مدينة القامشلي في ذاكرة الحزب الشيوعي العراقي ـ 8 ـ


عادل امين
2022 / 9 / 27 - 18:35     

الظلام يخيم على المنطقةِ ويحجب الرؤية، إلا من إضاءات النجوم التي تسطع من بين السُحب المتناثرة في السماء ليضفي شعاعِها ضوءاً ضئيلاً عليها، هَمَّ الثلاثة بحذر شديد وهم يستعينون بأطرافهم خشية ضياء " بروجكتر " برج المراقبة الذي يُسلط على الحدود بين حين وأخر بالصعود نحو التل الذي يرتفع أمتار قليلة عن مستوى الأرض. وفي ثنايا بعض الحفر والأخاديد تتسع لجلوس أو اِخْتِبَاء شخص أو أثنين فيها، وهو يبعد عن برج المراقبة التركية مسافة لا يمكن تقديرها لكنها في كل الأحوال قريبة.
لاحظ سعيد وهم في منتصف المرتفع أن الشخص الذي معهما يتقدم بوتيرة أسرع منهما نحو قمة التل، نادى عليه بصوتٍ منخفض: إلى أين تسير بهزاد؟ أجابه: أرى شيئاً سوداء على حافة تلك الحفرة، خطى الأثنان خطوات خلفه على المهل، وأخيراً وصلوا الحفرة.
بعد نجاح عملية عبور المجموعة التي تكونت من (25) رفيقاً ليلة 17/18 ـ 9 ـ 1982 الحدود السورية ـ التركية إلى قرية (الشعبانية) التركية ومن ثم وصولها إلى محطة (أبو حربي) في كهوف جبال تركيا بسلام، أمتعض رئيس المجموعة الدليل محمد حجي خليل من أتباعه في الجانب التركي الذين أخبروه في حينه بصعوبة عبور الحيوانات مع الرفاق في تلك الليلة للظروف الأمنية وفقاً لاستطلاعاتهم، ونعتهم بالأغبياء وبأنهم ( مجموعته) أسرعوا في تقدير الموقف، لأن الذي حدث لم يكن له علاقة بالحدود أبداً، وإنما حدث طارئ في أحدى القرى لم يدم إلا ساعات قليلة، وأن تلك التقديرات الخاطئة أضاعت الفرصة لعبور أحد عشر بغلاً محملة بالسلاح مع الرفاق إلى مقرات الحزب الشيوعي العراقي.
نهاية شهر أكتوبر 1982 اختمرت في ذهن الدليل محمد حجي خليل ( أبو إحسان ) فكرة إرسال مجموعة من البغال المحملة بالسلاح، وتراء له بأن الوضع على الحدود مهيئ وملائم للعبور، وعليه أن يضطلع هو ومجموعته لوحدها بالعملية، أي بدون مرافقة الرفاق من الحزب الشيوعي العراقي. يقول الرفيق سعيد: كانت لمحطة القامشلي تجارب سابقة مع الدليل والمهرب المحنك محمد حجي خليل ومجموعته في إرسال وجبات من السلاح، سواء على ظهور العتالين أو حمولات على البغال (كان يقوم آنذاك باستلامها الرفيق محمد شيرواني في الجانب التركي بمساعدة رفاق حزب كوك) قبل أن يكون للحزب الشيوعي محطات خاصة به في جبل جودي في تركيا (والتي أُنشئها فيما بعد بمساعدة الأحزاب الكردية في تركيا)، فهذه ليست المرة الأولى تعزم فيها مجموعته القيام بالعملية لوحدها، فالإرساليات السابقة من خلالهم قد تكللت أغلبها بالنجاح.
