المسار- العدد 68


الحزب الشيوعي السوري - المكتب السياسي
2022 / 9 / 30 - 10:35     



العدد68- أيلول2022
---------------------------------------------------------------------------------
الافتتاحية:

سوريا على خطى مصر من رأسمالية الدولة إلى اقتصاد السوق

انقسم الشيوعيون المصريون في الموقف من سلطة ما بعد 23 تموز/ يوليو 1952: شارك ضبّاط، مثل خالد محي الدين ويوسف صديق وأحمد حمروش، كانوا أعضاء في التنظيم الشيوعي: (الحركة الديموقراطية للتحرّر الوطني ــ حدتو)، في الحركة العسكرية التي أطاحت بالملك فاروق. كان رأي «حدتو» بأن السلطة التي نتجت عن حركة الضباط ستقود إلى ثورة وطنية ديموقراطية تقضي على الإقطاع وتُنهي التخلّف. في المقابل، كان رأي «الحزب الشيوعي المصري- الراية»، بقيادة الدكتور فؤاد مرسي بأن أزمة السلطة في مصر ــ بدءاً من تظاهرات عام 1946 ضدّ معاهدة صدقي ــ بيفن، وصولاً إلى حرب العصابات في منطقة القنال ضدّ البريطانيين التي أعقبت إلغاء حكومة حزب «الوفد» في تشرين الأول/ أكتوبر 1951 لمعاهدة 1936 مع لندن ــ لم يكن الحكم الملكي قادراً على حلّها بالطرق التقليدية، وكان رأي حزب «الراية» أنّ العسكر قفزوا إلى السلطة بانقلابهم العسكري على هذه الخلفية، بدعم من واشنطن التي كانت تسعى لخلافة لندن في زعامة العالم الغربي. التنظيمان الشيوعيان دعما الرئيس جمال عبد الناصر لما قادت تناقضاته مع لندن إلى سياسات وطنية، مثل تأميم شركة قناة السويس عام 1956 ورحّبا بتقاربه مع موسكو منذ أيلول/ سبتمبر 1955، وعلى خلفية تقاربهما هذا في رؤية السلطة المصرية، كان توحّدهما في تنظيم واحدٍ هو «الحزب الشيوعي المصري» في يوم 8 كانون الثاني/ يناير 1958.
انفجرت التناقضات سريعاً: في تموز/ يوليو 1958 تمّ إبعاد ممثّل «حدتو» في قيادة التنظيم الجديد، كمال عبد الحليم، من القيادة، وسيطر ممثّل «الراية» الدكتور فؤاد مرسي على قيادة الحزب، وهذا ما أدّى إلى انشقاق «حدتو» بعد شهرين. خلال تسعة أشهر، بانت وحدة التنظيمين الشيوعيّين هشّة، ويبدو أنّ تقاربهما في الرؤى كان مقتصراً على الشكل، وليس على المحتوى في رؤية السلطة المصرية، حيث اعتبرت «حدتو» أنّ صدام عبد الناصر مع البريطانيّين وتأميمه لقناة السويس وتقاربه مع السوفيات يثبت وجهة نظرها بأنّ سلطة 23 يوليو ذات طابع وطنيّ تقدمي فيما كان رأي حزب «الراية» بأنّ هذا الصدام ناتج عن شروط لندن الصعبة التنفيذ من قِبل عبد الناصر (مثل الدخول في «حلف بغداد» المؤسّس في شباط/ فبراير 1955) وبأنّ هناك اتّجاهاً عند الأخير لاستخدام العلاقة مع السوفيات لتحسين الشروط المصرية تجاه الغرب، في وقت لم تكن فيه واشنطن ضمن نغم واحد مع البريطانيين، وهذا ما ظهر جلياً في حرب 1956لماكان موقف واشنطن ضد العدوان البريطاني- الفرنسي- الإسرائيلي على مصر. لم يأبه عبد الناصر بتناقضات التنظيمَين الشيوعيَّين المصريين، وقام بشنّ حملة اعتقالات عليهما (مع الحزب الشيوعي السوري) بدءاً من ليلة رأس سنة 1959.
كان رأي قادةٍ في «حدتو»، ومنهم شهدي عطية الشافعي الذي مات تحت التعذيب، أنّ الاعتقالات هي «سوء فهم». لم توحّد الاعتقالات رؤى التنظيمَين أو تقرِّبهما، حيث أنه عندما جرت تأميمات البنوك في شباط/ فبراير 1960، ثم توسّعت التأميمات لتشمل منشآت صناعية كبرى في تموز/ يوليو 1961، رأت «حدتو» أنها تخطّ طريقاً انتقالياً نحو الاشتراكية، وعندما طرح عبد الناصر «الميثاق» في أيار/ مايو 1962، بدأ سجناء «حدتو» يطرحون فكرة أنّ هناك «مجموعة اشتراكية» يقودها عبد الناصر داخل السلطة المصرية، وأن هناك حاجة إلى تنظيم واحد للاشتراكيين. مقابل ذلك، كان رأي فؤاد مرسي بأن التأميمات هي إجراء رأسمالي (هي والإصلاح الزراعي)، وبأنها تعبّر عن أزمة تنمية بسبب تمنّع الغرب عن الاستثمار في مصر ما بعد 23 تموز/ يوليو 1952، وبسبب هروب رأس المال المصري والأجنبي من مصر في فترة 1952 ــ 1960، وهذا ما استدعى تدخّل الدولة وإمساكها بالعملية الاقتصادية، ولأغراض رأسمالية، نحو سيطرتها على فائض قيمة العملية الإنتاجية الاقتصادية وعلى مصادر الادّخار والإيداع من أجل تمويل عملية التنمية. برأي فؤاد مرسي، أنّ هذا سيقود إلى «رأسمالية الدولة» بدل «رأسمالية السوق»، وقد ظلّ متشائماً بأن حدود المشروع الناصري ستقود إلى انفجار سلبياته وتطغى على إيجابياته، وهو ما تبعه تلميذه الدكتور سمير أمين، الذي كان عضواً في حزب «الراية»، مقيماً للدراسة في باريس في الخمسينيات، عندما اعتبر أنّ هزيمة 1967 قد عجّلت في انتصار ظاهرة أنور السادات، الذي برأي الدكتور أمين، لم يكن ثورة مضادة بل قوة تعجيل وتغليب للاتجاهات اليمينية في المشروع الناصري، حيث توازت عملية الانفتاح الاقتصادي الداخلي، من رأسمالية الدولة نحو اقتصاد السوق ،عند السادات، مع فك العلاقة مع موسكو، والاتجاه نحو واشنطن ثم التسوية مع إسرائيل.
هنا، يجب الاستدراك: صحيح أنّ الدكتور فؤاد مرسي خرج من السجن هو وباقي الشيوعييّن المصريين، في أيار/ مايو 1964، بالتزامن مع زيارة خروتشوف إلى مصر، ثم تمّ حلّ الحزبين:"الشيوعي"و"حدتو"، في عام 1965، لينضم أفرادهما فرادى إلى «الاتحاد الاشتراكي» تحت ضغط الاتحاد السوفياتي، الذي بدأ منذ شباط/ فبراير 1964، بوصف نظام عبد الناصر بـ«النظام الديموقراطي الثوري»، وبأنه في «طريق التطوّر اللارأسمالي»، وهو ما تزامن مع اتجاه موسكو لاستغلال توتر العلاقات المصرية - الأميركية في عهد الرئيس الأميركي ليندون جونسون الذي تولى السلطة كنائب للرئيس الأميركي بعد اغتيال جون كينيدي في شهر تشرين الثاني1963،بعد أن كانت العلاقات بين واشنطن والقاهرة قوية وخاصة في فترة 1959-1963لماكانتا متحدتان ضد صعود قوة الحزب الشيوعي العراقي في فترة حكم عبدالكريم قاسم وساهمتا في دعم انقلاب 8شباط1963ضده، إلّا أنّ الدكتور مرسي لم يفعل ذلك الانضمام عن قناعة، بخلاف أعضاء «حدتو»، بل تحت ضغط موسكو. وهو رغم تبوئه مناصب، مثل عضوية إدارة البنك المركزي، ثم دخوله في وزارة الدكتور عزيز صدقي عام 1972، إلّا أنه سرعان ما أحسّ باللاانتماء وخرج سريعاً.
ليس القصد هنا نكءَ جراح الماضي، ولا إشعال حساسيات أيديولوجية، بل هو نوع من المقاربة لتفسيرات تساعد على إلقاء الضوء على تحوّلات مصرية في سبعة عقود أعقبت يوم23 تموز/ يوليو 1952، وقادت إلى نظام رأسمالي جديد في أرض الكنانة، يتحالف فيه ثالوث «المؤسسة العسكرية» و«رجال الأعمال» و«المؤسسة الدينية الأزهرية "وعلى تحولات في سوريا ما بعد 8 آذار/ مارس 1963 التي هي ليست خارج هذا المسار المصري، ولو اختلفت تفاصيل السياسات الخارجية في سوريا عن تلك المصرية،حيث وأيضاً منذ يوم 16تشرين الثاني1970،عندما بدأ التحول التدريجي من (رأسمالية الدولة)إلى (اقتصاد السوق)،يتحالف ثالوث (لمؤسسة العسكرية - رجال الأعمال- رجال الدين الإسلامي)،وهم مازالوا يشكلون بنية السلطة السورية حتى الآن ،وقد رأينا كيف سارت سوريا في التحولات الرأسمالية نحو (اقتصاد السوق)،التي بدأت بمصر عام1974،بوتيرة كانت أبطأ عبر محطات 1991و2004ثم المحطة الكبرى للتحول الرأسمالي الكامل منذ عام2011،ولكن بنفس الطريق المصري والمسار الذي جرى هناك.
يشبه 8آذار 1963السوري 23يوليو 1952المصري، حيث بدأ بالبلدين نموذج (رأسمالية الدولة)، ومع نظامي 15مايو1971المصري و16تشرين الثاني 1970السوري بدأ الاتجاه الواضح نحو (اقتصاد السوق).ماجرى في مصر وسوريا كانا طريقين رأسماليان كانت نتيجتهما مثل التجربة السوفياتية حيث قاد أيضاً نموذج (رأسمالية الدولة) إلى نهايته الحتمية وهو نموذج (رأسمالية السوق) . ما جرى في مصر وسوريا مثلما ما جرى في الاتحاد السوفياتي ليس طريقاً اشتراكيا بل رأسماليا وهو ما أشار له بمايخص سوريا الحزب الشيوعي السوري(المكتب السياسي)في كراس (موضوعات الوضع الداخلي)الذي أقره المؤتمر الخامس للحزب المنعقد في شهر كانون الأول1978،والنماذج الثلاث في موسكو 1917-2022والقاهرة 1952-2022ودمشق1963-2022،قد ترافق فيهم غياب الديمقراطية مع كل من (رأسمالية الدولة)و (اقتصاد السوق)،وهناك ديكتاتوريات عسكرية قادت التحول الرأسمالي مثل كوريا الجنوبية بين عامي1961و1987،ولكن وبالنهاية، وأمام انفراط تحالف العسكر ورجال الأعمال ، اضطر الجنرالات لتسليم السلطة لحكومة منتخبة ديمقراطيا وربما ساعدت أجواء انتهاء الخطر السوفياتي والتقارب الصيني- الأميركي بالثمانينيات ،في تشجيع الولايات المتحدة التحول الديمقراطي في كوريا الجنوبية بينما كانت واشنطن تفضل الديكتاتوريات العسكرية الحليفة لمواجهة الخطر الشيوعي،كمافي دعمها الانقلاب العسكري في إندونيسيا 1965 أمام تنامي قوة الحزب الشيوعي هناك .
------------------------------------------------------------------------------------------------

