ممكنات التغيير في الأنظمة الشمولية


خالد صبيح
2022 / 10 / 13 - 22:38     

حينما ألغى قيصر روسيا، ألكسندر الثاني، نظام القنانة رسميا في العام 1861، جاءه الاقطاعيون معاتبين ظنا منهم انه قد تخلى عنهم فأجابهم:

من الأفضل أن نلغي القنانة من فوق بدلا من الانتظار حتى تُلغى من تحت.

ويقصد بـ "من تحت" عن طريق الاضطرابات والانتفاضات أو الثورة.

ولا يبدو أن درس ألكسندر الأشهر عند كل أنظمة الاستبداد له أصداء عند حكام إيران، فلا يبدو أنهم في وارد التغيير من أي جهة من جهات الكون الأربع.

لكن استنكاف حكام إيران عن التغيير ليس وليد العناد الذي عُرف عن الفرس بقدر ما هو تواءم طبيعي مع بنية النظام الشمولية التي تمنحه ثقة كبيرة بنفسه و"بالشعور الخفي بالأمان" من إمكانية زحزحته.

وهذا "الشعور الخفي بالأمان" والثقة بالنفس، إن لم يكونا ناتجين عن فهم وتدقيق واع لمعطيات الواقع السياسي في المحيط العام فإنهما ينتجان عن إدراك، ربما غريزي، لدى كثير من حاكمي الأنظمة الشمولية، بتعذر أو صعوبة زحزحة أنظمتهم بآليات السياسة الداخلية؛ مثل الإضرابات، والتظاهرات، والاحتجاجات، وغيرها.

وبالاستعانة بالتاريخ نجد أن التغيير الذي يأتي من فوق يكون ممكنا حتى وإن لم تتوفر له قاعدة وأرضية اجتماعية وسياسية تحتية، على عكس التغيير من تحت الذي يقتضي تأثيرا وتحولا فوقيا يتوازى معه ويرافقه. مثلا، لم تكن ثورة شباط "فبراير" قادرة على اسقاط النظام القيصري في عام 1917 لو لم تتخل نخبة واسعة في حاشية القيصر من ذوي الميول اللبرالية عنه، وينحاز الجيش إلى جانب الشعب المنتفض.

وقد فشلت قبل ذلك انتفاضة عام 1905 عن احراز النصر بسبب غياب هذين العاملين.

وهكذا إذا شئنا الاستعانة بالقريب من وقائع التاريخ، وهو أنفع في حالتنا، فسنعثر على ما يشبه تلك الحال في ثورتي تونس ومصر عام 2011.

فالابتكار التونسي بالإضراب العام الذي شمل كل قطاعات المجتمع ونخبه، لم يكن وحده، على عظمه، كافيا لإسقاط نظام” بن علي" لو لم يتخلى الجيش والجهاز الأمني عنه، وكذلك الحال مع الابتكار المصري العظيم بالاعتصام في أكبر ميادين البلاد، "التحرير"، لأهميته المادية والرمزية، لم يكن قادرا على إزاحة نظام مبارك لو لم يتحرك الجيش وتتهافت النخبة الحاكمة.

غير أن النجاح التونسي ــــ المصري تحول إلى فشل في تجارب أخرى (سورية وليبيا)، ومع أن في الحالتين قد تدخلت عوامل خارجية، خاصة في ليبيا؛ الناتو، والتحريض والتمويل الخليجي، بالإضافة الى تربص قوى سلفية مشبوهة النوايا والتوجهات، استطاعت حرف اتجاهات الحراك الشعبي، إلا أن عامل الإخفاق تمثل، بتقديري، في نقطتين مهمتين، أولاهما، اكتساب تلك الأنظمة خبرة عملية من التجربتين السابقتين مكنتهما من دراسة الحالة والاستعداد النسبي لمواجهتها، وثانيتهما، وهي مرتبطة عضويا بالأولى، وتخص النظام السوري وحده، هي طبيعة النظام الشمولية.

