شـيء من الهذيـان المعقـلن


الطايع الهراغي
2022 / 9 / 8 - 11:50     

ا
الإهــداء: إلى من قد يجد في هذا النّصّ بعضا من ذاته وجزءا من فورة عقله لمّا يهذي.
انفلات المعنى إلى غريب المعنى. فهو إلى الهذيان أقرب ، إن لم يكن هو الهذيان. الهذيان عندما ينتظم ليعانق المعنى المغنى. والأعجب فيه اقتناعه بأن يكون هذيان العاقل، خطرفة الحالم، العناد لمّا يصبح لتوأمه رفيقا ولصنوه أنيسا، ولحبّه منادما ومناجيا، وبحبيبه منتعشا في ليلة فرح دام.
كلّ الذي وقع هكذا وقع. أفنيت شطرا من عمرك تروّض شكيمة عناد تعلّم من التّاريخ ومكره كيف يراوغ من يسعى إلى أسره. كان رهانك أن تفلح في إلجامه. فما وجدت إلى ذلك مسلكا. كلّما خلت أنّك امتشقت أسواره تسلّل كحبّات الرّمل،انتفض كعصفور تخلّص من أسر القفص وطار . خاب مسعاك أو هكذا خيِّـل إليك فداريت فشلك بأن انتشيت بذلك مكابرة أو اقتناعا. المهمّ أنّ ذلك ما حصل.
في الشّطر الثّاني من سباق المسافات البعيدة، ذات الانحناءات المغرية بتشعّبها والتواءاتها استملحت ما ارتضاه عقلك العنيد. وأقسمت أن تؤلّف من الهذيان عالما من بديع الحكاي ورائع المؤانسات .
لا ترتبك . لا تبتئس. لا ترتعب. لا تترك مجالا للظّنون لتطوّح بك في عسير الاحتمالات. فما كلّ هزيمة بهزيمة. ألم يأتك حديث الهزائم الجميلةّ؟؟ فلا تخجل إذن إذا ما هزمتك امرأة أو تطاولت عليك فكرة. ولِــمَ لا تعتــزّ بذلك جهرا وإعلانا فتنال من كبرياء أعداء المرأة، ويكون الأمر قهرا لأعداء الفكرة ؟؟ ليكنْ. ولتكن هزيمتك - التي هي لك نصر- إيذانا باحتفال سيكون غريبا ولا شيء يحول دون أن يكون عجيبا. فهذه وتلك بفنون المراودة منك أعلم وبأغوارها منك أدرى . فلا سرَّ في المرأة إلاّ في كونها على السّرّ تتكوّم وتواريه في رموش عينيها فيصبح في محراب جنونها أسيرا . أمّا الفكرة فأمرها عجب أعجب، تماما كالحسناء يتوهّم الغفّل أنها تنقاد بمليح القول وغزير المديح. وما دروْا أنّ الغواني – على خلاف المألوف من مأثور الكلام- لا يغرّهنّ الثناء ولا ينال الواحدة منهنّ إلاّ من قرّرت هي أن تنام على راحتي كفّيه و تعلن عليه الحرب بأن تبادله إغواء بإغواء .
الفكرة- ككلّ شيء جميل- كثـرٌ طلاّبها، يتيم من خبر سحرها وغاص في مجاهلها. داؤها أنّ الكلّ بها يدّعي وصلا. ولكنّها أبدا ربّة الجمال في عرشها منيعة، يعـزّ عليها أن تسلّم أمرها لمن ليس منها. كالحكمة يراها الجميع بدعة عصيّة وهي معشّشة في أفواه البسطاء. كالحقيقة إذا لم تجد عقلا يأويها وعاقلا يحتضنها تهجر المدينة ومنها تتسلّل لترابط على أسوارها تصون رونقها، .
خاتلْ الفكرة على نفسها. ودعها تختبر بدائع التّمنّع وشهوة الالتياع. فهي في صحوها تغفو لتكتوي بما اعتقدت دوما أنّه خدش لحياء منْ في خلواتهم يمّحي كلّ حياء . لا ترجمْها بما صدّقت يوما في لحظة زهو وأنت في غاية الانتشاء أنّه حلّك وترحالك. أنّى لها أن يطوف بخيالها ما لا تعلم ممّا تعلم؟؟. اعتلِ صهوة العناد ، جالسه ،كن له نديما. ولا ترتعدْ عندما يركبك جنون السّفر ويداهمك هوس التّرحال، في لحظة ما عليك أن تنسى أمرا اسمه الحذر. ستفتح لك الرّحلة ذراعيها، تحتضنك. تقودك إلى مجاهل يحلو لك أن تدّعي أنك بمغاورها عليم وبعسر مآلتها خبير. ولمّا عليك تطول الثّنايا
وتتشعّب يسكنك الشّكّ وتتمرّغ بين ظنّ قاتل ويقين باهت.تغرف من مخيّلتك ما سلّمت بأنّه سلاحك في مغالبة وعر المسالك: أن يكون ارتيابك تبديدا ليقين واهم.
