قيادة الاتّحاد وطاحونة الشّيء المعتاد


إبراهيم العثماني
2022 / 9 / 8 - 22:25     

مقــــــــــــــدّمة:

إنّ المتابع للشّأن النّقابي في الأشهر الأخيرة تستوقفه مفارقة عجيبة غريبة. فبقدر ما تتناول صحف المعارضة مسألة الدّيمقراطيّة النّقابيّة في الاتّحاد العامّ التّونسي للشّغل تلازم جريدة "الشّعب" المؤهّلة قبل غيرها لاحتضان هذا الجدل الصّمت المطبق، وبقدر ما تتواتر الكتابات والنّقاشات والمعارك النّقابيّة على صفحات الجرائد الإلكترونيّة يكتفي علي رمضان المسؤول عن النّظام الدّاخلي بحوارين اثنين في جريدتي" الصّباح" و"الشّروق" تارة للسّبّ والشّتم وطورا للتّضليل والافتراء.

I - محطّات مظلمة في تاريخ الاتّحاد:

وأخيرا دشّن عبد السّلام جراد الحملة بمناسبة عيد الفطر بخطاب ممجوج. تكلّم ويا ليته لم يتكلّم. وهكذا أعاد إلى أذهان النّقابيّين الحملات المسعورة الّتي شنّتها قيادات الاتحاد على مخالفيها في الرّأي والمحتجّين على سيّاساتها النّقابيّة منذ سبعينات القرن العشرين، ووظّف مرّة أخرى جريدة "الشّعب" للتّهجّم على النقابيين، وأكّد أنّ التّاريخ جامد متجمّد في أذهان قيادة الاتّحاد، وأنّ اليوم لا يختلف عن الأمس، و لغة السّبعينات تشبه لغة 2010. ينطبق على هذه القيادة المثل العربي "من شبّ على شيء شاب عليه". ولنا في تاريخ الاتّحاد ما يدعّم كلامنا.
لا نريد أن نستعرض تاريخ الاتّحاد لمعرفة موقع الديمقراطيّة في صلب هياكله وكيفيّة اشتغالها. نريد أن نتوقّف عند بعض المحطّات لنبيّن أنّ قيادة الاتحاد تطبّعت بطباع سيّئة ظلّت تعود إليها كلّما اختلفت مع النّقابيين، وأنّها متخرّجة في مدرسة الحزب الحاكم (الأمناء العامّون الّذين تعاقبوا على قيادة الاتحاد انخرطوا جميعهم في حزب الدّستور باستثناء الطيب البكّوش شأنهم شأن جلّ أعضاء المكاتب التّنفيذيّة) تستعمل أساليبه في مواجهة منتقديها وتوظّف لغة خشبيّة تعلّمتها في مدرسته. وهذه بعض الأمثلة:

1 –تمسّكت نقابة التّعليم الثّانوي بشنّ إضراب حُدّد تاريخه يوم 28 جانفي 1975 دفاعا عن جملة من المطالب المادية والمعنويّة وأصرّت على تنفيذه في التّاريخ المحدّد له. لكنّ قيادة الاتّحاد رفضت ذلك وقرّرت"حلّ هذه النّقابة وإيقاف أعضائها عن كلّ نشاط نقابي وإحالتهم على مجلس التّأديب وذلك طبق الفصل 14 من القانون الأساسي للاتّحاد"( انظر جريدة"الشّعب"، السّبت 1فيفري 1975 ص1) ،وعلّلت موقفها بقولها " أمّا أصل المشكل فهو يتعلّق بتمسّك أعضاء النّقابة العامّة برغبتهم في عودة الأساتذة الّذين حوكموا منذ بضعة أشهر في قضيّة سياسيّة من طرف محكمة أمن الدّولة إلى عملهم رغم إدانتهم من طرف المحكمة والحكم عليهم بالسّجن مع تأجيل التنفيذ" (نفس المرجع ص3).
وهكذا تتماهى لغة الاتحاد مع لغة الحزب الحاكم، ويُدان الأساتذة مرّتين، وتطردهم وزارة التّربية فتزكّي قيادة الاتحاد طردهم، وتصرّ النقابة العامّة على إرجاعهم إلى سالف عملهم فتقترح عليهم قيادة الاتحاد "دخلا محترما جدّا يفوق ما توفّره لهم مهنتهم التّعليميّة"(ص3) [لاحظوا كيف أصبح الاتّحاد وزارة تشغيل !].
ونقرأ في جريدة" الشّعب" لغة عير معهودة من نحو"إنّ قرار الإضراب بعيد كلّ البعد عن أن يكون نقابيّا"، وهذا الاتّجاه"يضع الاتحاد والنّقابة معا في موقف ضعف وينقص من شعبيّة منظّمتنا الّتي نالت احترام الجميع وعرفت بنجاعتها وجدّيتها"(ص3). سبحان اللّه هل تزيد الإضرابات في شعبيّة الاتحاد أم تنقص من شعبيّته؟ ومتى كانت الإضرابات المشروعة مصدر وهن للهياكل النقابيّة؟ أليست الجديّة الحقيقية في تبنّي مطالب العمّال هي الّتي تزيد في شعبيّته؟ أليس الاحترام مقْرونا بالدّفاع عن مصالح العمّال هو مصدر إشعاعه؟ فأيّ منطق يحرّك هذه القيادة؟.
ويضيف بيان الاتحاد عبارات من قبيل "تعنّت النّقابة (اقرأ إصرار النّقابة على إرجاع المطرودين)، وإعلان الإضراب غير الشّرعي (افهم الإضراب الّذي لم تزكّه قيادة الاتحاد)، و"إيقاف كلّ المسؤولين النقابييّن الّذين استمرّوا في موقفهم المنافي لمقرّرات الاتحاد" (ص14) أي الموقف المتمسّك بمقرّرات القاعدة الأستاذيّة والمعبّر عن مصالحها والمتحدّي لسلطة المركزيّة النقابيّة.
وعندما ينفّذ الأساتذة الإضراب تتولّى قيادة الاتحاد دورا يُوكل عادة إلى وزارة الإشراف وصحف الحزب الحاكم ويتمثّل هذا الدّور في تقزيم نسبة الإضراب وإخفاء النّسبة الحقيقيّة للمضربين. وقد جاء في هذا البيان ما يؤكّد ذلك:"ولم تشارك في الإضراب إلاّ نسبة بسيطة منهم في العاصمة وبعض الولايات بينما جلّ الولايات أعلن فيها الأساتذة معارضتهم للإضراب وتأييدهم لموقف الاتّحاد"( ص3).
هكذا تصبح الصّورة معكوسة في ذهن هذه القيادة وتنقلب المفاهيم عندها وتتّخذ الأشياء دلالة جديدة بعيدة كلّ البعد عن الواقع والحقيقة. ومن ثمّ تبتدع قيادة الاتحاد بدعة غير محمودة وتؤسّس تقليدا ستكون له عواقب وخيمة في مسار الاتّحاد، وسيضيق صدر القيادة بالرّأي الآخر مرّة أخرى في منتصف الثّمانينات.