وطبيعة الأنظمة وتركيبها تلعب دورا حاسما في ممكنات وآليات تغييرها.

فالأنظمة الشمولية على عكس الأنظمة الدكتاتورية لها جذور مغروسة في بنية المجتمع ولها أرضية اجتماعية وقاعدة أمنية متماسكة ومنتشرة أفقيا وعموديا ومدمجة ببنية الدولة بطريقة يصعب تفكيكها مما يجعل إمكانات هز النظام صعبة. بينما يكون النظام الدكتاتوري ذا طبيعة فوقية نخبوية تسهل عملية تفكيكه، قياسا بالشمولي على الأقل، لأن منظومته الأمنية والنخبوية، السياسية والفكرية والمؤسساتية، مهما اتسعت وتعمقت تبعيتها للنظام، فلها في النهاية جذر يوصلها ببنية الدولة ويحافظ على قدر موضوعي من الانفصال أو التباين بين حالة وحاجة النظام وضرورات وممكنات الدولة. لهذا نجد أن النخب السياسية والمنظومة الأمنية في النظام الدكتاتوري ما أن تجد نفسها في مواجهة محتدمة مع المجتمع تنسحب وتتخلى عن النظام الذي يورطها في مواجهة هي غير راغبة فيها ولا مؤهلة لإتمامها. فيما ترتبط المؤسسات والنخب في النظام الشمولي ببنية النظام حد يصعب فصلهما بعضهما عن بعض، وتغدو حاجاتها ومصالحها، بل ووجودها كله، مرتبط ارتباطا عضويا وكليا به، الامر الذي يمكن النظام ويوفر له الأدوات للصمود في مواجهة الحراك الشعبي وبالتالي قمعه وتصفيته.

وخارج الاطار الأمني والمؤسسي نجد أن الأنظمة الدكتاتورية، من الناحية الفكرية والمعنوية، تسيطر على مؤسسات الدولة والحكم عبر آيدلوجية محددة، لها قدر من التنافسية والتواجه مع آيدولوجيات أخرى، فيما تسيطر الأنظمة الشمولية على المجتمع وتطوقه، وتستحضر في تحقيق ذلك منظومة تضليلية تستدعي قيما مطلقة وغامضة هي مزيج من التاريخ والعقائد، مثل الأمة والدين أو المذهب، وتجعل منها إطارا جامعا قسريا لتمثيل الجميع وتنفي معه أي قدرة لأي رؤية أو أيدلوجية أو عقيدة أخرى لأن تنافسها، فهي الحق المطلق تستمد شرعية بقاءها من المقدس، سواء كان هذا المقدس واقعيا؛ أمة وشعب، أو روحيا؛ دين أو مذهب أو ورح أمة.

من هنا تنشأ مصاعب تغيير الأنظمة الشمولية بالأدوات المحلية الشعبية وحدها.

وهنا يُطرح سؤال. كيف إذن، وبأي الادوات والوسائل تنتهي أو تتحول بهما هذه الأنظمة؟

حتى اللحظة، ومالم تبتكر الشعوب والفكر السياسي حلولا مغايرة لهذه الحالة المستعصية، فإن الحلول التي تفرض نفسها تنحصر في مستويين أو قدرتين، أولاهما، أن يتفكك النظام بفعل هزات داخلية بتأثير انشقاقات تصّدع بنيانه، وهذه من الممكن أن تنتج عن ولادة قوى ونخب داخل النظام نفسه، بغض النظر عن طبيعة ولادتها والعوامل التي أنشأتها وماهية أهدافها، تكون مستعدة ولها مصلحة في نفس الوقت لإحداث تغيير قد لا تستطيع هي نفسها التحكم بنتائجه ومآلاته، كما حدث عند تفكيك الاتحاد السوفيتي على يد نخبة قيادية في الحزب الحاكم هناك، أو بتدخل خارجي كما حدث في نهاية نظام صدام حسين، أو على أنقاض هزيمة حربية تستبع خرابا شاملا للدولة والمجتمع كما كان الحال مع هتلر.

