نظرة إلى الوضع العربي الراهن من زوايا مختلفة عن المواقف التقليدية


حسن خليل غريب
2022 / 11 / 16 - 21:32     

تمرُّ الأمة العربية في المرحلة الراهنة بامتحان عسير لا يخلو من الصعوبات التي تكاد تستعصي على الحل، ولكنه لا يخلو أيضاً من بعض المتغيرات التي تفتح بوابات العبور نحو آفاق للحلول. وإن كانت التحديات والصعوبات ليست بالشيء الجديد، ولكن أصبح من الممكن تذليلها بفعل المتغيرات الجديدة التي حصلت على الصعيد العربي، والتي هي جديرة بالبناء عليها.

فلماذا علينا أن ننظر إليها من زوايا مختلفة عن الزاوية التقليدية؟
إذا نظرنا إلى الواقع الراهن من زاوية تقليدية درجت عليها مختلف التيارات الحزبية، والقوى السياسية، تحت عناوين جامدة، بحيث يعتبر المنهج السابق أن من كان رجعياً، سيبقى محافظاً على رجعيته، ومن كان ثورياً سوف يحافظ على تقدميته وثوريته، حتى مع استخدام منهج النقد والمراجعة. وبذلك تناسى العديد أنه من الممكن أن تحصل متغيرات جذرية في العالم مما ينعكس على طبيعة او مواقف الأنظمة الرسمية، سواء المتعارف عليها بالأنظمة الرجعية او بالنسبة للأنظمة المعاكسة لها. لذلك فخارج إطار تلك التوصيفات القديمة الجديدة، سوف يتم هنا استخدام منهج الرؤية الواقعية السياسية الموضوعية، آخذين بنظر الاعتبار أن ما يتَّخذه هذا الحزب أو ذاك، هذا النظام أو ذاك من مواقف، يشكل معياراً للحكم عليه، وأن لا يكون الحكم مبنياً على أساس التسميات السابقة، القائمة على التمييز بين تقدمي أو رجعي. فقد يكون الحزب الثوري رجعياً ببعض مواقفه، أو أن يكون النظام الرسمي تقدمياً ببعض مواقفه.
واستناداً إلى ما حصل على أرض الواقع بالنسبة إلى مجمل النظام العربي الرسمي في ظل المتغيرات الكبرى التي حصلت وتحصل سواء في العالم من حولنا او في الوطن العربي، فإن ذلك يفرض علينا أن نعتمد النظر إلى هذا الواقع من زاوية اللحظة الراهنة الخطيرة التي تمر بها بعض الأنظمة فيه. ولعل من أكثرها أهمية في اللحظة الراهنة تلك التي تتمثل ببداية الخروج من وصاية الدول الكبرى، التي سُلبنا فيها من إرادة رسم مستقبل الوطن العربي، وخضعنا لإملاءاتها بالكامل.
وأما بالنسبة إلى تاريخ النظام العربي الرسمي، فهو يتحمل وزر الكثير من الأخطاء الاستراتيجية والمرحلية التي أوصلت الأمة العربية إلى تسليم قرارها إلى قوى الخارج الدولية الرأسمالية فانصاع لها واستسلم أمام تهديداتها، واستسلم أيضاً أمام غزو الدول الإقليمية لعدد من الدول العربية. وقد عاثت الدول الكبرى، وكذلك الدول الإقليمية نهباً وتمزيقاً وتفتياً في الجسم العربي؛ بحيث نال الشعب العربي الكثير من المعاناة الاجتماعية والسياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، واستطاعت تلك الدول أن تُحوِّل كل دولة من دول الوطن العربي إلى مسارح من الحروب الأهلية بما تحمل من مآسي جعلت من الشعب العربي شعباً يحمل وطناً بحقيبة من الأسمال. واستمر العرب على هذا المنوال إلى أن برزت نقطة ضوء في الأفق، وذلك، بظهور متغيرين استراتيجيين، حصلا بفعل بعض الأنظمة الرسمية العربية، وهما:

