مقتطفات 3 (تتمة)


عذري مازغ
2022 / 10 / 31 - 20:02     

مر اليوم هادئا إلا من ضجيج الأطفال، عاد العم بلحم الوزيعة ليقدمه إلى "ربَاعه" الذي يقطن بأميال عن مركز الدوار بأحد حقوله الغير مزروعة في منطقة محاصرة بالغابات تسمى "تاغبالت" ، وذلك أن العادة عند اهل البلدة في خلق وظيفة "الرباع" هي لإبعاد المواشي عن الحقول المزروعة، لم تختفي مهنة "الربَاع" بعد من المنطقة، وتقوم على جملة من الأفعال مقابل ربع المنتوج، فهو الذي يحرث الحقول المزروعة وفي نفس الوقت يرعى المواشي طيلة سنة مقابل ربع المنتوج من كل ما زرع ومن كل ما رعى وربع المواليد الجدد في قطيع المواشي، الربع من صوفها أيضا والربع من شعر الماعز بينما ألبانها لا يحصل حولها اتفاق بل يستنفع بها الرباع بشكل عام وإن كان عليه إيصال حصة من الألبان لمالك القطيع تطوعا وليس إجباريا (نوع التراضي التلقائي)، وطبعا هناك أيضا حرفة الخمَاس التي تعتمد على خمس الإنتاج على ان المنطقة تعتمد اكثر حصة الربع، وهنا تتم عملية استغلال لكل أفراد أسرة الرباع، في موسم الحرث يكون أطفاله ذكورا وإناثا هم الرعاة وهي أعمال شاقة مقارنة بالحصص المستحقة خصوصا حين تنزل الثلوج بالمنطقة حيث يموت أغلب المواليد الجدد من المواشي بسبب البرد وقلة العشب وبسبب غياب وعي تام في التدبير حيث تطلق الذكور في القطيع طيلة السنة بشكل تتناسل عبر فصول السنة، ولا ينجو منها إلا مواليد فصل الربيع والصيف بينما مواليد فصل الشتاء قد تموت بالكامل.
عندما وصل عم عمر لخيمة "الرباع" ليمنحهم اللحم وجد عندهم خبر فاجع:
ــ "حماد انتحر" بعين "ماريغ" في الدوار الآخر، قالت زوجة الرباع
ــ كيف انتحر أنا التقيته امس وهو في حالة جيدة، رد عم عمر مندهشا ثم سألها عن زوجها
أخبرته أنه ذهب للتعزية ودفن المرحوم بمقابر "أكديم"
حماد هذا يمتهن هو الآخر مهنة رباع برغم أنه ورث حقولا كافية إلا انه قليل الحيلة، كان يبيع قطع أرض كلما حازته الظروف، واكثر من ذلك متزوج بامرأتين كشكل من أشكال إظهار الشبع بشكل أغرقه في قبيلة من الأطفال: حين تزوج الثانية بسبب ضعف الأولى في الفراش كما صرح لبعض أصدقائه برغم انه مناقض في الأمر، إذ انه في خالات أخرى يبرر أمر زواجه بالثانية لبعض أقاربه كون الأولى لم تنجب له إلا الذكور. كانت الزوجة الثانية تريد أن تتساو في عدد الأطفال بالأولى وهكذا احتدمت المنافسة بينهن بشكل يزدان فراش حمادي بطفل كل سنة وأحيانا بتوأم بشكل كبرت مصاريفه، وهذا جعله يعتمد حرفة رباع غنم لزيادة دخله وهو ما جعله يسكن بخيمة بجانب الغابة هو الآخر بعيدا عن الحقول المزروعة قرب عين واد صغيرة تسمى "ماريغ" (ماريغ هي عين مالحة بالأمازيغية بنسبة خفيفة حيث تصلح لسقي المواشي)...
لم يتوقع احد انتحار حمادي، كان خفيف الظل وذا ملاحة في الكلام، غزير النوادر ويحب الغناء وتامديازت (نوع من الشعر الامازيغي) بشكل حتى طريقة انتحاره بدت كشكل من أشكال النوادر حيرت فقهاء الدواوير الثلاث حول مكان دفنه وحول موته: هل سيعتبرونه منتحر أم هي دعابة أدت إلى حادثة موت غير مقصودة ثم ما سيترتب على ذلك من فتوى من قبيل هل سيدفن في قبور المنطقة باعتبار موته حادثة أم سيدفن في مكان وحده باعتباره انتحر. لقد حكت زوجتيه أنه دائما ما يقوم بهذا الأمر دون أن يتسبب في موته: كن حين يقاطعنه في الفراش يغضب، وكشكل من الاحتجاج كان يحمل حبلا رثا ويخرج للغابة ويعمل تمثيلية على أنه سينتحر، يربط الحبل الرث بعرش رقيق لا يتحمل وزنه كاحتياط كبير للحفاظ على حياته كيما إذا لم يتقطع الحبل ينسلخ العرش عن شجرته، في البداية كانت الزوجتين يهتمن بالأمر ويعدنه بان تكون ليلته زاهية، لكن بعد أن اكتشفن حيلته لم يعدن يهتمن بالأمر، ولما حصلت غضبته أمس لم يهتمن به كالعادة، إنها تمثيليته وسيعود حينما تخف غضبته إلا أن الحبل هذه المرة لم يتقطع ولا حتى العرش الرقيق الذي ربط به عند سقطته: اتحدت الطبيعة في وضع حد لحياته .
أمسى النهار حديث القرى الثلاث المتجاورة في الانتحار العجيب، كوميديا سوداء محيرة بين أن تحزن لموته أو تضحك لتمثيليته المميتة.