تعجبك الفكرة لأنّها صرعتك وتطاولت على كبريائك وشكمت غرورك،فليس إلاّ أن تمتشقها، تتوسّدها، تتعشّقها، تفتتح معها السّهرة من أوّلها، تشنق رغبتك بجنون ضفائرها، تحتضنها بشبق .تخلد الفكرة لإغفاءة هي الدّهر في سكونه واتّساعه، فتكون وقودا للهيب خيال يقتحمك و يفتنك جموحه. لا تدري إلى يوم النّاس هذا كيف اختلطت عليك صورة المرأة البهيّة وجمال المعنى العصيّ وهو يكابد شرود سحر المغنى. روعة الأنثى والتهابها ساعةَ تمتلئ بالرّغبة الجامحة في امتلاك اللّحظة ويسكنها جنون اعتصار الزّمن حتّى لا يفلت منها، وهي تغالب الاشتهاء. تلجمه طورا ويغلبها لما يتولّى هو أمر مغازلتها .هدير الفكرة وانسيابها لمّا تسبح في ملكوت البحث عن هذا الذي سهر الخلق جرّاه واختصموا فما ظفروا بغير ظنّ وحدس وبعض يقين، عوض أن يطمئنك يدفعك إلى مزيد الشّكّ في ما كنت ارتحت إليه يوما .
ماذا بقي؟؟ لا شيء. وكلّ شيء، كأن تموت شبقا ،أن يسكنك أمل أن توحّد بين الإثنين، المرأة والفكرة. هذه تلهمك حنينا دافئا منسابا لتذوب فيها وفيك تذوب .وتلك تدثّرك ببرد اليقين تلتحف به لتتّقي هجمات الشّكّ وعربدات الظّنّ وغزوات الخوف من الضّياع في مـرفإ التّوقّع . هذه تقسو عليك، تعتصرك، ترهصك، تريد أن تتملّكك .وتلك تلاطفك كلّما قسوت عليها. تحتلّك لمّا تهمّ أن تصرعها لتكون أنت. كأنْ لا سبيل إلى تعايش الضّدّين. هكذا علّموك: الخطوط المتوازية محكوم عليها أن لا تلتقي. احتمال يتيم، ستظلّ دوما متوازية حتّى لا تفسد القاعدة . والأضداد كُتِــب عليها أن ينهشها التّنافر فلا تتعايش. وإن فعلتْ – كسرا لعادة وإفسادا لقانون- ففي ما هو أشنع من تنكيد الضّرائر.
جميلة تنكيد الضّرائر هذه. تصلح أن تكون عنوانا لفصل من فصول رواية عابثة يحلو لها أن تسلّم مقودها لغريب أحداثها وعبثيّة أبطالها وغريب أطوارها في ما يرُوى عن حيل النّساء وعذاباتهنّ في التّنكيل بصلف الرّجال. ويملي عليها منطقها أن تكفر بمن سيظلّ يصرّ على أنّها من بنات أفكاره . به تتبرّم ومنه تجفل وإلى تفاصيل عربداتها تمضي.
يتبرّم بك ويلعنك هذا الدّماغ الذي تخيّلت أنّك شكّلته كما تريد فأجرمت في حقّه يوم حاصرته بالغريب من التّأويل وأقنعته بتطليق الإطلاقيّة وامتحان الفكرة،
على أن يكون ذلك في غبش اللّيل- لا في عزّ القيلولة- لمّا تعمّ السّكينة وتتفتّق الأحلام وتجنّح الآفاق.
من أغراك؟؟ من أعلاك فوق عرش الكلام؟؟ .انسَ السّؤال. دعك من جاهز الإجابات. طلّقْ كلّ ضروب الأجوبة ولا تلهث كثيرا خلفها. فكم مرّة قلّبتها على وجوهها السّبع، تهت في أبعادها، وما أفلحت في جعلها بديلا عن سؤالك الأبديّ؟؟ كم استبدّت بك الأفكار؟؟ كم مرّة أنهكتك الفِكر وأنت تروم أن ترتّب فوضاها بحثا عن خيط ناظم، أن تبدد ما بدا لك غموضا غامضا حدّ الوضوح ؟؟ وما دريت أن لا داء للفوضى إلاّ في تنظيم الفوضى وانتظامها.
في بياض الفكرة ووضوحها الغارق في الغموض نجاتك.وفي غموضها الملتبس كلّ عذاباتك.