2 –استغلّ جمع من النّقابييّن الاحتفال بعيد الشّغل يوم 1 ماي 1984 للاحتجاج على تجميد أعضاء الهيئة الإداريّة لقطاع التّعليم الثّانوي (وقع التّجميد لأنّ هؤلاء الأعضاء صاغوا لائحة داخليّة ترفض إلغاء المكتب التنفيذي الإضراب المقرّر في الوظيفة العموميّة دون الرّجوع إلى القواعد) فرفعوا شعارات مندّدة بهذا الإجراء رأت فيها القيادة مسّا من هيبتها وتطاولا عليها وعملا يقتضي "تأديبا". لذا كان ردّ فعلها عنيفا جدّا وكانت لغتها متشنّجة ولعلّه لأوّل مرّة يقرأ النقابيّون عبارات من قبيل"لا مكان للغوغائيين في الاتّحاد"،" الفئويّة الضيّقة"،" التّصدّي لكلّ ما من شأنه أن يمسّ بسمعة الاتّحاد" ("الشّعب" الجمعة 14 ماي 1984 ص1).
وتحفل جريدة" الشعب" بمعجم من هذا القبيل ونجد سيلا هائلا من النّعوت المشينة والمهينة يلصق بالنقابيين، وتتجلّى لغة التّحريض قويّة والشّحن والعداء واضحة جليّة والتّجنيد على أشدّه لمواجهة حرب ضروس و"الوقوف بكلّ حزم أمام الهجمة العدائيّة الشرسة..."، وتتواتر لغة التّخوين والتّآمر وتحويل جزء من النقابيين إلى مندسّين وأعداء للاتّحاد، ونقرأ كلاما من نوع "مجموعات من الأنفار المتنرفزين"، و"كأنّهم هنود القارّة الجديدة" و"الهمجيّة"(ص1)، و"مؤامرة دبّرت مسبّقا لضرب الاتحاد من الدّاخل وتطويع قيادته الشّرعيّة"و"الاعتداء على الطّبقة الشغيلة وطمس أعزّ مكاسبها" (ص 15).
إنّ ما يلاحظ هو القدرة العجيبة لهذه القيادة على تهويل الأحداث ووضع الاتحاد في موضع الضّحيّة الّتي تحاك ضدّها المؤامرات والدّسائس وإخراجه في صورة الحمل الوديع الّذي لا حول ولا قوّة له أمام مارد جبّار، وشيطنة النقابيين الذين يحاربون القيادة / الملاك. وهكذا ينقسم النقابيّون بين عشيّة وضحاها إلى فريقين متعاديين ويصبح الاتّحاد حلبة صراع وساحة حرب.

