المنظور الماركسي لمفهوم التحرر الوطني وسبل خروج الحركات التقدمية العربية من أزماتها الراهنة


غازي الصوراني
2022 / 9 / 3 - 20:44     


في هذه اللحظة الفارقة غير المسبوقة من حيث انحطاطها في تاريخنا العربي القديم والحديث والمعاصر، تتجلى فيها وتترسخ أبشع مظاهر التبعية والتخلف والاستبداد والاستغلال الطبقي والصراع الطائفي الدموي؛ جنبًا إلى جنب، مع تزايد السيطرة الإمبريالية الصهيونية على مقدرات وثروات شعوبنا، بالتعاون المباشر من العملاء الكبار والصغار ممن يطلق عليهم أمراء وملوك ورؤساء لا هَمَّ لهم سوى مراكمة الثروات لحساب مصالحهم الشخصية على حساب دماء الاغلبية الساحقة من شعوبنا.
 كما ويتجلى أيضًا في هذه اللحظة مفهوم التحرر الوطني والقومي الهادف إلى بلورة وتجسيد حركات وطنية وقومية تقدمية في كل أرجاء الوطن العربي، ليس من أجل النضال التحرري الوطني الهادف إلى مقاومة وطرد العدو الأمريكي الصهيوني، فحسب، بل أيضًا من أجل تفعيل النضال والصراع الطبقي الثوري من منظور ماركسي لإسقاط أنظمه التبعية والتخلف وتحقيق أهداف الثورة الوطنية الديمقراطية بآفاقها الاشتراكية في بلادنا.
لقد نشأت الماركسية وتطورت في القارات الثلاث؛ آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، في المرحلة الإمبريالية، حيث كانت هذه القارات خاضعة للاستعمار بأشكاله المختلفة؛ الأمر الذي فرض استنباط أشكال متنوعة لمقاومة الاستعمار من أجل التحرر الوطني والاستقلال.
وهكذا وجدت دول حركة التحرر الوطني نفسها بعد الاستقلال أمام مجموعة ملحة من المهام: الدفاع عن الاستقلال السياسي وتوطيده، والنضال من أجل الاستقلال الاقتصادي من خلال استكمال السيادة على الموارد الاقتصادية والطبيعية وإلغاء نفوذ الاحتكارات الرأسمالية العالمية، وتحقيق علاقات اقتصادية عالمية متكافئة، والتغلب على التأخر الاقتصادي وبناء اقتصاديات وطنية مستقلة، والقيام بإصلاحات زراعية تستهدف الحد من الملكيات الكبيرة ومن الفوارق الاجتماعية الضخمة، وإقامة حياة سياسية ديمقراطية تستهدف تشجيع المبادرات المستقلة لجماهير الشعب والاستفادة القصوى من مساهماتها البناءة، والقضاء على الأمية، وتطوير شؤون التعليم والثقافة الوطنية.
ومن الواضح أن المهمات، الموصوفة أعلاه، قد طرحت في بلدان القارات الثلاث أهدافًا ذات طابع وطني ديمقراطي تَوَجَّه نحو تصفية إرث السيطرة الاستعمارية الطويلة المتمثل بالتأخر الشامل، والاستغلال الاقتصادي، والتبعية للنظام الرأسمالي العالمي، وكذلك نحو إزالة علاقات الإنتاج ما قبل الرأسمالية.
الماركسية والتحرر الوطني[1] : لقد مرَّت العلاقات الإشكالية بين الماركسية والتحرر الوطني بثلاث مراحل: أولها، مرحلة الماركسية الكلاسيكية. وثانيهما، مرحلة ما بين الحربين. وثالثها، مرحلة الحرب الباردة.
ففي المرحلة الأولى: مرحلة الماركسية الكلاسيكية (1848 – 1914)، اتجهت معظم الكتابات الماركسية، خلال هذه المرحلة، إلى تبرير الاستعمار، واعتباره عامل تحضر للبلدان المستعمرة.  
ففي مقال نشره أنجلز في 23 يناير / كانون الثاني 1848، اعتبر التوسع الأمريكي في المكسيك، بعد حرب عام 1847 بين البلدين، امتدادا للحضارة الرأسمالية المتقدمة. وفيما يتعلق بنتائج السيطرة البريطانية على الهند، كتب كارل ماركس في العام 1853: "إن لإنكلترا رسالة مزدوجة في الهند: الأولى للتدمير والأخرى للتجديد، إبادة المجتمع الآسيوي القديم، ووضع الأسس المادية للمجتمع الغربي في آسيا".
