قراءة في كتاب -سيكولوجية الجماهير- لمؤلفه غوستاف لوبون


صلاح الدين ياسين
2022 / 11 / 20 - 20:34     

يعد هذا الكتاب الصادر في العام 1895 من صفوة الأعمال التي عنيت بسبر واستكناه نفسية الجماهير، فبالرغم من أنه لم يلق قبولا وذيوعا واسعين حين صدوره، فإن الأحداث الكبرى التي عرفتها بدايات القرن العشرين، وفي مقدمتها صعود نجم الحركات التوتاليتارية، قد صدقت نبوءة المؤلف إلى حد بعيد. وحتى نتبين مضامين وأفكار الكتاب على نحو أوضح، لا مناص من استحضار السياق العام الذي صاحب تأليفه، حيث فرضت الثورة الفرنسية التي قامت سنة 1789 متغيرا جديدا على ساحة الأحداث في فرنسا وعموم أوروبا، ألا وهو بزوغ سطوة الجماهير كفاعل أساسي، بعدما كانت مغيبة ومهمشة على مدار الحقب الزمنية التي سبقت الحدث الثوري المزلزل.
على أن الكاتب الفرنسي، وصدورًا من خلفيته اليمينية، يتوجس خيفة من صعود قوة الجماهير، ولا ينظر بعين الرضا للنتائج المتولدة عن الثورة الفرنسية، إذ يَعتبر الجماهير سببًا في نسف الحضارات. بيد أن هذا لم يمنعه من إنجاز دراسة موضوعية ومرجعية بشأن سيكولوجية وروح الجماهير، في مسعى لاستكناه أبعاد تلك الظاهرة واستشراف مآلاتها. وعطفا على ذلك، فإنه عمل على بيان بعض الفضائل والصفات الإيجابية للجماهير، والتي قلما نجدها عند الأفراد العاديين:
"وإذا كان الجمهور قادرا على القتل والحرق ومختلف أنواع الجرائم، فإنه قادر أيضا على أفعال التضحية والنزاهة الأكثر ارتفاعا بكثير من تلك التي يقدر عليها الفرد الواحد. ووحدها الجماهير الجماعية تكون قادرة على إنجاز الأعمال الكبرى، والتفاني العظيم، والنزاهة من أجل القضايا الكبرى. فكم هو عدد الجماهير التي ضحت بنفسها بنوع من البطولة من أجل عقائد وأفكار لا تفهمها إلا بالكاد...".
ومن جهة أخرى، فإنه يتوجب علينا الحذر من الوقوع في شَرَك الخلط بين الجماهير (les masses) والحشود (les foules)، ذلك أن الجماهير تشكل فيما بينها وحدة نفسية وعاطفية وشعورية غير مرتهنة حتما بالحيز المكاني، إذ يمكن لألوف مؤلفة من الأفراد أن يشكلوا فيما بينهم جمهورا قائما بذاته، على الرغم من انفصالهم وتباعدهم مكانيا عن بعضهم البعض، هذا في حين لا يرقى حشد من الناس المتجمعين في مكان عمومي (حديقة عمومية، مطعم...) بالضرورة إلى تأليف جمهور، بالرغم من الرابط المكاني الذي يجمعهم.
ولعل أهم خصيصة يتصف بها الجمهور هي فقدان الفرد المنضوي تحت لوائه للشخصية الواعية والإرادية، بحيث تذوب هذه الأخيرة وتنصهر في اللاوعي الجمعي للجمهور، الأمر الذي يفسر الدافع وراء اختلاف سلوك وتفكير الفرد المعزول عن الحالة التي ينخرط فيها في صفوف الجمهور، ذلك أن الفرد حين يكون بمفرده، فإنه لا يعدم القدرة على الفحص والتدقيق والمراجعة النقدية. هذا بخلاف الحالة حيث يكون وسط جمهور، إذ يصبح عرضة للانسياق وراء مختلف التأثيرات التي يتعرض لها، دون أن يُخضعها لأي مناقشة أو تمحيص، ليطلق العنان لدوافعه الغرائزية المجردة من أي وازع عقلاني. وهنا يشدد المؤلف على أنه ليس ثمة فارق جوهري بين الجماهير المكونة من أفراد "مستنيرين" (قضاة الحكم، المجالس النيابية...) وجماهير عامة الناس ذوي المستوى المتوسط.
ولما كانت الجماهير كائنات لاواعية تحول دون تبلور الشخصية الفردية القادرة على التفكير ذاتيا وإراديا بمعزل عن سطوة الجموع، فإن الجمهور يستعصي التأثير فيه عن طريق توظيف أسلوب الحجاج المنطقي ووسائل الإثبات العقلية والفلسفية، التي غالبا ما تثير نفورا واشمئزازا لديها، حيث إن الجماهير لا يمكن النفاذ إلى روحها إلا بواسطة استخدام وسائل إقناع بسيطة وسطحية، من قبيل الصور الانطباعية التي تدغدغ مخيلة الجماهير. وفي هذا الصدد، ينبه الكاتب على أن الكلمات التي يكون لها مفعول السحر على الجمهور، هي التي تتصف بالغموض ويصعب حصر معانيها بدقة، حيث يمكننا في هذه الحالة أن نخلع عليها ما نشاء من صور وردية وآمال براقة، بصرف النظر عن مدى تماسكها المنطقي والحجاجي.