وحتى عُمر حار في أمره، هل سيذهب لتعزية اصدقائه من ابناء المرحوم حمادي، أم سيترك الأمر إلى ان يلتقيهم في مناسبة أخرى، فبعد ان عرف سبب الإنتحارحاره ان يقابل أبناء المرحوم: "إنهم أذكياء، سيعرفون أني أعرف حقيقة انتحار أبيهم وسيشعرون بالحرج وبعض النفاق الاجتماعي من كلانا، سأتظاهر بأني لا أعرف شيئا وسيتظاهرون هم أيضا بالأمر.." ، خمن عمر هذا في ذاته وقد تذكر حادث محاولة انتحار أخرى بالمدينة المحلية بينما هو وابن حمادي صديقه كانا ينتشفان كأس بن في "كيوسك" أحد رفاقهم قرب البلدية، جاء عون يخبر صاحب "الكيوسك: بأن شخصا صعد إلى عمود كهربائي مهددا بالانتحار، خرجوا كلهم ليروا تلك المحاولة وما ان اقتربوا من العمود حتى قال عمر لصديقة: "هذه محاولة جبانة للانتحار"، ضحك الثلاثة ثم دخلوا في جدل فلسفي ساخر، سأله صاحب الكيوسك:
ــ لماذا هي محاولة جبانة؟
ــ لانه اختار العمود الذي تياره اقل درجة من التيار الموازي الذي يحادي المدينة في الحقول المحيطة بها، هناك التيار القوي القادم من سد بين الوديان، لو كان صادقا لذهب إلى العمود هناك حيث لا يراه الناس وحيث قوة التيار تقتل بسرعة..!
ــ لقد كان هناك بالفعل ولم ينتبه له احد فجاء إلى هنا قرب البلدية، قالها احدهم من الجمع الحاضر للمشهد
ــ هل رأيتم لماذا هي محاولة جبن؟ ضحك الجميع فصعد أحد المتطوعين لإنقاذه وكان المشهد مهيبا خوفا من احتمال سقوط الإثنين، المنتحر والمنقذ..
كانت في الحقيقة عملية احتجاج على العمود الكهربائي أمام مقر سلطة الداخلية بسبب قضية إرث وقيل بأن إخوته من أبيه هضموا حقه في الإرث بوساطة أحد رجال السلطة ممن تجمعهم علاقة قرابة أو رشوة مع إخوته...
كان المشهد مضحكا اكثر مما هو محاولة انتحار، حاول المحتج ان يقترب أكثر من الأسلاك الكهربائية عندما اقترب منه المنقذ ولم تطاوعه اطرافه للتسلق أكثر، بل دخل في هستيريا من الإرتعاد تقطع قلوب الحاضرين خوفا من ان يسقط ويزيح معه المنقذ الذي تحته..
جاء أحد رجال السلطة يحثه على النزول واعدا إياه بالتدخل لحل مشكلته مع إخوته وما ان نزل حتى صاح في وجهه يقمعه:
ــ أيها الكلب! ألا تعرف أن المنتحر يذهب إلى جهنم! هل تريد ان تصلى في النار؟
أحنى المسكين رأسه وهو يتمتم شيئا مبهما، وربما كان يلوم نفسه في كونه لم تكن له الشجاعة في قتل ذاته، أو ربما شعر بالندم والذنب في محاولته المفضوحة التي لم يكن في الواقع يقصد بها الانتحار بل شكل من أشكال الاحتجاج التي تشبه تمثيلية حمادي..
أثناء ذلك شعر عمر بكثير من الحماسة في تحليل نظريته في فلسفة الانتحار الجبان لصديقه ورفيقه الآخر صاحب الكيوسك.
تذكر عمر كل هذه التفاصيل وهو يستنبط ماذا عسى أن يقول صديقه ابن حمادي وهو يعزيه في أبيه في تمثيلية انتحار فاشلة أدت إلى وفاته، فبمجرد أن يراه ابن حمادي سيخمن: "هه! جاء ليسخر كما عادته من المنتحرين!"
لكن، وهو يفكر في هذا حسم في الأمر بضغط من والده بالذهاب معه للتعزية، اما قريبهم البرجوازي فتعذر كونه سيعود اليوم إلى الرباط ناسيا أنه قد اخبرهم بأنه سيمضي بعض أيام العطلة معهم وأنه برمج أن يخيم مع عائلته بالبحيرة القريبة من القرية.
كان قريب عمر يخاف من الاختلاط بأهل القرية بسبب وظيفته بإحدى مؤسسات الدولة، وهي وظيفة سامية لو استغلها لوظف كل ابناء القرية بمكالمة هاتفية، هكذا أيضا كان يقال لعُمر عندما أنهى دراسته ودخل عالم العطالة: "قريبك يستطيع توظيفك بمجرد خدش على الهاتف وفي أعلى المناصب"، لكن عمر كان يتحاشى الإجابة بصمت غامض، في داخله يتذكر إهانة قريبه حين ذهب إليه بالرباط ليطرح عليه مسألة التوظيف وقد مر على عطالته أكثر من نصف سنة، لقد بادره قريبه قبل أن يسأله عمر عن زيارته، بسؤال مهين بلغة فرنسية: " tu chômes encour?" (أمازلت معطل؟)، "عليك الآن البحث عن العمل ولا تتكاسل، الحياة صعبة و"الراجل بفلوسو"، الآن كل ما قرأته لا قيمة له بدون عمل"، ثم ختم سلسلة موجاته المكهربة بالمثل المغربي الشائع: "لي ما عندو فلوس حتى كلامو مسوس!"
تلقاها عمر كقنبلة ولم ينبس بشفة ومن ثم لم يعد يفكر في أن يتوسط له قريبه في وظيفة.