كما اللون الأبيض انعدام للون فإن الشر هو انعدام لفعل الخير (الحلقة الثانية) (1/ 2)


حسن خليل غريب
2022 / 10 / 10 - 11:44     

الله خلق فطرة الخير وعلى الإنسان أن يستفيد منها لصنع أفعاله:
ولأننا عالجنا تلك الإشكالية في مقالة سابقة، عرضنا فيها قناعتنا بما جاء في كتابات الأولين عنها، خاصة ما أتت به فرقتا القدرية والجبرية، على الرغم من تعارض هذه الاستنتاجات والبراهين مع الفقه الديني، واعتبرنا فيه أن أعمال الإنسان هي من فعل الإنسان، وليست من خلق الله وقدره، فإننا سنتابع في هذه المقالة، موضوع ما يتم تسميته بثنائية (الخير والشر)، ولعلنا نستطيع أن نعبِّر فيه عن وجهة نظرنا، وعلى أن تكون بشكل أكثر وضوحاً لدى القارئ.
نعتقد أولاً أن الله خلق في الإنسان فطرة الخير فقط، ولم يخلق فيه نزعة الشر، وهذا ما يقوِّض الأسس التي قالت بها الأديان السماوية والتي أدَّت إلى ثنائية (الله والشيطان)، ومنها افترضت أن هناك نزاعاً دائماً بين الله والشيطان، أي بين الخير والشر. وفي هذا النزاع كأنني بالأديان السماوية قد افترضت وجود إلهين، واحد يأمر بالخير، والآخر يأمر بالشر. وفي هذا الافتراض ما فيه من تناقض مع نظرية التوحيد الإلهية. بينما تعريفنا هو أن هناك إلهاً واحداً يدعو للخير فقط، ولا يصدر عنه ما يدعو إلى الشر أو السماح بوجود من يدعو إليه ويأمر به. وفي هذا تقويض لثنائية (الله – الشيطان)، وكذلك ثنائية (الملاك – الشيطان). وبهذا نريد القول بأن الله غرس فطرة الخير فقط في نفس الإنسان العاقل، ورسم له وسائل تطبيقها. فإذا طبَّقها حصل على سعادته، وإذا فشل فقد تلك السعادة. وهنا نجد أنه لا بُدَّ من البدء بتوضيح رؤيتنا في تعريف هذه الفطرة.

الخير هو الفطرة التي خلقها الله في الإنسان:
إن الله خلق الإنسان ليكون سعيداً في حياته، وخلق فيه كل ما يساعده للعمل على توفير تلك السعادة. وترك له حرية خلق أفعاله، لأنه لو خلقها فيه ويخضعه للحساب لكان ما يصدر عن الله منافياً لقواعد العدالة، وتلك من الصفات التي لا يجوز أن نفترضها عند إله عادل.
وعندما خلق الله إرادة الخير فقط، ورسم فيها حرية الاختيار، فقد خلق في الإنسان العوامل التي تساعده على توفير سعادته. فإن أحسن تدبيرها فسيبقى سعيداً، لذا يكون استمرار السعادة مرتبطاً بإرادة الإنسان طالما ظلَّ محافظاً على القيام بالأفعال التي تحافظ على سلامة أعضائه الجسدية والنفسية، وكذلك القيام بدوره المنوط به بمساعدة الآخرين. وإن أساء التدبير فسوف ينحدر إلى مستوى التعاسة الذاتية، والامتناع عن القيام بدوره الاجتماعي سوف يساهم بخلق التعاسة عند الآخرين، وهذا ما نعني به ارتكاب الشر عندما يمتنع عن صيانة عوامل الخير بالنسبة للذات وبالنسبة للآخر.

تعريف عمل الخير:
لأن السعادة، كهدف مقصود للبشر، نعتبر كل ما يصب في توفيرها هو فعل للخير، وكل إهمال لها هو شر. وفعل الخير ينقسم إلى أفعال مادية، وأفعال نفسية. فالله، حسب فرضية العلة والمعلول، خلق الإنسان من روح وجسد. ولكل منهما عوامل تساعد على تنميته لتبقى عناصر تكوينها سليمة، وسلامتها دليل على الحصول على السعادة الجسدية، وكذلك السعادة النفسية. وهذه التنمية هي فعل من أفعال الخير. وإذا أهمل الإنسان هذه التنمية، فسوف تصاب العناصر التي توفر السعادة بالتلف، وهذا ما يؤدي إلى عكس السعادة، وهذا ما نسميه بفعل الشر. وفعل الشر مترابط ومتلازم مع فعل الخير، لو لم يوجد هذا لانتفى وجود ذاك. فموضوعة الشر ليست قائمة بذاتها كما هو حاصل لفعل الخير، وهذا شبيه بتعريفنا للون الأبيض الذي لا وجود له، وهو ما نسميه بـ(انعدام اللون)، وكذلك فإن فعل الشر هو انعدام فعل الخير. أي ليس هناك عمل من أعمال الشر، بل هو تقصير في عمل الخير. فعمل الشر المتعارف عليه في التقليد المعرفي، ليس عملاً له شروطه ولا موجباته ولا آلياته، بل هو انعدام عمل الخير.