العالم قبل وما بعد الحرب على أوكرانيا

مع بدء الغزو الروسي على أوكرانيا برز من جديد للعلن خطاب يقول ،( أن تعدد الأقطاب في العالم أصبح واقعاً ( وذلك استناداً إلى تنامي الدور الروسي في العالم ، وإلى الأدوار العديدة التي أخذتها موسكو في أوروبا أو في آسيا أو في الشرق الأوسط وفي أفريقيا أيضاً ،حيث تعتبر الحرب الروسية على أوكرانيا رابع حرب يخوضها الجيش الروسي بشكل مباشر منذ وصول بوتين للحكم وهي الحرب في الشيشان وجورجيا وعند ضمها لجزيرة القرم ،ولكن لم تكن حرب بوتين على أوكرانيا كحروبه السابقة عند الولايات المتحدة الأمريكية ،لأن أوكرانيا تدخل عندها في مجالها الجيوسياسي - الأوربي ،وهي لا يمكن أن تسمح لقيصر روسيا أن يعيد للاتحاد الروسي ما كان يعتبر مجالاً جيوسياسي للاتحاد السوفيتي أيام الحرب الباردة ولا تسمح له أن يشكل مركز قوة على مسرح السياسة الدولية ولا الإقليمية ليهدد مركزية واشنطن في السيطرة العالمية ،
فالولايات المتحدة الأمريكية لاتزال ترى نفسها هي وحدها المتربعة على عرش العالم دون منازع لها، وواقع الحال ، بعد مضي أكثر من ثلاثين عاماً على انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة ،لاتزال أمريكا تسيطر على النظام الدولي الموصوف بالأحادي القطبية وإدارته وفق مصالحها وأهدافها السياسية ، وهذا راجع لقدراتها العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية والمالية والثقافية الهائلة ، وهي لاتزال تعمل مع حلفاءها لتعزيز هذا النظام وعدم المساس به أو تعريضه للتغيير، وما دعمها الكبير مع حلفاءها الأوربيين لأوكرانيا للتصدي للغزو الروسي إلا تجسيدا لمنع المساس بهيمنتها على العالم أو منع إعادة هيكلة العلاقات الدولية أو بناء عالم جديد وفق رغبات وتطلعات بعض الدول مثل الاتحاد الروسي أو الصين ، فعند التوقف سريعاً عند القدرات الكبيرة للولايات المتحدة الأمريكية وتحديداً مع الحروب التي خاضتها في العالم بقصد فرض سطوتها على شعوب العالم وعدم المساس بالنظام الدولي القائم ، يتبين لنا مدى قدراتها التي تمكنها من الاستمرار فيه وفي إدارة مساره حتى يومنا هذا ، فهي تمكنت ما بعد انتصارها في الحرب الباردة من خوض عدة حروب لإعادة صياغة العالم وفق مصالحها السياسية والاقتصادية وبما يحقق قيادتها للعالم والاستمرار فيه ، فمن حربها على القاعدة وطالبان في أفغانستان واحتلال عاصمتها كابول عام٢٠٠١ على أعقاب هجمات ١١سبتمبر وإنهاء الدولة الإسلامية فيها بقيادة طالبان وتفكيك القاعدة وحرمانها من ملجأ آمن فيها - وتعتبر تلك الحرب أطول حروب الولايات المتحدة الأمريكية في تاريخها حيث استمرت اكثر من ٢٠ عاما حتى ٢٠٢١ ، إلى حربها في الخليج عام ١٩٩٠-١٩٩١ عندما دخلت القوات العراقية الكويت إلى حربها في الصومال ١٩٩٣ ثم غزوها لهايتي عام ١٩٩٣ثم حربها على العراق في ٢٠٠٣ وسقوط العاصمة بغداد، كما تظهر البيانات والدراسات الرسمية أن الولايات المتحدة الأمريكية أنفقت ١٤٢،٢٧ مليار دولار على جهود إعادة الإعمار وإعادة هيكلة الجيش في أفغانستان منذ عام ٢٠٠٢ ، وأنفقت في حربيها في أفغانستان والعراق مبلغ تريلون دولار وسبعمائة مليار كما يؤكد آخرون على مضاعفة هذا المبلغ لوجود نفقات أخرى إضافية غير رسمية ،وهي تمكنت خلال فترة ما بعد الحرب الباردة من التمدد في دول شرق أوروبا وضمهم لحلف شمال الأطلسي أو ربطهم بتحالف وتعاون عسكري وسياسي، مثل دول التشيك والمجر وبولندا وبلغاريا وسلوفاكيا وسلوفينيا وألبانيا وكرواتيا وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا وهي دول كانت في حلف وارسو أو ضمن دولة الاتحاد السوفيتي سابقا قبل انهياره وقدمت لهم من خلال الحلف الدعم العسكري والاقتصادي والتكنولوجي والمالي بقصد نمو تلك الدول وتطورها وصولاً مع درجة النمو الاقتصادي والتقني لدول حلف الناتو ، هذا إضافة إلى حربها في الكونغو عامي ١٩٩٦- ١٩٩٧ ، وتقديم الدعم والمساعدة العسكرية للسعودية في حربها في اليمن وكذلك ما تقدمه من دعم عسكري للعديد من الدول على ما تسميه بحروبها على الإرهاب . من الثابت انه ليس بمقدور الولايات المتحدة الأمريكية أن تخوض تلك الحروب وأنفاق تريليونات الدولارات دون انهيار اقتصادها لولا قدراتها الاقتصادية والعسكرية الهائلة التي تمكنها من تجاوز أية أزمة اقتصادية أو انكماش له، فهي وفق تقديرات البنك الدولي والمنتدى الاقتصاد العالمي قد بلغ الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة الأمريكية لعام ٢٠٢١ مبلغ(22٩٩٦) مليار دولار و٢٠٩٤٤) تريليون دولار لعام ٢٠٢٠. مقابل و1٧٧٦ مليار دولار لروسيا الاتحادية و١٤٧٧٢ مليار دولار للصين عام ٢٠٢٠.
وكما أسلفنا وبعد غزو روسيا لأوكرانيا ومع عدم الاستقرار في العلاقات الدولية الناتج عن تلك الحرب، برز الأمل مجدداً عند الطامحين بتهديم عرش الولايات المتحدة وإنهاء سيطرتها العالمية، الحديث عن صعود كل من روسيا في شرق أوروبا والصين في أسيا، كدول عظمى على المسرح الدولي في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى إنهاء ظاهرة تعدد الأقطاب وبأنها أصبحت امرأ واقعاً لا يمكن تجاهله. لم يكن مستغرباً في عالم مضطرب مثل هذا الخطاب وإنما المميز فيه هو كثرة الراغبين به من زعماء بعض الدول وساستها، وهذا ناتج عن تعدد الأزمات الدولية السياسية والاقتصادية والمالية وتعدد الحروب والنزاعات الإقليمية والدور السلبي الذي تلعبه الولايات المتحدة الأمريكية في إشعالها أو التسبب بها، وأيضا بسبب بؤس السياسة الأمريكية القائمة على الهيمنة والاستغلال ونهب خيرات الشعوب دون الاكتراث بمصالح الشعوب أو احترام سيادة الدول وحقوقها. لقد برز سابقا هذا الطموح، للعلن مع تشكيل منظمة شنغهاي عام ٢٠٠١على يد قادة دول الصين وروسيا وكازاخستان وقيرغيزستان وأوزبكستان وطاجيكستان وانضمت إليه الهند وباكستان في ٢٠١٧ وأصبحت إيران العضو التاسع عام ٢٠٢١، وعقدت المنظمة اجتماعها الأول تحت أهداف توحيد التجارة والتعاون الثقافي بين أعضاءها، أما في شقها السياسي فكانت رغبة الدول المجتمعة في فرض سياساتها في كل من أسيا وشرق أوروبا تحت عنوان تأمين الاستقرار والأمن للمنطقة وبناء نظام عالمي جديد.
وأيضا برز هذا الخطاب عند تشكيل تحالف (الأمن الجماعي) العسكري الذي تأسس عام ٢٠٠٢ وضم كل من روسيا الاتحادية وبيلاروسيا وكازاخستان وأرمينيا وقرغيزستان ، حينها راهن بعض الساسة المؤيدين لتطوير المنظمة في إمكانية تحولها إلى حلف سياسي – عسكري في مواجهة الغرب الأمريكي وحلف الناتو رغم أنه لم يتطور لوجود عديد من المتناقضات والتباينات بين أطرافه ، ونلاحظ هذا الخطاب أيضا مع تشكيل مجموعة البريكس الاقتصادية عام ٢٠٠٩ وهي ضمت كلا من الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا ،وقالوا حينها بضرورة وجود نظام دولي جديد ، وقد أعلنت المجموعة في أول اجتماع لها عن تأسيس نظام ثنائي القطبية وبأنها تمتلك ما مقداره ٢٥/. من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وهي تسعى حاليا لتشكيل حلف سياسي – اقتصادي، إلا أنه يمكن القول إن تلك المنظمة قد تشكلت بصورة رمزية لا أكثر وأن هيكلها الحقيقي ضحل ولن يرقى إلى قوة سياسية – عسكرية دولية وأن برامجها تتصف بالتشتت وعدم الموضوعية وهذا يرجع أيضا إلى التباينات بين الدول الأعضاء، مثل ما بين الصين والهند، ولذلك لم يكون لها أي تأثير فعلي على واقع السياسة الدولية.