أما المرحلة الثانية: مرحلة ما بين الحربين (1914 – 1945)، فقد تميزت هذه المرحلة بتأسيس الأممية الشيوعي الثالثة "الكومنترن" في 4 مارس / آذار 1919، وبالدور البارز الذي لعبته مع حركات التحرر الوطني، خاصة في قارتي آسيا وأفريقيا.  
وقد "أقر المؤتمر التأسيسي الأول برنامج الأممية الشيوعية، حيث تم تحديد أسباب ونتائج الحرب العالمية الأولى: "إن الحرب الأخيرة، والتي هي قطعًا حرب من أجل المستعمرات، قد كانت في الوقت ذاته حربًا قد خيضت بمساعدة المستعمرات. لقد جُرَ سكان المستعمرات إلى الحرب الأوروبية بمقياس لا سابق له: الهنود والزنوج والعرب والمدغشقريون حاربوا على القارة الأوروبية – من أجل أي شيء، من أجل حقهم في أن يبقوا عبيدًا لإنكلترا وفرنسا، ولم يحدث من قبل أن افتضح الحكم الرأسمالي على هذا النحو من الوضوح، ولم يحدث من قبل مطلقًا أن طرحت قضية الاستعباد الكولونيالي بمثل هذه الحدة التي تطرح فيها اليوم" [2].
وأكد البرنامج على أن تحرير المستعمرات غير ممكن إلا بالارتباط مع تحرير الطبقة العاملة في المتروبول، ووجه المؤتمر بيانًا جاء في خاتمته: "يا عبيد المستعمرات في أفريقيا وآسيا! إن ساعة ديكتاتورية البروليتاريا في أوروبا ستكون ساعة تحريركم أنتم أيضًا".
لقد حلل لينين الوضع في المستعمرات، وأبرز الدور الثوري العظيم لشعوب المستعمرات بقوله: "واضح تمام الوضوح، أن حركة الأغلبية العظمى من سكان المعمورة، الموجهة في الأساس نحو التحرر الوطني، ستتحول في مجري المعارك الحاسمة الوشيكة في الثورة العالمية ضد الرأسمالية والامبريالية، وربما ستشغل حيزًا أكثر ثورية بكثير مما نتوقعه". وبالرغم من كلام لينين عن دور حركة التحرر الوطني، فإنه في الواقع كانت الحكومات السوفياتية المتعاقبة تعطي الأولوية للاعتبارات الديبلوماسية.
المرحلة الثالثة: مرحلة الحرب الباردة (1946 – 1989): وهي من أغنى مراحل العلاقة بين الماركسية وحركات التحرر الوطني، لأنها تحتضن عقدي الخمسينات والستينات اللذين شهدا النهوض العارم لحركات التحرر الوطني، ولأنها أيضًا شهدت أهم المناقشات والتيارات الماركسية حول قضية تصفية الاستعمار وآفاق التنمية الوطنية في البلدان المستقلة حديثا.
وفي المؤتمر العالمي للأحزاب الشيوعية، الذي انعقد بموسكو في شهر نوفمبر / تشرين الثاني 1960، جرى جدل كبير بين الشيوعيين حول مجموعة من المسائل، بما فيها المسألة القومية في البلدان المستقلة حديثًا، حيث تركز الجدل حول نقطتين هامتين: الاستقلالية داخل الحركة الشيوعية العالمية، وأصالة وتميز بلدان العالم، خاصة البلدان غير الأوروبية، عل الصعيد الثقافي والحضاري ، فقد ورد في البيان الصادر عن المؤتمر "رسالة إلى العالم": "إذا تجاهل حزب بروليتاري ما الخصوصيات القومية، فإنه يمكن أن ينفصل عن حياة الجماهير وينزل الضرر بقضية الاشتراكية".
كما تمت الإشادة بدور البلدان المستقلة حديثًا في القارات الثلاث، حيث ورد في البيان: "إن مرحلة تاريخية جديدة قد انفتحت في حياة الإنسانية؛ إن الشعوب المتحررة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية قد بدأت تسهم بنشاط في السياسة الدولية".
