حول أهمية الفلسفة ودورها في تطور واستنهاض شعوب بلدان مغرب ومشرق الوطن العربي


غازي الصوراني
2022 / 10 / 4 - 15:06     


إن المضمون الجوهري للفلسفة، يتلخص في انها تعني السعي وراء المعرفة، فيما يخص أموراً أساسيّة في حياة الإنسان كالحياة والموت والحقيقة، وقبل كل شيء استيعاب الواقع الاجتماعي السياسي والثقافي بكل مكوناته ومعانيه، وطرح الرؤى الشمولية المطلوبة للتغيير والتطوير في بنية ذلك الواقع .
وهي ايضا التفكير النقدي العلمي المنظم -كما يقول بحق يوسف حسين- والبحث عن الوجود وفي الوجود والبحث عن المعرفة والانسان والاجتماع والسياسة والسلوك الانساني والغايات والمعاني بما يؤكد اننا لا يمكن ان نستغني عن الفلسفة التي شكلت جزءا لا يتجزأ من تاريخ الانسان، وكان لها -ومازال- دور اساسي في كل ما ابدعه الانسان من ثقافات وحضارات متنوعة.
فالفلسفة هي أهم شكل من أشكال الوعي الاجتماعي (تنعكس فيه حصيلة التقدم العلمي والاجتماعي وكافة التناقضات الاجتماعية) إنها كما يقول ماركس، زبدة عصرها الروحية، وهي روح الثقافة الحية، وبهذا المعنى لايمكننا عزل الفلسفة عن معطيات التحرر الوطني والتقدم الاجتماعي في بلادنا ، كما لايمكن عزلها عن الواقع الاجتماعي الاقتصادي الذي نعيشه اليوم، لأن الترابط بين الفلسفة والسياسة والتاريخ أصبح حالة موضوعية ملحة في عصرنا الراهن على وجه الخصوص ، لكننا في بلدان الوطن العربي لم نمارس هذه المهمة الفلسفية العظيمة الا ضمن نخب معرفية تقدمية محدودة العدد في بلداننا .
لقد لعبت الفلسفة الدور الاكبر في ظهور الحضارات وتطور علوم الفلك والفيزياء وعلوم الفضاء والجغرافية والاكتشافات الجغرافية والعلمية الى جانب الاصلاح الديني والثورات خصوصا الثورة الفرنسية والثورة الروسية والثورة الصينية وقبل ذلك الثورة الأمريكية وكافه المتغيرات الكبرى في كوكبنا، لذلك لم يكن مستغربا اقبال العلماء المسلمين على الفلسفة واهتمامهم بها وقراءتهم للفلسفة الاغريقية وفلسفة ارسطو خصوصا ، ثم اقبال الفلاسفة الاوروبيين على متابعة انتاج الفلسفة الاغريقية كما كتبه الفلاسفة العرب المسلمين وتواصلوا حتى يومنا هذا في مقابل تراجع او انقطاع العرب للأسف عن متابعه الانتاج الفلسفي واهماله وبالتالي الغرق في التخلف السائد والظلام المعرفي منذ القرن الثالث عشر الميلادي الى يومنا هذا حيث تعيش شعوبنا في ظروف اقرب الى القرون الوسطى الغارقة في التخلف والاستغلال والظلم وسيادة الجهل.
وبالتالي فإن وظيفة الفلسفة، هي المساهمة في تزويدنا بالنظرات الجديدة والشاملة التي يفترض بناء الإنسان الطليعي بها، ووضوح البناء المعرفي الذي يحدد مسار الإطار الطليعي من جهة، وسمات أو طبيعة وشكل النظام السياسي الاجتماعي الديمقراطي التقدمي الذي يفترض أن ننتهي إلى إقامته من جهة أخرى".
هناك ثلاثة وظائف اساسيه للفلسفة لا غنى عنها، هذه الوظائف هي :1- المعرفة الموضوعية 2- والتفكير المنهجي 3- والافكار او النظريات الشمولية الكبرى بالمعنى المعرفي علاوة على الروح النقدية، فالفلسفة ليست تهويمات غير واقعيه، بل هي مرتبطة بالواقع والتفكير المنهجي المستقل.
الفلسفة اذن، هي البحث المتواصل، الذي لا ينتهي، ولا يكل عن التساؤل عن أسرار الوجود الذي حركه وعي الإنسان النقدي، الذي نَوَّر العقل، وشَحَذَ الفكر، ودفعه لمزيد من التساؤل والنقد للوصول إلى الحقيقة، وحل الغاز الوجود واسرار الحياة".
بالطبع كان الصراع الفكري محتدماً بين الفلسفة الرأسمالية والفلسفة الاشتراكية طوال أكثر من مائتي عام، إنه الصراع بين الاستغلال وبين العدالة الاجتماعية، بين الظلام والنور، وسيظل هذا الصراع قائما طالما كان الانسان بحاجه الى الخلاص من الظلم والتبعية والاستبداد والاستغلال لتحقيق مبادئ الحرية والنهوض الديمقراطي التقدمي للشعوب.
وهنا بالضبط يتجلى إدراك القوى التقدمية الديمقراطية في بلداننا للمضمون الجوهري لمعنى وغايات الفلسفة عموماً والفلسفة الحديثة على وجه الخصوص، وتطبيقها على مجتمعاتنا العربية، هو إدراك منحاز لمفاهيم العقل الحداثي، والتطور والنهوض وفق قواعد وأسس المجتمع التقدمي الديمقراطي في كل قطر عربي، وذلك عبر ممارسة النقد الجذري لكل ما هو قائم، وهو نقد بمعنيين، الأول: لا يهاب استنتاجاته، والثاني لا يتراجع أمام الاصطدام بالإيديولوجيات اليمينية والغيبية الرجعية، أو تلك التي تعبر عن المصالح الطبقية الرأسمالية للأنظمة الحاكمة، وهو أيضاً نقد لا يتراجع أمام الاصطدام بسلطات الاستبداد والقهر القائمة، لكن هذه العملية النقدية التغييرية لابد أن تبدأ من المجابهة العقلانية الديمقراطية للحالة الراهنة للفكر الفلسفي في الوطن العربي، التي تتميز بسيطرة الأفكار اليمينية بمختلف أطيافها عموماً، وخاصة الأفكار الغيبية المتخلفة التي تحرص على ترويجها الشرائح والطبقات الحاكمة والمتنفذة في إطار التحالف الكومبرادوري البيروقراطي المهيمن على الانظمة العربية، وذلك بما يتوافق مع مصالحها الطبقية من ناحية، ولتبرير تبعيتها وخضوعها للنظام الامبريالي إلى جانب تبرير مظاهر الاستبداد والاستغلال الطبقي ورفضها لكافة مفاهيم وآليات التطور الديمقراطي والحريات الفردية من ناحية ثانية.
وفي مثل هذه الأوضاع، كان من الطبيعي منع تدريس الفلسفة ومنع الحريات الديمقراطية في معظم بلداننا العربية، لان التفكير الحر يخيف الطبقات الحاكمة فيها، ولذلك نلاحظ أن الفلسفة وكافة مفاهيم الحداثة ما زالت في بلداننا العربية تعاني من تخلف شديد على عدة صعد اجتماعية ومعرفية وثقافية عموماً، وتعليمية خصوصاً، كما هو مطبق في المدارس والجامعات العربية عبر برامج ومناهج شديدة التخلف مستمرة منذ عقود طويلة في تاريخنا الحديث والمعاصر، ساهمت فيما نسميه اعادة إنتاج وتجديد التخلف الاجتماعي والثقافي والاقتصادي في مجتمعاتنا، بمثل ما خلقت كل المعوقات في وجه الابداع والبحث المعرفي عموماً والفلسفي بوجه خاص.
وبالتالي فإن الفلسفة العربية المحدثة تعيش حالة من الحصار حالت دون طرحها لأسئلة الوجود الكبرى، وأسئلة الوجود والنهضة والتنوير والتقدم والمعرفة والأخلاق، وتم اغراقها في الموقف من التراث العربي الإسلامي من جهة وفي تبرير تبعية وعمالة الأنظمة الحاكمة من جهة أخرى، وبالتالي لن تنطلق الفلسفة العربية لكي تساهم في الإجابة على أسئلة الجماهير فيما يتعلق بقضايا الوجود الكبرى والنهوض إلا بالتحرر من إشكالية التخلف واشكالية التبعية للغرب بالتحرر الوطني الشامل وفق أسس الحداثة والديمقراطية والتقدم.
فمع تطور المجتمعات البشرية، تتطور الفلسفة والمعارف في إطار من الحراك والتغير الاجتماعي، وهذه هي السمة الأبرز لتطور الفلسفة في المجتمعات الغربية وتواصلها، وتجددها التاريخي عموماً، منذ بداية عصر النهضة في القرن الخامس عشر الميلادي الى يومنا هذا، على النقيض من مجتمعاتنا العربية التي عاشت انقطاعاً معرفياً منذ القرن الثالث عشر حتى اللحظة .
هذا الانقطاع المعرفي، أدى إلى تعرض الفلسفة العربية، منذ ذلك التاريخ إلى حالة من التراجع والضعف، جاءت انعكاساً لضعف وتراجع عملية التطور السياسي الاجتماعي والاقتصادي والمعرفي الذي توقف عن الصعود، بل على العكس بدأت عوامل التطور الاجتماعي والمعرفي السالب في الظهور، ومن ثم خلق وانتشار المناخ الملائم لتكريس التخلف وإعادة إنتاجه وتجديده واستمراره في بلادنا حتى المرحلة الراهنة .
إن الواقع العربي الراهن، إذا ما نظر إليه من نقطة ما في أواخر القرن الماضي، من زاوية ما كان يجب أن يفعله العرب، ليحملنا على التساؤل: هل تمكن العرب فعلا من تحقيق نهضتهم؟ هل يعيشون اليـوم في الواقع ما عـاشـوه منذ مائة عام في «الحلم»؟ هل حققوا من التقـدم مـا يكفي لجعل مشروع النهضة ذاك يتحول فعلا إلى مشروع لـ «الثورة»؟ بل إن الواقع الكتيب الذي افتتح به العرب ثمانينات هذا القرن ليطرح بجد مسألة ما إذا كان العرب يتقدمون بخطوات (سريعة أو بطيئة) إلى الأمام، أم أنهم، بالعكس من ذلك، يغالبون، بدون أمل، الخطى التي تنزلق بهم إلى الوراء؟ .
فعندمـا يتحدث العرب عن «النهضة» أو «الثورة» فإنما يتحدثون عن مشروع لم يتحقق بعـد كاملا، بل يجب القول: عن مشروع لم يكتمل بعد حتى على صعيد التصور الذهني، الشيء الذي يسمح بتسميته بأسماء مختلفة حسب الظروف والأحوال: فهـو تـارة صحوة أو يقظة، وهو تارة «بعث» أو «ثورة».