ذات يوم، بدون إعداد مسبق، بإهمال مبالغ فيه لما يلزم من احتياطات تحتّمها ساعة بعينها، في مغالبة لمكر الزّمن ومخاتلته وصلفه ، ودّعت أحبّة وأصدقاء وشبه رفاق. كنت تدري أنّ اتّصال البعد وطول العهد سيحول دون أن تتنسّم شتاتا من أخبارهم . الغريب أنّ الأمر تمّ بشكل عاديّ تماما. فلا حزن اعتراك ولا ارتعاشة داهمتك ولا سؤال جال بمخيّلتك. فقرّرت أن تتناساهم لكي لا تنساهم ليكون للوفاء طعم وللوعة الفراق ومأساويّته التذاذة. ضرب من التّفلسف؟؟ ربّما. مجابهة عبث بعبث؟؟ قد يكون. مجابهة ما قد يكون رتِّب في حياتنا بشكل خاطئ بوجه من وجوه العقاب هو بالامتحان الصق، بموّال نوّاسيّ "داوني بالتي كانت هي الدّاء". كلّ شيء إلى ذلك يحيل.
عهد قطعته على نفسك بديلا عن اتّصال ضنين وشوق دفين . وكان ما كان وما يجب أن يكون.
ذات ساعة من ذات فجر من ذات سنة قمريّة حصل ما كان يجب أن لا يحصل. أن يرحل أبوك، هذه مسالة لا يحكمها العقل. حضر من كان لزاما عليه أن يحضر، ولم يتغيّب من كان يجب أن يتغيّب.ومع ذلك – وربّما لذلك- لم تصدّق أنّه حقّا رحل. في مدّة وجيزة وأنت ترتّب شتات أفكارك خبا التّخيّل وانتصب حقيقة .هو فعلا لم يرحل .
أعجبتك الفكرة وفتنتك .فغصت في لهيب حياتك وخضت ما تيسّر ممّا فرضته عليك الحياة. فكأنْ لا شيء وقع.كأنْ لم تودّع حبيبا ،ولم يغب عنك عزيز. أبوك هو الآخر حبّا فيك ولك راقته الفكرة،رحل وعنك ما رحل. فعشّش في ثنايا هذه المخيّلة العجيبة وأبى أن يهجرها أو عنها ينفصل. وأطلق لها العنان كي تسكنك فتمقتك فتجد كلّ المتعة في أن لا تنسى شيئا.
رحلتك مع متعة التّذكّر والافتتان بعذاباته حكاية أخرى "من حكايات هذا الزّمان" جعلت منك بشرا سويّا، يجزم أعداؤه- على خلاف أصدقائه- أنّه يمتلك ما به يختلف عن الآخرين. يسبح في التّفاصيل وفيها يفنى، ومنها يتزوّد ليؤثّث ما به يجابه حالكات الأيّام، ومن عجيب أمره أن ينام ويصحو على التّفاصيل دون أن تصرعه التّفاصيل.
في اللّيل الأليل لمّا يختلي بك الوجد في بعض مسامراتك، وبك يستبدّ، وتُفتتح جلسة الحساب وتنتصب محكمة "حفلة" التّحرّي العسير يخطر لك بدون موجب أن تتعرّى. لا أحد أغراك. ولا أحد أرغمك .لا أحد. لماذا إذن يغريك التّعرّي؟؟ دعك من تهويمات الفلاسفة ورحلة بحثهم عن الطّهوريّة والتّطهّر. فلا هذه. ولا تلك. ولا هم يحزنون. الأمر أبسط من تعريف الماء بأنّه ماء. أنت تتعرّى فقط لكي لا تترك مجالا للآخرين كي يتناوبوا على نهش جلدك ويجعلوا من تفاصيل لا تعني أحدا غيرك موضوعا لمسامرات ماجنة فيها من غريب الغريب ما يجعلها لوحة هي مزيج من قبح جميل وجمال قبيح.
الحياة،، الكلبة بنت الكلب هذه. حسناء تعرض عليك مفاتنها،وعندما تهمّ أن تمسك بها عنك تزورّ فتلعنها عشرا وبها تزداد هياما. امرأة حرون همّها أن تعجنك كما تريد هي وتشتهي لا كما تريد أنت. كم مرّة - لمّا عنّ لها أن تلفّك بفيض حنان- ترجّتك أن تقرأ ذاتك بعينيها لا بعينيك، علّك تهتدي إلى مجاهل أنت بالتّأكيد عنها غافل؟؟. الكلبة بنت الكلب خبيرة بشؤون النّاس ملمّة بجوهر كلّ الفلسفات. منها تعلّمت أن لا تتسوّل من أحد – كائنا من كان- مددا. علّمتك أّنّ يوما ليس لك فيه أمر لا تعدّ ساعاته حتّى لا تموت قبل أن تموت، وشهرا ليس لك فيه شأن ليكن كأن لم يكن. اشطبْه من سجلّ أيّامك.ولا تكن به رحيما. تهمس لك في أذنك - اليسرى تحديدا- أن لا وقت لك لتذكّر الأسماء. وهل انشغلت عن أصحابها ساعة حتّى تكون بحاجة لتذكّرهم؟؟. الأسماء رابضة في تضاريس حياتك تراقبك حتّى لا يداهمك أمر نسيانها.