ضد آكلي لحوم البشر الرأسمالي.


حازم كويي
2022 / 11 / 10 - 13:47     

كيف سيربح اليسار المستقبل؟
مقابلة مع العالمة السياسية الأميركية نانسي فريزر*
ترجمة:حازم كويي
كيف تصفين الأوقات التي نعيش فيها؟ هل نحن في أزمة، أو في أزمات متعددة، أو حتى في كارثة؟
أود أن أقول إننا في أزمة تأريخية لسببين. أولاً، لا تقتصر الأزمة على القطاعات الفردية، بل تؤثر على النظام الاجتماعي بأكمله. إنها ليست أزمة اقتصادية أو بيئية "فقط"، وليست "فقط" أزمة في السياسة أو قطاع الرعاية، ولكن هذه الظواهر كلها تتقارب وتؤدي إلى التفاقم،بعضها البعض. تاريخياً، الأزمات واسعة النطاق مثل هذه نادرة. في الخمسمائة عام الماضية من الرأسمالية ربما كانت هناك أربع أزمات من هذا القبيل، مع تزايد أعداد الناس الذين يعتقدون أن المجتمع ككل كان غير مستدام. السبب الثاني هو الطبيعة المنهجية لهذه الأزمة. كل اللاعقلانية والخلل الوظيفي التي نمر به حالياً لم تنشأعن طريق الصدفة، ولكنها متجذرة بعمق في هياكل المجتمع الرأسمالي - حتى لو كنا نتعامل مع شكل تاريخي محدد منه.
أنت تصفين رأسمالية اليوم بأنها "آكلة لحوم البشر". ماذا تقصدين بذلك؟
إن الشكل الرأسمالي للاقتصاد يقضم باستمرار ظروفه الخاصة، يلتهم كل ما يجعل وجوده ممكناً. وهذا يعني أن الأزمات الرأسمالية ليست أزمات اقتصادية فحسب، بل هي أزمات اجتماعية وسياسية وبيئية أيضاً. بالإضافة إلى ذلك، فهي لا تحدث فقط في مجال معين، كما وصفها ماركس، مع ميل معدل الربح إلى الانخفاض في مجال الاقتصاد. تنشأ الأزمات أيضاً من التناقضات بين المجالات الاجتماعية المختلفة، كما وصفها كارل بولاني في منتصف القرن العشرين. بالنسبة له، تنشأ اتجاهات الأزمة من الصراع المستمر بين المنطق الاقتصادي لاستغلال هذا النظام ومنطق التكاثر الطبيعي والاجتماعي. هذه التناقضات تتجاوز الاقتصاد وبالتالي تدفع أيضاً ظواهر الأزمة إلى ما وراء الاقتصاد. في هذا الصدد، يجب أن نثري ماركس وبولاني مع وضد بعضهما البعض. عندها فقط يمكننا أن نفهم أن الرأسمالية لا تستغل فقط العمال بالأجر، ولكنها تستنزف أيضاً جميع الموارد "غير الاقتصادية" التي تجعل هذا الاستغلال ممكناً في المقام الأول: العائلات التي يتم فيها إنتاج (إعادة) قوة العمل، الدولة التي تضمن حقوق الملكية وتوفر المنافع العامة، وبالطبع النظم البيئية التي تجعل الحياة ممكنة في المقام الأول.
توجد هذه الديناميكية في كل شكل من أشكال الرأسمالية ولا تتوقف عند الطبيعة ولا في أعمال الرعاية ولا عند ثروة العمال أو صحتهم - وهذا ينطبق بشكل خاص، وإن لم يكن حصرياً، على السكان الذين يعانون من العنصرية. كما أنه يقوض المجال السياسي، بمعنى آخر على وجه التحديد إمكانات القوة العامة التي نحتاجها بشكل عاجل لحل مشاكلنا. لذا فإن طبيعة آكلي لحوم البشر للرأسمالية هي التي تنتج الأزمات المتعددة، الظلم وعدم المساواة من ناحية الجنس والعرق والإمبريالية،الى جانب التناقضات الطبقية بالمعنى الكلاسيكي.