لقد وجد العرب أنفسهم عند بدء يقظتهم في أوائل القرن الماضي - ولا زال الأمر كذلك إلى اليوم - أمام نموذجين حضاريين: الحضارة الأوروبية التي كان تحديها لهم،ـ ثقافياً وعسكرياً، المهماز الذي أيقظهم وطرح مشكـل «النهضة» عليهم والحضارة العربية الاسلامية التي شكلت، ولا زالت تشكـل، بالنسبة لهم، السند الذي لا بد منه في عملية تأكيد الذات لمواجهـة ذلك التحـدي. علام يدل هذا؟
انه يدل على ان وعي النهضة عند العرب يقوم أساساً على الإحساس بالفارق : الفارق بين واقع «الانحطاط، الذي يعيشونه، و «واقع، النهضة الذي يقدمه لهم أحـد النموذجين: العربي الاسلامي في الماضي، والأوروبي في الحاضر، والنتيجة: هي أنهم عندما يفكرون في النهضة، لا يفكرون فيها كبديل عن الواقع الذي يعيشونه، بل إنما يفكرون فيها خارج الواقع، أي من خلال نموذج جاهز، ولكنه أخـذ في الابتعاد عنهم باستمرار : النموذج العربي الاسلامي الذي يزداد مع الوقت «توغلا» في الماضي بالشكل الذي يجعل التفكير فيه يفقـد أسبابه الموضوعية، والنموذج الأوروبي الذي يتوغل في المستقبل بالشكل الذي يجعل الأمل في اللحاق به يتضاءل أمام اضطراد التقدم العلمي والتكنولوجي الهائل.
من هنا تلك الثغرة الواسعة والعميقة في وعي العرب بالنهضة، الثغرة التي تجعل وعيهم هذا مجرد احساس بالفارق، أي حصيلة مقارنة ومقايسة لا حصيلة تحليل وممارسة.
إن غياب تحليل الواقع ـ واقع «الانحطاط» ـ وعـدم الانطلاق التحليل لبناء نموذج مطابق يرتبط فيه ابتداء النهضة بالوعي ببدايتها، هو السبب في ذلك التضخم في الطموح النهضوي العربي، التضخم الذي يقفز على الواقع ويلغي الزمان والمكان ويجعل، بالتالي علاقتهم مع أحد النموذجين، الإسلامي الماضوي أو الأوروبي، تتحول إلى الحلول محله إلى تقمصه والاحتماء به.
فالتفكير الفلسفي -كما يقول أحمد شحميط- يمدنا بالإطار النظري والعملي، ويمد السياسة بأفكار ومواقف مهمة في تجديد آليات الخطاب السياسي، وشرعنة قواعد حتى تتلاءم والمجتمع الجديد، في رؤى الفلاسفة بناء المجتمع المدني على الحقوق والحريات، تقديم مواصفات للمجتمع المفتوح لانتشال الفكر من السلطوية، ما يعني أن مستقبل الفلسفة في أسئلتها الهامة، وقراءة الممكن في الحاضر، وما سيكون في المستقبل البعيد وفق شروط الإمكان الحضاري، وبناء على رؤية تروم الاختلاف والتسامح، فنجد الفلسفة حاضرة بسؤالها في كل الميادين من السياسية والمجتمع والفن والأخلاق، مستقبلها مقرون بعوامل سياسية وتربوية وتاريخية، في ضرورة الانفتاح وإنتاج القواعد المرنة في السياسة والفعل السياسي بعيدا عن الفكر الشمولي والأنظمة الكليانية.
وبالتالي فإن تطلعنا صوب مراكمة عوامل نهوض وتحرر شعوبنا، يقف وراء نزوعنا إلى التفلسف، رغبة في اكتشاف معارف نحيا من أجلها ومبادئ نعيش لها، للخلاص من كل أوضاع التخلف والاستبداد، وتحقيق مقومات الديمقراطية والنهوض والعدالة الاجتماعية.
الفلسفة في الوطن العربي في مائة عام1 :
في اجابته على سؤال ما هي أهم إشكاليات الفكر الفلسفي العربي في الأعوام المائة الأخيرة؟ يقول المفكر الراحل حسن حنفي هناك خمس إشكاليات رئيسية:
الأولى التقليد والحداثة بصياغاتها المتعددة مثل القديم والجديد، التراث والتجديد، الأصالة والمعاصرة، التي تعبر عن وجود العرب في التاريخ بين زمنين، زمن القدماء وزمن المحدثين.
والإشكالية الثانية العقل والعقلانية استئنافاً للإشكالية القديمة الصلة بين العقل والنقل عند المتكلمين أو الفلسفة والدين عند الفلاسفة.
والإشكالية الثالثة هي الحرية في الفكر الفلسفي العربي المعاصر، والحرية والعقل كلاهما مظهر لأصل العدل في التفكير الاعتزالي القديم.
والإشكالية الرابعة الأخلاق، وهي ما يعادل الحكمة العلمية عند القدماء .
والإشكالية الخامسة هي الإشكال السياسي، فالأخلاق والسياسة هما المكونان الرئيسيان للحكمة العلمية عند القدماء، سواء كان الفكر السياسي من الموروث أو من الوافد مثل سبينوزا أو فولتير أو هيجل أو سان سيمون أو ماركس ولينين وماو ، في الفكر العربي المعاصر.
سؤال عصرنا -كما يطرحه المفكر الراحل حسن حنفي- في أية مرحلة من التاريخ نحن نعيش؟ وإلى أي جيل نحن ننتسب؟
هل نحن جيل النهضة العربية الأولى منذ القرن الماضي، ورثناها في مدارسنا وجامعاتنا وثوراتنا الوطنية ضد الاستعمار أولاً والقصر ثانياً؟
هل نحن جيل التحرر الوطني الذي استأنف فجر النهضة العربية الأولى وأراد استكمال مشروع النهضة وتحويله من الفكر إلى الواقع ومن العقل إلى الثورة؟
هل نحن جيل الثورة العربية التي قامت منذ أوائل الخمسينيات واندلعت في معظم أرجاء الوطن العربي، وازدهرت في القومية العربية والاشتراكية العربية؟
هل نحن جيل بناء الدولة الوطنية المستقلة، جيل التحديث والتصنيع؟ أم اننا جيل تعثر هذه الدولة وتحولها إلى نظم تابعة لأعداء الأمس الاستعمار والصهيونية، وانقلاب حركات التحرر الوطني إلى نقيضها في التعاون مع الاستعمار والاعتراف بالكيان الصهيوني؟
ام أننا جيل تفكك الأوطان وتجزئة الوطن العربي وتشرذمه في عصر العولمة، جيل حصار العراق وليبيا وإيران والسودان، والتهديد بتفتيت المغرب إلى عرب وبربر، والعراق إلى سنة وشيعة وأكراد ، والخليج إلى سنة وشيعة، وسوريا إلى عرب ودروز وعلويين، واليمن إلى زيدية وشوافع، والسعودية إلى وهابيين قدامى ووهابيين جدد، ولبنان إلى طوائف وملل ونحل وعشائر، وتهميش مصر وإخراجها من قلب الوطن لتحل إسرائيل محلها، أداة التحديث، وجسراً مع الغرب؟
من ناحية ثانية، فإن الفكر الفلسفي العربي المعاصر -كما يؤكد د.حسن حنفي- "لم يصل بعد إلى مرحلة بناء الأنساق الفلسفية الكبرى كما حدث في الغرب الحديث مثل مذهب سبينوزا في القرن السابع عشر. وكانط في القرن الثامن عشر، وهيغل في القرن التاسع عشر"2 . ونحن ما زلنا في مرحلة انتقال من الإصلاح الديني إلى عصر النهضة (الذي لم نصل اليه معرفياً بعد)، وما زالت الأغطية النظرية القديمة باقية على الرغم من محاولات نقدها منذ فجر النهضة العربية حتى الآن، وقد تنشأ تيارات واتجاهات إحياء لفرق من الموروث القديم -كما يضيف د.حسن حنفي- مثل الرشدية والاعتزال أو السلفية أو الأشعرية او الخوارج أو الشيعة أو الحنبلية الجديدة (الوهابية).
على أي حال يؤكد د.حسن حنفي بقوله : تظل "الفلسفة العربية في مائة عام" تتعامل مع معطيات تراثية، الوافد أو الموروث وإن كان همها في بعض جوانبها هو الواقع المعاش، والرغبة في الإصلاح والتغيير، والمساهمة في المشروع القومي العربي في التحرر والتحديث.
ومن ثم يبرز سؤال: أين مواطن الإبداع في الفلسفة العربية أوحتى في الفكر العربي .
إن آخر ما وصل إليه الإبداع الفلسفي العربي هو المشاريع العربية المعاصرة في مصر والشام والمغرب.
والإشكال مازال مطروحاً على عدة أجيال قادمة. فالقديم لم ينته بعد، والجديد لم يبدأ بعد.
وقد يكون السبب في تأخر مواطن الإبداع هو أن المجتمعات العربية ما زالت غير مستقرة.
لقد مر الفكر العربي في الأعوام المائة الأخيرة بتجربتين.
الأولى التجربة الليبرالية التي كانت نمطاً للتحديث للتيارات الفكرية الرئيسية الثلاثة منذ فجر النهضة العربية.
الإصلاح الديني الذي أسسه الأفغاني ، ونقطة بدايته: لا يتغير شيء في الواقع إن لم يتغير فهمنا للدين أولاً.
والتيار العلمي العلماني الذي أسسه شبلي شميل، ونقطة بدايته: لا يتغير شيء في الواقع إن لم يتغير فهمنا للطبيعة والمجتمع أولاً.
والتيار الليبرالي الذي أسسه الطهطاوي وخير الدين وبدايته: لا يتغير شيء في الواقع إن لم نبن الدولة الحديثة أولاً.
والثانية التجربة القومية الاشتراكية العربية التي أكملت حركات الاستقلال الوطني، وأعادت بناء الهياكل الاجتماعية بالإصلاح الزراعي والتصنيع ، والقطاع العام ومجانية التعليم، وتذويب الفروق بين الطبقات، ومعاداة الاستعمار والصهيونية، وعدم الانحياز، وانتهت بهزيمة 1967.
والآن يمر العرب بتجربة ثالثة لا يدرون ما كنهها إلا أنها رد فعل على التجربة الثانية، ومنجرفة نحو الخصخصة والرأسمالية والعولمة واقتصاد السوق والتحالف مع أعداء الأمس.
والوطن العربي مهدد اليوم بالتشرذم والتفكك والضياع ليصبح محيطاً لمركز آخر سواه، الغرب وإسرائيل وليس القومية العربية ومصر، ما يعني أن التحديات ما زالت قائمة، والمشروع النهضوي العربي ما زال مستمراً.
فقد ازداد العرب تشرذماً وتجزئة ، فكيف تستطيع أن تضمن للأمة وحدتها بفلسفة في الوحدة تنبع من التوحيد كثقافة للأمة وعلى اتساعها الجغرافي ومواردها المادية والبشرية في عصر التكتلات الكبرى .
لذلك يحق القول، إن الحالة الراهنة للفكر الفلسفي في الوطن العربي، تتميز ليس بالتراجع المعرفي الحداثي الإنساني فحسب، بل أيضاً بسيطرة مفاهيم ومظاهر التبعية والأفكار الغيبية المتخلفة بصورة غير مسبوقة في التاريخ العربي الحديث والمعاصر، حيث تبدو الأبواب موصدة في وجه التطور الثقافي والاجتماعي والاقتصادي، وفي وجه مفاهيم الحرية والتنوير والعقلانية والليبرالية والديمقراطية والمواطنة، لحساب مفاهيم الاستبداد والتخلف المعرفي، التي يعاد انتاجها وتجديدها في هذه المرحلة التي تتعرض فيها بلدان الوطن العربي ومجتمعاتها لمزيد من الانقسامات والتجزئة والتفكك والتشرذم وضياع الهوية، انعكاساً لتفاقم وتزايد مساحة التبعية والخضوع والارتهان للمركز الامبريالي من ناحية وتزايد مظاهر الفقر والجهل والاستغلال والاستبداد من ناحية ثانية.
