دُرُوس الصِّرَاع السِياسي


عبد الرحمان النوضة
2022 / 11 / 11 - 15:40     

العنوان القصير : دُرُوس الصِّرَاع السِـياسي
العنوان الطويل : تَأْثِير النُّخَب وَدُرُوس الصِّرَاع السِـياسي
إذا أردتَ أن تُـدرك لماذا يُدافع (أو لا يُدافع) فاعل سياسي مُعيّن (مثل أفراد النّخب) عن موقف سياسي مُحدّد، فعليك أن تَـفْحَصَ مَصادر مَداخيل هذا الفاعل السياسي.
والعُنصر الرئيسي الذي يجعل شخصا مُحدّدا يدافع عن موقف سياسي مُعيّن، ليس بالضرورة هو عَقله، أو مَنْطِـقُـه، أو مَعارفه، وإنما هو على الخصوص مَوْقِعُه في التَـرَاتُـبِـيَـة الطبقية لمُجتـمعه.
والحقيقة التـي لاَ تتحمّل عادةً النّخب سماعها، هي أن هذه النخب تؤثّر في الصراع السياسي، وفي الصراع الطبقي الجاري، لكن لصالح الطبقات المُسْتَـغِـلَّة (بكسر الغين). وذلك سواءً بِـفعلها، أم بِكلامها، أم بِصَمتها. لأن الصّمت هو أيضا شكل من أشكال الكلام، أو التَوَاطُؤ السياسي.
ومَهْمَا كانت مزاعم النخب، أو خطاباتها السياسية، فإن مبرّر وجود هذه النخب، هو بالضبط تـقديم خدمات متنوعة إلى مُشَغِّـلِيهَا، الواقعين في الطبقة السَّائدة.
وتدرك النّخب جيّدًا أن الأجور، أو المداخيل، أو الامتـيازات، أو التشريفات، التـي تحصل عليها، سواء بشكل مباشر أم غير مباشر، من الشّركات، أو من المقاولات الرأسمالية، أو من مؤسّـسات الدولة، أو من غيرها، هي بالضّبط أَثْـمِـنَـةُ أَتْـعَابِهَا، مُقَابِل مُساهماتها في إرساء وتـرسيخ الهَيْمَنَة المُطلقة لطبقة المُسْتـغِـلّين (بكسر الغين) الكبار على مُجمل المجتـمع.
كما تُدرك النخب، في سِرِّيَة وَجْدَانِهَا، وأحسنَ مِمّا يمكن أن يفهمه أي مواطن نَابِغٌ من الشعب المَسُود، أن مظاهر «الديمقراطية»، أو مزاعم «العدالة الاجتـماعية»، أو ادِّعاء «دولة الحق والقانون»، لا تزال في المغرب تـركيبات شكلية، أو أيديولوجية، لِتَـنْـوِيم شعب المُسْتَـغَلِّين (بفتح الغين).
وَتُدْرِكُ النُخَب، في عُمْق ضَمَائِرِهَا، أن النظام السياسي هو مُغْلَق (verrouillé) بشكل مَدْرُوس، وَمُحْـكَم، إلى درجة أنه يستحيل تـغييره، أو إصلاحه، من داخل المؤسّـسات القائمة في هذا النظام السياسي.
والدرس الأساسي الأوّل، المُسْتَخْلَص من دراسة هذا النظام السياسي القائم في المغرب، على امتداد أكثر من سِتِّين سنة (من سنة 1956 إلى سنة 2022 م)، هو أن هذا النظام السياسي أَنَانِي جِدًّا، وَاسْتِبْدَادِي، وَفَاسِد، وَمُسْتَـعِد لِلْعَمَالَة لِلْإِمْبِرْيَالِيَّات الغربية، وَمُتَئَـهِّب لِلْخِيَانَة لِصَالِح إسرائيل، وَغَيْر مُبَالٍ بِالتَـفْرِيط باستـقلال الوطن، إلى دَرَجَة أنه يستحيل إِصْلَاح هذا النظام السياسي من داخل مُؤَسَّـسَاتِه، وذلك مهما كانت السُبُل، أو المَنَاهِج المُتَّـبَـعَـة. وأن الحلّ الوحيد للخلاص من الاستبداد، والفساد، والانحطاط المُجتمعي، هو تَـعْـوِيض هذا النظام السياسي القائم بِنِظام سياسي آخر، يكون وَطَنِيًّا، وثوريًّا، وَمُسْتَـقِـلًّا، وديموقراطيا، واشتراكيا. وَلْتَتَبَارَى الأحزاب السياسية الثورية في مَجَالات تَـفَاصِيل طُرُق تَـغْيِير هذا النظام السياسي.