لماذا لم تستسلم الرأسمالية بعد لديناميكيات التدمير الذاتي؟
نرى في تاريخ الرأسمالية سلسلة من فترات الأزمة العميقة، التي يتعثر فيها النظام، وفترات الإصلاح التي تهدف إلى التخفيف من حدة هذه التناقضات الداخلية. ومن الأمثلة على ذلك ما يسمى بالديمقراطية الاجتماعية أو رأسمالية الصفقة الجديدة. لقد كان رد فعل مباشر لأزمة الرأسمالية الصناعية الليبرالية أو الاستعمارية، والتي انعكست في الأزمات الاقتصادية والحروب العالمية في النصف الأول من القرن العشرين. ترجع جذور هذه الأزمة إلى نهم رأس المال، الذي هدد مرة أخرى باستهلاك القدرة على إعادة الإنتاج الاجتماعي. يتألف "الحل" الاجتماعي الديمقراطي من إحاطة رأس المال بمصالحه الخاصة - من خلال اللوائح والضمان الاجتماعي والسياسات الاقتصادية الموجهة نحو الطلب. نجح هذا التوازن لفترة، لكنه لم يكن عادلاً ولا مستداماً حقاً. لذلك ليس من المستغرب أنها بدأت في التفكك في السبعينيات والثمانينيات. في ذلك الوقت، كان الطريق واضحاً لشكل جديد آخر من الرأسمالية: الرأسمالية النيوليبرالية أو العولمة في التسعينيات، والتي ما زلنا نعيش فيها حتى اليوم.
ما هي السمات الخاصة لهذه الرأسمالية الحالية؟
هذا الشكل الأخير وحشي وأستغلالي بشكل خاص. الرأسمالية النيوليبرالية تحرر ميول النظام لأكل لحوم البشر من كل القيود واللوائح. ولذا فهي تلتهم بلا رحمة ما تؤسس عليه وجودها. بدت جائحة كورونا وكأنه الأشعة السينية لهذا النظام الاجتماعي. لقد كشفت عن مدى عدم عقلانية نظامنا وكيف تم دفع جميع اتجاهات الأزمات إلى نقطة الغليان المطلقة. نحن نجد أنفسنا في فوضى واحدة لا تنفصم.
كيف يؤثر هذا الوضع المتطرف على الناس الذين يعيشون فيه؟
تحت الضغط الرهيب لهذه الأزمات، يتخلى الكثير من الناس عن الفطرة السليمة التي كانت تجمع كل شيء معاً إلى حد ما. لم يعودوا يؤمنون بالرواية القائلة بأن الروتين والأسواق الحرة ستؤديان إلى نهايات سعيدة. كما ينعكس ذلك في تزايد الابتعاد عن النخب والأحزاب الراسخة، الأمر الذي يعكس ما أسماه أنطونيو غرامشي "أزمة الهيمنة". الناس تبحث عن حلول جديدة. يمكن أن يوفر هذا فرصة للمشاريع التحررية اليسارية. ولكن هناك أيضاً جانب سلبي: ينجذب الكثيرون إلى القادة الاستبداديين، الرجال الأقوياء الذين يمارسون التهميش الخبيث للأقليات. يمكننا ملاحظة ذلك في أشكال مختلفة في جميع أنحاء العالم، من حركة تفوق اليمين البديل في الولايات المتحدة إلى (حزب البديل من أجل ألمانيا) في ألمانيا.
وإلى أي مدى تُستخدم هذه الفرصة التي تتحدثين عنها للعثور على إجابات تقدمية؟
أرى بالتأكيد أنتعاشاً في الحركات الاحتجاجية وتأسيس الأحزاب، وإمكانات تحررية هائلة. ومع ذلك، لا تزال هناك مشكلة لم تُحل حتى الآن،فقد ظل النشاط في الغالب معزولاً ومشتتاً. لا يمكن إقامة هيمنة مضادة أو إقامة مشاريع مشتركة على الإطلاق. هذا لأن الظروف المعيشية في الرأسمالية، وخاصة في شكلها الحالي، معقدة للغاية. يتم تجربة الأزمات بطرق مختلفة جداً. عندما يكون هناك الكثير للاحتجاج، تميل الحركات السياسية إلى التركيز على قضية واحدة تشعر أنها الأكثر إلحاحاً. بالنسبة للبعض، هو عنف الشرطة الشديد ،والآخر الذي يرى العمل المحفوف بالمخاطر والفقر، وهناك من يمثلون قضية أزمة المناخ المتصاعدة. كل هذه المشاكل حقيقية. محاولة حلها معاً، ومن خلال العمل الديمقراطي الجماعي، يمكن أن يؤدي إلى تضامن أوسع ومشاريع أوسع وأكثر راديكالية. ولكن لكي يحدث ذلك، يحتاج الناس إلى إقامة روابط وفهم، أن معاناة كل منهم ناتجة عن نفس النظام الاجتماعي - تلك السلالة المأخوذة من آكلي لحوم البشر بشكل خاص من الرأسمالية.