3 – وتضرب قيادة الاتحاد موعدا جديدا مع الغطرسة والعنجهيّة في تسعينات القرن العشرين ويزجّ أمينها العام إسماعيل السّحباني بنقابيين في السّجن لأنّهم طالبوا بعقد مجلس وطني لمناقشة قضايا الاتحاد الدّاخلية ومحاسبة القيادة على ماليته وممتلكاته (سجن منجي صواب ورشيد النجار والجيلاني الهمامي وأحمد بن رميلة في شهرأفريل 1997). ومن ثمّ أصبح مجرّد طلب بسيط يقود صاحبه إلى السّجن، ويؤكّد هذا الصّنيع الغياب التّامّ للممارسة الديمقراطيّة والتسلّط المطلق للقيادة. وقد أثبتت الأحداث فيما بعد صحّة مطلب النقابيين إذ زجّ بالأمين العام في السّجن لاختلاسه أموال الاتحاد. وهكذا أصبح للنقابيين، في كلّ عشريّة، موعد مع ضرب الممارسة الديمقراطية وافتعال سيناريو لتبرير التجاوزات الخطرة...

4 – وفي الأشهر الأخيرة طُرحت مسألة الديمقراطية النقابية من جديد ممثّلة في التّمسّك بالفصل العاشر من النّظام الدّاخلي الّذي يقصر التّرشّح إلى المكتب التنفيذي على دورتين. وأعدّ اللّقاء النقابي الديمقراطي المناضل أرضيّة أمضى عليها عدد كبير من النقابيين دعوا فيها قيادة الاتحاد إلى احترام إرادة المؤتمرين في جربة (2002) والمنستير (2006) وحذّروا من مغبّة الانقلاب على مقرّرات القواعد فكان ردّ قيادة الاتّحاد كالآتي:

II - الأمين العام للاتّحاد والهروب إلى الأمام:

ارتأى عبد السلام جراد الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشّغل أن يتفاعل مع هذا الحدث بالطّريقة المعتادة أي الهروب إلى الأمام وتحويل وجهة الجدل. فالمناداة باحترام الديمقراطيّة النقابية أصبحت بالنّسبة إليه إرباكا لعمل القيادة[وكأنّ عملها لم يكن مربكا منذ عقود ؟ ! ]، والنّقابيّون الّذين بلوروا هذه الأرضيّة أصبحوا فاشلين [الآن فقط تفطّن لفشلهم !!]، والحديث عن واقع الاتحاد المنخرم أصبح حديث مقاه[فهل تريد القيادة أن تغلق أمامهم المقاهي بعد أن أغلقت في وجوههم جريدة "الشعب"] وتشخيص أزمة الاتحاد هو حديث مزايدات وافتراء [وكأنّ القيادة هي وحدها تملك الحقيقة وتتّصف بالنّزاهة]، والإصرار على التمسك بالفصل العاشر هو محاولة ولدت ميتة[ترى ماذا تعدّ قيادة الاتحاد للانقلاب على النّظام الدّاخلي ووأد هذه المبادرة؟](انظر جريدة "الشّعب"بتاريخ 18/9/ 2010 ص2).
ويبدو أنّ قيادة الاتّحاد تفكّر في بعث ميليشيا "لردع" المنادين بضرورة احترام النّظام الدّاخلي وإلاّ ماذا يعني عبد السلام جراد بقوله:" إن ّللاتحاد أبناء يغارون عليه ويعملون من أجل تطوير آدائه"("الصباح" 22/9/2010 ص4). أليس النقابيّون المناهضون للنّهج البيروقراطي المقيت والممضون على العريضة هم أكثر النّاس غيرة على الاتّحاد ودفاعا عن الديمقراطية النقابية في صلبه وتمسّكا باستقلاليته تجاه السّلطة الحاكمة؟ ومتى كان المتملّقون للقيادة والمتشبّثون بتلابيبها مخلصين للاتحاد ويغارون عليه؟ وهل تقاس الغيرة بالولاء للقيادة أم بالولاء للاتحاد وحمايته من التّجاوزات والخروقات؟
إنّ هذه الأمثلة تؤكّد أنّ قيادات الاتّحاد لا تقارع الحجّة بالحجّة ولا تدحض آراء المختلفين معها رأيا رأيا بل تجنح دوما إلى استعمال اللّغة المتشنّجة وتوظيف النّظام الدّاخلي وجريدة"الشّعب" وهذا دليل على أنّها لا تؤمن بالديمقراطية النقابية بأي شكل من الأشكال، ولكنّ الفرق بين الأمس واليوم هو التجنّد المبكّر لجزء معتبر من النقابيين للدّفاع عن الاتحاد قولا وفعلا وقطع الطّريق أمام مناورات القيادة وهو ما أربك حساباتها وألجأها إلى التوعّد والتّهديد.

خاتمة:

إنّ الديمقراطيّة النقابية لن تتكرّس في الاتحاد العام التونسي للشّغل إلاّ على أنقاض العناصر المتنفّذة الّتي حوّلته إلى ملكية خاصة وهيكل خاو تنخره كلّ أمراض المجتمع التّونسي وأفقدته إشعاعه وبريقه ودوره. وفي الحقيقة إنّ دور الاتحاد ليس الاصطفاف وراء السّلطة الحاكمة وتزكية مشاريعها السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصادية والتّغنّي بنجاحاتها الوهميّة بل هو التبني الحقيقي لقضايا العمال والمطالبة بتنمية جهوية عادلة وتكريس استقلالية الاتحاد والدفاع الفعلي عن الحريات الفرديّة والعامة...
2010