أوهام ومخاطر الحديث عن تبلور مفهوم المجتمع المدني في بلداننا


غازي الصوراني
2022 / 9 / 19 - 16:12     

في مشهد الانحطاط الراهن لأنظمة الكومبرادور والعمالة في بلدان مغرب ومشرق الوطن العربي، يصبح الحديث عن تبلور أو تحقق وجود المجتمع المدني في بلداننا، نتاجاً مباشراً لهذا المشهد المنحط، ولعوامله ومحدداته الخارجية المرتبطة بالنظام الامبريالي المعولم، وليس نتاجاً لمعطيات وضرورات التطور الاجتماعي –الاقتصادي-السياسي في بلادنا، إذ أن الحديث عن المجتمع المدني في بلداننا، هو حديث عن مرحلة تطورية لم ندخل أعماقها بعد، ولم نتعاطَ مع أدواتها ومعطياتها المعرفية العقلانية التي تحل محل الأدوات والمعطيات الطبقية والمجتمعية العشائرية والقبلية المتخلفة الموروثة، مثالي على ذلك صارخٌ في وضوحه لمن يريد أن يستدل عليه، فالبورجوازية الأوروبية –التي كانت ثورية في مراحلها الأولى- في عصر النهضة أو الحداثة، جابهت الموروث السلفي اللاهوتي الجامد، بالعقل والعقد الاجتماعي، وجابهت الحكم الثيوقراطي والأوتوقراطي الفردي بالعلمانية والديمقراطية، وجابهت الامتيازات الأرستقراطية والطبقية الاقطاعية والكنسية الدينية بالحقوق الطبيعية، كما جابهت تراتبية الحسب والنسب واللقب بالمساواة الحقوقية والمدنية، بين جميع المواطنين وفق قيم الحداثة ، وخاصة قيم التنوير والعقلانية والديمقراطية والمواطنة والعلمانية ، فأين بلداننا ومجتمعاتنا في مغارب ومشارق الوطن من كل ذلك؟ وأجيب على تساؤلي هذا بما يلي :
ان مجتمعات بلداننا اليوم، هي مجتمعات بلا مجتمع مدني، فطالما كانت بلادُنا في زمنٍ غير حداثيٍّ / حضاريٍّ ولا تنتسب له، بالمعنى الجوهري، فإن العودة إلى القديم أو ما يسمى بإعادة إنتاج وتجديد التخلف سيظل أمراً طبيعياً فيها، يعزز استمرار هيمنة النظام الامبريالي المعولم على مقدراتنا واستمرار استغلاله لفائض القيمة المستحقة لشعوب بلداننا، ومن ثم تزايد أزمات مجتمعاتنا عموما وجماهيرنا الشعبية الفقيرة خصوصاً ، وذلك تكريسا لهدف التحالف الامبريالي الصهيوني في تكريس تبعية بلداننا عبر الحكام العملاء في انظمة الكومبرادور ، لا فرق بين ملك أو رئيس أو أمير أوشيخ ، يساهمون جميعا في تنفيذ الشعار الامبريالي /الصهيوني الذي يتلخص في استمرار احتجاز تطور مجتمعاتنا.
أمام هذا الواقع المعقد والمشوه، وفي مجابهته، ندرك أهمية الحديث عن مفهوم المجتمع المدني وضروراته، ولكن بعيداً عن المحددات والعوامل الخارجية والداخلية، المستندة إلى حرية السوق والليبرالية الجديدة، لأنني أرى أن صيغة مفهوم المجتمع المدني وفق النمط الليبرالي الرأسمالي التابع، فرضية لا يمكن أن تحقق مصالح جماهيرنا الشعبية، لأنها تتعاطى وتنسجم مع التركيبة الاجتماعية-الاقتصادية التابعة والمشوهة من جهة، وتتعاطى مع المفهوم المجرد للمجتمع المدني في الإطار السياسي الاجتماعي الضيق للنخبة الحاكمة ومصالحها المشتركة في اطار تبعيتها وخضوعها لمخططات العدو الامبريالي /الصهيوني.
