مارسيل كونش: وفاة فيلسوف الطبيعة في عصرنا


محمد الهلالي
2022 / 9 / 29 - 15:06     

لم يفصله عن بلوغ المائة سنة إلا شهر واحد فقط، ازداد في 27 مارس 1922 وتوفي في 27 فبراير 2022. إنه فيلسوف الطبيعة الوحيد في عصرنا: مارسيل كونش (Marcel Conche ). مات في صمت كما عاش في صمت. لم يعبأ بالتشريفات ولا بالسلطة. فهو كما كان يقول "تخلّق بالتواضع دوما لكونه من شعب البسطاء". ولأن "اعتزازه الوحيد" كان هو "ذكر اسمه في القاموس، لأن ذلك يعتبر انتصارا صغيرا على الموت". كان يحب الحياة ولا يهاب الموت، وفي هذا الأمر قال: "كلما اقتربتُ فعليا من الموت، وأنا لا زلت على قيد الحياة، كلما كان مذاق الحياة أقوى".
بدأ حياته المهنية معلما ثم مدرسا في الثانوي ثم أستاذا في السوربون من سنة 1978 حتى سنة 1988. تخصص في الميتافيزيقا والفلسفة اليونانية. درّس فلسفة مونتينيْ وفلسفات الفلاسفة القبل-سقراطيين. هو فيلسوف الطبيعة، عاش مستقلَ التفكير متواريا عن الأنظار، بعيدا عن عالم السياسة المتقلب، في عزلة اختيارية في البادية، ألف حوالي خمسين مؤلفا فلسفيا متنوعا في مواضيع مختلفة (أبيقور، هيراقليطس، أناكسيماندر، بارمنيدس، بيرون، لوكريتيوس، مونتينيْ، نيتشه، سبينوزا، هيجل، هايدغر، تاريخ الفلسفة، الميتافيزيقا، الأخلاق، الفكر الشرقي...). شيّد لنفسه مكانة متميزة ومتفردة بين الفلاسفة الفرنسيين المعاصرين. نشر سنة 2016 جزءا من مراسلاته مع زوجته التي توفيت سنة 1997، والتي كانت متخصصة في الآداب، وتكبره بخمسة عشر سنة، وكانت أستاذة له في الثانوي. كان مسالما راديكاليا، لذلك قرر عدم الالتحاق بحرب التحرير ضد النازية، رغم أن والده شارك فيها، ولم يندم على ذلك، فهو "يرفض الوقوع في فخاخ الاحتمالات التاريخية"، كما أنه "مسالم حتى العظم، ويؤمن بصرامة السلوك". كان أول كتاب اشتراه بماله الخاص في سن المراهقة هو كتاب الفيلسوف الرواقي ماركوس أوريليوس (Marc Aurèle) الذي يحمل العنوان التالي بالفرنسية (Pensées pour moi-même ) وترجم إلى العربية تحت عنوان: "التأملات". وبعد ذلك اهتم اهتماما بلغ حد الولَع بكتاب "المقالات" (Essais) لمونتينيْ. وهو فيلسوف يصعب تصنيفه لأنه امتلك طريقة متفردة في التفلسف، وعاش عيشة حكيم مستمتعا بمتعة الأفكار، غير متأثر بالانتظار والرغبات.
اعتزل العالم صحبة نصوص لاو-تسو ( Lao-Tseu) مؤسس الطاوية، وهو الأمر الذي أثمر ترجمة ونشر "كتاب الحكمة". وفي هذا السياق قال: "من الضروري أن يعيش المرء بعيدا عن الآخرين ليبدع فلسفة شخصية". وهذا يفسر قناعة له بخصوص صعوبة اقتسام الحب مع شخص آخر لما "توضع الفلسفة والعقل في مرتبة أعلى من مراتب كل الأشياء الأخرى".
تمحورت تساؤلاته الأولى حول البحث عن الحقيقة، معرفة معايير الحياة الجيدة، معرفة الطرق المؤدية لفهم ألغاز الوجود. ولقد لازمته هذه التساؤلات طيلة حياته، واعتبرها "متطلبات وجودية طبيعية أولى".