فكيف تستطيع الفلسفة أن تصوغ أيديولوجية للتنمية المستدامة تعتمد على الذات وتنمية الموارد وإعطاء الأولوية للعوامل الداخلية على العوامل الخارجية، ومازالت قضية الهوية مطروحة في عصر يشتد فيه الاستقطاب بين التغريب والأصولية ، بين الانبهار بالآخر الأعداء؟.
وأخيراً، ما زالت قضية لامبالاة الجماهير مطروحة حتى ولو غزا الكيان الصهيوني عاصمة عربية وضرب أهدافاً عربية واحتل أراضي عربية فلا تتحرك الجماهير إلا في هبات شعبية وقتية تخبو بمجرد اندلاعها.
كيف تستطيع الفلسفة أن تصوغ رسالة في الأمانة وغاية الإنسان والمسؤولية والالتزام بقضايا العصر؟ كيف تستطيع أن تحول الكم العربي إلى كيف، والجماهير إلى طاقة، والأعداد المتراصة إلى كتلة بشرية؟
إن الهدف من رصد الفلسفة في الوطن العربي هو بلورة الوعي التاريخي الفلسفي العربي، وسبر أغوار الحاضر بين الماضي والمستقبل حتى لا يظل الغرب وحده صاحب الوعي التاريخي. 3
السؤال لماذا انقطعت النهضة ؟ أو لماذا تعثرت مسيرتها ؟ أو لماذا حدث النكوص على المستويين الواقعي والفكري.
إن جهود الباحثين لم تصل إلى استنتاجات مقنعة مرضية في مسألة تعثر النهضة وتوقف مسيرتها. وهذا ما يستوجب استمرار البحث في هذا الميدان وتعميقه ونحن نبحث عن سبل استئناف مسيرة النهضة العربية، أو الانطلاق في نهضة جديدة أو ثالثة على حد قول المفكر محمود أمين العالم .
وإذا كانت الرجعية -كما يقول عطيه مسوح- قد أفادت من بعض الموروث الفكري ، وضعف الوعي النهضوي لدى الجماهير ، في تعويق النهضة، فإن البرجوازية الناشئة لم تحظ بدعم القوى ذات النزوع الاشتراكي، بل خلافاً لذلك، فقد رات هذه القوى ضعف البرجوازية ذريعة لطرح فكرة مقاومة التطور الرأسمالي لأن البرجوازية المحلية تابعة وعاجزة عن تحقيق التطور المستقل، ودعت إلى السير في طريق الاشتراكية.
غير أن هذه المحاولة النهضوية ذات النزوع الاشتراكي ، وبرغم بعض نجاحات ، انهارت دون تحقيق نهضة حقيقية، فما هو السبب في هذا الانهيار؟
إن السبب كما يقول فيصل دراج، يكمن في مصادرة أنظمة الاستقلال ، التي تذيب الأجهزة جميعاً في الجهاز الأمني، إمكانية توليد المجتمع المدني ، بعد أن أنتجت مجتمعاً على صورتها، ينكر الحوار ويعيد توزيع الرقابة السلطوية.
لذا كان طبيعياً أن تقوّض هذه الأنظمة فكرة القومية، التي هي علاقة حداثية في جملة علاقات حداثية، مثل الديمقراطية ودولة القانون واستقلال المجتمع المدني النسبي عن المجتمع السياسي.
توسّلت الأنظمة المتسلّطة ، وبوتائر متسارعة، الأقنعة الدينية المختلفة، تعبيراً عن شرعية مفقودة وبحثاً عن شرعية لن تظفر بها . هكذا يتحوّل الدين ، في شكله الاستعمالي أو البرجماتي، إلى أيديولوجيا دينية، تُدرج في مقولات الأيديولوجيا السلطوية، التي تسوّغ ممارسات الأنظمة الحاكمة.
السؤال المطروح من فيصل دراج : ما هي القضايا النهضوية التي لا تزال تحتفظ براهنيّتها حتى اليوم؟
قضايا أربع:
1- المجتمع المدني، الذي يقول ببشر متساويين في الحقوق والواجبات، بمعزل عن المعتقد الديني والانتماء الفكري والأصول الإثنية.
2- الإصلاح الديني، الذي يعترف بحقوق الاجتهاد وتاريخية النصوص  وتطوّر الحاجات الإنسانية، وبتراكم المعارف الإنسانية، الذي يقرأ القديم على ضوء الجديد.
3- والفصل بين العلم والدين، وهو موضوع مشتق من سابقه،  يقرّر العلم الديني فرعاً من فروع المعرفة الإنسانية، بعيداً عن دعوى «علم العلوم» أو «فلسفة الفلسفات»، التي تحوّل المعارف إلى مراتب والمراتب إلى معارف.
4- أمّا الأمر الأخير فهو تحرّر المرأة، الذي هو إشارة إلى تحرّر الرجل والمجتمع ككل .
على أي حال لن يتحقق التجديد  بخطاب لغوي انتصاري، يجيّش العاطفة ويقمع غيرها، بل ببرنامج سياسي في مناخ عقلاني ديمقراطي مستنير، يقبل البشر في اختلافاتهم ويعترف بحاجاتهم المختلفة، بعيداً عن تجريد لا تمكن البرهنة عنه، والسؤال المركزي الآن هو، أي مستقبل للديموقراطية؟
إن النظام الديموقراطي -كما يقول د.علي الدين هلال- "ليس مجرد فاعلين وانتخابات وتشكيل حكومات، وليس مجرد من يحصل على النسبة الأكبر من أصوات الناخبين، بل أيضا ماذا يستطيع هؤلاء الفاعلون من قوى ومؤسسات فعله، ومدى تمثيلهم للمصالح الاجتماعية وقدرتهم على تحسين ظروف الحياة لأكبر عدد من الناس"4 .
فالديموقراطية تنهض بجناحين: جناح إجرائي يتعلق بالترتيبات والمؤسسات الانتخابية والتمثيلية ونزاهتها، وجناح موضوعي يتصل بنوعية الحكم وجودته ومضمون السياسات العامة وتمكين المجتمع5.
إن الديموقراطية بإيجاز هي أسلوب ومضمون، شكل ومحتوى، وهناك أنماط ونماذج متنوعة لها تدور بين أنصارها جدالات فكرية ممتدة.
وعند مقارنة الأهداف بما تحقق فعلا يتضح أن الانتقال إلى الديموقراطية في كثير من البلاد لم يحقق كل النتائج أو الآمال التي دارت بخلد المدافعين عن هذا الانتقال، فأحيانا توقفت النظم الديموقراطية الجديدة عن الشكل دون المضمون، وفي احيان أخرى ارتدت إلى أشكال من السلطوية، (الحالة الفلسطينية والانقسام) ومن ثم جاء أداء هذه النظم مخيباً لآمال المستفيدين المحتملين منها.
لقد أصبح من الواضح الآن أن ازدهار الديموقراطية لا يتحقق بمجرد الاعتقاد في مبادئها، أو الالتزام بنتائجها في صناديق الاقتراع مرة كل أربع سنوات، وذلك لأن هذه الممارسات قادت إلى نوع من "الركود الديموقراطي" وعزوف الشباب عن مؤسساتها، بل يتطلب ازدهار الديموقراطية ممارسة العملية الديموقراطية على نحو دوري ومستمر –من خلال صندوق الرأس- بما يعطي المواطن الشعور بأن له دورا في التأثير في اختيار السياسات، وفي القضايا التي تؤثر في حياته وبما يؤكد معنى المواطنة الإيجابية6 .
غني عن القول بأن "شعوبنا لم تعش، بعد، المرحلتين التنويرية، للدين، ولم تنهض الثورات العلمية، والفلسفية، والسياسية"، آخذين بالاعتبار أن الديمقراطية لن تهبط علينا بالمظلَّة، ولن تَنْبُت شيطانيًا من الأرض، بل هي تحتاج إلى حراك نهضوي طليعي يمكِّننا من تجاوز كل مظاهر التخلف وامتداداته، العقلية، والثقافية، والقانونية السائدة.
هنا نلمح العلاقة المباشرة بين الفلسفة، المعاصرة ومفاهيم الديمقراطية والتقدم والثورة، فهي علاقة وثيقة متبادلة، وتأسيسية، ذلك إن الخطاب الفلسفي السديد يتعامل مع المستقبل، والمجتمعات الناهضة، لن تحملها سوى قوى ديمقراطية، تقدميه ثوريه، تمتلك جرأة التغيير الجذرية، تلتزم بالفلسفة الماركسية، في سياقها التطوري المتجدد، والبعيد عن الجمود، لإقامة صروح جديدة على أنقاض القديم.
وعلى هذا الطريق فاننا مطالبون بتحقيق المهمات الحضارية التي حققتها الثورة العلمية في أوروبا، وتتلخص هذه المهمات في الاتي:
1- تحرير الإنتاج المعرفي، وبخاصةً الإنتاج العلمي، من هيمنة مراكز السلطة الأيديولوجية على اختلاف أنواعها. وبعبارة اخرى، فالمطلوب هو السعي نحو منح مؤسساتنا العلمية والمعرفية استقلالاً ذاتياً يقيها من تزمت الفئات التقليدية ومن التقلبات السياسية والاجتماعية.
2- وضع العلم في مركز الصدارة على صعيد الفكر والمعرفة، بمعنى اكسابه بصفة المرجع النهائي والحكم الفيصل في المسائل الأساسية في نظر جميع الفئات والهيئات، سواءاً أكانت رسميةً أم شعبية.
3- خلق جماعات علمية قومية ضمن اطار الجماعة العلمية العالمية، تنتج المعرفة العلمية عبر مؤسسات ولغة وطرائق وطرق نظرية ومعتقدات وقيم ومناظرات وأساليب ومقاييس مشتركة.
إن تحقيق هذه المهمات، يستلزم مشاركة جماهير الشعب، في جميع قطاعاته، مشاركةً فعالة، فالتقدم المنشود لا يمكن أن تحرزه الصفوة وحدها بمعزل عن جماهير الشعب، كما أنه ليس في مقدور الجماهير وحدها، المشاركة في هذه العملية الحضارية الضرورية ما لم تُهَيأ لذلك مادياً ومعنوياً"، وخاصة امتلاك عوامل التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي بالمعنى التنويري النهضوي، كمقدمة لابد منها لعملية النهوض الديمقراطي التقدمي.
