدم ( في ألمانيا على سبيل المثال) تمكنت من منافسة تلك التي تنظمها المؤسسات الرسمية، ويمكن الإنطلاق من تنشيط اتحادات الرياضة للعاملين...