التَّخلُّف الاجْتماعيّ والاقْتِصَاديّ للبَاحث المغربيّ مُحمَّد قَريبو


محمد عادل زكى
2022 / 11 / 22 - 09:22     

التخلف الاجتماعي والاقتصادي وإشكالية تسرب القيمة
باستخدام الأدوات الفكرية لعلم الاقتصاد السياسي
------------------
(1) مدخل مفاهيمي
الاقتصاد السياسي للتخلف: هو ذلك العلم الاجتماعي المنشغل بدراسة الظواهر المتعلقة بالإنتاج والتوزيع في المجتمع ابتداءً من النظرية الكمية والنظرية الموضوعية في القيمة.
التخلف الاقتصادي: ظاهرة اجتماعية باعتبارها عملية اجتماعية ديناميكية في حالة حركة مستمرة، وهي عملية تتشكل من ارتفاع معدَّل انتاج القيمة الزَّائدة؛ نظرًا إلى كثافة استخدام عنصر قوة العمل، في الأجزاء المتخلفة من النظام الرأسماليّ العالمي، مع ضعف آليات انتاجها من جهة، وضعف استخدام التقنية من جهةٍ ثانية، وعدم استخدام الفنون الإنتاجيَّة التي يكشف عنها العلم، إلا في مرحلة تالية لاستهلاك تلك الفنون في الأجزاء المتقدمة. ومن خلال هذا التناقض بين ارتفاع معدَّل انتاج القيمة الزائدة وهشاشة آليات إنتاجها؛ تتبلور ظاهرة تسرُّب القيمة من الأجزاء المتخلفة إلى الأجزاء المتقدمة؛ من أجل شراء السلع والخدمات التي يتوقف عليها الإنتاج الاجتماعيّ في الأجزاء الأولى؛ ومن تم تفقد تلك الأجزاء السيطرة على الشروط الموضوعيَّة لتجديد إنتاجها على الصعيد الاجتماعيّ؛ إذ تصبح مُعتمدة كُليًا تقريبًا على ما يَحدث داخل معاقل صنع القرار السياسيّ والاقتصاديّ في الأجزاء المتقدمة من النظام الرأسماليّ العالميّ المعاصر، وهو ما يستصحب المزيد من التبعية!
وبناء عليه، يصبح الاقتصاد السياسي للتخلُّف الاجتماعي والاقتصادي هو ذلك الفرع المنشغل بالبحث في القوانين الموضوعية الحاكمة لظاهرة تسرُّب القيمة الزائدة على الصعيد العالمي.
(2) إشكالية البحث
الفرضية المنهجية التي ننطلق منها هي أن مجتمعًا ما، يبدأ العملية الإنتاجية على صعيد الكل الاقتصادي بكمية معينة من الرأسمال المتراكم عبر حركة التاريخ الملحميَّة، ويوزعها على القطاعات الأساسيَّة التي تشكل أساس الهيكل الاقتصادي (الزراعة، والصناعة، والخدمات)، وكل قطاع من قطاعات الهيكل ينتج قيمة زائدة، والسُّؤال هنا هو: ما هو خط سير تلك القيمة الزائدة التي تنتج داخل الأجزاء المتخلّفة؟ هل يتم ضخها في عروق الاقتصاد الوطني المنتج لها في دورة رأسمالية جديدة من أجل تحقيق تنمية مستقلة معتمد على الذات؟ أم أنها تتسرب إلى الأجزاء المتقدمة من النظام الرأسماليّ العالميّ كما نفترض ذلك في هذا البحث؟
(3) تحليل الإشكالية
تذهب أغلب النظريات في دراستها للتخلُّف الاجتماعي والاقتصادي إلى الاعتداد بالمؤشرات الكمية الآنية كأرقام خط الفقر، والإحصاءات المتعلقة بالمرضى والجوع، ونسب التضخُّم، وبيانات الإفلاس والكساد. وكل هذه المؤشرات هي مظاهر التخلُّف، وليس التخلُّف نفسه. وغالبًا ما نجد هذه المؤشرات إيجابية في الأجزاء المتقدمة وسلبية جدًّا في الأجزاء المتخلّفة. ويستمر هذا التناقض التناحري بين هذين الجزأين دون أي التفاتة من الباحثين في الأجزاء المتخلّفة لإشكالية تجديد إنتاج التخلُّف ذاته! ودون إجابة عن السؤال المركزي: إذ كان للاستعمار العسكري الدور الفاعل في تشويه الهياكل الاقتصادية للدول المستعمرة، فها هو الاستعمار العسكري قد انقشع، فلماذا لم تزل تلك الدول تجدد إنتاج تخلُّفها؟
نحن نرى أنه أثناء الاستعمار ظهرت مجموعة من القوى الوطنية كأقطاب نقيضة ومتصارعة معه ونجحت في الوصول إلى طرده. خرج الاستعمار ونحن هنا، بطبيعة الحال، غير منشغلين بالطريقة التي خرج بها الاستعمار وحصلت هذه الأجزاء على استقلالها. بدأ الصراع الداخلي يحتد بين المكونات السياسية الداخلية في تأثرها بالوضع العالمي العام، وأحزاب اليسار بشكل خاص وجهوا أسلحتهم نحو الصراعات التاريخية؛ مَن لا يملكون ضد مَن يملكون، والفقراء ضد الأغنياء، ومن ثم تركوا العلم واندفعوا إلى الحقل الإيديولوجي دون أي التفات إلى الدور الحاسم لقانون الحركة الذي يحكم التطور الاجتماعي، بمعنى الدياليكتيك.
