دور الفرد في التاريخ 2-2


نجيب الخنيزي
2022 / 9 / 6 - 13:38     



على صعيد الدراسات والأطروحات الغربية حول التاريخ نشير إلى أطروحات الفيلسوف الألماني الشهير هيجل حول ارتباط مفهومه الجدلي ( الديالكتيكي ) بفلسفته التاريخية ، من خلال كتابين هما :
1- محاضرات في فلسفة التاريخ، المجلد الأول، "العقل في التاريخ"
2- محاضرات في فلسفة التاريخ، المجلد الثاني، " العالم الشرقي "
المجلد الأول يعتبر المدخل النظري لفهم فلسفة التاريخ عند هيجل، أما المجلد الثاني فيعد التطبيق التاريخي العملي لفلسفة هيجل التاريخية .
و يشير ويل ديورانت في كتابه الشهير" قصة الفلسفة "
"إن التاريخ - عند هيجل - حركة منطقية (جدلية)، وهوفي الغالب سلسلة من الثورات، يستخدم فيها "المُطْلَق" الشعوب إثر الشعوب والعباقرة إثر العباقرة أدوات في تحقيق النمو والتطور (نحو الحرية) إن هذه العملية المنطقية (الجدلية) في سير التاريخ تجعل من التغيير مبدأ الحياة الأساسي؛ إذ لا شيء خالد، وفي كل مرحلة من مراحل التاريخ يوجد تناقض وتعارض لا يقوى على حله سوى صراع الأضداد والتاريخ هو نمو نحو الحرية وتطورها "
من جهته أشار برتراند رسل في كتابه " تاريخ الفلسفة الغربية " إلى تقسيم هيجل المراحل التي مر بها الروح في سيره نحو الحرية إلى ثلاث مراحل
1-الحضارات الشرقية القديمة؛ الصينية والهندية والفارسية والفرعونية، وهذه المرحلة تتميز بأن المواطنين جميعًا كانوا عبيدًا للحاكم، وينفذون مشيئته، وهذا الحاكم هو وحده الحر .
2-أما المرحلة الثانية، فتمثلها حضارة اليونان والرومان، فقد اتسع نطاق الحرية عما كان عليه عند الأمم الشرقية القديمة، فقد كان بعضهم أحرارًا وليس الحاكم فقط، وهؤلاء الأحرار هم المواطنون اليونان والرومان، أما الأمم الأخرى فقد كانوا ينظرون إليهم على أساس أنهم برارة وهمج؛ ولهذا اتخذوا من أَسْراهم عبيدًا لهم.
3- أما المرحلة الثالثة فيرى هيجل انها تتحقق في " الأمم الجرمانية " فهم أول الأمم التي تصل إلى الوعي بأن الإنسان هو إنسان حر، فالروح الألماني هو روح العالم الجديد " ويعلق رسل على ذلك بقوله " لقد بلغ تمجيد ألمانيا حدا يجعلنا نتوقع ان نجدها التجسيد النهائي للفكرة المطلقة التي لا يمكن بعدها أن يحدث تطور أبعد " وهو ما يمثل في الواقع نقيض الفكر الجدلي لهيجل حول رفض الثبات وأنه لا شيء خالد ، والتأكيد على قانون الحركة والصراع والتناقض وحتمية التغيير الدائم.
حول دور الفرد في التاريخ ذكر هيجل في كتابه " فلسفة الحق" ما يلي " إن الرجل العظيم في العصر هو الذي يستطيع أن يعبر عن إرادة عصره في كلمات ويخبرعصره ما هي إرادته وينيرها. ما يفعله ، هو قلب وروح عصره، إنه يحقق عصره" .