تم اختيار أواسط شهر نوفمبر 1982 حيث يكون ظلام الليل مناسباً للوصول إلى المحطة الأولى القريبة من قرية (الشعبانية) التركية. تمخضت المناقشات والمباحثات المستفيضة بين الرفيق سعيد مساعد مسؤول المحطة لأن (الرفيق جلال الدباغ كان في سفرة طويلة إلى كوردستان) ومحمد حجي خليل قائد المجموعة على رأي أن يكون عدد البغال في هذه الوجبة (6) فقط، وهو العدد الذي يتناسب مع طاقة المنفذ من جهة، ومن جهة أخرى مع عدد المرافقين للدليل الذين يتولون شؤون البغال وإمكانية استيعاب المخبئ في الطرف التركي أيضاً. كان لدى الطرفين (الدليل والمكتب) متسع من الوقت وفسحة مناسبة لتهيئة مستلزمات الإرسالية وإجراء التغيرات لمواجهة الأمور الطارئة.
بعد وضع البصمات الأخيرة على العملية من كل جوانبها، تم الإيعاز للشروع بها، وبما أن العملية تقوم بها المجموعة لوحدها فتركت المسائل الفنية والأمنية على الحدود وفي الطرف التركي لتقديراتها.
تم تدبير (6) ستة بغال حسب المواصفات المطلوبة وكُلف الرفيق السوري خالد سليمان لترتيب بقائها بضعة أيام في واحدة من القرى البعيدة عن منطقة العبور حيث لا تجلب الانتباه، وترك تحديد يوم ووقت العبور للمهرب. كان على محطة القامشلي فقط إيصال الحيوانات والحمولات إلى نقطة العبور المتفق عليها والوقت وانتظار عبور الحدود واستلام إشارة سلامتها وهي عبارة عن أطلاق رصاصة خطاطة واحدة نحو السماء والباقي يترك لهم إلى ان تُسلمْ لمحطة (أبو حربي) ومن ثم عودة الدليل أو شقيقه احمد بعد أيام من ذلك إلى القامشلي ( الدليلان محمد وأحمد شقيقان ومواطنان تركيان لكليهما بيتان واحد في قرية الشعبانية التركية والأخر في القامشلي لديهما هويات تركية إضافة إلى شهادة التعريف في سورية " شهادة التعريف اشبه بإقامة في سورية كانوا قد حصلوا عليها بواسطة الحزب الشيوعي العراقي في وقتٍ سابقٍ ”على أساس انهما مطاردان من قبل الحكومة التركية).
حددت ليلة 27/28 ـ 11ـ 1982 للعبور. بعد الظهر من يوم المتفق عليه نقل خالد الحيوانات إلى المكان المتفق عليه، ونقل الرفيق سعيد ومعه الرفيقان فارتان شكري و(على ما أعتقد سلام موسى أو رفيق أخر) حمولات الأسلحة التي كانت مرزومه في أكياس(جنفاص) بسيارتهم من القامشلي وساروا باتجاه المكان المتفق عليه وهو عبارة عن وادٍ بمنأى عن انظار أبراج المراقبة الحدودية التركية وعن سكان القرية القريبة من منفذ العبور كذلك. وصلوا اليها قبيل غروب الشمس حيث ظلال أطراف الوادي تغطي قعرها لكن ما زال الظلام لم يبسط جناحه على المنطقة حيث الرؤية كانت ما تزال جليّة، وصلوا الوادي وكانت في انتظارهم المجموعة التي سترافق الدليل ومعهم شقيق الدليل أحمد والملقب (أبو ليلى) وكذلك خالد سليمان مع البغال. وحال وصول السيارة مع الحمولات شرعت المجموعة في تحميل البغال وشد الحمولات والانشغال بترتيب أمور السفر، ووزعتْ عليهم بعض الأطعمة للطريق، أما قائد المجموعة (محمد حجي خليل) فقد كان ما يزال في موقعٍ لرصد الحدود مع ناظوره للاستطلاع ومراقبة حركة عناصر الكمائن وأوقات تبديلها ومرور السيارة المسلحة على الشارع الحدودي وكذلك اوقات إضاءة البروجكتر ...وأمور أخرى، أما في الوادي بات كل شيء جاهزاً فيه، لبث الجميع بانتظار عودة الدليل محمد المُكنّى (أبو إحسان) من الاستطلاع.
يتبع.....