هوامش حول -عين الاختلاف- لمحمد الهلالي


مصطفى الحسناوي
2022 / 10 / 13 - 00:06     

صدر مؤخرا للكاتب والشاعر والمترجم محمد الهلالي مجموعة نصوص شعرية منحها كعنوان [عين الاختلاف]. العنوان في حد ذاته إعلان للتبني الجذري للاختلاف بالذات كأسلوب وكماكنة أو مجموعة مكائن لانتاج المعنى .قد يعني العنوان الاختلاف بالذات وذلك في منحى تأكيدي بين، وقد يعني قلبه بما أن عين الشيء هي قلبه الناظم أو لبه أو قد يعني بطريقة مجازية أن الاختلاف هو العين الذي بها/ انطلاقا منها ترى الكائنات والأشياء، تدرك ويعبر عنها. النصوص الشعرية في ديوان [عين الاختلاف] مسكونة بهم شذري ينتظم أسلوب الكتابة الشعرية ، كل نص شذرة ملومة على ذاتها مثل قنفذ الراحل الكبير سعدي يوسف الذي ماحل من حبوته. الشذرات الشعرية هنا أيضا لا تقول، لا تفصح أو توضح بل تشير، تكتفي مثل عراف معبد دلف بالإشارة إلى الفكرة ، إلى المعنى الذي يتخلق من رحم الكلمات. الشذرات تكتفي بالإشارة، تشير إلى حيث يمكن للمعنى أن ينوجد وبالتالي فهي تستحث القارئ على بدل مجهود لبلوغ عين هذا المعنى أوقلبه والوصول إلى عتبة الفهم الذي قد لا يكون الوصول إليه ضروريا وشرطا ناظما للقراءة، بدليل ما تقوله الفلسفة الطاوية (نسبة إلى طاو) من أن اجتراح الطريق والسير فيها أهم من بلوغ القصد والهدف، وهو ما تكشف عنه أولى شذرات الديوان [إذا لم تفهم القول /فانتظر مرور الحول /فإن طال انتظار المعنى/فالانتظار هو الأغنى]. إن المبدأ الناظم لميثاق القراءة بين الشاعر وقرائه المفترضين واضح منذ البداية ولا لبس فيه، فانتظار المعنى يكون منتجا ، فعالا وتأكيديا أكثر / أغنى من فهمه. الفهم سقف ميتافيزيفي منته، بينما الانتظار فاعلية دائمة الاشتغال .مطلوب من قارئ الشذرات أن يكون [ مريدا للسؤال ] )ص(11 نتذكر في هذا السياق قول نيتشه بأن قراءة شذرة من الشذرات تتطلب التوفر على إحدى خاصيات الأبقار وهي الاجترار la rumination. الكتابة الشذرية عموما منذ هيراقليط وبارمنيد في ذلك الصباح الاغريقي الاستثنائي وحتى بلانشوو روني شار، مرورا بشذرات الرومانسيين الالمان الأخوان شليغل نوفاليس و هولدرلين، انطرحت دائما /اشتغلت كالبرق الخلب، وهو ما عبر عنه الشاعر الاستثنائي روني شار قائلا : [ إذا سكننا البرق فسيكون قلب الأبدية ] .إن [عين الاختلاف ] عند محمد الهلالي هي بالذات قلب الأبدية التي تساءل عنها رامبو و قال بأنها الرمل الممزوج بالشمس، الأبدية التي رأى سبينوزا بأن كل شيء يقع تحت أنظارها والتي هي الهنا / الآن.