في مواجهة الحساب يتحمل الظالم والمظلوم مسؤولية نسبية:
لأن الإنسان خالق أفعاله يتحمل مسؤولية الإصابة في خلقها أو الإخفاق فيها. ولأن القوى الأخرى، المساعدة للفرد في خلق الأفعال لها دور محوري في خلق أفعال السعادة، ولا يستطيع الفرد أن ينجح في عملية الخلق من دون العوامل المساعدة، يتحمل العامل المساعد، حسب تعريفنا له، مسؤولية مماثلة. وهذا ما يمكننا تعريفه بمبادئ الحقوق والواجبات. فمن يقصر في واجباته مسؤول عن التقصير، ومن يقصر بالحصول على حقوقه فهو مسؤول أيضاً. ولذلك، يتحمل الفرد المسؤولية على مستويين: الأول، إخفاقه في خلق الأفعال. والثاني، امتناعه عن مطالبة العوامل المساعدة بحقوقه عليهم.

وظيفة رجل الدين الحثَّ على الالتزام بالحقوق والواجبات:
آخذاً التكوين المعرفي في علاقة الأضعف بالأقوى بين أبناء البشر، بحيث يؤدي الأضعف فروض الطاعة للأقوى، اختصر رجل الدين، ومن بعده المؤسسات الدينية، وظيفته بالدعوة إلى عبادة الله، وأتقن فنون القيام بها. ونحسب أن تلك الوظيفة ترتبط تاريخياً ومعرفياً بالدعوة إلى طاعة الأقوى التي تعود جذورها إلى تقديم فروض الطاعة للأسياد التي سادت في العصور الأولى لنشأة الإنسان، والتي قام الفقهاء والكهنة، في شتى العصور اللاحقة، اتصالاً بالمراحل الحاضرة، لترويجها والحضِّ عليها.
ولما كانت عبادة الأقوى هي التقليد الذي لم تشذُّ عنه الأديان السماوية، فقد كانت تلك عادة انعكست على تعريف علاقة المخلوقات بالخالق بعد أن سادت رؤية التوحيد الإلهي. وصوَّرت الأديان السماوية الله بشكل بشري يغضب وينتقم ويعتبر البشر عبيداً له عليهم أن يؤدوا فروض الطاعة والعبادة له.
ولأن الله الذي نعتقد به لا حاجة لعبادة البشر، ولأنه خلقهم بأفعالهم ليصلوا إلى مستوى متقدم من السعادة الذاتية، وحثَّهم على الفعل الذي يحافظ على سلامتهم الجسدية والنفسية، وهو ما رمزنا له بفعل الخير لخدمة الذات وخدمة الآخرين، نعتبر بناء على ما تقدم أن من ينتدب نفسه للإرشاد الديني أن يحث على قيام الإنسان بواجباته تجاه نفسه، وأداء حقوق غيره، على قاعدة أنه ليس هناك أقوى وأضعف، بل هناك تكامل جماعي يؤدي فيه كل فرد واجباته. وفي هذه القاعدة ما فيها من الأصول القيمية التي تساعد على الوصول إلى السعادة التي أرادها الله، وليس إلى تعليم فنون العبادات التي لا يحتاجها الله على الإطلاق.
فمن دعا إنساناً للمحافظة على واجباته تجاه ذاته، وتجاه غيره من البشر. وكل من حثَّ إنساناً على المطالبة بحقوقه ممن عليهم أن يؤدوا تلك الحقوق، خاصة أن الله خلق البشر لأجلها، لكان أجدى وأنفع للبشر من كل العبادات التي لا يحتاجها الله. ونحن نعتقد بذلك لأن الله، بكماله، خلق البشر ليس لذاته، بل خلقهم ليكونوا سعداء. ولم يخلقهم ليعبدون.