نهداي منفضة سجائر


بانكين خليل عبدالله
2022 / 10 / 21 - 00:32     

نهداي منفضة سجائر:

كنت أحلمُ أن أصبحَ طبيبةَ أعصابٍ لأعالجَ أبي - الذي لم يتوانَ للحظةٍ عن الصراخ في العائلة - وأُعيدَ إليه حنانهُ الذي كانت تحدّثُنا عنه أمي قبل أن تسوءَ ظروفنا المادية لدرجة أنّ أمي باتتْ تُرقِّعُ ثيابنا وتُلبِسنا إياها بالتوالي. وكنت كلما غضبتُ منه يُعزّيني حديثُ أمي، ويكبرُ في حلمي الطفوليِّ ذاك.
أدركتُ متأخرةً –بعد أن قرأتُ في إحدى الروايات- أنَّ سبب صراخ أبي الدائم كان قلّةُ حيلتهِ وعجزهِ عن تأمين قوْتِنا وتأطيرِ أحلامنا التي كانت أوسع وأكبر من عزمه وواقعنا، فذاك أشدُّ ما يُضعِف الرَّجل ويُبكيه.
ذات مساءٍ باردٍ نادتني أمي للداخل، احتضتني على غير عادتها، ومسَّدتْ يدي -شعرتُ بحرارة أنفاسها، تنهدتْ وكأنها ستُفرِغ أحشائها دفعةً واحدة- ذرفتْ دمعتين ثم قالت: «هناك من طلبَ يدك للزواج.. ووالدك لم يرفض».
للوهلة الأولى، لم أعي ما قالته. تنهّدتْ مكابرةً وتابعتْ: «إنه أحد معارفهِ، أستاذٌ للغة العربية اسمهُ أحمد، أنا لست موافقة علية ولا على زواجك الآن، ولكن يا ابنتي أنتِ تعرفين والدك جيداً، لن يغيّر رأيهُ؛ لقد أعطى كلمتهُ وانتهى الأمر».
كيف أعطى كلمته دون أن يسمع رأيي أو يسألني حتى؟
كيف يفعل ذلك؟
لا.. لا أريد الزواج، أريد أن أنهي دراستي وأصبح طبيبة لأنُهي مأساتنا هذه...
بعد يومين جاء أهل العريس وطلبوني رسيماً، فرفضتُ طلبَهم، وحين ذهبوا جاء إليّ أبي كعادته وبدأ يصرخ إلى أن قادَهُ غضبه هذه المرة إلى ضربي وتكسير بعض الزجاج في الغرفة، ليخرجَ وهو يشتمُ ويقول:« واللهِ لن تتزوجي بغيره».
بعدها بيوم علمتُ من أمي أنه اتفقَ مع العريس على المَهر، وأن الزواج بعد أسبوعٍ من الآن.
أُصِبتُ ببرودٍ شديدٍ، كـأني مخدّرة، شيءٌ ما انطفأ بداخلي. لم أعد أعي ما الذي يحدث، هل أنا أحلم؟!
أين حنانهُ الذي كانت تحدّثنا عنه أمي؟
لماذا كذبتْ علينا وأخفتْ عنا صورتهُ الحقيقة؟
بدأ رأسي يسخنُ وجسمي يهتزُّ ورحتُ أصرخ لا.. لا.. لا أريد، مهرولةً نحو غرفة أمي، وتناولتُ حبوب الاكتئاب كلها دفعةً واحدة.
لكن ولسوء حظي لم أمتْ حينها، وتم نقلي إلى المشفى؛ حيثُ أنقذوا حياتي بعد أن أجروا لي عملية غسيل المعدة، وأخبرهم الطبيبُ بأنها محاولةٌ للانتحار، وتعاني من انهيار عصبي يجب أن تنتبهوا لها جيداً.
تبسّمتُ في سرّي، وقلتُ حتماً إنّ الأمر انتهى الآن، وأبي سيغيّرُ رأيهُ؛ فقد عدتُ من الموت للتو.
ولكن والدي -خلافاً لتوقعاتي- أرسل يستعجل العرسَ، بعد خروجي من المشفى بيومين.

في تلك الأثناء كانت المعاركُ تقترب شرقاً، وصلتْ أنباءٌ أن داعش استقدمَ تعزيزات كبيرة، ويتوعّدُ بالوصول لكوباني خلال أيام_ آهٍ... قد يكون في وصولهم الخلاص.
بعد أسبوع، وقبل يوم من صباح العرس، جاءنا نبأ وفاة عم أحمد - ما يعني أنّ كلَّ شيء تأجّل، وكأنَّ القدر يمنحني فرصةً أخرى للخلاص، إما أنْ أهربَ من البيت أو يصلنا داعش ويقتلنا جميعاً وينتهي الأمر.
فكرّتُ ملياً.. إنْ هربتُ سأجلبُ العارَ لأهلي وأدمّرُ حياة إخوتي، وإنْ مرّتْ أربعينية عم أحمد ولم يصلنا داعش ستُدمَّرُ حياتي. ماذا أفعلُ يا الله.