هذا وبسبب بروز عدد من الأزمات الاقتصادية والسياسية وأزمة الطاقة في أغلب دول العالم من جراء الحرب الروسية على أوكرانيا ، صعد على مسرح السياسة الدولي تصريحات علنية لدى العديد من زعماء العالم سواء في أوروبا أو في الصين أو في روسيا تدعو إلى الحاجة لبناء عالم جديد يتضمن إعادة هيكلية العلاقات الدولية وهو ما سمي ب( نظام متعدد الأقطاب ) حيث نجد المستشار الألماني تكلم لأول مرة في مؤتمر دافوس في سويسرا المنعقد في ٢٦/ ايارعام ٢٠٢٢ ، عن حاجة أوروبا إلى عالم متعدد الأقطاب وتم ذلك بعد مضي ثلاثة اشهر على غزو روسيا لأوكرانيا . هذا التصريح ابتسم له الساسة والزعماء في كل من الصين والاتحاد الروسي معتبرين أن الغرب بدأ النظر إلى العالم بعيدا لما يرغبه الأمريكان ، كما راهن العديد من صانعي السياسة الروسية على تصريح وزيرة الخارجية الألمانية في مؤتمر الأمن بميونخ قبل أيام من الحرب على أوكرانيا عندما قالت إن أوروبا تواجهها اختيارا صعبا أما ( هلسنكي1975عندما تم التوقيع على معاهدة الأمن والتعاون الأوروبية أو يالطا عام1945عندما تم تقسيم أوروبا ) أي أن هذا الاختيار بين نظام دولي مشترك ومتعدد الأقطاب لحماية الأمن والسلم الدوليين أو نظام صراع وتنافس بين القوى الدولية على النفوذ ، ولكن ما يلاحظ في عالم السياسة و على ما يجري من مواقف على ارض الواقع ومن انطباعات خاصة ، هو الرفض المطلق للولايات المتحدة الأمريكية من صعود أية قوة دولية تزعزع تربعها على عرش النظام الدولي الحالي أو صعودها على مسرح السياسة الدولية بما يمكنها من زعزعة أحادية قطبها في العالم ، ويتضح ذلك من خلال الدعم الكبير من السلاح و المال والخبرات العسكرية والمخابراتية لأوكرانيا، إضافة إلى فرض عقوبات اقتصادية ومالية وعلمية غير مسبوقة على روسيا وتهديد بقية دول بالالتزام بالعقوبات المفروضة على روسيا ، كما استنهضت حلفاءها في العديد من دول العالم ، واستطاعت توحيد موقف الدول الأوروبية بعد أن كانت تعاني من التفكك والخلافات البينية فيما بينها وأن تشركهم إلى جانبها في سياسة مواجهة الغزو على أوكرانيا ومن منع روسيا من التمدد في شرق أوربا أو من إعادة تموضعها كقوة دولية أو كقطب دولي أو حصولها على مكاسب إقليمية على حساب النفوذ الأمريكي وأيضا يأتي هذا الدعم بقصد استنزاف قدرات روسيا العسكرية والاقتصادية في حربها على أوكرانيا ولمنعها من احتلال أوكرانيا أو دول أخرى تقع في مجالها الجيوسياسي وأن لا تسمح لها في أن تتصرف بها كما يحلو لها ، وأن لا تسمح لها بتحقيق حلمها في عالم جديد تتعدد فيه القوى الدولية ، وأن تنهي أحلام روسيا القيصرية في التعدي على مجال نفوذ للولايات المتحدة الأمريكية في أية رقعة بالعالم.
لقد أثبتت هذه الحرب أن روسيا غير قادرة على فرض إرادتها على أوكرانيا كقوة دولية أو عالمية ، لذلك يمكن اعتبار ذلك وحتى هذه اللحظة أن روسيا قد فشلت في تحقيق أهدافها العسكرية والسياسية المعلنة من حربها الخاصة وبالتالي فإن استمر هذا الفشل فلن تكون روسيا كما كانت قبل ٢٤ شباط2022 تاريخ بدء الحرب على أوكرانيا وسنرى روسيا وقد تراجعت إلى حدودها الإقليمية ،و قد تخسر القيادة الروسية جميع ما حققته من نجاح داخلي ومن حالة التفرد والاستمرار بالسلطة وأيضاً ما تحقق لها من تمدد خارجي في دول الشرق الأوسط أو الخليج العربي أو في إفريقيا ، وقد ينتهي دورها كقوة دولية ذات طموحات إمبريالية ، هذا وان جميع المؤشرات من مجريات تلك الحرب تدفع للقول أنها فشلت في هذه الحرب المحدودة أو الخاصة ، فهي لم تستطع رغم مرور أكثر من ستة اشهر على إعلانها أن تحقق أي من أهدافها المعلنة ولا غير المعلنة ، وأنها لم تستطيع تغيير النظام في أوكرانيا ولا أن تفرض سيادتها على المقاطعات الأوكرانية الشرقية المحاذية لحدودها، كما أظهرت تلك الحرب القدرات المحدودة للجيش الروسي أمام مقاومة الجيش الأوكراني ، وبالتالي أن استمر الوضع الروسي على ما هو عليه في هذه الحرب فليس من المستبعد أن نرى وضعاً غير مستقر فيها أو حدوث متغيرات سياسية داخلية و خارجية تدفعها لإعادة التفكير في أن تندمج في نظام دولي ما بعد الحرب على أوكرانيا وأن تلجأ إلى صياغة علاقات جديدة ومندمجة مع أمريكا باعتبار هذه الأخيرة قد عادت بعد الحرب على أوكرانيا أكثر قوة على المسرح الدولي مما كانت عليه قبلها ، وأيضا أعادت الاعتبار لمفهوم القطب الأوحد في العالم تكون فيه أمريكا متفردة في إدارة مستقبل العالم واكثر هيمنة ووحشية على شعوب العالم ، وقد نرى روسيا أيضا تندمج بالاتحاد الأوروبي أو أن تكون جزءاً منه بأمل أن يكون لها دور داخل النظام الرأسمالي الجديد بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية دون منازع ، وفي هذه الحالة سينتهي مشروع روسيا الاستراتيجي بالتحالف مع الصين ، وهذا يعتبر من أحد أهم الأهداف غير المباشرة للدعم الأميركي غير المحدود لأوكرانيا في حربها مع روسيا ،باعتبار هذا التحالف الصيني- الروسي أن استمر وتحقق على أرض الواقع السياسي الدولي ، فسيشكل أعظم تحدي جيوسياسي يواجه الغرب الأمريكي منذ نهاية الحرب الباردة ،وما الدعم الكبير لأوكرانيا في مواجهة الغزو الروسي لأراضيها إلا رسالة أخرى للصين التي أصبحت تتوسع اقتصادياً وعسكرياً وتخشى أمريكا من أن تسعى الصين إلى ضم جزيرة تايوان إليها بالقوة العسكرية .
إن هذه الحرب لم تنتهي ولا تزال في حدود المواجهة المباشرة بين روسيا وأوكرانيا فقط ، كما لا يوجد أية مؤشرات أنها قد تتطور مع دول أخرى ، إلا أن المتابع لها ،ورغم أن الولايات المتحدة لم تدخلها بشكل مباشر، فإن واقع الحال يشير إلى أن هناك انقساماً من هذه الحرب ، عند العديد من دول العالم ، فالصين رفضت ولم تؤيد غزو روسيا لأوكرانيا ،بسبب خوفها من التشريع بالقوة لسلخ أجزاء من الدول المعترف بحدودها الدولية وبذهن الصينيين التيبت ومنطقة قومية الإيغور المسماة سينكيانغ أوتركستان الصينية،إلا أنها رفضت أيضا تطبيق العقوبات التي فرضها الغرب الأمريكي على روسيا ، وهي بقيت على سياسة التأييد الحذر لروسيا ، وكذلك نجد عدة دول أفريقية وآسيوية قد أدانت الحرب في الأمم المتحدة إلا أنها لم تلتزم بفرض العقوبات على روسيا ،وكذلك الهند التي وقفت على الحياد ،كما هو حال دول الخليج العربي والسعودية حيث رفضت كل منهما المساعي الأمريكية باتجاههم لزيادة إنتاج النفط والغاز ،وبالتالي نجد أن العالم يسوده جو من الانقسامات بصورة متزايدة ويتجه إلى نظام دولي أكثر تعقيداً وفي نفس الوقت يرفض استعمال القوة والاعتداء على سيادة الدول المستقلة وضم أراضي الغير بالقوة ، حيث أدانت أغلبية دول العالم العملية الروسية الخاصة على أوكرانيا ، وإن هذا الرفض إن توسع لدى شعوب العالم سيؤدي إلى التمرد على السياسات الأمريكية التي تتصف بالتسلط والاستغلال والنهب ، كما يمكن القول أن مسارات عديدة في العلاقات الدولية ستتوقف على معطيات و تطورات الحرب الروسية الأوكرانية، وهذا ما يقلق أيضا الولايات المتحدة الأمريكية ويزيد من خوفها على مستقبل سيادتها على العالم ،ومنها ترتيب البيت الروسي على هوى ورغبات قوميين روس وتشديد القبضة الأمنية وتصفية ديمقراطيين وليبراليين في الداخل الروسي .