والدرس الأساسي الثاني، المُسْتَخْلَص من دراسة هذا النظام السياسي القائم في المغرب، على امتداد أكثر من سِتِّين سنة، هو أن كل مشاريع الإصلاح السياسي، وكل مشاريع التنمية الاقتصادية، التي تَـدُور دَاخِل حُدُود الرأسمالية، ووَلَا تَطْمَح لِبِنَاء الاشتراكية، تَـبْـقَـى عَـقِـمَـة، أو وَهْـمِـيَـة، أو بِلَا فَائِـدَة، ولا تُساعد الشعب على الخُروج من التَـخَـلُّـف المُجتمعي، ولا تُـقَـوِّيـه من أجل التَحَرّر من الاستغلال الرأسمالي، ومن الاستبداد، ومن الفساد.
والدرس الأساسي الثالث، المُسْتَخْلَص من دراسة هذا النظام السياسي القائم في المغرب، على امتداد أكثر من سِتِّين سنة، هو أن محاولة النضال المشترك مع الأحزاب، أو مع القوى السياسية الأخرى، التي تُؤْمِنُ بِإِصلاح هذا النظام السياسي من داخل مؤسّـساته، وَتَلْتَزِمُ باحترام قوانينه المفروضة، هي مَضْيَعَة لِلْوَقْت وَلِلطَّاقَات.
والدرس الأساسي الرّابع، المُسْتَخْلَص من دراسة هذا النظام السياسي القائم في المغرب، على امتداد أكثر من سِتِّين سنة، هو أن التَضَخُّم في الأجهزة القمعية وَشَرَاسَتَهَا، بِالإضافة إلى تعاونها مع الأجهزة المُخَابَارَاتِيَة الإسرائيلية والأمريكية والفرنسية الخ، تجعل أن المُرَاهَنَة على العمل السياسي في العَلَنِيَة هي سَذَاجَة سياسية عَـقِـيـمَـة، وأن نسبة مُـعَيَّنَة من العمل السياسي في السِرِّيَة، هي ضرورة مُحَتَّمَة.
والدرس الأساسي الخامس، المُسْتَخْلَص من دراسة هذا النظام السياسي القائم في المغرب، على امتداد أكثر من سِتِّين سنة، هو أن أيّ حزب سياسي ثوري غَدَى مُجْبَرًا على التَوَفُّـر على جهاز اِسْتِخْبَارَاتِي سِرِّي خاصّ به، مُـكَـلَّـف بالدِفَاع عن هذا الحزب، وَبِمُـكَافَحَة كلّ محاولات الاختراق أو التَآمُر التي تَـقُوم بها الأجهزة الاستخباراتية والخاصّة، التابعة للدولة، أو لدول أجنبية. ولنا فيما جرى في سوريا، والعراق، وليبيا، ولبنان، واليمن، السودان، وغيرها، بين سنوات 2011 و 2020، تجارب مُرَّة، ودروس غنية.
والدرس الأساسي السّادِس، المُسْتَخْلَص من دراسة هذا النظام السياسي القائم في المغرب، على امتداد أكثر من سِتِّين سنة، هو أنه يستحيل على أية قُوَّة سياسية مناضلة أو ثورية أن تَتَـقَـدَّم بِمُـفْرَدِهَا على طريق النضال الثوري، إذا لم تلتزم بمبدأ التَـعَاوُن، والتَـكَامُل، مع كل القِوَى السياسية المناضلة، أو التقدّمية، أو الثورية، وَبِمَبْدَأ خوض النضالات الجَماهيرية المُشْتَرَكَة (وليس الاكتـفاء بِخَوْض النضالات الحِزْبِيَة الخَاصَّة، أو المحدودة، أو الحَلَقِيَة، أو الضَيِّـقَة). مع التَحَلِّي، في نفس الوقت، بكل الاحتياطات الـلازمة.