أما عن سبيل هذه البلدان لحل مشاكلها الاجتماعية وتوطيد استقلالها القومي وإزالة التأخر، فقد أشار البيان إلى "طريق التطور اللارأسمالي" باعتباره الطريق الأصوب لتحقيق تلك الأهداف، وكان ذلك الموقف نوعًا من التراجع والانحدار عن جوهر الصراع بين البورجوازية والطبقة العاملة، وهو موقف مثالي نقيض للتحليل الطبقي الماركسي من ناحية، وكان أيضًا محاولة لإرضاء وطمأنة البورجوازية في مصر والبلدان العربية وضمان مصالحها الطبقية، عبر الحديث عن صيغة وسطية انتهازية تحت عنوان "التطور اللارأسمالي" الذي لم يجد قبولًا لدى أغلبية الشيوعيين في العالم رغم صمتهم عليه، كما لم يجد قبولًا لدى البورجوازية العربية. فمن المعروف أن الاستعمار قام بتجزئة الاقتصاد العربي تجزئة كاملة -انعكاسًا للتجزئة السياسية بموجب سايكس بيكو 1916- بتحويله اقتصاد كل قطر عربي إلى مُكَمِّل لاقتصاد الدولة المستعمرة، ثم جاءت مرحلة الانفتاح الساداتي، حيث أصبحت الرأسمالية الأجنبية والمحلية الكمبرادورية في بلداننا العائق الأساسي في وجه النضال التحرري الوطني ضد الامبريالية والصهيونية، ثم تطورت لتصبح في ظل العولمة الراهنة عائقًا أساسيًا في وجه التطور الاقتصادي التنموي والمجتمعي بالمعنى الطبقي، الأمر الذي أدى الى تكريس عوامل ومظاهر التبعية والتخلف والخضوع والارتهان للشروط الإمبريالية الصهيونية راهنًا، ما يعني أن الصراع من أجل اسقاط أنظمة التبعية الكومبرادورية هو اليوم هدف مركزي يتوازى تمامًا مع هدف النضال ضد الإمبريالية والصهيونية، إن لم تكن له الأولوية لضمان تحقيق أهداف التحرر الوطني بآفاقه الاشتراكية.
هنا بالضبط، أشير إلى أن أهمية الفلسفة الماركسية تتجلى في كونها تجمع بين إعمال الفكر والعقل من أجل التغيير والنهوض والثورة على كل أشكال الاضطهاد والاستغلال والقهر خصوصًا... وهي بالتالي تجيب على كل أسئلتنا إذا ما استخدمنا منهجها المادي الجدلي وطبقناه على واقعنا الفلسطيني والعربي بصورة جدلية وواعية... وهو هدف لا بد أن يحمله ويناضل من أجله كل مثقف تقدمي، إذ اننا أمام تحديات هائلة.. تحديات الصراع مع العدو الصهيوني وتحديات العولمة الإمبريالية.. تحديات التبعية والتخلف الاجتماعي والأصولي.. تحديات الواقع الفلسطيني والعربي المفكك والمهزوم... تحديات الاقتصاد والتنمية المستقلة والأمن الغذائي والمياه.. تحديات البطالة والفقر... تحديات المستقبل الذي تسوده الحرية والعدالة الاجتماعية والاشتراكية والوحدة العربيـة.
غني عن القول، بأن "شعوبنا لم تعش، بعد، المرحلتين التنويرية للإصلاح الديني والمجتمعي، ولم تنهض فيها الثورات العلمية، والفلسفية، والسياسية"، ما يعني أن الديمقراطية لن تهبط علينا بالمظلَّة، ولن تَنْبُت شيطانيًا من الأرض، بل هي تحتاج إلى حراك نهضوي طليعي يمكِّننا من تجاوز كل مظاهر التخلف وامتداداته، العقلية، والثقافية، والقانونية السائدة.
هنا نلمح العلاقة المباشرة بين الفلسفة، المعاصرة ومفاهيم الديمقراطية والتقدم والثورة، فهي علاقة وثيقة متبادلة، وتأسيسية، ذلك إن الخطاب الفلسفي السديد يتعامل مع المستقبل، فالمجتمعات الناهضة، لن تحملها سوى قوى ديمقراطية، تقدميه ثوريه، تمتلك جرأة التغيير الجذرية، في سياقها التطوري المتجدد، والبعيد عن الجمود، لإقامة صروح جديدة على أنقاض القديم، وعلى هذا الطريق، فإننا مطالبون بتحقيق المهمات الحضارية التي حققتها الثورة العلمية في أوروبا، وتتلخص هذه المهمات في الآتي:  
1- تحرير الإنتاج المعرفي، وبخاصةً الإنتاج العلمي، من هيمنة مراكز السلطة الأيديولوجية على اختلاف أنواعها. وبعبارة أخرى، فالمطلوب هو السعي نحو منح مؤسساتنا العلمية والمعرفية استقلالًا ذاتيًا يقيها من تزمت الفئات التقليدية ومن التقلبات السياسية والاجتماعية.