في محاولة للإجابة عن ملامح الفكر الفلسفي في مطلع القرن 21 نذكر مثلا الفيلسوف الألماني لودفيج فويرباخ (1804 ـ 1872) الذي كتب سنة 1843 "مبادئ فلسفة المستقبل"، والفكرة الناظمة للكتاب -كما يقول عبد الرزاق الدواي- هي أن الفلسفة الجديدة ستجدد المذهب المادي وتغنيه؛ وستجعل من الإنسان والطبيعة الموضوع الوحيد والكلي والأسمى للفلسفة؛ وإنـها ستنظر إلى الإنسان لا باعتباره كائنا عاقلا ومفكرا فحسب بل باعتباره أيضا كائنا طبيعيا وحسيا ؛ كما أنـها ستعلي من قيمة المحبة والمشاعر والعواطف الإنسانية وستكون نزعة إنسانية جديدة .. لكن هذه الرؤية الطوباوية لفيورباخ لن تجد مكانا لها في فلسفة القرن الحادي والعشرين ، خاصة وأن هناك استنتاجات صعبة ومعقدة من أهمها :
1 ـ الواقع الراهن للفلسفة في القرن 21 وأشكال الخطاب الفلسفي الجديد
عند إمعان النظر في متطلبات عصرنا الحالي وأمام هذه الأوضاع والمعطيات الجديدة سنقف على حقيقة أن الفلسفة أضحت تبدو لنا عتيقة ومتجاوزة وكأنـها تنتمي حقا إلى مرحلة قد ولت -كما يقول عبد الرزاق الداوي- فهي ذات طبيعة نظرية تغرق في التجريد والعمومية ؛ وتعليمها غير متلائم مع مشاكل العالم اليوم؛ وليست لـها أية مردودية ملموسة ومباشرة، وتكاد تكون منقطعة الصلة بمشاكل الحياة اليومية على مستوى الافراد والشعوب .
وهناك بكل تأكيد أسباب وجيهة لتفسير هذا الانطباع ولعل من أكثرها وضوحا أن الشعوب والمجتمعات في المرحلة الراهنة من تاريخ البشرية، وحيثما وجدت في أنحاء المعمورة، بدأت تشعر وتعي بأن وضعيتهـا الحاضرة بل و مستقبلها كذلك أصبحا مرتبطين ارتباطا وثيقا بمدى مقدرتـها على استيعاب التقنية والتمكن من الاستفادة منها.
ومن بإمكانه اليوم أن يجادل أو يتجاهل أن حال الفلسفة لم يتغير كثيرا وانه لا يزال في أيامنا هاته كما كان عليه حتى منتصف العقد السابع من القرن العشرين على الأقل ؟ لقد كانت المذاهب والمدارس والتيارات الفلسفية في ذروة حيويتها وعطائها تتناظر وتتساجل وتتصارع : الفنمولوجيا والوجودية و الشخصانية في مواجهة الماركسية، والماركسية في مواجهة الوضعية المنطقية والوجودية والبنيوية، والوضعية المنطقية في مواجهة المذاهب "الميتافزيقية" قاطبة، والفلسفة البنيوية في مواجهة الوجودية والماركسية معـا .
ولا ننسى أن الساحة الثقافية شاهدت كذلك في القرن العشرين بروز ظاهرة هيمنة أعمدة الفكر والفلسفة المعاصرة الكبار مثل ليفي ستروس، وميشيل وفوكو ودريدا وألتوسير ودلوز إلخ… وكان أغلب هؤلاء أساتذة مرموقين ينتمـون إلى الجامعات.
أما اليوم نحن في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، فقد صرنا نلاحـظ الفلسفة وهي تنكمش على نفسها وتغدو ميالة إلى التروي والحذر.
وعلاوة على ذلك ثمة سمة أخرى لافتة للإنتباه -كما يستطرد عبد الرازق الداوي- إن مطلب العقلانية الذي كان من قبل من أولويات الفلسفة أصبح اليوم مهددا بسـبب تكاثر وانتشار النـزعات الشكية والظلامية المتطرفة. فقد تضـاءل الحرص الذي كانت تبديه جل الفلسفات السابقة على تبني النـزعة العقلانية وعلى متابعة ما يستجد في ميادين العلوم، وعلى الاستلهام منها ومن مناهجها، وصرنا اليوم نلاحظ تراجعه حتى ليبدو للعيان أن العقـل والعقلانية قد أصبحا بالفعل مهددين بفعل تجدد وانتشار الاتجاهـات اللاعقلانية ذات الأصول الدينية أو الصوفية أو الفوضوية أو الفلسفية التفكيكية.
2 ـ تزايد الفجوة واتساعها بين الفلسفة والعلم في القرن 21 ، وبالتالي علاقة "أزمات" الفلسفة بالتحولات السريعة وبالتقدم العلمي والتكنولوجي ، والسؤال هنا : هل هذه الازمة تعبير عن عجز الفكر الفلسفي عن ملاحقة التطور السريع للواقع، وعن فهم واستيعاب ما يستجد من اكتشافات في ميادين العلم؟.
إن الإجابة بنعم على سؤال أزمة الفلسفة الراهنة، ستطرح على الفكر الإنساني الراهن ضرورة إعادة النظر في كثير من قيمه السياسية والأخلاقيـة والإبستمولوجية السائدة في خدمة النظام الامبريالي المعولم، وبالتالي العودة مجدداً إلى المزيد من الاهتمام بضرورة النضال لتغيير الوضع الراهن صوب نظام اشتراكي وديمقراطي في إطار أممية خامسة – لمجابهة بربرية رأس المال المعولم.
والسؤال: هل يجوز لنا أن نستشرف من وراء ذلك أن مهمة الفلسفـة للخروج من أزمتها الراهنة في المستقبل القريب ستكون شبيهة بمهمتها في عصر الأنوار ؟ وبعبارة أخرى -كما يسال عبد الرزاق الداوي- هل ستستعيد الفلسفة في القرن الحادي والعشرين دورها التنويري ويغدو الصراع الفكري كما كان عليه في عصر الأنوار: العقل ضد النـزعات الظلامية واللاعقلانية.
بالطبع، إننا في حاجة للعقل التواصلي والتماهي مع الديمقراطية وحقوق الإنسان، وسعي الفلسفة لتجسيد أخلاقية التواصل والمناقشة في خلق فضاء عمومي دون إقصاء الآخر ونبذه على أساس العرق واللغة والدين، مع استمرار الاهتمام باولوية مشروع الحداثة ومفاهيمها العقلانية وقيمها المرتبطة بالحرية والديمقراطية والمواطنة والعلمانية وفصل الدين عن الدولة، هنا نلمس العمق الفلسفي في نظرية الفعل التواصلي عند هابرماس وأفكاره بشكل عام في تحليل إرهاصات العصر بالنقد والتحليل، واجتراح الحلول المناسبة.
بالطبع هناك مؤشرات حالية توحي بأننا سنشهد انبعاثا جديدا لعلاقة الفلسفة بالسياسة في هذا القرن، على الأقل على مستوى برامج التعليم، ولعل أكثرها تجليا هذا الانتعاش الكبير للخطاب عن حقوق الإنسان ، في ظل استشراء الاستغلال الرأسمالي المعولم الراهن .
وبالتالي فانني اعتقد ان كثيرا من المهتمين بالفكر الفلسفي في عصرنا خاصة في بلدان العالم الثالث قد يصبحون أكثر طموحا صوب الاقتناع بأن من الممكن أن يكون لتعليم الفلسفة أيضا، فضـلا عن مزاياه السابقة علاقة وثيقة بمفاهيم الحداثة الديمقراطية والعدالة الاجتماعية عموما وبالثورة الديمقراطية بآفاقها الاشتراكية خصوصاً .خاصة وان الفكر الفلسفي في القرن الحادي والعشرين -كما يضيف عبد الرزاق الداوي- سيكون أميل إلى الارتباط بالسياسة وأكثر استعدادا للاهتمام بقيم ومبادئ الديموقراطية؛ ذلك لأنه سيكون مؤهلا لتعليمها ونقلها والمساهمة بواسطتها في تكوين وتربية المواطن. نظرا لما بتنا نشاهده اليوم في أنحاء عديدة من العالم من نمو لظواهر الكراهية والتطرف، ومن انتشار لأشكال المس بالحريات العامـة وانتهاك لحقوق الإنسان، بل واللجوء حتى إلى الاغتيالات. لقد أضحت هذه الظواهر تحتل حيزا هاما في فضائنا اليومي من خلال الصحف ونشرات الأخبار.
وبالتالي لا يستبعد المهتمون بحقل الفلسفة السياسية في المستقبل أن تطرأ على مبدأ الديموقراطية نفسه تغييرات يمكن أن تمس جوهره ومسلسل تطبيقه، وبصفة خاصة في الدول ذات التقاليد الديموقراطية العريقة.
أما في مناطق العالم التي لا تزال تـهيمن فيها الثقافة المقدسة للسلطة، أو التي لم تعرف الإرهاصات الأولى للديموقراطية إلا في فترة متأخرة فمن المرجح أن انتشار قيم الديموقراطية فيها سيتحقق ببطء ولكن الدلائل الحالية تجيز القول بأن معطيات القرن الحادي والعشرين لن تسمح لـها أبدا بالتقوقع أو بالتراجع إلى الوراء.
لا نظن أن مهنة الفيلسوف في المستقبل ستبقى هي مواصلة للتقليد السقراطي أي الاستمرار في البحث عن الحقيقة عن طريق التامل والحوار وطرح الأسئلة، ونعتقد -كما يقول الداوي- أنـها ستكون بالأحرى محاولات دؤوبة لفهم واستيعاب التحولات الكبرى ودلالات إنجازات البحث العلمي على الصعيد العالمي وآثارها على أحوال الوضعية البشرية، وذلك لغاية إعادة سبك وصياغة وإنشاء مفاهيم حديثة للمساهمة في التنوير والتوعية بقيم الحكمة الإنسانية الجديدة ، والمراهنة على فرضية أن التعددية والنسبية هي التي ستكون السمة الأساسية لثقافة القرن الحادي والعشرين.
هنا أشير إلى حقبة الصحوة الوطنية والقومية في بلادنا، التي أخذت في الظهور عبر الأفكار النهضوية العقلانية، المستنيرة، على مدى عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين ، في مواجهة الفلسفات السلفية الرجعية السائدة، المساندة للأنظمة المستبدَّة، التي نجحت في إسدال الستار على تلك الصحوة، بدعم استعماري مباشر (مرحلة النهضة بداية القرن العشرين الكواكبي ومحمد عبده وسلامه موسى وشبلي شميل واحمد لطفي السيد وقاسم امين واحمد امين وعلي عبد الرازق وطلعت حرب وطه حسين وصولا الى عام 1928 وتأسيس جماعة الاخوان المسلمين محمد رشيد رضا) .
وقد ساهمت أعمال المفكر المغربي الراحل محمد الجابري في نقد التراث والفكر العربي على مدى أكثر من ثلاثة عقود من الزمن في إثارة جدل وحوارٍ واستقطاب بين النخب الفكرية والثقافية بتياراتها المتعدّدة بتقاطعاتها وإلتقاءاتها بحثاً وتأصيلاً ولم يتوانَ عن تعميق منهجه مقدِّماً أعمالاً جريئة وإشكالية في الآن، سعيَاً لإثارة أسئلة ساخنة حول مستقبل العقل العربي بإعادة قراءة التراث من منظور جديد فرفد المكتبة العربية بالعديد من المؤلّفات المتميّزة7 .
لقد "بدأ الجابري أطروحاته النقدية بخصوص التراث والعقل في إطار خطة معرفيّة تعود إلى عصر التدوين الذي يعتبره الإطار المرجعيّ للعقل العربي حيث تأسست الثقافة العربية-الإسلامية على 3 عناصر هي:
1- البيان (العقل البياني) أو حسب تسميته "المعقول الديني العربي" وفيه يمكن قياس الغائب على الشاهد كمنهج في إنتاج المعرفة، ويشمل هذا الحقل علوم البيان من نحو وفقه وكلام وبلاغة (اللغة والدين).