احتراق بطيء: روسيا تتفادى الانهيار الاقتصادي لكن الانحدار قد بدأ
- كلير سيباستيان -
Cnn""،29آب2022

بعد ستة أشهر من غزو أوكرانيا، تعثرت روسيا في حرب استنزاف لم تكن تتوقعها، لكنها تحقق نجاحا على جبهة أخرى-إذ اقتصادها، الذي هو معتمد على النفط وفي حالة ركود عميق، قد أثبت مع ذلك أنه أكثر مرونة بكثير مما كان متوقعا.
يقول أندري نيتشيف، الذي كان وزيرا للاقتصاد الروسي في أوائل التسعينيات:" أنا أقود عبر موسكو وزحمة السير هي نفسها التي كانت موجودة من قبل".
وقد ساعد استعداد الصين والهند لاقتناص النفط الروسي الرخيص على الحفاظ على دوران عجلة الاقتصاد الروسي، لكن نيتشييف ومحللين آخرين يقولون إن الاقتصاد الروسي بدأ في الانخفاض ومن المرجح أن يواجه فترة طويلة من الركود نتيجة للعقوبات الغربية.
سطحياً لم يتغير الكثير؛ مع عدد قليل من واجهات المحلات الفارغة التي كانت تضم العلامات التجارية الغربية التي فرت من البلاد بالمئات. ماكدونالدز يسمى الآن "فكوسنو أنا توشكا"، أو "لذيذ، وهذا كل شيء" أما مقاهي ستاربكس فهي في طور إعادة الفتح تدريجياً، تحت العلامة التجارية المقنعة بالكاد "ستاركوفيس".
إن هجرة الشركات الغربية، وموجة تلو الأخرى من العقوبات الغربية التي تستهدف صادرات الطاقة الحيوية الروسية ونظامها المالي، تركت أثرها، ولكن ليس بالطريقة التي توقعها الكثيرون.
ويعزو نيتشيف، الذي ترأس بعضا من أكثر الأوقات الاقتصادية اضطرابا في روسيا وساعد في توجيه انتقالها إلى اقتصاد السوق الحر، بعضا من هذا إلى البنك المركزي.
وقد انهار الروبل إلى مستوى قياسي منخفض أمام الدولار الأمريكي في وقت سابق من هذا العام في أعقاب الغزو حيث جمد الغرب حوالي نصف احتياطيات روسيا من العملات الأجنبية البالغة 600 مليار دولار. لكنه ارتد منذ ذلك الحين إلى أقوى مستوى له مقابل الدولار الأمريكي منذ عام 2018. (تذكر تهديد الرئيس جو بايدن للحد منه إلى "الأنقاض"؟)
يأتي ما سبق إلى حد كبير كنتيجة لضوابط رأس المال الشديدة ورفع أسعار الفائدة مرة أخرى في الربيع، تلك الأسعار التي عادت وقلبت وغيرت اتجاهها الآن. أسعار الفائدة الآن أقل مما كانت عليه قبل الحرب، ويقول البنك المركزي إن التضخم، الذي بلغ ذروته عند 18 ٪ تقريبا في أبريل، يتباطأ وسيكون بين 12 ٪ و15 ٪ للعام بأكمله.
كما قام البنك المركزي بتعديل توقعاته للناتج المحلي الإجمالي لهذا العام، ويتوقع الآن أن يتقلص بنسبة 4 ٪ إلى 6٪. في أبريل، كانت التوقعات لانكماش 8 ٪ إلى 10٪. كما يتوقع صندوق النقد الدولي الآن انكماشا بنسبة 6٪.
وساعد في حصول ذلك قيام الكرملين بثماني سنوات من أجل الاستعداد، مدفوعا بالعقوبات التي فرضها الغرب بعد أن ضمت موسكو شبه جزيرة القرم في عام 2014.
يقول نيتشيف:" خروج ماستركارد، فيزا، بالكاد كان له تأثير على المدفوعات المحلية لأن البنك المركزي كان لديه نظام مدفوعات بديل خاص به".
أنشأت روسيا بطاقة ائتمان (مير)، ونظام معالجة المعاملات الخاص بها في عام 2017.
"هناك سبب وراء قدرة المعجبين الروس بماكدونالدز وستاربكس المتواصلة على الحصول على الوجبات السريعة "كما بقول كريس ويفر، الشريك المؤسس لشركة ماكرو الاستشارية المحدودة، وهي شركة استشارية تقديم المشورة للشركات متعددة الجنسيات في روسيا وأوراسيا.
منذ عام 2014، خضعت العديد من العلامات التجارية الغربية في روسيا لضغوط الحكومة وقد حددت بعض أو كل سلاسل التوريد الخاصة بها. لذلك عندما غادرت هذه الشركات، كان من السهل نسبيا على المشترين الروس شرائها والاستمرار في تشغيلها ببساطة عن طريق تغيير الغلاف والتعبئة والتغليف.
يقول ويفر:" نفس الأشخاص، نفس المنتجات، نفس العرض".
إلا أنّ الاستراتيجية السابقة ليست مدروسة بشكل كامل وصافي.
أبلغت متاجر ماكدونالدز التي أعيد تصنيفها عن نقص في البطاطس المقلية في منتصف يوليو، عندما انخفض محصول البطاطس في روسيا، ولم يملأ الموردون الأجانب الفجوة بسبب العقوبات.

هل يمكن أن يستمر إنتاج الطاقة في روسيا؟
وفرة الوجبات السريعة شيء، بينما اعتماد استقرار روسيا على المدى الطويل على قطاع الطاقة شيء آخر، الذي لا يزال إلى حد بعيد أكبر مصدر للإيرادات الحكومية.
إذا قلنا أنّ أسعار الطاقة المرتفعة قد عزلت روسيا حتى الآن، فذلك سيكون بخساً.
وتقول وكالة الطاقة الدولية إن إيرادات روسيا من بيع النفط والغاز إلى أوروبا تضاعفت بين مارس / آذار ويوليو / تموز من هذا العام، مقارنة بمتوسط السنوات الأخيرة. هذا على الرغم من انخفاض الأحجام. تظهر بيانات وكالة الطاقة الدولية أن شحنات الغاز إلى أوروبا انخفضت بنحو 75٪ خلال الأشهر أل 12 الماضية.
النفط مسألة مختلفة. لم تتحقق توقعات وكالة الطاقة الدولية في مارس / آذار بأن 3 ملايين برميل يوميا من النفط الروسي ستخرج من السوق اعتبارا من أبريل / نيسان بسبب العقوبات الدولية أو التهديد بها. صمدت الصادرات، على الرغم من أن محللي (ريستاد) للطاقة لاحظوا انخفاضا طفيفا خلال الصيف.
كان العامل الرئيسي هو قدرة روسيا على إيجاد أسواق جديدة في آسيا.
وفقا لحميون فالكشالي من شركة كبلر الاستشارية للسلع، فإن معظم صادرات النفط الروسية المنقولة بحراً ذهبت إلى آسيا منذ بداية الحرب. في يوليو، كانت الحصة 56 ٪، مقارنة بـ 37 ٪ فقط في يوليو 2021.
بين يناير ويوليو من هذا العام، زادت الصين وارداتها النفطية المنقولة بحراً من خام الأورال الروسي المخفض بشدة بنسبة 40 ٪، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، وفقا لبيانات كبلر. هذا على الرغم من جهود الصين الأولية لتجنب ظهور الانحياز في الحرب الروسية على أوكرانيا. ارتفعت واردات الهند المنقولة بحراً من روسيا بأكثر من 1700 ٪ خلال نفس الفترة، وفقا لكبلر. كما زادت روسيا صادرات الغاز إلى الصين عبر خط أنابيب سيبيريا.
ما يحدث عندما يدخل الحظر الأوروبي على 90 ٪ من النفط الروسي حيز التنفيذ في ديسمبر، سيكون حاسما. ما يقدر بنحو 2 مليون برميل يوميا من النفط الروسي سيكون في طي النسيان، وعلى الرغم من أنه من المحتمل أن يذهب بعض من ذلك إلى آسيا، يشك الخبراء فيما إذا كان الطلب سيكون مرتفعا بما يكفي لاستيعاب كل شيء.
يقول فالكشالي إن الصين لا تستطيع شراء النفط الروسي أكثر بكثير مما هي عليه بالفعل، بسبب التباطؤ المحلي في الطلب، ولأنها ببساطة لا تحتاج إلى المزيد من ذلك النوع المحدد المتوافر من صادرات النفط الروسية.
سوف يلعب السعر دورا حاسما أيضا، فيما إذا كانت روسيا قادرة على الاستمرار في الخصم لتأمين أسواق جديدة.
يشير نيتشيف إلى أن" الخصم بنسبة 30 ٪ من 120 دولارا للبرميل شيء، أما الخصم من 70 دولارا فهو شيء آخر”

"حرق أبطأ"
في حين أن التضخم العالمي يساعد قطاع الطاقة في روسيا، فإنه يضر بشعبها. مثل بقية أوروبا، يعاني الروس بالفعل من أزمة تكلفة المعيشة، والتي تفاقمت بسبب الحرب في أوكرانيا.
نيتشيف، الذي ساعد في توجيه روسيا من خلال انهيار اقتصادي أكثر دراماتيكية في التسعينيات، يشعر بالقلق.
يقول:" فيما يتعلق بمستوى المعيشة، إذا قمت بقياسه من خلال الدخل الحقيقي، فقد عدنا إلى الوراء بنحو 10 سنوات".
الحكومة الروسية تنفق في محاولة لمكافحة هذا. في مايو، أعلنت أنها سترفع المعاشات والحد الأدنى للأجور بنسبة 10٪.
أقامت الدولة نظاماً يمكن فيه لموظفي الشركات التي "علقت أنشطتها" الانتقال مؤقتا إلى صاحب عمل آخر دون كسر عقد العمل الخاص بهم. كما وتنفق 17 مليار روبل (280 مليون دولار) لشراء سندات شركات الطيران الروسية، التي شلت بسبب حظر المجال الجوي والعقوبات التي تمنع صيانة وتوريد قطع الغيار من قبل الشركات المصنعة الأجنبية.
إن العقوبات التكنولوجية، مثل تلك التي تؤثر على صناعة الطيران، قد يكون لها التأثير الأكثر عمقاً على الآفاق الاقتصادية لروسيا على المدى الطويل. في يونيو، قالت وزيرة التجارة الأمريكية جينا رايموندو إن صادرات أشباه الموصلات العالمية إلى روسيا انهارت بنسبة 90 ٪ منذ بدء الحرب. وهذا يعوق إنتاج كل شيء من السيارات إلى أجهزة الكمبيوتر، وسوف، كما يقول الخبراء، يضعها بمرتبة متأخرة في سباق التكنولوجيا العالمي.
يقول ويفر:" تأثير العقوبات مماثلاً لاحتراق بطيء، وليس ضربة سريعة. روسيا الآن أمام ما قد يكون فترة طويلة من الركود."
ويقول نيتشيف الأكثر تحديداً: "بدأ التدهور الاقتصادي للتو".


