هل سيعيد التاريخ نفسه؟


خالد صبيح
2022 / 10 / 20 - 20:32     

رغم قناعة هيغل في أن التاريخ يعيد نفسه مرتين، وإضافة ماركس أن ذلك يكون مرة بشكل مأساة ومرة مهزلة، إلا أن مغنية صاحبة صوت جميل وشخصية تافهة، أصرت على أن التاريخ لا يتكرر، حين قالت "أنا كالتاريخ لا أتكرر مرتين".

ما علينا، فهؤلاء مفكرون عظام يختلفون ويتصارعون فيما بينهم.

أقصد المغنية التافهة وغريميها هيغل وماركس.

لكن ألا تلاحظون معي أن قرننا الحالي يكرر بطريقة ملفتة بعض ملامح بدايات القرن العشرين، وأن التشابهات عديدة بين الزمنين، خذوا مثلا: توتر دولي، (صراع الأقطاب)، حرب شاملة وخطرة، (روسيا والناتو في أوكرانيا)، صعود لليمين المتطرف والعنصرية، (في معظم دول أوربا والعالم)، أزمات اقتصادية متلاحقة، (تضخم وركود)، حتى في الاوبئة تشابها، فقد كانت الإنفلونزا الإسبانية في 1918 وكوفيد في 2019، ويمكن أيضا، ببعض التجاوز، موازاة ما يحدث في وسائل التواصل الاجتماعي (السوشيال ميديا) من صخب واحتدام وسعة في التعبير عن الآراء والمواقف، وقوة التواصل والتأثير، بالهيجان الجماهيري والحضور في المجال العام، الذي مارسته جماهير القوى السياسية الصاعدة آنذاك، (الفاشية والقومية "النازية" والشيوعية)، من خلال الفعاليات الخطابية والتجمعات في الشوارع والساحات.

والشيء الوحيد الذي لم يكرر نفسه، ويفتقده زمننا بقوة، هو ما شهده القرن العشرون من صعود لقوى اليسار، الحركة الاشتراكية والشيوعية، وتنامي قوتها وتعاظم أدوارها، فقد عاش قرننا تراجعا ملحوظا لليسار في كل البقاع، عدا بؤر صغيرة هنا وهناك، مثل بعض دول أمريكا اللاتينية مثلا، ويبدو أن هذا هو شكل المهزلة الذي عناه ماركس في مقولته عن إعادة التاريخ لنفسه في المرة الثانية.

ومن متشابهات القرنين والزمانين أن في سنة 1939 وقعت حرب بين السوفييت والفنلنديين، سميت بـ "حرب الشتاء"، وكان من أسبابها هاجس روسيا التاريخي في تأمين أمنها ومحيطها، ذلك الهاجس المزمن الذي ولد مع ولادة روسيا نفسها، فروسيا مكشوفة جغرافيا؛ أرض واسعة بموانع طبيعية قليلة، ما ولّد عندها رهابا أمنيا دفعها لآن تسعى لتأمين نفسها بـمعدل 300% على حد تعبير شولنبرغ، السفير الألماني لدى روسيا قبيل الحرب الثانية.

وكانت فنلندا، وجمهوريات البلطيق الصغيرة، تشكل الخاصرة الرخوة والثغرة الحساسة في أمن روسيا.

لن أقف عند الظروف والدوافع التي أشعلت الحرب الفنلندية ولا أساليبها، لكن ما يهم هنا هو مسارها وتداعياتها.

قبل أن تشتعل الحرب نبّه وزير الدفاع الفنلندي إلى أن فنلندا لن تستطيع مواجهة الجيش الأحمر، رغم موانعها الطبيعية وخط "مانرهايم" الدفاعي الذي أقامته بين البلدين. وظن السوفييت أنهم سيحققون أهدافهم هناك بغضون ثلاثة أسابيع. فالجيش الأحمر جيش كبير وبسمعة مخيفة. لكن مجريات الحرب كشفت أن الجيش المهيب أدى أداءً رديئا جدا، وتكبد خسائر كبيرة ولم يستطع قادته أن يفوا بوعدهم.

كان أداء الجيش الأحمر فضيحة حقيقية، أثارت انتباه العالم واستغرابه، فكيف لهذا الجيش، صاحب السمعة الكبيرة، أن يتبهذل على يد جيش دولة صغيرة مثل فنلندا تعداد نفوسها آنذاك كان بحدود 3ملايين؟

وتفاجأ هتلر بمستوى أداء الجيش الذي كان يخطط لمنازلته، وتشجّع على اعداد خطته وشحذ همته للحرب القادمة.