باختصار؛ إن اسقاط وتغيير أنظمة شمولية لا يمكن أن يحدث إلا بانشقاق من داخل النظام، يحفزه حراك جماهيري (وقد يخيفه بعض الأحيان)، فينخران معا في كتلة النظام ويفضيان الى إحداث التغيير، أو يكون بتدخل خارجي يجد أرضية داخلية وإقليمية مشجعة له، قادرة على تقبل نتائجه من غير أن تثير حساسيات وطنية وأمنية داخلية عندها.

وفي الواقع الإيراني الحالي، يبدو الاحتمال الأول ممكنا لو توسعت الانتفاضة المحدودة الحالية لتحصل على تأييد ومشاركة شعبية شاملة تستطيع المحافظة على نفسها من الاختراقات والتدخلات ومن توظيفات قوى مرفوضة اجتماعيا، مثل تلك التي يحركها الحنين للعهد البهلوي، وتتحول الى انتفاضة شعبية شاملة تبتكر وسائلها وتصطفي قواها المحركة وقياداتها، فتتلاقى مع القوى الإصلاحية داخل النظام التي تريد تغييرا، وتحفزها، بغض النظر عن مضامين هذا التغيير وما إذا كان يؤدي الى إسقاط النظام أو تحوله تحولا جذريا.

والاحتمال الثاني، وهو احتمال صعب وعدمي، بالإضافة الى ممكنات الارتداد فيه لإثارته الحساسية والعاطفة الوطنية، وهو أن يتطور الصراع بين النظام الإيراني وبين الحلف الغربي ــــ "الإسرائيلي"، مع تحفيزات إقليمية، أهمها الخليجية، تنتج عن تحولات جيوبولتيكية، ربما تتشكل على خلفية نتائج وتحولات الحرب الروسية ــــ الغربية في أوكرانيا وغيرها من تداعيات الحراك والتزاحم السياسي في المنطقة، فتدفع هذه القوى الى شن حرب على إيران، تؤدي، إذا لم تأخذ مسارا آخر، إلى إسقاط النظام.

بغير هذين الاحتمالين، حتى اللحظة، تغدو انتفاضة النساء الايرانيات الحالية، الجريئة والشجاعة، بتصوري، فقاعة تنتهي كما ينتهي غيرها ولا يبقى منها سوى درس تعليمي في الانتفاض والثورة اعتادت الجماهير أن تأخذه كل مرة دون أن تستفيد منه دائما.

***
ملاحظة:

ينفرد النظام الإيراني بخاصية تميزه عن بقية الأنظمة الشمولية، وهي وجود قوة امنية عقائدية موازية لكل أجهزة الدولة الأمنية والعسكرية وقادرة على مواجهتها وشل حركتها، وأعني بها الحرس الثوري، وهو أكبر من ميليشيا، من حيث البناء والأدوار، وأقل من جيش نظامي، مع امتلاك خصائص مرنة تمكنه من حماية النظام ضد أكبر الأعاصير. وهذه الحالة تفتقدها اغلب الأنظمة الشمولية التي لا تملك ميليشيات حربية وتكتفي بالأجهزة القمعية الأمنية والمخابراتية التي تكون، في اغلب الحالات، محدودة الفعالية مهما تغولت واستشرست، وإن وُجد لدى بعضها ما يشبه الميليشيا، مثل الجيش الشعبي لنظام صدام حسين، فهي غالبا أجهزة ركيكة ولا تستطيع أن تؤدي مهاما كبيرة، ولا يستطيع النظام بنفس الوقت أن يعتمد عليها ويرتكن إليها خارج اطار مجالات القمع المحلية المحدودة.

وهذه الميزة التي يملكها النظام الإيراني تصّعب، بتقديري، من عملية تفكيكه وبالتالي إنهائه.

آثرت أن أترك هذه الملاحظة للهامش لأنها تنتمي لنقاش أوسع مما يحتمله متن المقال.