2 -وضع العلم في مركز الصدارة على صعيد الفكر والمعرفة، بمعنى اكسابه بصفة المرجع النهائي والحكم الفيصل في المسائل الأساسية في نظر جميع الفئات والهيئات، سواءً أكانت رسميةً أم شعبية.
3- خلق جماعات علمية قومية ضمن إطار الجماعة العلمية العالمية، تنتج المعرفة العلمية عبر مؤسسات ولغة وطرائق وطرق نظرية ومعتقدات وقيم ومناظرات وأساليب ومقاييس مشتركة.
إن تحقيق هذه المهمات، يستلزم مشاركة جماهير الشعب، في جميع قطاعاته، مشاركةً فعالة، فالتقدم المنشود لا يمكن أن تحرزه الصفوة وحدها بمعزل عن جماهير الشعب، كما أنه ليس في مقدور الجماهير وحدها، المشاركة في هذه العملية الحضارية الضرورية ما لم تُهَيأ لذلك ماديًا ومعنويًا، وخاصة امتلاك عوامل التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي بالمعنى التنويري النهضوي، كمقدمة لا بد منها لعملية النهوض الديمقراطي التقدمي.
في هذا الجانب، من المفيد الإشارة إلى أن الأزمة التي تعاني منها حركة التحرر الوطني العربية في مرحلتها التاريخية الراهنة، ليست فقط أزمة قيادتها الطبقية البرجوازية، بل هي أزمة البديل الثوري (الديمقراطي) لهذه القيادة، وهذه الأزمة (أزمة البديل) هي أزمة سياسية بالدرجة الأولى، بمعنى أنها أزمة الخط السياسي الذي سارت وتسير فيه الأحزاب والتنظيمات والفصائل التي يفترض فيها أن تكون هذا البديل الثوري أو اليساري الماركسي الديمقراطي، فما زالت هذه الأحزاب والقوى والفصائل متخلفة عمومًا في ممارساتها السياسية عن الفهم الذي يؤكد أن طريق التحرر الوطني – كهدف – لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال إجراء تحولات اجتماعية عميقة؛ تزيح عن السلطة تلك الطبقة أو الطبقات المسؤولة عن الأزمة والعاجزة عن حلها؛ فالأزمة في تقديري ليست مشكلة "تخلف وتقدم" فحسب على نحو ما يذهب إليه المثقف الليبرالي، لأن هذه الصيغة، تخفي علاقة التبعية البنيوية لنظام العولمة، كما تخفي دور الصراع الطبقي كمحدد رئيسي في صياغة مستقبل حركة التحرر العربية؛ فالمعروف أن حركات التحرر الوطني بتعريفها الكلاسيكي هي حركات تحررية وطنية اجتماعية (طبقية) ترفع شعار التحرر الوطني والديمقراطي معًا، وهي بالتالي معادية للاستعمار بكل أشكاله المباشرة وغير المباشرة من جهة ومقاومة لكافة أشكال الاستغلال والاستبداد من جهة ثانية، مطلبها الأساسي الاستقلال السياسي والاقتصادي والاجتماعي التام والإصلاحات الديمقراطية لصالح الشعب عامةً.
كما تتضمن حركات التحرر الوطني تجمعًا عريضًا من القوى الاجتماعية، المثقفين، الطبقة العاملة، البرجوازية الصغيرة، لتحقيق أهداف التحرر من الاستعمار الاحتلال من ناحية والنضال ضد كافة أشكال الاستغلال الطبقي والاستبداد من ناحية ثانية، ومواصلة النضال من أجل تحقيق الثورة الوطنية الديمقراطية بآفاقها الاشتراكية. وهنا بالضبط، أتحدث عن تأسيس كتلة تاريخية بالمعنى الجرامشي، انطلاقًا من أن "مفهوم الكتلة التاريخية –كما يقول المفكر الراحل محمود أمين العالم- تتداخل فيه مختلف عناصر فكر جرامشي حول الثقافة والايديولوجية والمثقفين والهيمنة. ولعل أبرز ما يعنيه مفهوم الكتلة التاريخية عنده هو استبعاد النزعة الاقتصادية (الاقتصادوية)، وإبراز أهمية الأفكار في الفعل التاريخي، وأهمية التحالف الواسع بين مختلف القوى الاجتماعية المنطلقة للتغيير الجذري، فضلًا عن الربط بين القيادة السياسية والقيادة الثقافية والأخلاقية، ولهذا تتميز الكتلة التاريخية لقوى التقدم والاشتراكية بالديمقراطية أساساً كما يرى جرامشي، أي بالترابط والتداخل بين القيادات والقواعد، بين البنية التحتية والبنية الفوقية إلى درجة استيعاب المجتمع المدني شيئًا فشيئًا للمجتمع السياسي، وهذه الكتلة التاريخية تسعى لتحقيق هدفها التاريخي بخوض ما يسميه جرامشي بحرب المواقع، أي الامتداد في أجهزة المجتمع المدني، والنظام السياسي تحقيقاً للهيمنة، وإلغاء للانقسام السياسي بين الحكام والمحكومين، ولتكوين السلطة الثورية الجديدة.