ألم تبدأ آلام الاقتصاد الروسي؟
- هوفي هسلر -
"دويتشه فيليه"،30تموز2022

على الرغم من العقوبات الغربية، يبدو أن روسيا قد كسبت النزاع على ساحة سوق الطاقة. لكن البعض يقول إن موسكو ستنفد قريباً لديها السيولة النقدية.
كان من المتوقع أن ينهار الاقتصاد الروسي بعد أن فرضت الدول الغربية عقوبات غير مسبوقة على موسكو بسبب الحرب في أوكرانيا. لكن في الأسبوع الماضي، قال مكتب الإحصاء الروسي (روستات) إن الناتج المحلي الإجمالي في الأشهر الستة الأولى من العام انخفض بنسبة 0.4 ٪ فقط.
ارتفع الاستثمار الرأسمالي، وانتعش الروبل وبدأ التضخم -الذي ارتفع عندما بدأت الحرب-في التراجع، وفقا للبيانات الرسمية. هذا الأسبوع، توقع مسؤول حكومي روسي كبير أن يكون الناتج المحلي الإجمالي للعام بأكمله أقل بنسبة 3 ٪ فقط ولن ينكمش بمقدار الثلث. فماذا يجري؟
وكما هو متوقع، تستمر عائدات النفط والغاز، وخاصة من الاتحاد الأوروبي، في دعم الموارد المالية للبلاد، على الرغم من أن ألمانيا وإيطاليا قلصتا اعتمادهما على الطاقة الروسية. أعلنت شركة الطاقة العملاقة المملوكة للدولة (غازبروم) للتو عن ربح قياسي في النصف الأول بلغ 2.5 تريليون روبل (41.36 مليار دولار، 41.41 مليار دولار)، مما أدى إلى ارتفاع سعر سهمها بنسبة 30٪.
"حتى لو كان أداء الاقتصاد الروسي أسوأ مما كان عليه قبل ستة أشهر، فإنه لا يكفي لوقف [الرئيس الروسي فلاديمير] بوتين من تمويل الحرب"، مكسيم ميرونوف، أستاذ المالية في كلية إي للأعمال في مدريد، قال للدويتشه فيله.
ليس هناك شك في أن العقوبات الغربية بدأت تترك أثرها الجريح. في الشهر الماضي، وجدت دراسة أجرتها جامعة ييل أن الواردات إلى روسيا قد انهارت كما تكافح الشركات المصنعة للحصول على مكونات، بما في ذلك أنصاف النواقل ومنتجات أخرى عالية التقنية.
وقال التقرير إن موقف روسيا كمصدر للسلع قد تآكل بشكل لا رجعة فيه، حيث اضطرت موسكو إلى بيع المزيد من نفطها وغازها إلى آسيا بخصم كبير.

"انهيار اقتصادي خلال عامين"
وقال أستاذ الإدارة جيفري سونينفيلد، أحد المشاركين في إعداد التقرير، لإذاعة تايمز البريطانية مؤخرا إن الاقتصاد الروسي "لن يسعه الصمود مع الصعوبات الحالية لمدة عامين أو ما قارب ذلك"، طالما أنّ الغرب حازم بشأن العقوبات. يعتقد خبراء التجارة الآخرون أن الانهيار الاقتصادي الكامل سيستغرق وقتا أطول.
"على المدى الطويل، لن تكون روسيا أكثر من محطة وقود للصين...لكنني لا أقبل هذه الحجة القائلة بأن الاقتصاد سينهار في غضون عامين"، قال رولف ج. لانغامر، الخبير التجاري الألماني ونائب الرئيس السابق لمعهد كيل للاقتصاد العالمي. وقال إن روسيا أمضت عدة سنوات في بناء صندوق الحرب، وأشار إلى أن خبراء التمويل الدوليين يعتقدون أن البلاد مستعدة جيدا لأي انفصال اقتصادي عن الغرب.
"كتب صندوق النقد الدولي العام الماضي أن روسيا كانت تخزن الأموال منذ الصراع في 2014 في شرق أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم وكانت مستعدة لحرب استنزاف."
وأشار لانغامر إلى أن ألمانيا دفعت 20 مليار دولار (19.97 مليار دولار) لروسيا مقابل واردات الطاقة في النصف الأول من عام 2022 — بزيادة 50 ٪ عن نفس الفترة من العام الماضي. "حتى لو انخفضت الأحجام، مع ارتفاع الأسعار، سنظل ندفع لهم ما يقرب من 3 مليارات دولار كل شهر."
لكن على الرغم من كون الصورة الاقتصادية أفضل من المتوقع، توقف الكرملين عن نشر مجموعة من البيانات الاقتصادية بعد وقت قصير من دخول الدبابات الروسية إلى أوكرانيا.

بوتين يحترق من خلال الاحتياطيات
لاحظ باحثو جامعة ييل كيف كانت روسيا تسحب 600 مليار دولار من احتياطيات العملات الأجنبية التي كانت بمثابة وسادة لبوتين في الأشهر الأولى من الحرب. وقالوا إنه تم بالفعل استخدام 80 مليار دولار، في حين تم تجميد نصف الاحتياطيات الأخرى من قبل الغرب.
يعتقد ألكسندر ميهايلوف، الأستاذ المشارك في الاقتصاد بجامعة ريدينغ البريطانية، أن بوتين لن ينفد من الأموال اللازمة للحرب إلا عندما يتمكن الغرب من خفض اعتماده بالكامل على الطاقة الروسية، والتي قال إنها ستستغرق على الأرجح 2-3 سنوات أخرى.
إذا أصبحت خيارات بوتين محدودة، فقد تبدأ روسيا فعليا في طباعة النقود لتغطية التكاليف العسكرية المرتفعة، والتي قال ميهايلوف إنها ستكون " جنونا "لأنها" ستؤدي إلى "انخفاض كبير في قيمة الروبل والتضخم المفرط والاضطرابات الاجتماعية."
في غضون ذلك، لاحظ ميرونوف كيف عانى الروس من صعوبات شديدة في ظل الشيوعية وفي عقد التسعينيات، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. وحذر من المبالغة في تقدير متى سينتفض الجمهور ضد بوتين.
"في الغرب، لديك تضخم بنسبة 10 ٪ والناس خائفون حقا ويطالبون السياسيين بفعل شيء ما. المجتمع الروسي ليس على هذا النحو، لذا فإن بوتين لديه مساحة أكبر لانخفاض مستوى المعيشة بنسبة 20-30 ٪ دون التعرض لخطر مقاومة كبيرة."
العقوبات الثانوية ستزيد من عزلة بوتين
ولم تفرض العديد من الدول في آسيا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا عقوبات على روسيا، حيث استفاد بعضها من تراجع الغرب. تشير التقارير هذا الأسبوع إلى أن الصين تبيع بهدوء فائضها من الغاز الروسي إلى أوروبا.
وتتزايد الضغوط الآن على الغرب لفرض ما يسمى بالعقوبات الثانوية حيث يمكن عزل الرعايا الأجانب عن النظام المالي الدولي إذا تعاملوا مع روسيا. استخدمت واشنطن هذه الإجراءات بشكل كبير ضد أطراف ثالثة لعزل صادرات النفط الإيرانية والطموحات النووية.
وقال لانغامر لـ " دي دبليو": "الصين هي الدولة الرئيسية التي تتجاهل العقوبات الغربية، إلى جانب تركيا والهند". "إن التراجع الصيني عن دعم بوتين [نتيجة للعقوبات الثانوية] سيكون بمثابة رياح خلفية رئيسية لفعالية العقوبات."
وكانت واشنطن قد قالت في وقت سابق إن العقوبات الثانوية هي خيار، لكن الخبراء يحثون على التحلي بالصبر لأنه إذا تم فرضها الآن فإنها قد تزيد من الطلب على النفط والغاز وسترتفع الأسعار أكثر.
------------------------------------------------------------------------------------------------
تكملة جديدة لعهد من الأزمات: هل سيعيد التاريخ نفسه مع ليز تروس؟

- رامز باكير -

فازت ليز تروس بسباق الزعامة في حزب المحافظين، لتصبح رابع رئيس/ة وزراء بريطاني/ة لحزب المحافظين خلال ست سنوات. مما يعكس حقيقة عمق الأزمة التي سترثها ليز تروس، كارتفاع أسعار الطاقة و «التضخم»، والغضب الشعبي، وغيرها من الأزمات المتفاقمة والمتسارعة محلياً ودولياً.


اليوم الأول في رئاسة الوزراء:

كان يوم ٧ سبتمبر اليوم الأول فعلياً لتروس في منصبها، حيث قامت بإنهاد تعييناتها الوزارية، وكانت لها الفرصة الأولى لموجهة خصمها السياسي زعيم حزب العمال البريطاني «كير ستارمر» في مجلس العموم، حيث تركز السجال بينهما حول مسألة كيف ستحقق تروس وعودها والمضي قدماً في خطط تجميد فواتير الطاقة وخفض الضرائب لإنعاش الاقتصاد، وامتناعها عن فرض ضرائب «windfall taxes»١ على الأرباح الكبيرة التي حققتها عمالقة شركات الطاقة، والتي بحسب عاملون في الخزينة البريطانية قد تصل إلى ١٧٠ مليار جنيه استرليني.