• المتغير الأول: حصل هذا المتغيِّر عندما اكتشف العرب ومنهم النظامان المصري والسعودي أن (الربيع العربي)، الذي زاره وشارك به هنري برنار ليفي، كان من بين المشاريع الأكثر خطورة في التاريخ العربي للمرحلة الراهنة من حيث أهدافه في تفتيت الوطني العربي إلى دويلات طائفية.
وكان من المرسوم لهذا المشروع أن تشارك الدول الغربية في تقسيم الوطن العربي، فتحدِث شرخين عاموديين بتقسيمه الى: الهلال السني والهلال الشيعي، بحيث تقود الجناح السني حركة الإخوان المسلمين برعاية تركية، ويقود الجناح الشيعي نظام ولاية الفقيه برعاية فارسية صفوية. وهذا ما يعيد الوطن العربي إلى مرحلة ما قبل مئات السنين إلى الوراء.
وقد واجهت هذا المشروع التقسيمي قوى متعددة في مصر، وفي تونس بالإضافة إلى الدولة في المملكة العربية السعودية، مما أدَّى إلى إسقاط نظام الإخوان في مصر. وبإسقاطه انطوت صفحة راهنة من حلم الإخوان المسلمين، كما تعرض مشروع ما يسمى "بالشرق الأوسط الجديد" الى ضربة في الصميم، وظهرت فداحة خسارة المشروع بظهور حركة مماثلة في تونس. بحيث تمَّت محاصرة وجوده في ليبيا.

• المتغيِّر الثاني: أخذ يتعمَّق منذ أن سلمت أميركا العراق إلى نظام الملالي في طهران. حليف أميركا باحتلاله في العام .2003 وتجذَّر منذ العام 2011، وتوقيع الاتفاق النووي الإيراني في العام 2015. تلك الوقائع التي كانت بمثابة هدية كبرى لذلك النظام. وكانت الهدية بداية لانفلات عفاريت نظام ولاية الفقيه من قماقمها، وبانت على حقيقتها أمام بعض الأنظمة العربية، خاصة بعد إعلان النظام سيطرته على أربع عواصم عربية، وإعلانه إعادة تأسيس الإمبراطورية الفارسية وعاصمتها بغداد.
تلك البداية كانت تؤرِّخ للبدء بمعارضة وتحدي خليجي، خاصة في المملكة العربية السعودية، ضد القرارات الأميركية، التي لم تكن تجرؤ الادارات الامريكية على تقديمها لولا اعتقادها بنجاح مشروع "الشرق الأوسط الجديد"، الذي كان مخططاً له لتقسيم السعودية وإيران في مراحل لاحقة، لأنها كانت تخطط لاحتواء أنظمة "الشرق الأوسط الجديد"، وعلى الجميع أن يأتمروا بالإملاءات الأميركية.
وقبل أن نستند إليه كمتغيِّر استراتيجي، كان علينا أن نتفحص إذا ما كان ثابتاً، أم أنه كان ردة فعل مرحلية. لذلك رحنا نتتبَّع مساراته في المراحل اللاحقة، أي منذ العام 2015، فوجدنا أنه حافظ على ثباته في محطات عديدة. وكان من أهمها محطتان، وهما:
• مؤتمر القمة الخليجية + حضور مصر والأردن، والذي دعا جو بايدن، الرئيس الأميركي الحالي، إلى فرض نفسه على المؤتمر، ولكنه خرج منه خالي الوفاض، إذ رفض المؤتمر دعوته بزيادة ضخ النفط الخليجي للتعويض عن مصادر الطاقة الروسية بعد نشوب الحرب القائمة حالياً في اوكرانيا.
هذا ما أثار حفيظة الإمبراطور الأميركي وراح يوزِّع تهديداته للسعودية. ونفَّذ تهديداته بمحاولة سحب البساط من السعودية في ساحات في مقدمتها العراق، عندما قايض النظام الإيراني، بموافقة الأخير على ترسيم الحدود البحرية في لبنان مع العدو الصهيوني في شهر أيلول 2022، بإعطاء ذلك النظام موقع رئاسة الجمهورية، ورئاسة الحكومة، في العراق.
• بعد اجتماع منظمة أوبك بلس، في شهر أكتوبر، وعلى الرغم من طلب جو بايدن زيادة في إنتاج النفط، فقد تلقَّى صفعة بتخفيضه مليونيْ برميل شهرياً.
واستناداً إلى تلك الوقائع، خرجنا بنتيجة أننا ازاء بدايات مرحلة يشق فيها الرفض العربي طريقه في مواجهة الإملاءات الأميركية، وأصبح على الأقل يعطي مؤشرات الى أنه سيكون بمثابة ثابت استراتيجي عند دول عربية منها المملكة العربية السعودية.
ولأن تلك المتغيرات وجذريتها قد فرضت تغييراً في مواقف المؤسسات العربية وفي استراتيجياتها، وبالتالي تحديث وتطوير مواقفها على اسس جديدة، فان كل ذلك يحتم عدم جواز الحكم على او تقييم اي حزب او حركة او نظام رسمي على انه تقدمي أو رجعي، من خلال المواصفات التقليدية السابقة التي بُنيّت في ظل واقع غير الواقع الحالي او استراتيجيات غير المعتمّدة حاليا.
لذا فان التقييم والأحكام يجب أن تستند او تراعي المتغيرات والمواقف الفعلية الراهنة. وسوف يكون معيار تقييمنا قائماً على مدى تَحَقُق مصلحة الامة العربية. وبالتالي فان الفرز يجب ان يتم في تقييمنا هو بين الموقف الذي يصب في مصلحة الأمة العربية، فهو عندنا تقدمي تحرري، وبين الموقف الذي لا يحفظ للأمة العربية حقوقها، فهو برؤيتنا متخلف ورجعي. وهل هناك أكثر تقدمية من مواجهة الإمبراطور الأميركي، الذي كان السبب الرئيسي في إيصال الأمة العربية فيما وصلت إليه؟ وهل هناك سبب أكثر أهمية من مواجهة الدول الإقليمية التي كانت شريكاً لأميركا في مشاريعها التفتيتية؟
ولأن مواجهة الحركات التي تتخذ من الدين غطاءاً سياسياً لها، ومواجهة أوليائها أولاً. والخروج عن تقليد الاستسلام لإرادة الاستعمار ودول الإقليم المصدِّرة أو الداعمة للحركات الإسلاموية ثانياً. ولأنه في تلك المواجهات استعادة للقرار العربي من أيدي الخارج، وحماية الأمن القومي العربي بأيد عربية، يمكننا الاستناد إلى الثوابت الجديدة التي انتُزِعت، من أجل البناء عليها في ضمان مستقبل الأمة العربية.
ولأن فيما حدث من متغيرات على الصعيد العربي، منذ العام 2003 والمتغيرات التي أشرنا اليها في 2011، و2015، و2022، تدل على أن هناك منهجاً جديداً في النظام العربي الرسمي يشق طريقه، وفيه بعض جوانب الشبه بما كان سائداً في الخمسينيات والستينيات، حيث كان القرار العربي مستقلاً، يفرض نفسه على القرار الدولي، وظلَّ محافظاً على زخمه قبل أن يتم إحباطه في عدوان السادس من حزيران من العام 1967.
تؤشِّر تلك المتغيِّرات على أن الإمبراطور الأميركي ليس قدراً منزلاً، وليست حالة الالتحاق به نزعة نظامية رسمية عربية متأصِّلة. ولأن المتغيرات في المواقف العربية من الإمبراطور الأميركي تتعمَّق يوماً بعد يوم، يمكننا الاستطراد إيجازاً، عما يمكن أن يسهم في تعميق تلك المواقف – المتغيرات. ونذكر بعضها الذي يحتاج إلى تفاصيل ودراسات معمَّقة، ومن أهمها:

1- في مواجهة الحركات التي تتخذ من الدين غطاءاً سياسياً:
لأن تلك الحركات، كما أثبتت وقائع التاريخ الحديث والمعاصر، تشكِّل أداة أساسية للتدخل والهيمنة الاجنبية تحت ذريعة حماية ابناء الدين او المذهب، واداة للتفرقة بين ابناء الوطن الواحد على اسس دينية او طائفية وفشلت في التعبير عن نفسها كخيمة جامعة وموحِّدة لهم جميعاَ.
لذا نرى أن بناء دول مدنية في شتى الأقطار العربية يشكِّل الوسيلة الوحيدة لمواجهة تلك الحركات، ويأتي في المقدمة منها إعادة ضخ الحياة في الشعور القومي العربي، وتقليص تأثير النزعات القطرية. وذلك، بتعزيز ثقافة الانتماء الوطني لحماية الأوطان من التفتيت الطائفي والمذهبي. وتعزيز ثقافة الانتماء إلى الامة العربية لأنها العامل الأكثر تأثيراً في حماية كل قطر عربي من أخطار الاختراقات الخارجية. ففي وحدة الشعور القومي، كمصدر للشعور بالقوة الذاتية لأبناء الأمة، استئصال لنزعات الخوف من الخارج، وفيه رادع ضد تدخلاته في شؤون الوطن العربي الداخلية. وفيه ما يعزز الشعور الذاتي بعوامل القوة العربية الموحِّدة، العسكرية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية.