تشتغل هذه الكتابة الشذرية داخل العلاقة الجوانية بين الشعر والفكر، ويمكن وصفها بالشعر المفكر. إنها العود الأبدي للفكرة [ والفكرة تيه/ فمتى لمعناها تعود] )ص15(. يقول روني شار : [أمام انهيار البراهين ، يجيب الشاعر برشقة مستقبل]، يتحدث أيضا في سياق آخر عن القصيدة التي تتحقق كرغبة تظل دائما رغبة. هذا هو حال هذه القصائد -الرغبات. ينبغي استئناف البداية ، والانطلاق من العدم الشعري لذا يقول لنا الشاعر : [لك الخطو كله /فتقدم / ولتنس ما خطوت / من خطوات ] )ص 25( ننسى الخطوات ولا ننسى الطريق تلك التي تقودنا إلى محل الوجود الذي لا يكون بالضرورة محل الراحة، بل محل الأسئلة والرجات والهزات والوجودية. إنها طريق الاختلاف تلك التي بالأضداد تكون وتتأسس، لأن [المماثلة حيلة / والتناقض نقيضة] )ص34 (إحدى التيمات العميقة الحضور في ديوان (عين الاختلاف) هي تيمة الحب، لا مجرد العاطفة السائلة بل عنوان الانخراط الجواني في التمظهرات المادية للوجود. نتذكر بأن الحب كان إحدى الثيمات التي اشتغل عليها الفيلسوف الماركسي طوني نيغري مع رفيقه مايكل هاردت خصوصا في كتابها (Empire)، الحب في بعده الملموس كعلاقة مادية بين جسدين ورغبتين، خصوصا في زمن ضاعت فيه الطريق إلى المحبة: [كيف البقاء /كيف الانسحاب / ولذة اللذات تقترب] )ص35( ليست الرغبات والأجساد وحدها التي تحب /تعشق بل حتى الأشياء .[ تل يغازل غيمة في فجر سكر / بنشوة السحر / تل تائه/ في سجن الحقيقة يعانق الرماد] )ص108( .هذا الحب ذو التكوين المادي الملموس يظل مسكونا ببهاء المفتوح / بهبات الخارج، ينأى بنفسه عن الانغلاقات الميتافيزيقية للمعنى وينفتح على / يعانق بهاء الأبدية التي تنعلن هنا / الآن كالأنفاس التي تصير ضرورية للانعتاق من الاختناق .إنها الأبدية الآتية عكس الماضي :[الماضي ثوب هارب /من الأبدية /مزقته الأجوبة ] )ص107(. الأبدية هي الزمن الآتي الذي يتكون داخل الأسئلة ولا تمزقه الأجوبة شأن الماضي المنتهي، الماضي /الجثة. هذه الأبدية التي من رمل ونار وشمس هي قلب الكائن. نصوص محمد الهلالي الشعرية لا تهادن، لا تعقد صلحا مع الوجود. إنها نصوص مشاكسة، مسائلة، مقاومة، مفككة لمكونات الوجود، في اشتغالها اللغوي المادي تتفكك الطابوهات، تتبدد. إنها نصوص الانخراط المقاوم والفعال في الكتابة الشعرية أولا، وعبرها في تجليات الوجود، في دينامية الحياة. هذه النصوص لا تشبه الحياة في فاعليتها وراديكاليتها وتموقفها الواضح من السرود السائدة والأساطير، وأرتال الممنوعات إنها ليست كالحياة بل هي الكتابة – الحياة، ويمكن أن نقول عنها ماقاله فوكو عن الفلسفة نقلا عن الفيلسوف اليوناني ديوجين لايرت : ((إن فلسفة لاتحزن أحدا ليست بفلسفة )). ونصوص الهلالي الشعرية ستحزن الكثيرين من الكتبة ecrivants بالمعنى البارثي وأشباه الشعراء.
يقول الشاعر :[حين أكتب /تدمى بحروفي الجماجم / وحين تكتبين / تتراقص كالحيات العمائم] )ص50(
خد مثلا تيمة الحب المشار إليها أعلاه، فهي موقف شعري وجودي وسياسي يشتغل داخل هذه الكتابة الشعرية التي تتمرأى في ماديتها الراديكالية المفكرة : [حين أحبك/يصير الكلام عشقا / وحين تحبين/ تملئين الحياة صدقا ] )ص56 (.ليست المرأة ذريعة هنا بل تحضر كفاعل هام في دينامية الحياة، بل هي الحياة في أبهى صورها . ألم يقل المعلم الأكبر بن عربي في [الفتوحات المكية] :[وكل مالا يؤنث لا يعول عليه]. تحضر فتنة الأنثوي داخل نصوص الديوان كفتنة إيروسية مسكونة برغبة تظل دائما رغبة، وكحضور فعال في ملموسية الحياة، وفي سياسة الجسد. إنها حضور الجسد المفكر (بكسر الكاف) والمفكر فيه في الأوان ذاته . يكتب كل هذا لدحض الفكرة القائلة بأن المرأة لا تفكر .المرأة تبدع دائما الإشارات تلو الإشارات وحتى حين تصمت ، نعثر في جوانية صمتها على الجواب /الأجوبة . مؤكد أن محمد الهلالي يكتب شعرا :[حتى لا يغضب البحر /فالموت ضرورة / والحياة إمكان ] )ص95 (. تنكتب شذرات الديوان كرشقات مصوبة نحو المستقبل وإن كانت هناك من سكينة ممكنة للوجود تمنحنا إياها فهي تلك المسكونة بهزة الأسئلة . إنها شذرات مقاومة (بكسر الواو ) للسلطة البارانوية والعصابية للكائن، شذرات تنكتب بدم نيتشي غريب، شذرات ثرة كعيون الاختلاف.
ملحوظة : اعتمدنا في المقال ذكر الاستشهادات متبوعة برقم الصفحة وذلك من الديوان الشعري "عين الاختلاف" الذي صدر مؤخرا لمحمد الهلالي عن)الرباط نت( سنة 2022