والإشكالية أعلاه تتطلب دراسة دقيقة على أقل تقدير في القضايا التي تثيرها، وفهم الواقع فهما ناقدًا، من خلال الكيفية التي تمت من خلالها العملية التاريخية، التي كونت اقتصادًا عالميا بمستويات مختلفة من التطور والتقدم والنمو، الكيفية التي أنشأت التخلُّف الاجتماعي والاقتصادي في بعض الدول في أجزاء الاقتصاد العالمي.
ولدراسة مثل هذه الظواهر فإن الأمر يتطلب رؤية هيكلية للتكوين الاقتصادي والاجتماعي من خلال الوعي التاريخي بكيفية تبلوره، كما يستلزم الوعي بتطور تاريخ الرأسمالية نفسها. فالمجتمعات المتخلفة اليوم كانت في السابق على أقل تقدير كانت تقوم بتجديد إنتاجها الاجتماعي بمعزل عما يقع خارجها، وهنا لا ننشغل بالمستوى المعيشي إن كانت مهمة يمكن اعتبارها أمور تفصيلية، ولكن نريد أن نقول على وجه التحديد أن هذه المجتمعات لم تكن تستورد السلع والخدمات التي يتوقف عليها إنتاجها الوطني من الأجزاء المتقدمة، ومهما كانت شروط هذا الإنتاج. ودخول الاستعمار كان الهدف منه أولًا هو السيطرة على شروط إنتاج هذه المجتمعات، وتحديث بناها الاجتماعية والاقتصادية العامة بما يتلائم مع مصالحه هو، لا مصالح البلدان المستعمَرة.
ووفق مصالح الأجزاء المتقدمة تم تركيب هذه المجتمعات حيث تجمع بين الفن التقليدي في الإنتاج، أو المتخلف بتعبير أدق، والعصري في الاستهلاك، أي جعل هذه المجتمعات مجتمعات مستهلكة بامتياز. ومن ثم تمسي أغلب سلع الاستهلاك المباشر مستوردة مع سلبها، بكل السبل، القدرة على إنتاجها. والمؤشر هنا واضح؛ فلننظر حولنا ولنتأمل ما الذي نستهلك وأي جهة أنتجته وتوزعه؟
لقد فرض تقسيم العمل على الصعيد العالمي اقتصار الأجزاء المتخلفة على إنتاج المواد الأولية، والصناعات التقليدية والتي يمكن إدراجها في الاقتصاد المعيشي، والتي لا تتطلب التكنولوجية عالية الدقة، الأمر الذي مكن الرأسمال الأجنبي من غزو الاقتصاد الوطني لهذه البلدان، وعلى سبيل المثال دخول الشركات التي تنقب عن المعادن النفيسة، والنفط، والفوسفات. ومن جهة أخرى يتم استنزاف التربة عن طريق هيكلة الزراعة وجعلها تغذي الصناعات المتطورة، الأمر الذي جعل هذه البلدان غير قادرة على تأمين أمنها الغذائي.
صعود مجموعة من الطبقات على رأس السلطة كالألوغراشية والأرستقراطية كلوبيات اقتصادية سيطرت على الإنتاج الوطني وهيكلت الحياة الاجتماعية وفق مصالحها، على نحو يضمن انسياب القيمة الزائدة المنتجة بفضل سواعد الشغيلة (سواء أكان عامل المنجم أم أستاذ الجامعة) صوب الأجزاء المتقدمة من أجل شراء السلع والخدمات المنتجة في تلك الأجزاء ويتوقف عليها تجديد الإنتاج الاجتماعي في الأجزاء المتخلفة. وأصبحنا نجدد إنتاج تخلفنا كل صباح!