أما الفيلسوف الفرنسي الراحل جورج لابيكا، فقد أعتبر مفهوم الكتلة التاريخية، أحد أهم المفاهيم التي بسطها غرامشي، وهو مفهوم يترابط فيه ترابطاً وثيقاً إسهامه الشخصي في الماركسية وتصوره للسيرورة الثورية كـ"بناء لكتلة تاريخية جديدة".
إن هذا المفهوم، الذي أعد في البداية لحل "مسألة" المادية التاريخية "العويصة"، مسألة الجدلية القائمة بين البناء التحتي والبناء الفوقي، أبرز هذا الانطلاق وحدتهما العضوية، حيث "يشكل البناء التحتي والأبنية الفوقية كتلة تاريخية" لا يمكن أن تُخْتَزَلْ في مجرد تحالف طبقي أو أن تفضي إلى انقلاب أحادي الجانب للأولويات الماركسية (إحلال أولية البناء الفوقي محل البناء التحتي).
وهكذا، وجه مفهوم الكتلة التاريخية كامل أبحاث غرامشي الماركسية إلى دراسة طبيعة هذا الرابط الذي يقحم مفاهيم أخرى مقرونة به ومترابطة معه مثل الهيمنة والأيديولوجية ودور المثقفين".
يتعلق الأمر إذًا بمفهوم جديد في الماركسية، آخذين في الاعتبار أنه لا يمكن أن تكون كل لحظة تاريخية (ظرف، ميزان قوى) كتلة تاريخية. لقد ركز غرامشي إذًا كل مجهوداته على تحديد شروط قيام الكتل التاريخية واندثارها وتحولها. وقد بلغ به الأمر، في سبيل تحقيق ذلك، إلى تجديد تأويل مادية ماركس التاريخية وهذه الشروط يوردها الفيلسوف الفرنسي جورج لابيكا كما يلي:
1/ الشروط الأيديولوجية –الثقافية: يرتبط وجود كتلة تاريخية بقيام علاقة ما بين المثقفين والطبقات، بين المثقفين والشعب.
2/ الشروط السياسية: إن الكتلة التاريخية، التي هي كتلة ثقافية، هي أيضًا كتلة سياسية تنشأ عن أزمة هيمنة أو أزمة دولة بأسرها، وهي أزمة تفكك الكتلة القائمة، المرتبطة بالأنظمة الكومبرادورية. و"إذا ما تحققت العلاقة بين المثقفين والشعب – الجماهير وبين القادة والقاعدة وبين الحاكمين والمحكومين بصورة عضوية، بحيث تتحول العاطفة إلى إدراك وبالتالي إلى معرفة.. فإن ذلك يعني أن هناك كتلة تاريخية بصدد التكون".
3/ الشروط التاريخية والفلسفية: إن الأفكار والتاريخ، والفلسفة والتاريخ تشكل كتلة حسب التطور التاريخاني للتاريخ الخاص بغرامشي، وهي تاريخانية تؤثر في فهم غرامشي "الفلسفي" لماركس، كما تحدد صياغته النقدية الجديدة لفكرة الاشتراكية ذاتها باعتبارها "كتلة تاريخية لا يمكن اختزالها في التمييز التقليدي بين القاعدة والبناء الفوقي، بين نمط الإنتاج والأيديولوجية. إن مفهوم الكتلة التاريخية، بهذا المدلول، هو حقًا مفهوم استراتيجي جديد بالمقارنة مع ماركسية الأممية الثانية والثالثة.
وإذًا؛ فالكتلة التاريخية لا تتطلب من الأحزاب والتشكيلات الحاضرة لا التنكر لتاريخها ولا التضحية بأحلامها، ولا حتى التخلي عن أسمائها، وإنما تتطلب منها فقط التخلص من الشرنقة المترهلة التي تسجن فيها نفسها، لتتمكن من الارتباط ارتباطًا جديدًا، حيًا وفاعلًا، بجسم المجتمع، والمساهمة بالتالي في بعث الحركة فيه من جديد.