وَيُوحِي أحيانا وجود النخب بإحساس تَوَفُّر «الديمقراطية» في البلاد. لكن وُجود النخب لا يُثْبِتُ وجود هذه «الديمقراطية» المُـفْـتَرَضَة. وَإن وُجِدَ في النظام السياسي القائم شكل مَا من أشكال «الديموقراطية»، فَلَا يَسْـتَـفِـيـد من هذه «الديموقراطية» المزعومة سِوى أفراد العائلة المَالِكَة، والمُـقَـرَّبِين منها، وأفراد طَبَـقَـة المُسْـتَــغِـلّين الكِبَار، وطَبَـقَة المُسْتَــغِـلِّـيـن المُتَوَسِّطِين، وَخُدَّامُهُم الأَوْفِيَّاء. وَلأن الوُلُوجَ إلى النخب يُشتـرط فيه الوَلَاء التَامّ للنظام السياسي القائم. ولأن الالتحاق بالنخبة، لَا يَنْـبَـنِـي في الواقع المُجتمعي المَلْمُوس على كَفاءة، أو على جَدَارَة، أو على استحقاق. ولأن هذا الولوج للنخب، ليس مفتوحا بالتّساوي أمام عُموم المواطنين.
وعلى خلاف مَا طرحه المُنَظِّرُون الْلِّيبِِيرَالِيُّون الغَرْبِيَّون (في تَـعْرِيفِهِم لِـ «النُخَب»)، وَعلى عكس مَا يَزْعُمُه الخِطَاب السياسي الرَّسْمي في المغرب، فَإِنّ أَفْرَاد «النُخَب» في المغرب لَيْسُوا مُسْتَـقِـلِّـين، وَلَا يُـمارسون السّلطة السياسية، وإنما هُم مَسُودُون (من طرف هذه السلطة السياسية المركزية)، وَمُـكَلَّـفُون بتطبيق توجيهات السلطة السياسية المركزية. ولا يُسمح لهم بِمُخَالَفَتِهَا، أو بالخُروج عن الحُدُود التي رَسَمَتْهَا هذه السلطة السياسية المركزية.
وعلى خلاف بعض المظاهر المُخادعة في المغرب، لا تـقدر النخب على التصرّف بشكل مُستـقل عن السلطة السياسية المركزية، فبالأحرى أن تـقدر على نـقد هذه السلطة، أو مُعارضتها، أو مُعَاكَسَتِهَا.
كما لا يَستطيع أفراد «النُخَب» في المغرب أن يَتَنَـظَّمُوا، أو أن يُنَسِّـقُوا فيما بينهم، أو أن يَتَوَحَّدُوا، أو أن يتحوّلوا إلى سلطة مُضادّة. لأن النخب في المغرب، هي بطبيعتها متنوّعة، ومتباينة، ومتناقضة، ومُسخّرة من طرف السلطة السياسية المَرْكَزِيَة. ولا يجمع أفراد النخب سوى ولاءهم، ووفاءهم، إلى السلطة السياسية المركزية.
ورغم ما يمكن أن يحمله بعض أفراد النّخب من شَواهد جامعية عُليا، أو من خِبرات تـقنية، أو ألقاب برّاقة، أو أَوْسِمَة تَشريفية، فإن قيمتهم الإنسانية تبقى ضعيفة إذا لم يُساهموا في نـقد مُجتـمعهم، وفي مُعالجة أزماته، بهدف إخراجه من التخلّف الذي هو غارق فيه.