2- العرفان (العقل العرفاني) وهو ما أطلق عليه مصطلح "اللاّمعقول العقلي"، وهذا يشمل التصوّف والفكر والفلسفة (الشيعة والإسماعيلية) وتفسيرات "باطنيّة" للقرآن، إضافة إلى علوم الكيمياء والطب والسحر والفلك. وأُسست هذه على "الكشف والوصال" و"التجاذب والتدافع" واستمدت أدواتها من المواريث القديمة.
3- البرهان أو"المعقول العقلي" ويعتمد على الملاحظة والتجريب والاستنتاج العقلي (كمنهج)، أيّ المعرفة العقلية المؤسَسة على مقدمات عقلية وتشمل الفلسفة الأرسطية بما فيها من منطق ورياضيات وطبيعيات وميتافيزيقيا.
جدير بالذكر أن الجابري وهو يعرض هذه المنظومة الكلاميّة المُتداخلة يؤكد على دور العامل السياسي الذي يرّجح كفة "عقل" على آخر، ويقمع "عقلاً" ليُعلي من شأن آخر، أيّ عقل مقابل عقل وذلك لمصالح أنانية ضيقة8".
"فيمكن أن نعثر على أولوياته في كتاب "الخطاب العربي المعاصر"،حيث بدأ التتابع عن "التكوين" و"البنية" و"السياسة" و"الأخلاق" في إطار منهج نقدي مُهنْدَس على منهجية الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانط الذي قسّم العقل إلى نظري وعملي.
ويرى الجابري أن العقل العربي متخلّف ومقلِّد للغرب ولا يستطيع التخلص من هذا المصير، لأن ثمة خلل جوهري في تكوينه الثقافي والحضاري، وهو راكد ويعيد إنتاج نفسه في دورة اجترارية مغلقة9" .
كما رأى الجابري أن التجديد يتطلّب البدء من داخل العقل العربي ومن تراثه اعتماداً على آليات عقلانية مستوحاة من الثقافة الإنسانية في محاولة لتوطينها أو تبيئتها، وحين تصدّى للتراث فلأنه حسب وجهة نظره غير ثابت أو ساكن وذلك في محاولة لتنقيته مما علق به من ترهات وتخليصه من عبء التقديس (السلفيون) كما يريد البعض أو ثقل التدنيس كما يهوى (التغريبيون)10".
(ويتمثّل رأي الجابري بأنه لا يتعّصب للمغرب، بل يؤمن أن المغرب مشرق وأن المشرق مغرب ولن يفترقا، وكما يقول: نحن إخوة، أبناء عم واحد، لكن ربما من أمهات عديدات، لسنا توأم، بل نحن إخوة.)
فقد "استند المشروع الفكري الذي تبناه المفكر محمد عابد الجابري، على مجموعة مرتكزات بنيوية أساسية، صاغت مشاربه المفهومية دون كلل أو نكوص طيلة أربعة عقود وهي :
1. تحقيق قطيعة نوعية مع منظومة المجتمع القديم، بتوطيد روافد مشروع مجتمعي تحديثي، قوامه الدولة الوطنية الديمقراطية .
2. بناء عقل جديد والنهوض بالإنسان على جميع المستويات .
3. التحول وجهة العمل القومي، ارتباطا بآفاق التحرر العالمي11".
وعلى الرغم من اتفاقي مع المرتكزات السياسية والمعرفية كما أشار إليها الجابري أعلاه، إلا أنني أعتقد بان المفكر الكبير الراحل الجابري الذي كان مهموماً بالبحث عن الأسباب التاريخية والراهنة التي أدت إلى تراجع وفشل المشروع النهضوي العربي الديمقراطي، حيث حرص على البحث في الرؤى المطروحة من الأفغاني ومحمد عبده عموماً، وفي الرؤى المطروحة من ابن رشد خصوصاً، حيث أنني اعتقد حرص الجابري الشديد على استعادة تلك الرؤى والمقولات العقلانية المستنيرة كما طرحها الفيلسوف ابن رشد، دون أن يتطرق أو يؤكد التزامه بالرؤى الماركسية المادية الجدلية في معرفة أسباب فشل المشروع النهضوي العربي.
إن الجابري مفكر جدالي ولا شك. وينبع ذلك بصفة أساسية –كما يقول هشام غصيب- من كونه عصيا على التصنيف الفكري الآيديولوجي؛ عصياً على ان يُحشر في قالب ضيق. فهو يتأرجح في فضاء فكري فسيح يحده، من جهة، الاستشراق، ومن جهة أخرى، ماركسية التحرر القومي، ومن جهة ثالثة، حركة الإصلاح الديني12".
في هذا السياق، اعتبر المفكر القومي الماركسي الراحل ياسين الحافظ أن التخلف أو التأخر هو المسألة المركزية في الواقع العربي المعاصر، لذلك انتقد "المنظور التنموي" الذي توهم بإمكانية دخول العصر و"تجنب الثورة القومية الديمقراطية التي دشنت العصر الحديث من خلال قلبها وتصفيتها المجتمع التقليدي القديم، وعبر هذه التصفية أمكنها أن ترسي بنى المجتمع الحديث المجتمعية والأيديولوجية والسياسية وإطلاق قواه الإنتاجية. واستنادا إلى استقرائه لتاريخ الفكر السياسي العربي الحديث وجد "الحافظ" أن جماع السياسة العربية متأخر؛ فالتأخر كامن في البنية السياسية العربية، ليس في المنطق اليميني فحسب، ولا يقتصر على الأقليات العربية الحاكمة: "لسنا إزاء أخطاء فحسب، بل إزاء تأخر، لسنا إزاء سياسات يمينية فقط، بل سياسات لا عقلانية، لسنا إزاء تأخر الأقليات المهيمنة فقط، بل إزاء تأخر البنية السياسية العربية بجماعها". ومن هنا ألح على الحاجة إلى الثورة القومية الديمقراطية انطلاقاً من علمية وعلمانية الماركسية؛ إذ أن الانطلاق من الواقع، واعتبار الحقيقة دائما ثورية كامنة في بنية وعي الحافظ، ولذا فهو منذ الستينات يتنبه إلى خصوصيات الواقع العربي (خاصة التخلف الثقافي)، وعليه فإنها تتطلب الجانب العلمي والعلماني من الماركسية للاستجابة لحاجاته للتقدم.. وقد شدد الحافظ على خصوصية المجتمع العربي، بوصفه أشد حاجة لهذه العلمية والعلمانية "لأنه لم يعش المرحلة الديمقراطية البورجوازية على الصعيد – الفكري والثقافي". وقد تعمق فهمه لهذه المسألة بعد خيبته بالمشروع القومي التقدمي، وبعد استفادته من تاريخانية المفكر المغربي عبد الله العروي، وبداية إلحاحه على مسألة التأخر، وتهافت التفسير الطبقوي للقوى التي صنعت الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة، ليبدأ السؤال المرير: أي ثورات صنعنا؟ وأي اشتراكيات بنينا؟ والجواب يتجلى في ضرورة المراجعة المعرفية والسياسية الكفيلة بامتلاك الوعي بالماركسية الثورية في بنية أحزاب اليسار العربي لكي تتمكن من هزيمة وتقويض أنظمة الرجعية والكومبرادور.
لذلك كله، فإن فهم عالمنا المعاصر، بما في ذلك وضعنا المريع في الوطن العربي، -كما يقول بحق د.هشام غصيب- "يستلزم ولوج عالم الفلسفة الغربية المسيطرة من أجل الكشف عن سرها السياسي في المقام الأول، إذ، إن للفلسفة الغربية دوراً سياسيا أساسيا، بالإضافة إلى دورها المعرفي المرتبط بتطور العلم، آخذين بعين الاعتبار، أن الفلسفة هي أساسا سياسية، فهي "الجسر الواصل بين العلم والوعي الاجتماعي، إنها الأساس النظري الدفين للممارسة الطبقية، أي للسياسة، ومن ذلك تنبع أهمية الاشتباك مع الفكر الفلسفي الغربي ومجابهته جديا. إن مثل هذا الاشتباك ليس ترفاً فكريا، وليس شأنا أكاديميا محضاً، وإنما هو شأن عملي ملح نحتاج إلى إجرائه من أجل معرفة كيف نتصدى للخصم الغربي وإفشال مشروعاته العدوانية الإبادية".
يقودنا هذا التحليل مرة أخرى إلى ضرورة الاشتباك مع الفكر الفلسفي الغربي الحديث والمعاصر، حتى يتسنى لنا أن نفهم العقلية الغربية المتأزمة، عقلية البرجوازية الغربية، التي تحكم عالم اليوم وتؤجج نيرانه.
فالفلسفة، كما أسلفنا، سياسية في جوهرها. إنها روح السياسة، ومن ذلك ينبع ذلك الاهتمام الغربي المحموم بها، وينبع إصرار القوى الرجعية في الأطراف على منعها أو إضعافها أو تصفيتها.
أما نحن، الذين لا نعتبر هيمنة الإمبريالية الغربية قدراً محتوماً، وندعو إلى مجابهتها بجدية، على طريقة لينين وماو وهوتشي منه وتشي جيفارا "فندرك جيداً أن لا مفرّ من هذا الاشتباك الفكري الذي يعرّض كل ثوابت الوعي السائد للاهتزاز، وربما الانهيار، والذي يغوص في عمق أعماق التجريد والتنظير من أجل الغوص في عمق أعماق العياني في سياق تغييره، فما هو البديل لماركس ولينين، الذي تطرحه البرجوازية الغربية أمامنا اليوم ؟ ماذا تبقى لديها لتقدمه لنا غير نيتشه وهيدغر وصولاً إلى كرزاي" ونتنياهو وشيوخ وأمراء دويلات الخليج والسعودية.
على أي حال، بالرغم من موضوعية الرؤية المادية للعالم، إلا أننا لا ندعو إلى الوقوف أمام هذه المسألة التي قد تثير كثيراً من الجدل والتساؤلات والخلافات دون أي طائل، لكننا في نفس الوقت مع المنهج العلمي الجدلي، ومع الموقف الموضوعي في تفسير الظواهر والمتغيرات الكونيه عموماً، وكل ما تتعرض له مجتمعات بلداننا في مغرب ومشرق الوطن من أجل الوصول عبر هذا المنهج إلى المفاهيم والمواقف والتطبيقات التي تؤدي للوصول إلى النهضة الحداثية التي نتطلع اليها، من أجل التحرر السياسي والاقتصادي والعدالة الاجتماعية والديمقراطية، بإعتبار هذه القضايا إطارنا العملي المباشر في مواجهة الواقع من حولنا وفي تطبيق وعينا الفلسفي ومنهجه العلمي على هذا الواقع، من خلال الاستخدام الأمثل للعقل المرتبط بالتجربة الحسيه أو الممارسة، فالمعرفة تبدأ بالممارسة العملية، وبالممارسة العملية نكتسب معرفة نظرية، يجب بعدئذ أن ترجع من جديد إلى الممارسة العملية باعتبارها أساس المعرفة بجميع درجاتها، ذلك إن اكتشاف الحقيقة عبر الممارسة العملية، والتثبت من الحقيقة وتنميتها عبر الممارسة العملية، يتم عبر الانتقال من الاحساسات انتقالاً فاعلا إلى المعرفة العقلية، ومن المعرفة العقلية إلى التوجيه الفاعل للممارسة العملية الثورية، إلى تحويل العالم الموضوعي والذاتي".