وإذا كنا نقر –كقوى ماركسية- بأن الكتلة التاريخية هي أولًا موقف تاريخي أو هي غير "الحزب" أو "الطليعة"، فإن هذا لا يعني أبدًا تجاوزنا أو إغفالنا لأهمية دور الأيديولوجيا/الماركسية المتجددة المتطورة، ولدور الحزب الثوري الطليعي في قيادة الكتلة التاريخية على طريق تحقيق اهداف الثورة الوطنية الديمقراطية.
تعريف الثورة الوطنية الديمقراطية من منظور ماركسي:
 هي استمرار لثورة التحرر الوطني من جهة وهي أيضًا استمرار لسيرورة الثورة الاشتراكية من جهة ثانية، انطلاقًا من العلاقة الجدلية بين الثورة الوطنية الديمقراطية والثورة الاشتراكية؛ فالثورة الوطنية التحررية الديمقراطية ترتكز إلى تحالف واسع من الجماهير يضم القوة الرئيسية للتحالف الثوري المكونة من العمال والفلاحين الفقراء، الى جانب الشرائح الفقيرة من البورجوازية الصغيرة، (حيث لا وجود للبورجوازية الوطنية في بلادنا، وإن وجدت فهي مرتبطة بالبورجوازية الكومبرادورية الكبيرة). ويخطئ كل من يحاول القفز على المهام الوطنية الديمقراطية والسير رأسا نحو "الثورة الاشتراكية" أو كل من يحاول حصر المرحلة الوطنية الديمقراطية في الأفق البرجوازي المسدود، فهي تهدف إلى استكمال التحرر الوطني في الميدان الاقتصادي الاجتماعي، كما وترمي إلى القيام بتحولات طبقية/اجتماعية ثورية تضمن إنهاء كل أشكال التبعية للإمبريالية وإنهاء هيمنة الكومبرادور والرأسمالية الطفيلية واقتصاد السوق في المجتمع لحساب اقتصاد التسيير الذاتي والتعاوني والمختلط في إطار التنمية، وهذا يعني أن مهامها:
1-     تفكيك وإزاحة سيطرة البنية الاقتصادية التابعة والبنية الاقتصادية الكومبرادورية، وإلغاء سيطرة اقتصاد السوق في الميدان الاقتصادي.
2-     تفكيك وإزاحة البنى اليمينية الليبرالية وبنى الإسلام السياسي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وتفكيك وإزاحة هيمنتها في البناء الفوقي، وهذا يعني إعادة هيكلة وبناء مؤسسات الدولة قانونيًا وسياسيًا وثقافيًا، بما يتطابق مع المصالح الطبقية لجماهير الفقراء والكادحين في سياق العمل الدؤوب لإلغاء كافة مظاهر التخلف الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
3-     اعتماد تطبيق مبادئ التنمية المستقلة المعمدة على الذات في كل قطر عربي ارتباطاً بمبدأ الاعتماد الجماعي العربي.
وانطلاقًا من وعينا بأن مفهوم الثورة الوطنية الديمقراطية هو مفهوم علمي يرتبط – ارتباطًا وثيقًا- بتناقضات الصراع الطبقي والصراع الوطني، فهي ثورة تحرر وطني مناضلة ومقاومة للوجود الامبريالي الصهيوني من أجل اجتثاثه من بلادنا، وهي في نفس الزمان والمكان ثورة ديمقراطية ضد أنظمة الاستبداد والاستغلال والتبعية تستهدف إسقاطها، ومواصلة النضال من أجل استكمال التحرر والسيادة الوطنية في الاقتصاد والسياسة والثقافة وكافة قضايا المجتمع، برؤية طبقية تستهدف أساسًا مصالح الشرائح الفقيرة وكل الكادحين المضطهدين، وبرؤية تنموية تقوم على مبدأ التنمية المستقلة والاعتماد على الذات؛ فالثورة الوطنية أو الشعبية الديمقراطية - في أوضاعنا العربية الراهنة – هي الثورة التي تلتزم برؤية وبرامج تجسد مصالح وأهداف العمال والفلاحين