أما الدكتور ليفيس فقد تطرق إلى الموضوع بشكل مقارب لهيجل وذلك في كتابه " التقليد العظيم" بقوله " إن الكتاب العظام تبرز أهميتهم من خلال تشجيعهم للوعي الإنساني.. إن الرجل العظيم يمثل على الدوام، إما القوى الموجودة أو قوى يساعد في خلقها عن طريق تحدي السلطة الموجودة "
ويورد المؤرخ الانجليزي الشهير إدوارد كار في كتابه الهام " ما هو التاريخ" العبارة التالية " يبدو أن أعلى درجات الخلق يمكن أن تمنح لأولئك العظماء على غرار كروميل (قائد الثورة الانجليزية في عام 1648) الذي ساعد على قولبة القوى التي حملتهم إلى العظمة وليس مثل نابليون أو بسمارك الذين ساروا إلى العظمة على ظهر قوة موجودة أصلا، ومضيفا: إن ما يبدو لي بأنه جوهري هو أن نجد في الرجل العظيم فردا بارزا والذي هو نتاج للعملية التاريخية ومساعد لها في نفس الوقت، وهو في نفس الوقت ممثل القوى الاجتماعية التي تغير شكل العالم وأفكار الرجال"
كارل ماركس طرح مفهومه المادي للتاريخ ( المادية التاريخية ) ويحدد منهجه العوامل الرئيسية الخفية التي تحدد تطور المجتمع البشري ابتداء من المجتمعات ( المشاعية ) البدائية القديمة ، وحتى العصر ( الرأسمالي) الحديث .
في كتابه " الأيدلوجية الألمانية " يذكر ماركس " إن المقدمة الأولى لكل تاريخ بشري هي، بالطبع، وجود أفراد بشريين أحياء. ولهذا فإن الواقع الأول الذي تجدر ملاحظته هو التنظيم الجسدي لهؤلاء الأفراد وعلاقتهم ببقية الطبيعة ... يمكن تمييز الناس عن الحيوانات بالوعي وبالدين، أو بأي شيء آخر تريده. وهم أنفسهم يبدأون في تمييز أنفسهم عن الحيوانات ما أن يبدأوا في إنتاج وسائل العيش الضرورية لهم، وهي خطوة مشروطة بتنظيمهم البدني. إن الناس، إذ ينتجون وسائل العيش الضرورية لهم، ينتجون بطريقة غير مباشرة حياتهم المادية بالذات "
كما استعرض في كتابه " نقد الاقتصاد السياسي" العلاقة بين القوى المنتجة و البنية الفوقية على النحو التالي " خلال انتاجهم الاجتماعي لوجودهم يدخل الناس في علاقات محددة ضرورية ومستقلة عن ارادتهم ، علاقات انتاج تتفق مع درجة التطور المحدد لقواهم المادية الانتاجية… إن نمط الانتاج المادي هو الذي يحدد ويشترط سيرورة الحياة الاجتماعية والعقلية عامة. ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم وإنما العكس، وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم".
و في كتابه " الثامن عشر من برومير لويس بونابرت " يشيرماركس " إن الناس يصنعون تاريخهم بأيديهم، لكنهم لا يصنعونه كما يحلو لهم ، إنهم لا يصنعونه في ظل ظروف يختارونها بأنفسهم، بل في ظل ظروف قائمة بالفعل، ظروف ورثوها ونقلوها من الماضي. إن تقاليد جميع الأجيال الميتة تثقل مثل جبال الألب على أدمغة الأحياء .." .
في سياق متصل جاء في كتاب " لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية " لفردريك انجلز مايلي " يصنع الناس تاريخهم الخاص، أيا كانت نتائجه، عبر سعي كل واحد منهم، بشكل واع، وراء غاياته الخاصة. إن حصيلة هذه الرغبات المتعددة، التي تعمل في اتجاهات مختلفة، وآثارها المختلفة على العالم الخارجي هي بالضبط ما يشكل التاريخ" .