بعد مضي سبعة وثلاثين يوماً على ترددي انهارتْ الجبهةُ الشرقية، وحدثَ ما يشبهُ القيامةَ؛ أفواجٌ من الناس يحملون صغارهم ويركضون نحو الحدود التركية، تاركين خلفهم إرثَ الأجداد وأحلامَ الطفولة
تبسّمتُ ضاحكةً للحظة، ثم توقفتُ لبرهةٍ وكأنَّ عليَّ اختيارَ مشاعري -وكيف للمرء أن يختار مشاعره- أأفرحُ بالخلاص الآن؟ أم أثكلُ حلمي؟ وها قد تحققَ ما تمنيت.. ويا ليتهُ لم يتحقق.
سقطتْ قذيفةٌ فوق مدرستي الإعدادية، وتشظّى حلمي في الاتجاهات كلها؛ عويلٌ وصراخٌ، حدثتْ القيامة فعلاً. هربنا بثيابنا باتجاه الحدود، ومن خلفنا الرصاصُ يتصيّدُ الأرواحَ... لكنّنا نجونا بعد أن عبرنا الحدودَ ودخلنا المنطقة المُحرَّمة.
دويُّ انفجار، ماذا يحدث؟ توقفوا توقفوا. بدأتْ تصرخُ مُكبّرات حرس الحدود؛ إنها منطقة ألغام. لا تتحركوا.. اثبتوا بأماكنكم –حاصرَنا الموت مرةً أخرى- جمدنا في أرضنا، التراجع مميت والتقدم مميت، لا اتجاه يسعفنا يا لله. امرأة فقدتْ حياتها وإصابات بالجملة.
بعد أكثر من ساعتين جاءتْ سيارةٌ مُصفَّحةٌ، وقطعتْ الأسلاك الشائكة، وتقدّمتْ باتجاهنا -علمنا في ما بعد أنها كاسحة ألغام- لتفتحَ لنا الطريق.
على الجهة الأخرى، استقبلتنا فِرَقُ الانقاذِ التابعةِ لحزب الشعوب الديمقراطي، وقدّموا لنا المساعدة والعون، وفي تلك الأثناء وصل عمي ليأخذنا إلى (ويرانشاه) التي نزح إليها قبل شهرين، وهناك اتخذنا من حظيرةٍ للأغنام مأوى لنا؛ فكل بيت في القرية آوى عائلتين أو أكثر، فالنازحون كُثُر ولم يبقى لنا مكان.
بعد أقل من شهرين، سرعان ما تناسينا ما نحن فيه، وأخذنا أبي لجمعِ الفاكهة والخضروات في الحقول والبساتين - فأبي من النوع الذي يرفض أنْ يعيشَ على المعونة - وبدأتِ الحياة تأخذ شكلاً جديداً بالنسبة لي ولإخوتي.

ذات مساء، بعد أن عُدنا منهكين من العمل، رنَّ هاتفُ أبي:
الو..
يا أهلاً من المُتصل؟
أهلاً صديقي.. كيف حالك؟
نحن، نعم في ويرانشاه
أهلاً بك.
تُشرِّفنا في أيّ وقت
أهلاً.. أهلاً وسهلاً
مع السلامة.
أنهى مكالمتهُ وعاد لتناول عشاءه ببرودٍ اعتدناه، إلا إنني شعرتُ بشيءٍ غريب وكأنَّ أحدهم نفخَ في صدري.
قالت أمي: مَن المُتصل؟

إنه أحمد.. سيأتي لأخذِ عروسته.
يا إلهي ماذا أسمع، لم أستطع التفوّه بشيء، اكتفيتُ بالنظر إلى أبي؛ أنتظرُ منه تكذيب الخبر، ولكن لم يأبه لي وتابعَ طعامه. شعرتُ بدوارٍ حادٍّ وغبتُ بعدها عن الوعي.
بعد يومين، جاء أهل العريس وأخذوني بثيابي العادية دون وداعٍ منهُ، وبمراسيمَ تشبه مراسيمَ العزاء -علمتُ من أختي حين وعيتُ في المشفى- أنه لم يُرِدْ أن يسعفني حتى، لولا صراخ أمي وتدخّل الجيران.
ليلة زفافي:
بعد أن أنهى الشيخ عقد قراننا وغادر الجميع، دخل علي أحمد -صديق أبي وعريسي، خلع سترته وجلس بظهره على طرف السرير، أخرج علبة سجائره وأشغل إحداها وبدأ ينفخ عالياً..
مرتْ لحظات صمتٍ مريبة وأنا أراقبهُ بخوفٍ شديد، ونبضي يتسارع أكثر فأكثر.
رمى عقبها أرضاً دون إطفاء وأشعل الثانية على الفور -شعرت بخوفٍ أكبر ... استدارَ نحوي وقال: اقتربي مني. اقتربت منه وأنا أرتجفُ من الخوف. قال: اخلعي ثيابك كلها.
ولكن.. لم أكد أنهي الكلمة حتى انفجرَ غضباً وصفعني على وجهي، ذُهلتُ تماماً، ما الذي يحدث؟
أمسكني من عنقي بشدّة وسحبني نحوهُ، مسّدَ نهديَّ الغافيين كطفلٍ فقدَ أمهُ ونام بعد طول بكاء دون شفقة، ثم توقفَ ليأخذ نفخةً أخرى من سيجارته وينفثها في وجهي -وكأني دميةٌ اشتراها أبٌ لابنه ولم تعجبهُ فرماها ليلتقطها كلبٌ شاردٌ ظاناً أنها فريسة- نزع عني كل ثيابي، وارتمى يحرّكُ جسمهُ فوق جسمي، لم يلبس حتى أدخل إصبعه الوسطى وراحَ يضحكُ ويبكي..
استمر به الحالُ هكذا بضعَ دقائق -وأنا كجثةٍ هامدةٍ من شدة الخوف. أشعلَ سيجارةً أخرى، نفخ فيها قليلاً وهو يقول: «لستُ رجلاً، لا يحدث لديّ الانتصاب» وأطفئها بنهدي.