الفقراء وكافة الشرائح الجماهيرية الفقيرة والمضطهدة، بقيادة الحزب الماركسي الثوري لضمان إنجاز المهام الديمقراطية السياسية والاجتماعية والتنموية الاقتصادية وتكريس أسسها وبنيتها التحتية وقاعدتها الانتاجية، وفي هذه المرحلة سيتمتع المجتمع بالمعاني الحقيقية للمساواة، وتطبيق مفهوم المواطنة والديمقراطية ببعديها السياسي والاجتماعي، طالما أن الجماهير الشعبية تشارك بشكل ديمقراطي ثوري ملموس من خلال مندوبيها في هذه العملية، بما يمكنها أن تتولى بشكل مباشر – عبر الدور الطليعي للحزب الماركسي الثوري في إطار الائتلاف الجبهاوي التقدمي الاشتراكي- إدارة شئون المجتمع، وبما يؤكد على مراكمة عوامل التطور النهضوي للبنية المادية التحتية في جميع القطاعات الإنتاجية (خاصة قطاعات الصناعة والزراعة والاقتصاد والتقدم التكنولوجي وقطاع الخدمات)، بما يعزز تنمية وتوافق البنية الفوقية مع البنية التحتية، حيث سيكون التوسع المستمر في الإنتاج وتحقيق العدالة في التوزيع كفيلين بالقضاء على القاعدة المادية للرأسمالية والاقتصاد الحر ولكل أشكال المنافسة والخوف والعوز، ومن ثم تجاوز أزمة التحرر الوطني في هذا البلد أو ذاك تمهيدا للانتقال إلى المجتمع الاشتراكي؛ ذلك أن أزمة حركة التحرر العربية، تستدعي المبادرة إلى دراسة الخصائص والمنطلقات السياسية والفكرية التي تميزت بها فصائل وأحزاب حركة التحرر في مجتمعاتنا طوال الحقبة الماضية، والتي ربما كان إهمالها في الماضي أو الخطأ في تحديد أبعادها وانعكاساتها على الحركات اليسارية أحد الأسباب الرئيسية، لتعثرها وفشلها، ومن أهم هذه المنطلقات التي باتت بحاجة إلى المراجعة والمناقشة وإعادة الصياغة :
أولاً/ إشكالية القومية العربية والعلاقة الجدلية بين الماركسية والقومية، حيث بات من الضروري أن تقوم القوى اليسارية العربية في كل قطر ادراج البعد التوحيدي القومي كبعد رئيس في عملها .
ثانياً/ إشكالية التبعية وكسرها وتجاوزها، وهي إشكالية مرتبطة بتبعية معظم البلدان العربية، للنظام الرأسمالي الإمبريالي المعولم.
ثالثاً/ القاعدة الاقتصادية والأبنية الفوقية، ففي ظروف التخلف والتبعية تلعب الأبنية الفوقية المتصلة بالسلطة السياسية وبالثقافة والأيديولوجية بصفة عامة، دورًا أكثر أهمية بكثير من تأثير القاعدة الاقتصادية بحكم تخلفها؛ إذ أن التحالف الطبقي الحاكم في الأنظمة العربية يلعب دورًا هامًا في دعم البنى الفوقية القديمة وتحويلها إلى رصيد لقوى التخلف والرجعية، وهنا بالضبط تتجلى الضرورة والأهمية القصوى صوب مزيد من الاستيعاب والوعي المعمق للماركسية كنظرية للثورة بالمعنى الطبقي إلى جانب المعاني والمنطلقات الوطنية والقومية في وحدتها المستقبلية .
إنني لا أزعم –كيساري ماركسي وطني وقومي ديمقراطي- أنني أنفرد بالدعوة إلى إعادة تجديد وتفعيل الفكر الماركسي القومي ومشروعه النهضوي في بلادنا؛ ذلك لأن هذه الرؤية تشكل اليوم هاجسًا مقلقًا ومتصلًا في عقل وتفكير العديد من المفكرين والمثقفين في إطار القوى الوطنية والقومية اليسارية الديمقراطية، على مساحة الوطن العربي كله، وهي أيضًا ليست دعوة إلى القفز عن واقع المجتمع العربي أو أزمته الراهنة.