وقال ستيرمر لليز تروس عندما واجهها بمجلس العموم:
” رئيسة الوزراء ليز تروس تعلم أن ليس لديها أي خيار آخر غير دعم قرار تجميد فواتير الطاقة، ولكن الثمن لن يكون سهلاً، ولكن السؤال الحقيقي والسياسي يبقى، من سيدفع هذا الثمن؟
هل ستقوم بترك هذه الأرباح الجسيمة على الطاولة، وتجعل الناس العاملين يدفعون الثمن لعقودٍ قادمة“.

وجاء رد ليز تروس بالمقابل قائلةً:
” أنا أتفهم أن الناس في بلادنا يعانون من ارتفاع تكاليف المعيشة وفواتير الطاقة، ولهذا سأقوم أنا، وبصفتي رئيسة الوزراء، باتخاذ إجراءات فورية لمساعدة الناس لتخطي هذى الشتاء، وسأقدم بياناً عن ذلك في هذا المجلس غداً.
ولكن لا يمكننا وحسب التعامل مع أزمات اليوم وترقيعها بشريط لاصق. ما يجب فعله هو زيادة وارداتنا من الطاقة على المدى البعيد. لهذا سنقوم بالتنقيب في بحر الشمال، والذي بالمناسبة، قام هذ السيد المحترم بمعارضة هذا القرار” بالإشارة إلى كير ستارمر“.
وسنقوم أيضاً ببناء المزيد من مفاعلات الطاقة النووية، الشيء الذي لم يقوم به حزب العمال عندما كان في السلطة. “.


ليز وشركات الطاقة:

من المهم الإشارة إلى أن شركات الطاقة قد عبرت مراراً عن جنيهم لأرباح كبيرة في سنوات الأزمة الأخيرة لدرجة أنهم لا يعرفون على ماذا سينفقونها. وقال مدير عام شركة «BP»٢ أن ضرائب «windfall taxes»، حتى ولو فرضت، لن تؤثر على خططهم الاستثمارية.
مع ذلك تصر تروس على اتباع نهج سياسي ضد فرض أي ضرائب كبيرة على الشركات، كالنهج الذي اتبعه سابقاً جورج أوزبيرن٣، والذي قضت خطته بحماية أرباح شركات النفط والغاز. وقال ستارمر خلال مواجهته في مجلس العموم:
” ليس هنالك من جديد عن المحافظين التوريين (حزب المحافظون اسمه التاريخي هو حزب التوري) وفنتازيات «Trickle-down economics»٤، ليس هنالك من جديد عن رئيسة الوزراء هذه وكيف هزت برأسها بالموافقة على كل قرار أدى بنا إلى هذه الفوضى“.
طبعاً كان رد تروس محافظاً ثاتشرياً بامتياز عن أن ستارمر لا يمكنه استيعاب أهمية خفض الضرائب لجذب الاستثمارات وزيادة فرص العمل وما إلى ذلك.
لا شك أن الانقسام الأيديولوجي باتساع بين حزبي العمال والمحافظين وأكبر مما كان عليه أيام رئاسة بوريس جونسون، نظراً إلى إنتهاج التوريين المحافظين سياسات اقتصادية أكثر يمينية، وذلك خلافاً لسياسات بوريس جونسون، الذي كان ينظر إليه من قبل المحافظين على انه أكثر ميولاً إلى إفساح المجال لتدخلات الدولة في السوق.


أوجه الشبه بين ليز تروس والمرأة الحديدية مارغريت تاتشر(1979-1990):

كمَثل السيدة تاتشر، لطالما كانت ليز تروس من اشد المدافعين عن النزعة الفردية، ولديها شك وحساسية غريزية من أل «welfare state» أو دولة الرفاه، والنقابات العمالية. حيث وصفت العمال سابقاً بالعاطلين.٥
وتؤمن تروس بتحرير القطاع المالي وتقليل البيروقراطية، وجعل النظام الضريبي أكثر بساطةً. وقالت واصفةً للفايننشال تايمز في وقتٍ سابق التغيرات التي قامت بها تاتشر:” لقد فعلنا أشياءً عظيمة في الثمانينات“من حيث الغاء التأميمات للبريد والسكك الحديد والمناجم التي قام بها حزب العمال في زمن كليمنت إيتلي بالنصف الثاني من الأربعينيات بعد هزيمته لحزب المحافظين بزعامة وينستون تشرشل في انتخابات تموز1945، ومن حيث اتجاه تاتشر إلى تقليص تدخل الدولة في الاقتصاد وفق توجه الليبرالية الجديدة.
من الواضح حتى الآن أن طريقة تعامل ليز تروس مع ملف كبار شركات الطاقة كان فيه تاتشرية أكثر من مارغريت تارتشر نفسها.
ففي عام ١٩٨١، قامت حكومة المحافظين وقتها برفع أسعار الفائدة لمستوى كبير من قبل بنك إنكلترا، والذي أدى إلى تحقيق أرباح كبيرة للمصارف، مما دفع تاتشر إلى فرض ضرائب «windfall taxes» على المصارف. وهو الشيء الذي تحاول تروس الحؤول دونه مع شركات الطاقة، بمحاولتها الامتناع عن فرض ضرائب على ال١٧٠ مليار جنيهاً من الأرباح الغير مستحقة.

أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة على الأبواب:

وفقاً لآخر تقارير العملاق البنكي غولدمان ساكس، يرجح وصول التضخم في المملكة المتحدة إلى ٢٢٪ في أوائل العام المقبل ٢٠٢٣، وهي مستويات لم تشهدها البلاد منذ السبعينات.
علاوةً على ارتفاع أسعار الطاقة الكبير، وانخفاض قيمة الأجور والقدرة الشرائية، قد يواجه الملايين من البريطانيين احتمال وقوعهم في الفقر. ومع تمسك ليز تروس بخيار عدم فرض الضرائب على شركات الطاقة، قد ترى الطبقة العاملة نفسها مجبرةً على الدفع إما من خلال ارتفاع أسعار الفواتير، أو مزيد من سياسات التقشف في المستقبل، أو ربما كليهما.
علاوة على ذلك، هددت تروس بتعليق اتفاق «بروتوكول أيرلنديا الشمالية»٦ فور وصولها إلى الحكم. مما قد يؤدي إلى صدامات تجارية مع أوروبا. كل ذلك في وقت يُتوقع فيه بالفعل أن يكون أداء الاقتصاد البريطاني أسوأ من أي اقتصاد آخر في مجموعة العشرين، باستثناء روسيا. مما سيضع تروس وحكومتها أمام أكبر تحديات شهدتها البلاد. مع مواجهة أزمة قد تكون الأكبر في مئة عام.

ويكمن تحدي كبير آخر مع تزايد موجة الإضراب وانتشارها في كل من القطاعين العام والخاص، حيث يواجه العمال في بريطانيا تخفيضات حقيقية في الأجور، وارتفاع تكاليف الوقود والطاقة. فقد نظم عمال السكك الحديدية في اتحاد عمال RMT، بقيادة «ميك لينش»٧ إضراباً عاماً. وانضم إليهم سائقو القطارات المنظمون في ASLEF. كما اتخذ ١١٥٠٠٠ موظف في شركة البريد الملكية Royal Mail إجراءات بشأن الأجور والشروط، في أكبر إضراب بريدي منذ عقود.

وعدت تروس بالتعامل مع المد المتزايد من الإضرابات التي اجتاحت مختلف القطّاعات من خلال إدخال المزيد من القوانين المناهضة للنقابات، مصرحتاً بأنها” لن تسمح للنقابيين المتشددين باحتجاز بريطانيا مقابل فدية“.

يرى البعض أن مثل هذه الخطوة كمَثل اللعب بالنار، ويمكن أن تأتي بنتائج عكسية بسهولة، مما يؤدي إلى احتجاجات وصدامات أكبر مع العمال المنظمين. يقول غاري سميث، الأمين العام لـ GMB، أكبر اتحاد صناعي في بريطانيا:
” إن عدد أماكن العمل والقطاعات التي تصوت للإضرابات يعكس مزاجًا عاماً من السخط والتحدي بين صفوف العمال“.

هل سيعيد التاريخ نفسه؟

تم تقديم ليز تروس خلال حملتها الانتخابية على أنها من الموالين الأوفياء لسابقها بوريس جونسون بخلاف الكثيرين كالوزير ساجد جافيد، بل وراهنت على الجانب الأقوى. كما وكان لها تاريخ حافل في تغير مواقفها، فبعد أن كانت عضوة في الحزب الديمقراطي الليبرالي، بل ودعت لإلغاء الملَكية البريطانية. أصبحت فيما بعد من المحافظين في التسعينيات (هي من مواليد1975)، وقالت في خطاب نجاحها بالانتخابات:” ناديت بحملتي بسياسة محافظة، وسأحكم كمحافظة“.
كما وكانت ضد البريكست بدايةً، إلى أن انقلبت في آرائها بعد عام ٢٠١٦، لتصبح من الداعمين للتجارة الحرة ضد سياسات الاتحاد الأوروبي.