في هذا الجانب، أؤكد على أن العقل هو اداة المعرفة، والمعرفة هي الأداة الفكرية المحاكمة، وكما يقال " من لايملك القدرة على استخدام المعارف لن يكون طرفاً في إنتاجها، والذي لايستطيع استنباط الأفكار والحصول على المعلومات لن يكون مشاركاً في إبداعها، وما أحوجنا اليوم إلى صحوة عاجلة لمواجهة هذه الإشكالية وتخطيها، فالمعرفة هي انعكاس ذاتي للواقع الموضوعي، وهي أيضاً أسلوب وجود الوعي، الذي يتشكل من خمسة جوانب: 1- الوعي معرفة. 2- الوعي وعي للذات. 3-الوعي انفعالات. 4- الوعي تخيل. 5- الوعي إرادة.
إن كافة جوانب الوعي، مرتبطة بصور مباشرة بالعقل، الذي هو الأداة الفكرية المحاكمة .
من هنا، فإن من واجبنا ترسيخ الوعي بمقولة الاختلاف، باعتبار إنها تمثل الجزء الأولي والبسيط في التصور الديمقراطي للعملية السياسية والاجتماعية والاقتصادية في بلادنا بإعتبار هذه المقولة هي الميدان الواسع الحقيقي الذي سيحدد وجهتنا في الحاضر والمستقبل، لكي نسهم في تراجع حالة السكون.
لذلك لابد من الديمقراطية التي تنطلق من فلسفة الحداثة التقدميه، التي تقوم على وعي جدلية الواقع والاحترام للمجتمع، للناس، لفهم الناس وعقلهم، هذا الاحترام شرط المعرفة، والمعرفة شرط النقد والتغيير باتجاه النفي الايجابي. (البداية قد تكون في الأسرة .. في المدرسه .. والشارع ..أو في تداخلهم معاً، المهم أن نتوجه إلى الخاص أولاً ثم العام).
أما من ناحية العام، فالتاريخ كتغير وتحول وتقدم لا تحمله فكرة التناقض أو التعارض فحسب، بل على وجه التحديد فكرة النفي "ونفي النفي" التي تحمل فكرة "الجديد"، وهي فكرة تحمل معنى التحولية كنتاج للتراكمات الكميه (تاريخ التطور البشري عملية تركيبية.. كذلك تاريخ العلم)، إن التركيب هو نتاج نفي النفي .. وهو نتاج وعي الخاص في علاقته الجدلية والمستقبلية بالعام .
من جهة ثانية، إن تاريخ التطور البشري هو تاريخ انتاج الوعي البشري أو هو جزء من معركة العقل –من خلال الفلسفه- ضد كل الثوابت، في محاولة مستمرة منذ الاغريق إلى يومنا هذا، وهي عملية أجابت على سؤال ماهي الفلسفة؟ باعتباره السؤال الممتد في التاريخ البشري القديم والحديث والمعاصر، وهنا بالضبط تتجلى مقولة الوعي البشري إنعكاس للوجود البشري، لكن الوعي البشري بالنسبة لنا مدخل رئيسي صوب امتلاك الوعي الفلسفي الحديث عموماً ووعي الفلسفة العقلانية العلمية الحديثة عموماً، والفلسفة المادية الجدلية خصوصاً، واعتمادها بصورة موضوعية مدخلاً رئيساً صوب نهوض شعوبنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والتكنولوجي المنشود.

على طريق النهوض العربي ..الوطني والقومي الديمقراطي التقدمي:
لعل العنوان الأمثل للأزمة السياسية العربية الراهنة، يتجلى في تغير المفاهيم والمبادئ والأهداف، بعد أن تغيرت طبيعة الأنظمة وتركيبتها وركائزها الاجتماعية والطبقية وتحالفاتها الداخلية بما يتوافق مع الهيمنة الأمريكية وأحاديتها، حيث انتقل النظام العربي في معظمه، من أرضية التحرر الوطني والاجتماعي الديمقراطي كعنوان رئيسي سابق، إلى أرضية التبعية والارتهان السياسي والاقتصادي والاستبداد والاستغلال كعنوان جديد، وتحول التناقض الأساسي إلى شكل آخر أشبه بالتوافق بين التحالف البيروقراطي – الكومبرادوري المهيمن على النظام العربي من جهة، وبين التحالف الأمريكي – الإسرائيلي من ناحية ثانية، مما فاقم من مظاهر الإفقار والبطالة والحرمان، والاستبداد المرتكز إلى الأجهزة الأمنية، ومن ثم توسع وانتشار حركات الإسلام السياسي وانفجار الصراعات الطائفية الدموية في المشهد الراهن، في ظل حالة غير مسبوقة من العزلة الهائلة الاتساع بين الشعوب وأنظمتها، وهي حالة أسهمت بدورها في اتساع الفجوة بين القله من الأثرياء بمختلف مسمياتهم البورجوازية الرثة (الكومبرادوية، والعقارية، والمالية، والزراعية، والبيروقراطية العسكرية والمدنية.. إلخ) وبين الأغلبية الساحقة من الجماهير الشعبية العربية الفقيرة التي عانت –وما زالت- من كل أشكال ومظاهر الاستبداد والقهر والافقار طوال العقود الماضية.
فالمجتمعات العربية في المرحلة الراهنة، تعيش رهينة طغيانين، الطغيان السياسي الذي يتحكم بسلطة الدولة ليهمش المجتمع ويستبعده من أي قرار، والطغيان السلفي التراثي الرجعي يتحكم بالرأي العام ويسعى إلى تحويله إلى كتلة واحدة صماء وتابعة معا. وكلاهما يقومان على نفي الفرد وتجريده من استقلاله وحرية تفكيره ووعيه النقدي في سبيل إلحاقه بهما واستتباعه.
من هنا ليس من المبالغة القول، أن هناك تحالفا موضوعيا بين احتكار السلطة واحتكار الحقيقة، فهما يكملان بعضهما البعض، رغم الاختلاف الشكلي في منظور كل منهما وصراعهما على السلطة والمصالح، فالجوهر بينهما مشترك من حيث تكريس الاستبداد والتخلف، فبقدر ما يجرد الطغيان والقهر السياسي الفرد من وعيه وضميره وحسه النقدي، أي من إرادته واستقلاله، يحوله إلى لقمة سائغة لأصحاب جماعات الاسلام السياسي السلفيه الجامدة النقيضه للاستناره الدينية، أو يحوله إلى إنسان خاضع لنظام الاستبداد بصورة إكراهية هروباً من بشاعة ممارسات تلك الجماعات.
نستنتج مما تقدم أن القوى الكومبرادوية والرأسمالية الرثة المهيمنة والمتصارعه، بجناحيها "اليميني العلماني" و"اليميني الديني او الاسلام السياسي" – في كل بلدان الوطن العربي - لا تملك في الواقع مشروعاً حضاريا او ديمقراطيا وطنياً مستقلا نقيضاً للنظام الامبريالي الرأسمالي، كما أنها لا تملك أيضاً مشروعاً تنموياً يحقق العدالة الاجتماعية وينهي التبعية ويتجاوزها صوب مبدأ الاعتماد العربي على الذات، فالتنمية عندهما هي ما تأتي به قوى السوق المفتوح والمبادرات العشوائية للقطاع الخاص المحلي الكومبرادوري الذي لا يستهدف سوى تحقيق الربح، حتى لو كان على حساب دماء الكادحين والفقراء من ابناء الطبقات الشعبية، إلى جانب حرصهما على تشجيع نشاط المستثمرين الأجانب والشركات المتعدية الجنسية الكبرى وحكوماتها التي تدعم كل من أنظمة الاستبداد وجماعات الإسلام السياسي، وفق مصالحها في هذه المرحلة أو تلك، بما يضمن تطبيق مقولة الاستيلاء على فائض القيمة لشعوبنا من ناحية، وإبقاء شعوبنا أسيرة لآليات التخلف والتبعية والاستغلال واحتجاز التطور من ناحية ثانية.
لذا يجب أن تتم العملية الاستنهاضية، وعياً وممارسة، عبر إعادة تجديد وبناء ودمقرطة كل احزاب وفصائل حركة التحرر العربية في إطار الفلسفة العقلانية الديمقراطية عموماً، والماركسية، المادية الجدلية خصوصاً، لكي تقوم بوظيفتها عبر رؤيتها وبرامجها الثورية ودورها المحدد، من خلال مراكمة عوامل النهوض والإزاحة المتتالية لكل العوامل المؤدية إلى التراجع أو الفشل، وذلك مرهون بتأمين شروط الفعالية السياسية والفكرية والتنظيمية والكفاحية والجماهيرية القصوى في قلب الصراع الطبقي، عبر توفير معايير ونواظم وآليات عمل داخلية، ديمقراطية وثورية، كعنصر قوة، للارتقاء بدور أطراف حركة التحرر العربية، وفي مقدمتها فصائل وأحزاب اليسار العربي ورؤيتها وممارستها وتوسعها وانتشارها في أوساط جماهيرها، تمهيداً للثورة على أوضاع الظلم والإستبداد والاستغلال الطبقي.
في العالم كله كان انتصار الرأسمالية الحاسم على الإقطاع مقترنا بانتصار الحركات القومية أيضاً. وأساس هذه الحركات موجود من الناحية الاقتصادية في الإنتاج لا في التبادل. فعندما يتفوق الإنتاج السلعي، أي الإنتاج من أجل السوق، على غيره من أشكال الإنتاج، وعندما تصبح له الغلبة عليها، فإنه يتطلب قيام الطبقة أو الفئات الرأسمالية الصاعدة بالاستيلاء أو بالسيطرة على السوق الداخلية التي تتداول السلع المنتجة، كما يتطلب في الوقت نفسه توحيد الأراضي التي يتكلم سكانها لغة واحدة في دولة واحدة وإزالة كل حاجز من شأنه أن يحد من تطور تلك اللغة ورسوخها في الأدب والثقافة.
فلماذا إذن لم تتطور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية العربية في القرون القليلة الماضية إلى نظام رأسمالي على الرغم مما عرفته تلك الأوضاع من تبادل سلعي عريق في التاريخ؟ إن السبب الواضح لنا هو عدم تفوق الإنتاج السلعي وعدم سيادته.
كان هناك اقتصاد سلعي، بعض المنتجات السلعية، وتجارة داخلية وخارجية واسعة النطاق. لكن الإنتاج السلعي، الإنتاج من أجل السوق لم يتفوق على غيره من أشكال الإنتاج الطبيعي، أي الإنتاج من أجل الاستهلاك.
كما أنه لم يستطيع أن يقوم بتصفية الأسواق المفتتة الضيقة لحساب سوق داخلية موحدة تكون هي بدورها أساسا لتطوير أكبر لفنون الإنتاج وتنظيماته.
فإنه بتكوين هذه السوق الداخلية الموحدة الواسعة تتهيأ الظروف لقيام السوق القومية، فالسوق هي المدرسة الأولى التي تتعلم فيها الرأسمالية الناشئة دروس الوطنية والقومية.
ولماذا لم يتفوق الإنتاج السلعي حتى الآن في العالم العربي؟ الواقع أن الوطن العربي قد سقط في غيبوبة حضارية في ظل الفتح العثماني الذي أحكم قبضته على العرب من بداية القرن السادس عشر.