و ضمن هذه الرؤيا أشار انجلز في كتابه " الاشتراكية الطوباوية والاشتراكية العلمية " للمبادئ الأساسية للمادية التاريخية : إن المفهوم المادي للتاريخ يبدأ من الافتراض بأن إنتاج الوسائل الضرورية لدعم الحياة البشرية، إلى جانب الإنتاج، تبادل المنتجات، هو أساس كل البنى الاجتماعية؛ وأنه في كل مجتمع ظهر في التاريخ، تعتمد الطريقة التي يتم بها توزيع الثروة وتقسيم المجتمع إلى طبقات أو أنظمة، على ما يتم إنتاجه وكيف يتم إنتاجه وكيف يتم تبادل المنتجات. ومن وجهة النظرهذه فإن البحث عن الأسباب النهائية لجميع التغييرات الاجتماعية والثورات السياسية لا ينبغي أن ينكب على أدمغة الناس ولا في اعتقادهم بالحقيقة والعدالة الأبديتين، بل ينبغي أن ينكب على دراسة التغييرات في أنماط الإنتاج والتبادل"
المفكر الروسي الماركسي المشهور بليخانوف أورد في كتابه " دور الفرد في التاريخ " إن الرجل العظيم يعد عظيما لا لأن صفاته الشخصية تطبع الأحداث التاريخية بطابعها الخاص بل لأنه يتحلى بصفات تجعله أقدر من الآخرين على الاستجابة للضرورات الاجتماعية العظيمة في عصره. تلك الحاجات التي تتأتى عن الأسباب العامة والخاصة.
الأنموذج الكامل للتفسير المثالي للتاريخ من وجهة نظر بليخانوف يرجع إلى " هيجل" فالرجل العظيم، في نظره كما في نظر " اشبنجلر" الذي يحذو حذوه في هذا الشأن ليس نتاج الأحوال المادية أو الاجتماعية أو البيولوجية بل أنه في المقام الأول تعبيرعن"روح" العالم في زمنه أو أنه " روح" حضارته، والرجال العظام لا يصنعون التاريخ ويكيفونه إذ تستدعيهم " الأزمنة العظيمة" ، أما الأزمنة العظيمة فهي تلك الفترات الانتقالية التي ينهض فيها الجنس البشري من مستوى ما من مستويات الحريات والتنظيم إلى مستوى غيره، ولم يكن انتصار يوليوس قيصر انتصاراً شخصياً بل كان حافزاً لا واعياً هو الذي هيأ تحقيق ما كان قد نضج الزمن من أجله. وهذه هي حال جميع الرجال التاريخيين العظام الذي تنطوي أهدافهم الخاصة على تلك القضايا الكبرى التي هي إرادة روح العالم.
و يعلق بيخانوف على عبارة كارل ماركس " إن الناس يصنعون تاريخهم الخاص ضمن شروط يجدونها سابقة لهم ومعطاة وموروثة من الماضي" بقوله صفحتان أمام الإنسان في مواجهة التاريخ: الشروط الموضوعية التي صنعت الإنسان في فترة معينة من التاريخ وصفحة الإنسان الصانع ـ المطور لهذه الشروط، طبيعة مطبوعة وطبيعة تترك طابعها وميسمها .
مما تقدم نستطيع تلمس دور القيادات التاريخية البارزة في الماضي والحاضر، في صنع التاريخ بالارتباط بالمعطيات الموضوعية بتجلياتها التاريخية و السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنفسية ، وعلى صعيد بلادنا نستحضر هنا الدور التاريخي البارز للقائد المؤسس لكياننا الوطني ، وللدولة المركزية الموحدة الملك عبدالعزيز آل سعود ، الذي مثل بشخصيته التاريخية الفريدة والمميزة ، ضرورة واستجابة ذاتية للمتطلبات والشروط الموضوعية في تجاوز المعوقات التاريخية لحال الفرقة والتجزئة والإحتراب والعزلة والتخلف السائد على مدى قرون في القسم الأعظم من الجزيرة العربية .
# من مقدمة مسودة كتابي شخصيات وأحداث في وهج التاريخ