ولكن السؤال الأهم هنا، هل ستتمسك ليز تروس هذه المرة بمواقفها ونهجها التاتشري (تحجيم دور الدولة، ضرائب أقل.إلخ) ...؟

يقول كارل ماركس:” التاريخ يعيد نفسه، مرة كمأساة، وأخرى كمهزلة“، فهل ستنطبق مقولة ماركس هذه المرة على رئيسة الوزراء ليز تروس؟

هوامش

١ ضريبة المكاسب المفاجئة: هي ضريبة تفرض لمرة واحدة على قطاع بعد تحقيقه أرباحًا ضخمة من شيء لم يكونوا مسؤولين عنه.
٢ "بريتش بتروليوم": هي شركة نفط وغاز بريطانية مقرها في لندن، إنجلترا وهي واحدة من «كبار» شركات النفط والغاز السبعة في العالم.
٣ جورج أوزبيرن، عضو في حزب المحافظين ومجلس العموم، وكان قد شغل مناصب عديدة منها سكرتير الدولة الأول ومستشار الخزانة (وزير المالية).
٤ نظرية اقتصادية تنص على أن الإعفاءات والمزايا الضريبية للشركات والأثرياء ستؤدي تلقائياً إلى وصول الثروة نزولاً إلى الطبقات الدنيا.
٥ من مقال بعنوان «؟ How similar is Liz Truss to Margaret Thatcher»، صحيفة الانديبيندنت البريطانية.
٦ هي اتفاقية بين المملكة المتحدة وإيرلندا تنص على أن تظل جزيرة إيرلندا بأكملها في السوق الموحدة مع حدود جمركية في البحر الإيرلندي، لتحتفظ إيرلندا الشمالية عملياً بقدم في كلا النظامين، البريطاني والأوروبي.
٧ هو نقابي بريطاني وشخصية عامة. شغل منصب الأمين العام للاتحاد الوطني لعمال السكك الحديدية والبحرية والنقل (RMT) منذ مايو .2021
------------------------------------------------------------------------------------------------

في الذكرى العاشرة لاعتقال عبد العزيز الخيِر في 20أيلول2012
عبد العزيز الخيّر معارض آمن بالحوار مع الخصوم كما مع الحلفاء
الأحد 2014/06/15- جريدة "العرب"
- بسام سفر -

لم تخلخل سنوات السجن الطويلة للطبيب السوري عبد العزيز الخير قناعته وإيمانه العميق بالشعوب كافة، وخاصة شعوب المنطقة العربية، وعلى وجه الخصوص الشعب السوري، وخير دليل على هذا الإيمان العميق والقناعة الراسخة بهذا الشعب هو عودته إلى العمل السياسي السوري المعارض بعد خروجه من المعتقل بسجن صيدنايا العسكري الأول في نهاية العام 2005، فأول اجتماع حضره للمكتب السياسي لحزب العمل الشيوعي كان في نهاية الشهر الثاني من العام 2006، في مدينة حمص العدية، عاصمة الثورة وقلبها النابض.
إرادة الحياة
في ذلك الاجتماع أوضح الخيّر أنه مازال ماركسيا لأن الماركسية برأيه خير دليل فكري للعمل الثوري، وأن الرفاق الذين غادروا الماركسية نحو الليبرالية الجديدة لا يقيمون أهمية لهذا الفكر الإنساني الذي يؤمن بالدور العميق للشعوب في التغيير، وهو الذي كان يردد قول أبي القاسم الشابي:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة
فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي
ولا بد للقيد أن ينكسر.
إرادة الحياة لدى الخير هي سر الإنسان ومعجزته، الإنسان المتحرك المتوثب، الذي لا يهن ولا يضعف ولا يستسلم أبدا، بل كلما هاجمته الحياة وقست عليه أحداثها، وغلظت وطأتها، وخشنت مخالبها، انتفض ووثب للقتال، وتفجرت طاقاته، وتجلت مواهبه، وشمخت عزائمه.
الهرب من الصبّورة(أيار2009)
هربنا من اجتماع “الصبورة” بعد أن داهمه الأمن السياسي خمسة رفاق هم “عباس إبراهيم عباس، حسن زهرة، توفيق عمران، أحمد النيحاوي، غسان حسن”، وقطعنا سيرا على الأقدام أكثر من ” 5 كم ” في الشول الأرض القفرا النفرى حتى نصل إلى الطريق العام، حدثني في تلك الساعات عن أهمية الاستمرار في العمل الحزبي-السياسي مهما كانت الظروف، ولذلك لم يعد بعد اعتقال الرفاق إلى دمشق مباشرة، وإنما أكمل طريقه إلى مدينة دير الزور لعقد اجتماع آخر لـ ” تيم” تجمع اليسار الماركسي في سوريا. وتجلت الإرادة أيضا في بداية الثورة السورية بإصدار أكثر من بيان مع زملائه في قيادة التجمع الوطني الديمقراطي في سوريا، وكذلك إعداد الوثيقة السياسية التي أقرها اجتماع تسع قوى قومية عربية ويسارية وماركسية، وأحد عشر حزبا كرديا وشخصيات من الاتجاه الإسلامي الديمقراطي بتاريخ 25/6/2011، وتم إعلانها في مؤتمر صحفي في دمشق في 30/6/2011، بإطلاق هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي في سوريا.
الوجه الآخر لإرادة الحياة الابتسامة التي تلازمه في كل الظروف وأصعبها، وفي حمص ذاتها عندما أخفقنا في استرجاع رفيق، أمضى الطريق إلى السلمية يبتسم قائلاً: ” شرف المحاولة” لا تفقد المقاصد غايتها، واليقظة الحية التي تشعل في القلوب شوقاً وأملا وعملاً، هي الذخيرة الحية التي نتزود بها لمعارك الحياة.
السجن والمجتمع والإنسان
وفي أقسى المواقف الإنسانية حيث يواجه المناضل ذاته الإنسانية عاريا سوى من أفكاره ومبادئه التي قادته إلى السجون والمعتقلات في بلدن العالم الثالث ومنها سوريا نجد التفاؤل في أحلك الظروف وأقصاها، إذ رغم ظرف الخيّر القاسي يوضح لبرنامج صدى المواطنة أنه كان يفكر بأسر السجناء السياسيين حيث يقول: إن ” من أقسى القضايا والضغوط على روح السجين وبنيته العقلية والروحية ما تعانيه أسرته خارج السجن، فهي تعاني مادياً وسياسياً ونفسياً، وبكل أشكال المعاناة إنسانياً، ومعاناتها لا تقل معاناة عن السجناء السياسيين ذاتهم، فالأهالي عرفوا السجن لا لذنب اقترفوه، إنما لأنهم تضامنوا مع أبنائهم، ووقفنا عاجزين عن مساعدة هذه الأسر رغم الإحساس بالظلم الفادح للسجن من أجل القناعة والرأي السياسي الذي يؤمن به المعتقل السياسي".
يقول الخيّر إنه ” يعرف بعض الأسر سحقت سحقاً بمعنى الكلمة على كافة الجوانب الاجتماعية والإنسانية والقانونية، بالإضافة إلى المعاناة النفسية والوجدانية. ولعب كل ذلك دوراً كبيراً في تفكيك الترابط والتضامن الأسري”، وأحيانا في زيادة هذا الترابط والتضامن الأسري رغم عدم وجود احتضان اجتماعي.
ويذكر الجميع موقف عبد العزيز الخيّر في القاهرة بتشرين الثاني نوفمبر 2011، بعد أن تم رشق وفد هيئة التنسيق بالبيض من قبل بعض الثائرين السوريين إذ كان يبتسم، وهو يصرح إلى وسائل الإعلام أن هذا الهجوم ضريبة الديمقراطية السورية، وأن بعض أطراف المعارضة المحسوبين على الثورة أو على بعض المعارضات الأخرى، التي تواجه هيئة التنسيق الوطنية في الضرب بالبيض والبندورة كوجه آخر لديمقراطية النظام في القتل والتدمير.
رغم ذلك أوضح الخيّر أنه لا بد من الحوار مع هذه القوى السياسية السورية للاتفاق على برنامج الحد الأدنى السياسي لمستقبل سوريا. وأتى اعتقاله من قبل النظام عند عودته من الصين الشعبية رسالة واضحة للمعارضة لمنع توحيد جهودها في إطار سياسي واحد.
التوازن السياسي
إذن في كل الأوقات لم يتخل عبد العزيز الخيّر عن توازنه الإنساني والسياسي، ولم يدخل إلى بوابة العمل السياسي من خلال الأفكار السياسية السطحية، وإنما من بوابة الفعل الديمقراطي المؤمن بضرورة التغيير في بلد يواجه القناعة بالسجن، والمظاهرة بالرصاصة، والرصاص بالدبابات والمدافع والطيران. وهو الذي ولد في مدينة القرداحة في العام 1951، درس المرحلة الابتدائية والإعدادية في محافظة درعا، والثانوية في مدينة حمص، والطب في جامعة دمشق، وتخرج منها في العام 1976، حضر المؤتمر الأول لحزب العمل الشيوعي في 16 آب 1981 في قرية تشحيم اللبنانية، وانتخب عضوا للجنة المركزية للحزب، وعضوا في مكتبه السياسي، تخفى عبد العزيز الخيّر عن أعين الأمن السوري سنوات طوال بلغت 11 عاما، واستخدم اسما حركيا ” أبو أحمد”، وتعد هذه الفترة من أطول فترات الملاحقة التي عرفها إي معارض في التاريخ. ولم يغادر دمشق سوى مرة واحدة لمدة لم تتجاوز عدة أيام، كان يتنقل، وهو ملاحق ليلا ونهارا بكل حرية، وكان حرا آنذاك أكثر من أي وقت مضى، فما من حرية بلا حدود يبلغها المناضل إلا من خلال حب الناس، “أبو المجد” عبدالعزيز الخير أحد المناضلين الذين يحسدون على حب الناس له، بل وإجماعهم على هذا الحب حتى في الأوساط غير المعروف فيها بذاته، فهو الطبيب الذي يخاطر بأمنه ليلا ونهارا ليعبر دمشق من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها كي يفحص سريرياً رفيقاً أو صديقاً مريضاً، وهو الصحفي المحترف المرهف الذي أشرف على عدة مطبوعات لحزب العمل الشيوعي منها رئاسة تحرير” النداء الشعبي” في ثمانينات القرن الفائت، وعضو تحرير الجريدة المركزية ” الراية الحمراء”، وعضو هيئة تحرير مجلة ” الشيوعي” النظرية التي صدر منها 12 عددا، ولعب دوراً مركزياً في حزب العمل الشيوعي لأكثر من عشر سنوات من العام 1982 حتى العام 1992.
وكتب مئات المقالات والتحقيقات والتقارير الصحفية والأبحاث الفكرية، وأعد كتابا في أواسط الثمانينات بعنوان ” الكتاب الأسود” يعرض فيه لقضايا القمع والإرهاب التي مارسها النظام السوري ضد المعارضة، وأصبح هذا الكتاب مرجعاً سياسياً للعديد من المنظمات الحقوقية السورية والعربية والدولية، وساهم في إصدار بيان من حزب العمل الشيوعي في سوريا باسم “عرس الديكتاتورية ” في العام 1991، وذلك قبل الاستفتاء على رئاسة حافظ الأسد، وخلال فترة تخفيه جرى الاعتداء على شقيقته الأستاذة الجامعية سلمي الخيّر بالضرب وسط الشارع العام في مدينة اللاذقية، واعتقل شقيقه الأستاذ النقابي هارون، وشقيقته ندى وابن عمه، وزوجته المدرسة منى صقر الأحمد، التي اعتقلت كرهينة أربع سنوات.
اعتقل الخيّر بتاريخ الأول من شباط العام 1992، من قبل دورية عسكرية مسلحة تابعة لفرع فلسطين 235 التابع لشعبة المخابرات العسكرية بقيادة المقدم عبد الكريم الديري في منطقة ” باب الجابية” في دمشق القديمة، وعندما وصلت الدورية إلى الفرع في منطقة الجمارك أطلق الرصاص ابتهاجاً واحتفالاً باعتقاله، بإشراف العماد علي دوبا رئيس الشعبة في ذلك الوقت والعميد مصطفى التاجر، والعقيد عبد المحسن هلال رئيس قسم الأحزاب بالفرع في الزمن ذاته على التحقيق معه، وتعذيبه بشكل مباشر، من خلال بقائه مدة شهرين في زنزانة انفرادية. ونقل بعدها إلى سجن صيدنايا، وحوكم أمام محكمة أمن الدولة العليا، وحكم عليه جزار محكمة أمن الدولة القاضي فايز النوري بـ 22 عاماً، بتهمة الانتماء إلى جمعية سرية محظورة، و” القيام بأنشطة مناهضة للنظام الاشتراكي للدولة”، ونشر أخبار كاذبة من شأنها زعزعة ثقة الجماهير بالثورة والنظام الاشتراكي".
عاقبه نظام حافظ الأسد من خلال محكمة أمن الدولة حيث أصدر أعلى حكم عليه بين الشيوعيين إذ حكم عليه 22 عاماً، وأصبحت عقوبته مضاعفة عندما خرج من السجن آخر ثمانية معتقلين من حزب العمل الشيوعي في تشرين الثاني نوفمبر من العام 2001، حيث لم يبق معتقلا على ذمة الحزب سوى عبد العزيز الخيّر، رغم المناشدات العديدة التي وجهتها منظمات دولية وإقليمية لإطلاق سراحه، إلا أن النظام السوري صم أذنيه عن سماعها، وضرب بها عرض الحائط.
ويعود هذا التغيب لعاملين أولهما أن الخيّر ينحدر من إحدى أكبر العوائل في الطائفة العلوية، ولها مكانتها على الصعيد الاجتماعي والديني، والثاني بيان ” عرس الديكتاتورية” الشهير الذي تخطى فيه حزب العمل كل الخطوط الحمراء التي وضعت حول شخصية الرئيس الراحل حافظ الأسد، وقدسية هذه الشخصية.
طبيب سجن صيدنايا
بسبب عدم وجود أطباء في السجون السياسية السورية إلا السجناء أنفسهم، عاين الدكتور عبد العزيز الخيّر، وأشرف على ما يزيد عن مئة ألف حالة طبية من السجناء في معتقل صيدنايا، وأقنع إدارة السجن بتحويل أحد المهاجع إلى عيادة طبية “ميدانية”، بمساعدة رفيقه المهندس نزار مرادني، بما توفر من الأدوات الطبية التي استقدمها من عيادته الخاصة أثناء زيارات أهله، وبما وقع في اليد من الصناديق الخشبية المخصصة لتعبئة الخضار، وأطلق عليه السجناء في سجن صيدنايا “الحكيم".
عين الناقد السياسي
يمتاز الخيّر بعين سياسية نقدية عالية المستوى، هي صفة لا يعرفها إلا الدائرة السياسية الأولى التي عملت معه لسنوات طويلة، عبدالعزيز الخيّر المعتقل في سجون النظام السوري نتيجة خياراته السياسية في دعم ثورة الشعب السوري منذ بدايتها، وعمله الجليل في محاولة إيجاد صيغ العمل المشترك لكامل المعارضة السورية في الداخل والخارج، تشهد أروقة الحوار في القاهرة على ذلك، وعلاقاته السياسية مع العديد من الدول التي دعّمت الثورة، والتي كان لها موقف منها، فالإنسان السياسي عند الخيّر لا يحاور حلفاءه فقط، وإنما خصومه أيضاً.