(4) خلفية تاريخية
على المستوى الديموغرافي تم ترحيل وإبادة مجموعة من الشعوب في عدة أجزاء خاصة في الفترة الممتدة 1500 و 1900 مع محاولة طمس هوية الشعوب الباقية من العالم، في إطار العالمية والنظام العالمي. وتم تسويق صورة الحداثة ملفوفة في عدة شعارات، وتم تفكيك المجتمع من خلال تفكيك الأسرة وسيادة الفردانية والأنانية المفرطة، التي نتج عنها هدر اجتماعي وانحطاط أخلاقي. أما من ناحية الهيكل الاقتصادي، فقد تم إخضاعه بشكل كلي للسُّوق الدولية؛ ومن ثم صار خاضعًا إلى قوانين السوق حيث الربح ومراكمة الثروة... السوق، حيث كل شيء محلًا للبيع والشراء حتى الأخلاق! الأمر الذي انعكس سلبًا على مجتمعات الأجزاء المتخلفة.
(5) تسرب القيمة الزائدة
عندما نلاحظ المجتمع، يتبين لنا أن هناك إنتاج للقيمة، مع ذلك يعجز هذا الإنتاج لتلك القيمة عن تحقيق عملية التنمية بالشكل المطلوب، بمعنى وفق ما يتوفر عليه هذا المجتمع من موارد طبيعية وبشرية. المشكلة هنا تكمن في السيطرة على الشروط الموضوعية للإنتاج كما وضحنا سلفًا؛ بتعبير أدق المجتمع يفقد الرأسمال الكافي لإدارة الإنتاج وضعف التقنية نظراً لهشاشة البحث العلمي في هذه الأجزاء. الأمر الذي يؤدي إلى ظاهرة تسرب القيمة الزائدة من الأجزاء المتخلفة إلى الأجزاء المتقدمة من النظام الرأسمالي العالمي، وهذا يتم بمساعدة الرأسمال الأجنبي الذي سيطر على الإنتاج الوطني لهذه الدول، ومن تركها تلهث وراء الريع الذي يدفع لها كمقابل استغلال مناجمها وثرواتها الطبيعية دون أي سياسة واضحة للاستغلال. ولا تكون الدولة شريكة لا في إدارة الإنتاج ولا في توزيعه، ويتقلص دور الدولة تدريجيًا في إدارة شؤون المجتمع، ولا تستفيد حتى من الأجر الذي يدفع للعمال؛ لأن هذا الأجر يتم ضخه من جديد في عروق اقتصاد الأجزاء المتقدمة عن طريق السلع الاستهلاكية المصدرة إليها والتي تعتمد عليها القوى العاملة لتجديد قوتها وطبقتها. بمعني حتى القيمة التي يتم دفعها للعمال يتم إرجاعها إليها مرة أخرى وبطريقة أخرى.
(6) خلاصة
هكذا يتم إنتاج التخلُّف كل صباح بل التسريع من وتيرة إنتاجه. وبوجه عام تتسرب القيمة الزائدة المنتجة داخل الاقتصاد القومي إلى الخارج في سبيل شراء السلع والخدمات التي يتوقف عليها الإنتاج الوطني وبشكل كبير في الصناعة الاستخراجية والزراعية ومن تم قطاع الخدمات، ومن ثم صارت هذه الأجزاء تابعة للمعاقل الرأسمالية الكبرى وخاضعة لها، والتبعية على هذا النحو هي مقياس التخلف. إذن الدول المتخلفة اندمجت في النظام العالمي مستعمرة (بفتح الراء)، ثم صارت تابعة، ثم صارت متخلفة، وأصبحت تسرع من تجديد تخلفها عن طريق إقحامها في مجموعة من المعاهدات والإتفاقيات التي ترسّخ تخلفها وتؤكّد على تبعيتها للأجزاء المتقدمة من النظام الرأسمالي العالمي المعاصر، تلك التبعية للرأسمالية العالمية والتي تحول دون تنمية مستقلة على الذات، إنما تجد بيئتها الخصبة في فقد الشروط الموضوعية لتجديد الإنتاج الاجتماعي، وسيظل المجتمع متخلفًا طالما بقى المجتمع بأسره تابعًا دائرًا في فلك الرأسمالية العالمية ومؤسساتها المالية والنقدية الدولية. وهو لن يتجاوز فقره، وتخلفه، إلا إذا تجاوز، بإرادة سياسية حاسمة، تبعيته لمراكز صنع القرار الاقتصادي والسياسي في معاقل الرأسمالية العالمية.