وفي نهاية الحكم العثماني كانت الدعوة في نهاية الأمر مجرد دعوة للاستقلال الذاتي الثقافي. ولم تلبث أن تحددت هذه الدعوة في بداية القرن العشرين بالوقوف في وجه كل من الاستبداد الشرقي والاستعمار الغربي.
وعندئذ اختلطت الدعوة القومية بالدعوة لاستقلال كل قطر عربي على حدة. حتى لقد نشأت جامعة الدول العربية تسليما بهذا المبدأ المتخلف وهو أنها جامعة لأقطار عربية مستقلة وحرمت من عضويتها الأقطار التي لم تكن قد ظفرت بعد استقلالها.
وإذا كانت الأقطار العربية جميعاً قد كسبت استقلالها السياسي فيما عدا فلسطين، وإذا كانت قد طورت اقتصادها أخيراً على أسس رأسمالية لا شك فيها، فإنها مازالت مجتمعات رأسمالية ذات طبيعة مشوهة. بل إن تطورها الرأسمالي الواسع النطاق لم يصب في مجرى تطوير أسواقها الداخلية المفتتة بقدر ما زاد من روابطها بالسوق الرأسمالية العالمية. وعجزت حتى الآن عن تشكيل اقتصاد عربي مشترك بوصفه المقوم الحاسم لوجود أمة عربية واحدة.
وصحيح أن العرب لم يشكلوا بعد أمة واحدة. لكن إرادة التوحيد القومي والنزعة القومية عند الشعوب المقهورة ظاهرة إيجابية وتقدمية، إذ تنطوي على عنصر النضال ضد الإمبريالية من أجل التحرر الوطني، هذا النضال الذي يوقظ الوعي القومي لدى الشعوب ويساعد على قيام الأمم الحرة. ومعنى ذلك أن النزعة القومية العربية صارت تعني عملية توحيد الأمة العربية من خلال الصراع ضد الإمبريالية والتبعية الخارجية (صراع سياسي وطبقي).
واستولت على الحكم فئة عليا من الرأسمالية هي فئة تجارية كومبرادورية تستسلم طواعية للإمبريالية، وإلى جوارها فئة أخرى بيروقراطية متحالفة معها.
وهكذا وقعت المجتمعات العربية بأيدي الطبقة الرأسمالية الطفيلية التي نبت أفرادها كالفطر والتي تقود عملية النمو الرأسمالي المشوه فيها. بل وقفزت هذه المجتمعات إلى مرحلة المجتمعات الاستهلاكية من قبل أن تملك هياكل إنتاجية تؤمن لها تدفق المواد الاستهلاكية المطلوبة.
وبالتالي فقد ساعدت الرأسمالية الكومبرادورية التي تشكلت مؤخراً على تأكيد تخلف تكوين الرأسمالية الصناعية المتطورة محليا وبالتالي تخلف تكوين الامة العربية حتى الان، ما يعني أنه لا سبيل أمام نهوضنا الاجتماعي الاقتصادي الا عبر امتلاكنا لكل مقدمات ومقومات الحداثة كشرط لاستمرار المسيرة وتحقيق عبر الثورة الوطنية الديمقراطية بافاقها الاشتراكية..
وفي هذا الجانب اشير إلى اهم المنطلقات التي باتت بحاجة إلى المراجعة والمناقشة وإعادة الصياغة على طريق النهوض :
أولاً: إشكالية النهضة الوطنية والقومية العربية المعبرة عن طموحات ومصالح العمال والفلاحين الفقراء وكل المضطهدين ومن ثم تفعيل العلاقة الجدلية بين الماركسية والقومية: حيث بات من الضروري أن تقوم القوى الوطنية الديمقراطية التقدميه العربية في كل قطر ادراج البعد التوحيدي القومي كبعد رئيسى في عملها، بما سيضيف عمقاً جديداً لقواها بدلاً من أن يبقى كما كان الأمر حتى الآن، عبئاً عليها وعامل إضعاف لها.
ثانياً: إشكالية التبعية وكسرها وتجاوزها: وهي اشكالية مرتبطة بتبعية كل البلدان العربية، كأجزاء متناثرة، للنظام الرأسمالي المعولم وفق محددات قانون التطور اللامتكافئ، وبالتالي فإن وحدة التحليل الأساسية من منظور القوى الماركسية العربية، تتحدد أساساً وحصراً بالمجال القومي الديمقراطي العربي الذي تستطيع فيه هذه القوى تعبئة نفسها بشكل فعال وأخذ زمام المبادرة على نحو قادر على خلق صيرورته النضالية المستقبلية .
ثالثاً: القاعدة الاقتصادية والأبنية الفوقية: ففي ظروف التخلف والتبعية تلعب الأبنية الفوقية المتصلة بالسلطة السياسية وبالثقافة والأيديولوجية بصفة عامة دوراً أكثر أهمية بكثير من تأثير القاعدة الاقتصادية بحكم تخلفها. إذ أن التحالف الطبقي الحاكم في الأنظمة العربية يلعب دوراً هاماً في دعم البنى الفوقية القديمة وتحويلها إلى رصيد لقوى التخلف .
إن التحديات التي يواجهها الوطن العربي بمجموعه، أو على صعيد كل قطر عربي على حدة، هي من الضخامة والجدية بحيث أضحت المسألة القومية – برغم تراجعها في المرحلة الراهنة– مسألة مستقبلية ملحة، نظراً للمتغيرات والهزات العميقة التي عصفت بالعالم في الثلاث عقود الأخيرة، مما يفرض على كل القوى الوطنية والقومية الديمقراطية والتقدمية الثورية العربية، أن توليها الجهد والاهتمام اللازمين على مختلف الصعد الفكرية والعملية، بحيث تعيد قراءة التاريخ العربي، قراءة عميقة ونقدية، وتستخلص الدروس والعبر؛ وبالتالي تحدد عناصر الانطلاق والنهوض، على طريق استعادة وتكريس الأفكار التوحيدية القومية التقدمية والديمقراطية في كل بلد عربي، آخذين بعين الاعتبار المنطلق الذي حدده المفكر الراحل سمير أمين في قوله إن المرحلة الراهنة، التي تجتازها بلداننا العربية، ليست مرحلة "المنافسة من اجل الاستيلاء على الحكم"، وذلك في غياب قوة اجتماعية شعبية تستطيع "ان تفرض نفسها على القوى الاخرى الداخلية سواء كانت تتجلى في نظم الحكم ام في بديل الاسلام السياسي وهما وجهان للعملة نفسها"، فهو يرى ان الخطوة الاولى على طريق الخروج من الازمة، تتمثل في العمل على اعادة تكوين اليسار وبناء القوى الشعبية، وذلك في اطار عمل طويل النفس يطاول مستويات عدة "من تحديد الاسس الفكرية، وسمات المشروع المجتمعي المطروح كهدف تاريخي، وتحديد المراحل الاستراتيجية للتقدم في الاتجاه المرغوب... والقوى الاجتماعية التي لها مصلحة في انجاز المشروع والقوى المعادية له، ثم اخيرا بناء قواعد العمل المناسبة.
وفق هذا المنطلق، فإن رؤيتي تتجاوز حالة التجزئة القطرية العربية (رغم تجذرها)، نحو رؤية ديمقراطية قومية، تدرجية، تنطلق من الضرورة التاريخية لوحدة الأمة، وتتعاطى مع الإطار القومي كوحدة تحليلية واحدة، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، مدركين أن الشرط الأساسي للوصول إلى هذه الرؤية-الهدف، يكمن في توحد المفاهيم والأسس السياسية والفكرية للأحزاب والقوى الماركسية القومية داخل إطارها القطري/الوطني الخاص كخطوة أولية، تمهد للتوحد التنظيمي العام وتأطير وتوسع انتشار الكتلة التاريخية –على الصعيد القومي، انطلاقاً من إدراكنا بأن الأزمة التي تعاني منها حركة التحرر الوطني العربية في وضعها الراهن ليست فقط أزمة قيادتها الطبقية البورجوازية الرثة التابعة، بل هي أزمة البديل الديمقراطي التقدمي لهذه القيادة، يؤكد على صحة هذه المقولة، ما جرى في بلادنا العربية من انهيار اجتماعي واقتصادي وتفكك في إطار تبعية وتخلف واستبداد النظام السياسي، وتراجع الهوية الوطنية والقومية لحساب هوية الإسلام السياسي، أو للهويات الاثنية والطائفية والعشائرية.
وبإيجاز كلي أقول –مستلهما مقولة الرفيق الشهيد مهدي عامل- "أن عملية التحرير الوطني هي، في مفهومها النظري، عملية تحويل ثوري لعلاقات الانتاج الرأسمالية القائمة بعلاقة تبعيتها البنيوية بالإمبريالية، فالقطع مع الامبريالية والاستقلال عنها يقضيان بضرورة تحويل هذه العلاقات من الانتاج التي هي في البلد المستعمر، القاعدة المادية لديمومة السيطرة الامبريالية ، فلا سبيل إلى تحرر وطني فعلي من الامبريالية الا بقطع لعلاقة التبعية البنيوية بها هو بالضرورة تحويل لعلاقات الانتاج الرأسمالية القائمة في ارتباطها التبعي بنظام الانتاج الرأسمالي العالمي".
بهذا المعنى وجب القول أن سيرورة التحرر الوطني في المجتمعات التي كانت مستعمرة، اعني في المجتمعات الكولونيالية ، هي سيرورة الانتقال الثوري إلى الاشتراكية.
يتضح مما تقدم أن الصراع التحرري الوطني (ضد الوجود الصهيوني الامبريالي) يمتلك عند مفكرنا الشهيد مهدي عامل بعداً طبقياً ضمن علاقة جدلية بينهما ، وهو استنتاج أكدت على صحته مجريات الأحداث والصراعات العربية سواء في إطار الصراع ضد التحالف الامبريالي الصهيوني أو في إطار النضال السياسي والمطلبي الديمقراطي (وهي في جوهرها عندي صراع طبقي) ضد أنظمة الاستبداد والاستغلال والتبعية والتخلف على حد سواء.
ذلك إن التحرر من البرجوازية ونظام سيطرتها الطبقي "يمر، بضرورة منطقه، عند الرفيق الشهيد مهدي عامل ، بالتحرر من الإمبريالية، بل إنه هذا التحرر نفسه، كما أن التحرر من الإمبريالية، بقطع علاقة التبعية البنيوية بها، يمر بضرورة منطقه ، بالتحرر من البرجوازية ونظام سيطرتها الطبقية، بل إنه هذا التحرر إياه، وسيرورة التحرر هذا، في وجهيه الملتحمين في سيرورة معقدة واحدة، هي سيرورة التغيير الثوري في سيرورة الانتقال الكوني إلى الاشتراكية".
هذا هو  المعيار الرئيسي للحكم على سيرورة التحرر الوطني في بلداننا ارتباطاً بالعلاقة العضوية بالمنظور الطبقي الماركسي كضمانة استراتيجية لتحقيق انتصار الجماهير الشعبية، ولهذا أرى أن من واجب قوى اليسار الماركسي العربي، أن تكون معنية بتحديد الموضوعات الأساسية القومية والوطنية التحررية من جهة والطبقية المجتمعية من جهة ثانية، التي يشكل وعيها، مدخلًا أساسيًا لوعي حركة وتناقضات النظام الرأسمالي من جهة، وحركة واقع بلدانها بكل مكوناته وآفاق صيرورته التطورية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من جهة ثانية، انطلاقًا من إدراكها الموضوعي، بأن التعاطي مع الماركسية ومنهجها؛ بعيداً عن كل أشكال  الديماغوجيا والجمود وتقديس النصـوص، كفيل بتجاوز أزمتها الراهنة، إذا ما أدركت بوعي عميق طبيعة ومتطلبات واقع بلدانها بكل جوانبه الاقتصادية والسياسية والمجتمعية، وامتلكت برامح واضحة واليات وطنية تحررية وديمقراطية طبقية للنضال.