كيف يمكن إظهار ما يوحد النضالات؟ من خلال أي مطالب، ما هي الروايات التي يمكن للناس أن يتوصلوا إليها؟
أولاً، من المهم إظهار كيف تتشابك الظواهر - وهنا أتحدث كمنظرة ناقدة وناشطة. يمنح هذه الحركات نوعاً من خريطة، التي تجعل الروابط مرئية ويمكنها تحديد مواقعها والعثور على حلفاء محتملين. لا أعني ذلك بالمعنى اللينيني،من أن الاهتمامات يجب أن تخضع لمطلب يفترض أنه أكثر أهمية. على العكس من ذلك، (إعادة) صياغة المطالب بطريقة تجعل التعاون ممكناً ويمكن أن تظهر مشاريع أوسع. إذا حدث ذلك، فيمكننا كسب البعض وربما حتى الكثير، من الأشخاص الذين يميلون حالياً نحو الشعبوية اليمينية. بالطبع ليس أولئك الذين يتسمون بالعنصرية والاستبداد بعمق، والذين لا يستحقون النضال من أجلهم. ومع ذلك، يعتمد الشعبويون على العديد من الناس الذين لم يكن لديهم ببساطة أتصالات مع بدائل مناسبة من اليسار، والذين يصوتون لليمين لأنه لا أحد يناشدهم بمنظور طبقي واضح. كي يمكن أن نقدم لهم شيئاً أفضل.
فهل مهمتنا كأشتراكيين إظهار هذه الصورة الأكبر التي تجعل التحالفات ممكنة؟
بالضبط،سواءاً كنا نتحدث عن مؤيدي ترامب في الولايات المتحدة أو (حزب البديل من أجل ألمانيا) في ألمانيا، هؤلاء لديهم رواية. وهذا السرد لا يدعي أنه يشمل الجميع؛ بل على العكس، فهو حصري بالتأكيد. لسوء الحظ، هذا بالضبط ما يجده الكثير من الناس مقنعاً. نحن بحاجة إلى اقتراح مضاد قوي يمكنه إقناع الناس. النيوليبرالية التقدمية مع ما تقدمه ليست هي الحل - فنحن نراها تفشل كل يوم. هذا هو بالضبط ما يفتح الفرصة لتطوير أشكال جديدة من النسوية، ومكافحة العنصرية، وسياسات البيئة والعمل. نماذج تهدف إلى تغيير هيكلي عميق.
كيف سيبدو هذا البديل من اليسار؟
سيكون تحالفاً من الحركات النسوية، المناهضة للعنصرية، المؤيدة للديمقراطية، البيئة والحركات العمالية. يكون مثل هذا التحالف فعالاً، عندما يتفق المشاركون على أمرين: أن مشاكلهم المختلفة تنبع من نفس النظام الاجتماعي المنحرف. وأن الجميع يشتركون في هدف الرغبة في معالجة هذه المشاكل. لذلك لا يتعين إخضاع إختلافاتهم لعالمية مجردة. على العكس من ذلك، يمكن لكل منهم الاحتفاظ بهويته السياسية الخاصة مع مشاركة تشخيص الوضع الراهن. مفهوم التقاطعية يحاول التقاط هذه الممارسة بشكل تحليلي من خلال تتبع مشاكل مختلفة ومتداخلة إلى سبب مشترك. ولكن عندما يتعلق الأمر بالتغيير والتحرر، فقد لا تكون التقاطعية كافية. ما نحتاجه بدلاً من ذلك هو شعور أقوى بالتضامن - شعور بما يمكننا مشاركته.
هل يتطلب هذا أيضاً فهماً جديداً للموضوع الثوري اليوم - الطبقة العاملة؟
نعم، نحن بحاجة ماسة إلى الابتعاد عن هذا الفهم التقليدي، الذي يشير فقط إلى العمل الصناعي للبروليتاريين الأحرار. هذا البعد للطبقة العاملة مهم بلا شك، لكنه مجرد جانب واحد من جوانب عديدة. تعتمد الرأسمالية أيضاً على العمال غير الأحرار أو التابعين، وتحسبهم على أنهم ضعفاء من منطلق أعتبارات عنصرية. لا يتم استغلال عملهم ببساطة، بل يتم مصادرته. لذا فهم أيضاً جزء من الطبقة العاملة، تماماً مثل العمال الذين يتقاضون أجوراً منخفضة أو حتى العاملين بدون أجر في أعمال الرعاية الخاصة الاجتماعي. هذان البعدان للعمل ضروريان للغاية لتراكم رأس المال. بدونهم لا يمكن أن يكون هناك عمالة مستغلة، مواد خام، إنتاج سلعي، فائض القيمة، رأس مال.