هل نحن فعلا أحفاد المعري والمتنبي؟
- مازن كم الماز –

يكفي استعراض أي من كتب تاريخ الفرق , أو الملل و النحل , و تاريخ الفكر في الإسلام الوسيط , لكي نشك فعلا في أننا , عرب و مسلمو هذه الأيام , لا نمت بأية صلة قرابة لأولئك الذين عاشوا هنا قبل قرون ... إن جرأة أولئك الذين عاشوا هنا قبلنا , من نحب أن نسميهم أجدادنا , الذين تحدثنا كتب التاريخ و الفرق هذه كيف فكروا و ما قالوه قبل هذه القرون , ستفاجئك بلا شك ... كل ما لا يمكن اليوم مناقشته أو حتى الاقتراب منه , كل ما أصبح اليوم , في القرن الواحد و العشرين , عصيا على النقاش أو النقد , كل ما أصبح اليوم تابو يحرص الجميع على تحاشيه و الابتعاد عنه و التقيد باشتراطاته , كل ما نعجز اليوم و في هذا العصر عن مناقشته و التفكير فيه , ناقشه هؤلاء بكل حرية , انتقدوه بل و سخروا منه , لم يترددوا في تحوير النص المقدس الذي تحكمنا اليوم نقاطه و حروفه , لم يترددوا مرارا و تكرارا في تعديله و تحويره , عبر تفسيره و إعادة تفسيره بطرق مختلفة كانت تفجره و تقلبه رأسا على عقب و تعيد تشكيله بشكل جديد تماما في كثير من الأحيان ... كل الفرق التي يكفر معظمها اليوم , حتى تلك السائدة و الباقية التي انغلقت على آخر ما جاد بها أئمتها و توقفت عند هذا الحد و لم تتجاوزه قيد أنملة مع بداية عصور الانحطاط الفكري , كل التيارات الفكرية المتنازعة و المتناقضة التي نعتز بها بمن فيهم من يكفر أي تفكير أو نقد خارج السائد كما يعرفونه , كلها نشأت و تطورت في ذلك الوقت و لم تنتهي إلى مجرد أفكار نهائية لا يمكن تبديلها أو تجاوزها إلا مع انحسار ذلك المد الفكري ... لا توجد شخصية في التاريخ الإسلامي , ممن نسميهم اليوم بالسلف , لم تتعرض للنقد و حتى السخرية و التشهير , سواءا بسبب الأفعال أو الأقوال المنسوبة لها , لم يكن أحد فوق النقد , جميعهم , بمن فيهم كل من وردت أسماؤهم في التاريخ المبكر للإسلام و الصراعات الداخلية الأولى التي شهدها ... يكفي أن تقرأ المعري و أبو بكر الرازي , المعتزلة , أبو حنيفة النعمان , ابن سينا , إخوان الصفا وصولا إلى شيوخ الصوفية و شعراء كالمتنبي و ابن برد و ابن الرومي , ليدفعك ذلك للتساؤل , كيف و متى ماتت تلك الروح , ذلك العقل الذي لا يخشى من ارتياد ما لم يطرق بعد , لا يخشى من التفكير في كل شيء دون خوف أو وجل , الذي لا يفزعه شيء و لا يردعه أي تهديد عن التفكير حتى لو انتهى به ذلك إلى تجاوز السائد و نقد و تهديد المسلمات التقليدية ... كيف و متى و لماذا أصبح هذا العقل وجلا خائفا مترددا , غير راغب و غير قادر , عاجز و مفلس , أمام الواقع و أمام تحدياته , مرتدا على عقيبه دون أن يجرؤ على التحديق بالواقع بل أن لا يرى سوى الخطوط الحمراء التي رسمها لنفسه و قيد نفسه داخلها ... ليس صحيحا أن السبب يعود فقط للاستبداد السياسي , لقد كانت السلطة العربية الإسلامية و منذ وقت مبكر , منذ ظهور ما سماه العرب قديما بالملك العضوض , في حالة طغيان , لكن الفكر مع ذلك استمر بتحدي السلطة و السائد معا و ساهم بكل فعالية في إنتاج فكر يعبر و يساير عن التناقضات في المجتمع , داخله و خارجه , و يفتح مجالات و مخارج جديدة و أجوبة جديدة دائما أمام الأسئلة و المآزق و المصاعب التي كانت تواجه هذه المجتمعات ... ليس للقضية علاقة بالجينات على ما يبدو , إنها حالة عقلية و اجتماعية , مسدودة الأفق , أو في أفضل الأحوال , مأزومة ... تعيد إنتاج "ذاتها" , بل تعيد إنتاج ما قيل لها أنه "ذاتها" , دون أن تجرؤ و لا تستطيع سوى أن تردد و تردد ما لقنته دون أن تكترث حتى للفارق الهائل بين ما تردده و بين الواقع الذي يحيط بها و بالمصائب أو بالأزمات التي تدور في حلقاتها المفرغة دون أن تتمكن من التوقف عن الدوران.
------------------------------------------------------------------------------------------------


زوروا صفحتنا على الفايسبوك للاطلاع و الاقتراحات على الرابط التالي
http://www.facebook.com/1509678585952833- /الحزب-الشيوعي-السوري-المكتب-السياسي
موقع الحزب الشيوعي السوري- المكتب السياسي على الإنترنت:
www.scppb.org

موقع الحزب الشيوعي السوري-المكتب السياسي على (الحوار المتمدن):
www.ahewar.org/m.asp?i=9135