ختاماً، إنني؛ إذ اؤكد على أن اللحظة الراهنة من المشهد العربي، هي لحظة لا تعبر عن صيرورة ومستقبل وطننا العربي، رغم كل المؤشرات التي توحي للبعض أو القلة المهزومة، من أصحاب المصالح الأنانية الضيقة، أن المشهد العربي المهزوم والمأزوم الراهن؛ يوحي بأن المطلوب قد تحقق، وأن الإمبريالية الأمريكية وصنيعتها وحليفتها الحركة الصهيونية وإسرائيل، قد نجحتا في نزع إرادة العمال والفلاحين وكل الكادحين والمضطهدين العرب، ذلك إن وعينا بأن المشهد الراهن –على سوداويته- لا يعبر عن حقائق الصراع الاجتماعي/الطبقي، والكامنة في قلوب وعقول هذه الجماهير وطلائعها السياسية الثورية المتمثلة في حركات وأحزاب وفصائل اليسار الماركسي في بلدان وطننا العربي التي تناضل من أجل استعادة دورها الطليعي المنتظر لحركة التحرر العربية في مسيرة نضالها الوطني والقومي التحرري والمجتمعي الطبقي على طريق تحقيق أهدافها الثورية .
إن قراءتنا لواقع أحزاب وفصائل اليسار التي تجسد وحدها في مرحلة الانحطاط العربي الراهن، الإطار الثوري الوحيد لحركة التحرر الوطني العربية، تشير إلى أن معظم هذه الأحزاب والفصائل أزمة بنيوية (سياسية ونظرية ثقافية ومعرفية وطبقية عميقة) قد تصل – في حال استمرار عوامل تراكماتها- إلى حالة من الانسداد تؤذن بإسدال الستار على العديد منها اذا لم تبادر صوب تفعيل عملية المراجعة النقدية الموضوعية لتجربتها التاريخية السابقة، ومن ثم تفعيل التزامها المعرفي بالماركسية ومنهجها المادي الجدلي، إلى جانب تجديد رؤاها السياسية وبرامجها وآليات عملها التنظيمية وتحالفاتها بما يستجيب لتحقيق أهداف الثورة الوطنية الديمقراطية بآفاقها الاشتراكية.
وهنا أود التأكيد على أهمية انحياز المثقف الماركسي لمصالح وأهداف الطبقات الشعبية الفقيرة؛ إذ أن هذا الانحياز الواعي والمسئول هو الأساس الأول في تحديد ماهية موقفه السياسي، ورؤيته الفكرية أو الأيدلوجية وفق ما يتطابق مع تطلعات الطبقات الشعبية وأهدافها المستقبلية، حيث أن مجتمعاتنا بحاجة ماسة إلى مراكمة عوامل إنضاج ثورة وطنية ديمقراطية وانتصارها تمهيدًا لبناء مقومات القوة الكفيلة بهزيمة وطرد الوجود الصهيوني والامريكي من بلادنا، وبدون ذلك لن نستطيع تحقيق اي هدف تحرري ونحن عراة، متخلفين وتابعين ومهزومين يحكمنا الميت (شيوخ قبائل وأمراء وملوك عملاء ورؤساء مستبدين)؛ أكثر من الحي (النهوض الوطني والقومي التقدمي الديمقراطي)، ففي مثل هذه الأوضاع يحكمنا الماضي أكثر من المستقبل... فما هي قيمة الحياة والوجود لأي حزب أو مثقف تقدمي إن لم يكن مبرر وجوده تكريس وعيه وممارساته في سبيل مراكمة عوامل الثورة على الأموات والتحريض عليهم لدفنهم الى الأبد لولادة النظام الثوري الديمقراطي الجديد للخلاص من كل أشكال التبعية والعمالة والاستبداد والتخلف وتحقيق أهداف ومصالح وتطلعات العمال والفلاحين الفقراء وكافة الكادحين والمضطهدين.
وعليه أقول بكل وضوح، إنّ الثورة لا تنضج بمقدماتها فحسب، بل تكتمل بتوفير الوعي المعمق لكافة العناصر الموضوعية للوضع الثوري والعامل الذاتي (الحزب) ووحدتهما معاً، وهي أيضاً لا يمكن أن تندلع –بالصدفة أو بحفنة من المناضلين المعزولين عن الشعب، بل بالحزب الثوري الديمقراطي المؤهل، الذي يتقدم صفوف الجماهير الشعبية الفقيرة، واعياً لمصالحها وتطلعاتها وحاملاً للإجابة على أسئلتها، ومستعداً للتضحية من أجلها، واثقاً كل الثقة من الانتصار في مسيرته وتحقيق الاهداف التي تأسس من أجلها .
وفي هذا الجانب، أشير إلى أنه بدون توفر الإرادة الشعبية والالتفاف الجماهيري، يصبح خوض التمرد الثوري بالعنف الشعبي والمسلح أو بوسائل الضغط الجماهير الديمقراطي لأي حزب أو فصيل نوعًا من المغامرة، لأن الجماهير منفضة من حوله، خاصة وأن الطليعة لا تناضل نيابة عن جماهيرها، بل بها، وفي مقدمتها، فهي من يرعى المناضلين، ويمدهم بالعون والدعم المادي والمعنوي، ويخفيهم ويحميهم عند الضرورة، كما يمدهم بالدماء الجديدة، ما يجعل انفصال الأحزاب الثورية الديمقراطية عن الجماهير الشعبية – كما هو حالها اليوم في مجتمعاتنا- سمة من سمات هبوط وتفكك هذه الأحزاب وتراجعها السياسي والفكري والتنظيمي والجماهيري. لذلك؛ فإن التأييد الجماهيري مسألة أساسية؛ إذ إننا – على سبيل المثال- لن نستطيع تنظيم وإنجاح إضراب أو اعتصام أو مظاهرة شعبية لا يقتنع الجمهور بأهدافها أو بالأسباب الداعية لتنظيمها، فإذا كان الأمر كذلك ، فإن غياب أو ضعف قناعة الجماهير الشعبية بممارسة النضال التحرري الثوري المسلح ، تتزايد وربما تصل الى أعلى درجات اليأس والإحباط طالما أن هذه الجماهير الفقيرة عاجزة بسبب فقرها وحرمانها عن تأمين أسباب الحياة الكريمة لعوائلها، حيث يغيب العقل حين يغيب الدقيق كما يقول ماركس ، ما يعني بوضوح ثوري ساطع أن أي نضال وطني تحرري معزول عن النضال الطبقي الاجتماعي وقضايا الجماهير الشعبية المطلبية، هو نضال قاصر لن يستطيع تحقيق الالتفاف الجماهيري من حوله، ويظل محكومًا بالأفق المسدود رغم ضخامة التضحيات. وبالتالي، لا بد أن تنطلق الثورة التحررية الوطنية الديمقراطية في بلادنا العربية، من منظور يساري يضمن تفعيل العلاقة الجدلية بين الثورة الوطنية التحررية الديمقراطية وبين القضايا المطلبية والصراع الطبقي على طريق الثورة الاشتراكية.
ذلك إن قضية التحرر الوطني والتحرير إذاً هي بالضرورة في مرحلة الانحطاط العربي الرسمي الراهن– في هذا العصر بالذات – قضية لا يمكن فصلها عن بعدها الطبقي الاجتماعي المطلبي الثوري، فهي ليست مسألة وجدانية او فلسفية عن حق الشعوب في تقرير مصيرها، أو حق الشعوب في مقاومة المحتل، والدفاع عن حريتها وتحررها، لأن مهمة التحرر الوطني، ينبغي ان تتوفر لها عوامل وشروط، تُحَوِّل هذا الفهم الوجداني او الفلسفي، الى تطلعات سياسية وطبقية تخدم فكرة النضال التحرري الوطني، وتعزز ايضا بلورة الهوية الوطنية والقومية التقدمية الديمقراطية الجامعة.
لقد آن الأوان لِنَقْل كافة احزاب وفصائل اليسار في مغرب ومشرق هذا الوطن من حالة التراجع إلى حالة النهوض والهجوم المضاد، ويستدعي ذلك البدء بتصحيح التعامل مع التناقضات في المنطقة العربية، واعتبار التناقضات والصراعات الطبقية تناقضاً رئيسياً ومدخلاً وشرطاً أولياً في النضال الوطني والقومي، التحرري والمجتمعي ضد الأنظمة الرجعية والتابعة كمنطلق لابد منه للخلاص من الوجود الامبريالي الصهيوني في بلادنا.
أخيراً، إن حديثي عن الضرورة التاريخية لصياغة منظومة معرفية قومية ديمقراطية وتقدمية معاصرة، يقع بالدرجة الأولى وفي المراحل الأولى على عاتق المثقف الديمقراطي الثوري العربي، لاعتبارين هامين:
أولهما: أن هذا المثقف هو الوحيد القادر من الناحية الموضوعية على وضع الأسس المعرفية النظرية لهذه المنظومة وآفاقها المستقبلية.
وثانيهما: أن طبيعة التركيب الاجتماعي/الطبقي المشوه لمجتمعنا العربي، التي تتسم بتعدد الأنماط الاجتماعية القديمة والمستحدثة وتداخلها، كما تتسم بالسيولة وعدم التبلور الطبقي بصورة محددة، والتسارع غير العادي، الطفيلي أو الشاذ أحيانا في عملية الحراك الاجتماعي، إلى جانب وضوح وتعمق تبعية "البورجوازية" العربية للمركز الرأسمالي المعولم، بحيث أصبحت –اليوم- واحدة من أهم أدواته وآلياته في بلادنا، كل ذلك يجعل من المثقف العربي العضوي، -بالمعنى الجمعي المنظم- بديلا مؤقتا ورافعة في آن واحد للحامل الاجتماعي أو الطبقي، وما يعنيه ذلك من أعباء ومسئوليات بل وتضحيات في مجرى الصراع لتوليد معالم المشروع النهضوي الوطني والقومي التقدمي، ونشره في أوساط الجماهير الشعبية العربية كفكرة مركزية أو توحيدية.
إن اقتناعنا بهذه الأفكار والرؤى التي تؤكد على أهمية وضرورة الفلسفة العقلانية الديمقراطية التقدمية في مراكمة عوامل استنهاض شعوبنا، وتفعيل نضالنا التحرري والمجتمعي بالمنظور الطبقي من أجل بلورة تلك الأفكار الفلسفية التقدمية في كل ساحة أو بلد عربي أولاً، ثم على الصعيد القومي ثانياً، يستند –ذلك الاقتناع- إلى أن هناك إمكانيات واقعية وظروف موضوعية مهيأة لاستقبال الرؤى الفلسفية الديمقراطية التقدمية، والبرامج السياسية التحررية والمجتمعية المطلبية والديمقراطية في بلادنا، ولتحقيق مكاسب جزئية متزايدة في عملية طويلة معقدة عبر مراحل وسيطة متعددة على طريق تحقيق أهداف الثورة الوطنية الديمقراطية بآفاقها الاشتراكية...