المسألة الأخرى التي أدعو الى إعمال الفكر فيها، تتمثل في تلك الفجوة بين الإطار الضيق لأصحاب السلطة والملتفين حولها من جهة، والإطار الواسع لجماهير العمال والفلاحين الفقراء وكافة المضطهدين من جهة أخرى، وهي ظاهرة قابلة للتزايد والاتساع والتفاقم، عبر التراكم المتصاعد للثروة، الذي يؤدي –كنتيجة منطقية أو حتمية- إلى تزايد أعداد الجماهير الفقيرة المقموعة والمضطهدة تاريخياً، وتعرضها إلى أوضاع غير قابلة للاحتمال أو الصمت، مما يضعها أمام خيارين: إما الميل نحو الإحباط أو الاستسلام واليأس، أو الميل نحو المقاومة والمجابهة السياسية الاجتماعية/الطبقية الديمقراطية، أو العنيفة، تحت غطاء اجتماعي أو ديني، أكثر بما لا يقاس من ميلها نحو الاقتناع بالهامش الليبرالي وشكله المحدود، للخلاص من وضعها وأزماتها المستعصية.
إن إدراكنا لهذه الفروق الجوهرية، يدلنا على كيفية التعامل مع مفهوم المجتمع المدني، وأية مفاهيم أخرى، وفق خصوصية تطورنا الاجتماعي التاريخي والمعاصر، المختلفة نوعياً عن مجرى وطبيعة التطور في البلدان الغربية الرأسمالية، وما يتطلبه ذلك الإدراك من تحويل في المفاهيم بحيث تصبح مقطوعة الصلة مع دلالاتها السابقة، التي تمحورت فقط عند الإشارة إلى المجتمع المدني كضرورة في خدمة عمليات التنافس الاقتصادي بين الأفراد على قاعدة حرية السوق في إطار الليبرالية الجديدة وآلياتها المتوحشة في نظام العولمة الراهن.
وفي هذا السياق، فإن رؤيتي لمفهومِ المجتمعِ المدني وتطبيقاته في بلادنا، تتجاوز التجزئة القطرية لأي بلد من بلداننا، تتجاوزها كوحدة تحليلية قائمة بذاتها (مع إدراكنا لتجذر هذه الحالة القطرية ورسوخها)، نحو رؤية اشتراكية ديمقراطية قومية تقدمية, تلتزم بمصالح وتطلعات الجماهير الشعبية دون أي تمييز بين من هم من اصل عربي او امازيغي او كردي او نوبي او غير ذلك, على ان تنطلق تلك الرؤية من الضرورة التاريخية لوحدة شعوب هذا الوطن عموما وجماهيره الشعبية خصوصا ، وتتعاطى مع الإطار القومي كوحدة تحليلية واحدة، ثقافياً واجتماعياً وسياسياً، في بنيتها التحتية ومستوياتها الجماهيرية الشعبية على وجه الخصوص.
على أن الشرط الأول للوصول الى هذه الرؤية -الهدف، يكمن في توحد المفاهيم والأسس العامة، الأيديولوجية، والسياسية، والاقتصادية-الاجتماعية، للأحزاب والقوى والفصائل اليسارية الماركسية داخل الإطار الخاص في كل دولة في مشرق ومغرب الوطن على حدة كخطوة أولية، تمهد للحوار حول التوحد المعرفي والسياسي العام الذي يسبق التوحد التنظيمي المستقبلي كضرورة تاريخية، في مرحلة لاحقة، بعد توفر وإنضاج عوامله الموضوعية والذاتية، وذلك بإيلاء الأيديولوجيا أهمية وصلاحية غير عاديتين في المقاربة الماركسية العربية للتجريبي والممكن، فالماركسية في بلداننا -كما يقول المفكر الشهيد مهدي عامل- "لم تكن في جملتها سوى فلسفة أخلاقية للتعبئة، وأنها كانت تبعا لذلك قاصرة عن ان تبدع برنامجها النظري السياسي، من هنا أهمية التركيز على حقل المعرفة كحقل مميز من حقول الصراع الطبقي" , ذلك إن وحدة المفاهيم أو الإطار المعرفي السياسي، ووضوحها لدى الأحزاب والحركات والفصائل اليسارية، ارتباطاً بوضوح تفاصيل مكونات الواقع الاجتماعي- الاقتصادي- الثقافي في كل بلد من بلداننا، ستدفع نحو توليد الوعي بضرورة وحدة العمل المنظم المشترك، وخلق »المثقف العضوي الجمعي بالمعنى الجرامشي عبر الإطار التنظيمي الديمقراطي الاشتراكي الموحد