وكثير من أفراد النُّخب يغدون كالمُحتـرفين في شَهَادَة الزُّور، شُغلهم الشَّاغِل في كل يوم، وفي كلّ مُناسبة، هو أن يُصَرِّحُوا بأن «العَامْ زِينْ»، أي أن «كل شيء في البلاد هو بالتّأكيد في منتهى الكمال والإتـقان، بفضل السياسة الرّشيدة لِمَوْلَانَا الإِمَام، رئيس البلاد، نَصَره الله وأيّده»(1). ويصبح هذا الصِّنْـف من النّخب كالمُرتزقة، يشاركون في تَبْلِيد الشعب، وَفي قَتْل حِسِّه النـقْدِي، وفي تسهيل استـغلاله، مُقابل امتـيازات مادية سخيفة.
ولا يُمكن لجماهير الشعب أن تَتحرّر من الأمية، والجهل، والفقر، والاستـغلال الرأسمالي، والغِشّ، والاستبداد، والفَوارق الطبقية الواسعة، إذا لم تبذل ”النّخب“ مجهودات مُضنية، وتضحيات مُتواصلة، بِهدف رفع مُستوى عَقْل الجماهير وَأَدَائِهَا السياسي. وَمَا دَامَت النُخَب مَرْهُوبَة من طرف قَمْع الدولة، وما دامت النُخَب تَتَحَاشَى خَطَرَ أَيَّة تَضْحِيَة شخصية، فإنها سَتَبْـقَـى كَأنها غير مَوْجُودة. وفي نـفس الوقت، لا يمكن أن تتحرّر جماهير الشعب من تخلّفها، إلاّ إذا كافحت هذه الجماهير بهدف أن تُحرّر نـفسها بِنـفسها، عبر الاعتـماد على النـفس. ومهما كان ”المُرَبِّـي“ خَبيرا وضروريًا، فإنه سَيَـبْـقَـى، في نـفس الوقت، في حاجة متواصلة إلى إعادة التـربية(2).
رحمان النوضة
(هذا النص هو مُـقْتَطَف من كتاب : رحمان النوضة، نَـقْد النُخَب، نشر سنة 2015، الصفحات 80، الصيغة 9. ويمكن تنزيل هذا الكتاب بالمجّان من مدوّنة الكاتب :
https://livreschauds.wordpress.com/2016/02/21/نـقد-النخب-رحمان-النوضة/
___________________________
الـــــــهــــــــوامـــــــــش :
(1) أَصْبَحَ مِن عادة أُطُر أجْهِزَة الدولة وَإِدَارَاتِهَا في المغرب، أن يَـفْـتَـتِـحُـوا مُرَاسَلَاتِهِم الكِتَابِيَة البَيْـنِـيَة، بِـعِـبَارَة : «سَلَامٌ تَامُّ بِوُجُود مَوْلَانَا الإِمَام، أَيَّدَهُ اللهُ وَنَصَرَه». وَغَدَى اِسْتِـعْـمَال هذه العِبَارَة مِن عَلَامَات «الوَلَاء» المَطْلُوبَة مِن كُلّ مُوَظَّف مَأِجُور يَشْتَـغِلُ في أجهزة الدولة. وفي هذه العبارة، يُعطي موظّفو الدولة لِـمَـفْـهُوم «مَوْلَانَا» مَـعْـنَـى الشخص "الذي يَمْلِكُنَا كَـرَعَايَا". وَيعطون لِمَـفْـهُوم «الإِمَام» معنى "أَمير المُؤْمِنِين"، أو "رئيس المُسلمين". وَيَـعْتَبِرُون أن الله «يُؤَيِّدُ دَائِمًا المَلِك وَيُنَاصِرُه»، في كلّ مَا يقوله أو يَـفْـعَـلُه، وبدون أيّ شرط مُسْبَـق. فَوَضَـعُوا هكذا الْإِلَـه هو نَفْسَة في خِدْمَة المَلِك، ومن ضِمْن أَتْبَاعِه.
(2) كارل ماركس، أطروحات حول فُويَرْبَاخ . وهي الأطروحة الـ 11 من بين الأطروحات القصيرة التي كتبها كارل ماركس، في 1845، كمسودّة للفصل الأول حول الفيلسوف لودفيغ فُويَرْبَاخ (Ludvig Feuerbach)، في كتاب كارل ماركس: الأيديولوجية الألمانية . ولم يُنشر هذا الكتاب إلاّ في سنة 1888، بعد موت كارل ماركس.________________