2- على صعيد التنمية البشرية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية:
لقد كان في غياب عوامل التنمية الاقتصادية وما افرزته من فقر وبطالة، وغياب تطبيق الديموقراطية، ثغرتان استراتيجيتان تسلَّلت منهما الحركات الإسلاموية في التحريض ضد الأنظمة الرسمية والحركات الثورية. وكذلك تسلَّل الاستعمار من بوابة التحريض ضد ديكتاتورية الأنظمة.
ومن أجل تحقيق النهضة العربية وبناء عوامل القوة الحقيقية وتحقيق قيم العدالة والانسانية التي تلتف حولها كل فئات المجتمع، ومن أجل نزع أسباب التحريض أمام الاستعمار والهيمنة الخارجية والحركات التي تتخذ من الدين غطاءاً سياسياً يجب مواجهة التدخلين معاً، وذلك بتعزيز التنمية الاقتصادية لمنع انتشار الفقر من جهة، وتعزيز المناهج والممارسات الديموقراطية لكي يشعر المواطن بالعدالة وبأن له دور في صنع القرار السياسي في دولته من جهة أخرى.
حين ذاك، بتلازم التنمية الاقتصادية ونشر الحريات الديموقراطية يتم نزع عوامل التحريض، ويصبح من دون فائدة، مما يشكل المدخل الصحيح لمواجهة تحالف الاستعمار مع الحركات الدينية السياسية.
ولتعدد وجوه التغيير، يمكننا اختزالها، بالتالي:

أ‌- التكامل الاقتصادي العربي:
المطلوب السير خطوات جادة نحو تحقيق التكامل الاقتصادي العربي وذلك بالانطلاق من اعتبار الاقتصاد العربي يشكل وحدة متكاملة، يتوزَّع بين قوة الثروات والموارد من جهة، وحجم الأيدي العاملة والمستهلكة من جهة ثانية، والغنى في الكفاءات العلمية من جهة ثالثة. ويمكن الاستفادة من تلك الخصوصيات، من أجل اكتفاء اقتصادي عربي ذاتي، يمكن للرأسمال العربي أن يخرج من صناديق المصارف إلى مصاف التوظيف في التنمية العربية- العربية على شتى أشكالها.

ب‌- الاستثمار العربي داخل الوطن العربي:
ولأن ما يحصل من استغلال وتدخل خارجي لغياب التنمية الاقتصادية حيث يعمُّ الفقر. وغياب الحقوق السياسية فتغيب المبادئ الديموقراطية. يمكن للرأسمال العربي أن يخرج من مناهج الصدقات والهبات، إلى مناهج التنمية الاقتصادية التي توفر فرص العمل لكل عربي فتقضي على البطالة والفقر من جهة، وتعزيز الرأسمال والقوة الاقتصادية للجهة العربية المستثمرة بالأرباح المتحققة نتيجة توظيف أموالها في مشاريع إنتاجية من جهة أخرى. مما يؤدي الى تزايد المكاسب الاقتصادية والمعنوية المباشرة والسياسية غير المباشرة، كلما تزايد الاستثمار العربي على المستوى القومي.

3- تحصين الأمن القومي العربي:
إن الأمن القومي العربي مهدَّد من الداخل لأن قوى الخارج عاجزة عن التأثير والتدخل في الشؤون الداخلية لأي دولة من دون وجود حواضن سياسية من مواطني تلك الدولة. وتضعف إلى حد كبير التدخلات الخارجية إذا ما تمَّت مواجهة ومحاصرة قواعده وركائزه في داخل أقطار الوطن العربي. وهذا يظهر بشكل جليّ وواضح في معظم الأقطار العربية، حيث تنشط تلك الركائز حيثما ترسَّخت أنظمة الطائفية السياسية كما في لبنان والعراق. وحيثما انتعشت بفعل (ربيع هنري برنار ليفي)، كما في تونس وليبيا. وحيثما تتلقى دعماً من دول الإقليم المجاور للوطن العربي، كما يحصل في العراق واليمن وسورية.

4- وأخيراً، إعادة تعريب القضايا العربية الساخنة:
وهذا أكثر من ضروري، وذلك لاستعادة الثقة بين الأنظمة الرسمية العربية، وكذلك استعادة توحيد حركات التحرر العربية. وعلى كل منها يقع واجب العمل من أجل تعزيز الانتماء القومي العربي، انطلاقاً مما يحصل من متغيرات في المرحلة الراهنة، وما سوف يحصل في المستقبل.