من ناحية وبما يعزز ويوسع إمكانيات الفعل الموجه نحو تحقيق شروط "الهيمنة الثقافية" في أوساط الجماهير الشعبية من ناحية ثانية، وذلك إدراكا منا لهدف جرامشي الحقيقي، أو البعيد، من استخدامه لمقولة الهيمنة الثقافية ، فعلى الرغم من اضافة جرامشي لمفهوم الهيمنة الثقافية وجعله ساحة الصراع الأساسية في المرحلة ما قبل الثورية، إلا أن جرامشي بعيد كل البعد عن إحالة مهمات التغيير على عاتق المجتمع المدني القائمة، ذلك ان الأدوات الأساسية للتغيير التي يجب أن يعمل ويناضل من خلالها، المثقفون العضويون ، هي الحزب الماركسي الثوري من أجل تحقيق الهيمنة الأيديولوجية الكفيلة بإزالة الفرق بين الدولة والمجتمع، من منطلق أن مفهوم المجتمع المدني عند جرامشي، ليس هو مفهوم الاتحادات والجمعيات الطوعية والمؤسسات المدنية القائمة على التواصل العقلاني، على العكس من ذلك، يعتقد جرامشي أن مسألة الهيمنة الثقافية لا يمكن حسمها عقلانياً، وإن الحزب القادر على الهيمنة الثقافية هو الحزب الاشتراكي الماركسي، القادر بمثقفيه العضويين، أي الذين يتحزبون بوضوح لفئة اجتماعية بعينها، على التحول من ثقافة النخبة الى ثقافة الجماهير، وعلى تملك مشاعر الجماهير وأحلامهم، والتحول الى مُركّب من مركبات هويتها الثقافية، والتحول الى "دين جديد" (أو فكر مركزي توحيدي لعموم كوادر وأعضاء الحزب) يزود الناس بمعنى لحياتهم، ويجندهم باتجاه التغيير نحو مجتمع أفضل ، يكون هدف النضال السياسي الديموقراطي و الاجتماعي فيه- من منظور طبقي ماركسي- كسر استبداد الأنظمة الكومبرادورية وتجاوزها واسقاطها، ومن ثم إخراج الجماهير الشعبية من حالة الإحباط والركود، وتفعيل دورها الثوري الذاتي المدرك لوجوده ، كميدان رئيس للفعل الجماعي والارادة الشعبية الخلاقة بقيادة الحزب الماركسي الطليعي الكفيل بتحقيق أهدافها في التحرر والعدالة الاجتماعية والديمقراطية والانعتاق من كافة اشكال الاستغلال والظلم الطبقي ، بما يمكنها من التصدي لمقاومة العدوانية الصهيونية الإمبريالية على بلادنا، وإزاحتها من جهة، في موازاة النضال من اجل التحرر الديمقراطي الاجتماعي الداخلي للخلاص من التبعية والتخلف وتحقيق الديمقراطية وتكافؤ الفرص على طريق تحقيق اهداف الثورة الوطنية الديمقراطية بآفاقها الاشتراكية.
بهذا التصور، يصبح تعاملنا مع مفهوم المجتمع المدني، مرحلياً، وبعيداً عن مفاهيم وشروط نظام العولمة الرأسمالي, وبعيدا ًايضاً عن اساليب وبرامج حرية السوق والليبرالية الجديدة، وبالقطيعة معهما، دون أن نتخطى أو نقطع مع دلالات النهضة ومفاهيم الحداثة في الحضارة الغربية من الناحية المعرفية والعقلانية والعلمية والديمقراطية وجميع المفاهيم الحداثية الأخرى، وتسخيرها في خدمة أهداف شعوب بلدان مغرب ومشرق وطننا الكبير في التحرر الوطني والتطور والبناء الاجتماعي التقدمي بآفاقه الاشتراكية كمخرج وحيد لتجاوز أزمة مجتمعاتنا المستعصية، مدركين أن هذه الأهداف تتشابك وتترابط بشكل وثيق مع الأهداف الإنسانية الأممية بصورة عامة، ومع أهداف الشعوب الفقيرة في العالم الثالث خصوصاً من اجل النضال المشترك صوب إخضاع مقتضيات العولمة لاحتياجات شعوب هذه البلدان وتقدمها الاجتماعي، ومن أجل الإسهام في بناء النظام السياسي العالمي الجديد الرافض لسلطة رأس المال الاحتكاري. لقد حانت اللحظة للعمل الجاد المنظم في سبيل تأسيس عولمة نقيضة من نوع آخر عبر أممية جديدة، ثورية وعصرية وإنسانية.