ومن جهة أخرى، ينزع غوستاف لوبون إلى التأكيد بأن سيكولوجية الجماهير لا تنجذب إلى الحقائق، بوصفها مصدر إزعاج لها يقض مضاجعها، بل إلى الأوهام في المقام الأول، فهي كثيرًا ما تلجأ إلى التمسك بأوهام طوباوية تدغدغ عواطفها ورغباتها الدفينة كملاذ لها من مرارة الواقع الذي ترزح تحت ثقله.
ويشير مؤلف الكتاب إلى أن الجماهير تميل إلى الإعجاب والانسياق تلقائيا وراء المحركين الذين يظهرون بمظهر الرجل القوي القادر على فرض إرادته، وقيادة الأمة وفق المنهج الذي يرتضيه، مدفوعة بنوازعها الاستبدادية، في حين أنها تأنف من القادة الوديعين المفتقرين للكاريزما الشخصية ولا تستمزجهم. وعليه فلا غرو أن الزعماء المستبدين والشعبويين طالما استندوا إلى قاعدة جماهيرية عريضة، توفر غطاء لشرعنة سياساتهم السلطوية.
وعطفا على ما سبق، تناول المؤلف "العوامل البعيدة" التي تسهم في تشكيل آراء وعقائد الجماهير، والتي تجد أساسها في خصائص وطباع عرق معين، فضلا عن العادات والتقاليد والقيم المتجذرة في اللاوعي الجمعي، والتي يتم غرسها واستنباتها بواسطة التربية ومؤسسات التنشئة التقليدية (الأسرة، المدرسة...)، وهذه العوامل هي التي تشكل ما يسميه الكاتب ب "العقائد الثابتة"، التي يصعب تغييرها أو تعديلها إلا من خلال حدث ثوري عنيف، أو تحول فكري جذري. هذا في مقابل "العوامل المباشرة" أو "القريبة"، التي لا تعدو كونها الجزء الظاهر من جبل الجليد، أو الشرارة التي تطلق حدثًا ما.
أما فيما يخص صفات القادة أو المحرضين، الذين يحركون الجماهير ويظفرون بإعجابهم، فيميل الكاتب إلى القول بأن القادة الذين طالما سحروا الجماهير وخلبوا ألبابهم، هم أولئك الذين يقتنعون بالمُثل والأفكار التي يتشربونها، ويؤمنون بها عن ظهر قلب، ليشكلوا بذلك مصدر إلهام للجماهير وبوصلة لها، خلافًا للقادة الانتهازيين والوصوليين، الذين تتبدل مواقفهم باستمرار، إذ لا يملكون سوى تأثير ظرفي ووقتي على نفسية الجماهير. وعلاوة على ذلك، فلا يكفي أن يكون القائد خطيبا مفوها ومتبحرا في فن البلاغة والخطابة لكي يحظى بتأثير في نفوس الجماهير، وإنما يتوجب عليه أن يكون ملما بروحها وسيكولوجيتها، وقادرا على استبطان ميولها وأمزجتها:
"في الواقع أن أسياد العالم، ومؤسسي الأديان أو الإمبراطوريات، ورسل كل العقائد، ورجالات الدول العظام، وعلى مستوى أقل زعماء الفئات البشرية الصغيرة (كرؤساء القبيلة أو العشيرة أو القرية)، كلهم كانوا علماء نفس على غير وعي منهم. وكانوا يعرفون روح الجماهير بشكل فطري، وفي الغالب بشكل دقيق وموثوق جدا. وبما أنهم يعرفونها جيدا ويعرفون كيف يتعاملون معها، فإنهم قد أصبحوا أسيادها. فنابليون بونابرت مثلا، كان ينفذ بشكل رائع إلى أعماق نفسية الجماهير الفرنسية، ولكنه كان يجهل بشكل كلي أحيانا نفسية الجماهير التي تنتمي إلى أجناس أو أعراق مختلفة."
وإضافة إلى ذلك، يعرض الكاتب لوسائل الإقناع التي يستخدمها محركو الجماهير لجذبهم والتأثير في نفوسهم، والتي من جملتها أسلوب التوكيد، حيث غالبا ما يجنح قادة الجماهير إلى توظيف عبارات قطعية ويقينية تخلو من أي تنسيب أو برهان حجاجي، لتنفذ بيسر إلى أعماق ونفسية الجماهير اللاواعية، التي لا تملك القابلية لتمحيص الخطاب الموجه إليها وإخضاعه للمراجعة النقدية. هذا ناهيك بأسلوب التكرار، والذي يضفي على العبارات المستخدمة التي يتم ترديدها باستمرار صبغة يقينية، تجعلها في منزلة الحقيقة المطلقة التي لا تقبل الجدل. كما تُعتبر العدوى نتيجة طبيعية وحتمية للأسلوبين السابقين، والتي يتم تجسيدها من خلال تَشَكل تيار الرأي العام، والذي قد يتحول إلى "طغيان الأغلبية"، باستعارة تعبير الفيلسوف السياسي الفرنسي "ألكسيس دو توكفيل".