كانت الطبيعة هي موضوع فلسفته بامتياز. كان يؤمن بالقوى الروحية التي توجد في "لا-تناهي الطبيعية"، لأن الطبيعة هي في نظره "بداية ونهاية كل شيء". لذلك لا يمكن فصل حياته الخاصة ولا فلسفته عن الطبيعة. فلقد قال عن نفسه: "اشتغلتُ في حقول أشجار العنب (الكرْم)، وامتلكتُ تجربة في احترام الطبيعة (...) وإنني الفيلسوف الوحيد الذي اقتلعَ البطاطس من الارض، أو على الاقل الفيلسوف الوحيد الذي لازال على قيد الحياة". كما أن "الطبيعة هي المطلق" بالنسبة له. فلا يقصد بالطبيعة معناها الحديث الذي يجعلها تتعارض مع التاريخ والثقافة والحرية، أي الطبيعة المختزلة في المادة. وإنما يقصد بالطبيعة معناها اليوناني (الفيزيس)، اي "ما ينمو": فالطبيعة بهذا المعنى كلية الحضور والشمول، ذكية، لا-متناهية، خلاقة، خالدة، أبدية التغيّر، متعددة المكونات إلى ما لا نهاية.
كما أن الفلسفة كميتافيزيقا، التي تتناول موضوع الطبيعة، أي التي تهدف إلى بلوغ حقيقة "الواقع ككل"، لا يمكن أن تكون من نفس طبيعة العلم. فهي دراسة وبحث، وهذا يفسر سبب عدم إمكانية الحسم في ماهية الحقيقة لما يتعلق الأمر بتصور "كلية الواقع"، وهذا ما يفسر أيضا وجود عدة أنواع من "الميتافيزيقا": فالفلسفة تتأمل ولا تبرهن.
اهتم مارسيل كونش بموضوع "ما لا يمكن تبريره" والمتمثل في عذاب الأطفال، سواء كان ذلك من فعل الإنسان أو المرض أو الطبيعة. فعذاب الأطفال هو "شرّ مطلق، لطخة لا تُمحى في عملية الخلق"، بل إنه "أمر كافٍ لإسكات دعاة الإيمان".
رفض مارسيل كونش فكرة "الالتزام"، وصرح أنه اختار "عدم الالتزام بأية قضية"، وأنه "لم يحارب من أجل أية قضية"، ومبرره في ذلك هو تمييزه بين "الفاعل في مجال الفكر" و"الفاعل في مجال العمل". فعلى المرء أن يختار أي مجال من المجالين يريد. فالالتزام "يشغل عن القيام بمهمة التفكير". لكن اختياره "عدم الالتزام بأية قضية" لا يعني عدم اهتمامه بقضايا العالم، فقد قال موضحا ذلك: "سأكون سعيدا لما تُعمّمُ السعادة. أما الآن، فالحروب والمجاعات تنشر الظلام في العالم، وتجعلني أنظر للعالم نظرة قاتمة، لأنني أعيش مع أطفال السودان والعراق وغزة".
كما ميز بين الأخلاق والإيتيقا: فهناك إيتيقا السلطة، وإيتيقا السعادة، وإيتيقا اللذة... وكل شخص يختار تنظيم حياته وفق ما يهمه، وهو بذلك يختار "إيتيقا معينة". لكن، ليس لأحد الحق في تنظيم حياته بطريقة تؤدي لعدم احترام الآخرين: فالأخلاق تضح حدودا للمجال الذي يختاره شخص ما كإيتيقا له. فالأخلاق هي قيم موضوعية واجبة وكونية تتأسس على العلاقات بين الناس: فالمبادلة بين الناس تقتضي المساواة بين أطراف المبادلة، وبالتالي واجب الاحترام فيما بينهم. لذلك تقود الأخلاق إلى السياسية كما أن السياسة مُلزمة باستلهام الأخلاق.