لذا فإن الرأسمالية لا تستند إلى بعد واحد فقط، بل على ثلاثة أبعاد للعمل مرتبطة وظيفياً في نظام أجتماعي. وهذه الأبعاد بالتحديد هي التي تتغير اليوم. الآن تمت الاستعانة بمصادر خارجية لأغلب أعمال التصنيع التقليدية في البلدان شبه المحيطية حيث تكون قوانين العمل ضعيفة ولا توجد نقابات. تتم الكثير من أعمال إعادة الإنتاج الاجتماعي في علاقات خدمة منخفضة الأجر، هي في الغالب لصالح الشركات الموجهة للربح، ولكن يتم تنفيذها في المؤسسات العامة وللمهاجرين الذين يمكن ترحيلهم في أي وقت. إذن، في كلتا الحالتين، يكون العمل "شبه مجاني"، لأن العمال يفتقرون إلى حقوق التمكين والحماية السياسية. يجب أن يشمل مفهومنا للطبقة العاملة كل أبعاد العمل هذه في ظل الرأسمالية وتقاطعاتها. على هذا الأساس يمكننا تشكيل تحالفات لها الوزن اللازم وأتساع الرؤية لكتلة تحررية مناهضة للهيمنة.
كيف يمكن للحركات استخدام هذا المفهوم لأنفسهم بالضبط؟ ولماذا هو مهم لنجاحهم اليوم؟
أية حركة يجب أن تكون، بغض النظر عن أهتماماتها، أكثر حساسية لمثل هذا الفهم الطبقي الموسع. نحن بحاجة إلى "نسوية من 99 في المائة" وليس نسوية ليبرالية جديدة تهدف فقط إلى اختراق "السقوف الزجاجية" للمهن الفردية للمرأة. يجب أيضاً ربط السياسة البيئية بالنضالات التحررية الأخرى، لأن أي شخص يفكر في المسألة البيئية، باعتبارها موضوعاً واحداً ينخدع بالاعتقاد بأنها في الأساس مصدر قلق للأثرياء. يجب على الحركات المناهضة للعنصرية أيضاً أن تتجاوز شعار الوجوه السوداء في الأماكن المرتفعة وأن تنظر في المقاربات السياسية الطبقية. يجب أن تعمل النزاعات الصناعية أيضاً على أساس هذا الفهم الطبقي الموسع وتشمل مطالب من حركة #MeToo ،على سبيل المثال. إذا تمكنا من ربط نزاعات العمل بقضايا التكاثر الاجتماعي والبيئة والديمقراطية، فيمكننا جذب قطاعات كبيرة من السكان. حيث يشكل اليسار القائم على مثل هذا المفهوم الطبقي القوي والدقيق تحدياً حقيقياً لخصومه السياسيين - الشعبويين اليمينيين والليبراليين الموجودين في السوق.
"عالم آخر ممكن" - هذا الشعار حشد الحركات لعقود. ماذا تبقى منه في وقت يقترب العالم المناخي من نهايته ؟
بالطبع، تتطلب الأزمة البيئية تغييرات كبيرة في وقت قصير جداً. يصبح البعض محبطاً أو سلبياً. في الوقت نفسه، أرى إحساساً حقيقياً بالإلحاح، وطاقة هائلة لإنصاف هذه المهمة. إن رؤية التزام وأستيقاظ جيل جديد من النشطاء أمر مشجع للغاية. يذكرني هذا بطريقة ما بأواخر الستينيات،عندما كنت ناشطة يسارية راديكالية. واليوم، بصفتي أستاذة، أواجه اهتماماً هائلاً بين الطلاب في الماركسية البيئية والاشتراكية - وهي موضوعات لم تكن شائعة تماماً في العقود الأخيرة.
هل ترين سبباً للتفاؤل؟
أرى بالتأكيد أن هناك رغبة كبيرة في التواصل مع الآخرين. لقد تجاوزنا النقطة التي أراد فيها اليساريون الراديكاليون الشباب قبل كل شئ، أن يطوروا صوتهم المنفصل. يشعر الناس بالحاجة الملحة للتواصل بدلاً من قطع الاتصال. إن حقيقة أن مفاهيم التقاطعية والاشتراكية البيئية والنسوية في إعادة الإنتاج الاجتماعي تشهد مثل هذه الطفرة وهذا التوق إلى الاتصال. أرى مستواً مذهلاً من الإبداع لدى أولئك الذين يحاولون أبتكار نظريات ونماذج جديدة تصنع هذه الروابط. إنه حقاً الوقت المناسب لأن يكون (كلا الجنسين) مثقفاً.

نانسي فريزر* عالمة سياسية وواحدة من أشهر النسويات الأمريكيات. تعمل حالياً أستاذة للعلوم السياسية والاجتماعية في المدرسة الجديدة للبحوث الاجتماعية في نيويورك.