واستطالت حرب الثلاثة أسابيع الى ثلاثة شهور، لكنها تكللت بالنجاح، إذ استعاد الجيش الأحمر توازنه بعد أن أجرى تعديلات في هيكله القيادي، واستطاع هزيمة الفنلنديين وأخذ أكثر مما كان يريده منهم بالتفاوض.

ولم يترك هتلر الفرصة تفوته فشن بعد عام واحد حربه المعروفة على الاتحاد السوفيتي، التي أخذت الاسم الكودي "برباروسا"، ووعد جيشه أن مهمتهم ستكون قصيرة هناك وستنتهي بغضون أشهر معدودة.

لكن الحرب طالت حتى الهزيمة النهائية لهتلر وجيشه ونظامه.

في البداية تكرر نفس المشهد؛ أداء رديء جدا من الجيش الأحمر، رغم خبرة حرب فنلندا، ورغم التهيؤ والإعداد الذي نشطت فيه الحكومة السوفيتية قبيل ذلك، فقد كانوا يتوقعون هجوم جيوش هتلر.

وبرز في سير المعارك الأول ضعف الإعداد وهبوط الروح القتالية لدى الجنود السوفييت.

واكتشف ستالين أن قدرات قيادة الجيش متخلفة ولا تتناسب مع تطورات الحرب الحديثة، فقد كان من بين قادة جيشه، الجنرال بوديوني، الشخصية الأسطورية، والمقاتل البلشفي الشجاع، قائد سلاح الخيالة في الحرب الأهلية وحرب بولونيا. لكن الحرب الحديثة حرب دبابات وليست حرب خيول (مع أن الخيول استخدمت فيها).

نُحيَّ بوديوني وفورشيلوف، الجنرالين اللذين سخر منهما "تروتسكي" حينما نعت تمردهما على تعليماته واوامره في الحرب الاهلية، أيام كان قائدا للجيش، بـ (عصيان ضباط الصف). وعُين جوكوف، بطل النصر لاحقا، قائدا، مع آخرين، للجيش.

وبعد أيام عصيبة وخسائر فادحة استطاع السوفييت استعادة توازنهم وأخذوا بزمام المبادرة في الحرب حتى انتهت بانتصارهم وسط إعجاب وذهول العالم.

وقبل أن نغادر هذا الاسترجاع التاريخي يجب التذكير أن تجربة حرب نابليون في روسيا كانت شبيهة بهاتين التجربتين، ما يعني أن التاريخ يعيد نفسه، رغم أنف المغنية التافهة، بشكل متكرر مرات ومرات.

ألا تذكر هذه الوقائع بما يجري الآن في حرب روسيا والناتو بأوكرانيا؟ ألا يمكن أن يكرر هنا التاريخ نفسه من جديد، ويستعيد الجيش الروسي توازنه مثلما فعل سلفه، الجيش الأحمر؟

يقال أنهم ينتظرون الشتاء الذي طالما اعتبره الروس حليفهم الأمين الوحيد، حد وصفهم له أنه الفصل الذي يتفوق فيه الجندي الروسي على أي خصم.

لكن هذا الادعاء لا يصمد كثيرا أمام النقد والتمحيص، فالأوكرانيون هم، مثلهم مثل الروس، شتائيون أيضا، بالإضافة إلى أن الحرب الحديثة وتطورات التكنولوجيا حيّدت كثيرا تأثيرات العوامل الجوية، وهذا يفتح لنا باب التأويل في افتراض أن المقصود بالشتاء "المرتقب" هو انتظار لتداعيات وتأثيرات أزمة الطاقة التي سببتها الحرب في أوربا، التي أخذت بوادرها تظهر للعيان منذ الآن، بارتفاع الأسعار وتكاليف المعيشة وتصاعد التوتر النفسي والعصبي لمجتمعات اعتادت على أن تكون الرفاهية نمط حياتها الدائم، وعلى ما يمكن أن ينتج عن ذلك من اضطرابات اجتماعية وسياسية تؤثرعلى استعداد ورغبة الغرب في الاستمرار بدعم أوكرانيا، ما يعني، بالمحصلة، تراجعا في القدرات العسكرية الأوكرانية المغذاة بقوة من طاحونة الدعم الغربي، وبالتالي يجعل أمر استسلامها وجلوسها إلى طاولة المفاوضات والاستعداد للقبول بالأمر الواقع والشروط الروسية أمرا ممكنا.

روسيا تدرك أنها لا تستطيع حسم الحرب بالقوة العسكرية وحدها، لذا تلجأ الى اشراك المدنيين، في أوكرانيا والغرب، في حربها بشتى الطرق.

ومَن يدري، فقد تقلب متغيرات الدنيا مفاهيم العلم ونظرته للتاريخ والواقع، وتتحقق "مقولة" ألمغنية التافهة بدلاً من مقولة المفكريَّن العجوزين، هيغل وماركس؟

ننتظر ونرى.