وفي هذا السياق، فإن رؤيتي؛ تتجاوز حالة التجزئة القطرية العربية (رغم تجذرها)، نحو رؤية ديمقراطية قومية، تدرجية، تنطلق من الضرورة التاريخية لوحدة الأمة-الدولة في المجتمع العربي، وتتعاطى مع الإطار القومي كوحدة تحليلية واحدة، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا؛ مدركين أن الشرط الأساسي للوصول إلى هذه الرؤية-الهدف، يكمن في توحد المفاهيم والأسس السياسية والفكرية للأحزاب والقوى الديمقراطية اليسارية القومية داخل إطارها القطري/الوطني الخاص كخطوة أولية، تمهد للتوحد التنظيمي العام وتأطير وتوسع انتشار الكتلة التاريخية –على الصعيد القومي؛ انطلاقًا من إدراكي بأن الأزمة التي تعاني منها حركة التحرر الوطني العربية في وضعها الراهن ليست فقط أزمة قيادتها الطبقية البورجوازية الرثة التابعة، بل هي أزمة البديل الديمقراطي لهذه القيادة، يؤكد على صحة هذه المقولة، ما جرى في بلادنا فلسطين وغيرها من انهيار اجتماعي واقتصادي وتفكك في النظام السياسي وتراجع الهوية الوطنية والقومية لحساب الهوية الدينية أو هوية الإسلام السياسي، أو للهويات الاثنية والطائفية والعشائرية كما هو الحال في العراق والسودان واليمن ولبنان والجزائر .
في ضوء ما تقدم فإن الحاجة الى بلورة وتفعيل هدف التحرر الوطني ضمن حركة التحرر القومي العربية وبرنامجها الذي يؤكد على انهاء الانظمة المستبدة في راهن مجتمعاتنا العربية، هو هدف عاجل؛ آني واستراتيجي رئيسي، لكونها أنظمة تخنق الاستقلال الروحي والفكري للمواطن، بل وتتغذى من هذه العملية، عبر محاولاتها تفريغ المواطن وحرمانه من العدالة الاجتماعية ومن حرية الرأي والإرادة والضمير والحس النقدي، كي ما تحوله إلى أداة تنفيذ فحسب، يتلاعب بها عقل واحد أو "رب" عمل واحد، هو جهاز السلطة أو نظام الحكم القمعي بمختلف تلاوينه ومنطلقاته.
فبقدر ما يستدعي النضال السياسي والديمقراطي الداخلي أناسًا على درجة عالية من الاستقلال السياسي والفكري وحرية الرأي والمعتقد والإرادة والمسؤولية، يقوم انحطاط السلطة على تعميم الاستلاب والتبعية الشخصية والإلحاق؛ فرجل السياسة الاستبدادية في بلادنا (ملكًا أو رئيسًا أو أميرًا أو شيخًا) لا يقبل بأقل من الخضوع لإرادته الجائرة، ورجل الوصاية الدينية/الإسلام السياسي لا يطلب أقل من التسليم الكامل بتفسيره وتأويله وروايته. فالطغيان الأول يقوم على احتكار السلطة السياسية والدولة، بينما يقوم الطغيان الثاني على احتكار الرأي والفكر إلى جانب احتكار السلطة، وكلاهما له مصالح طبقية رأسمالية رثة وتابعة ولا يتناقض أي منهما أبدًا مع النظام الإمبريالي، وهنا بالضبط تتجلى العلاقة الجدلية لمفهوم التحرر الوطني والقومي في النضال ضد الوجود الإمبريالي الصهيوني من ناحية وضد انظمه الكمبرادور من ناحية ثانية، للخلاص من واقع التبعية والانحطاط الراهن وتحرير الوطن والمواطن.
إن حالة الانحطاط المنتشرة في بلدان الوطن العربي، نشأت مع بداية الانفتاح الساداتي، ثم اتفاقيات كامب ديفيد وما تبعها من معاهدة للصلح بين مصر وإسرائيل، ثم اتفاقية أوسلو ووادي عربة وصولًا إلى اعتراف معظم الدول العربية بإسرائيل والتطبيع معها، وبالتالي التخلي ليس عن حقوق الشعب الفلسطيني في وطنه فحسب، بل أيضًا توفير الفرص للتحالف الإمبريالي الصهيوني صوب مزيد من السيطرة على مقدرات شعوبنا وتكريس تخلفها واستمرار احتجاز تطورها؛ الأمر الذي يجعل من النضال التحرري الوطني ضرورة موضوعية مرتبطة عضويًا بمسيرة النضال الطبقي ضد الاستغلال على طريق تحقيق أهداف الثورة الوطنية الديمقراطية بآفاقها الاشتراكية.
وعلى كثرة ما شهدت هذه المنطقة من تغيرات منذ مطلع القرن العشرين، في أعقاب الثورة الصناعية وتكوّن الدول الرأسمالية، ثم في ظروف تحول الرأسمالية إلى مرحلة الإمبريالية في نهاية القرن التاسع عشر، فإن ما يجري فيها الآن في ظل الانحطاط والتبعية لأنظمة الكومبرادور في بلادنا في هذه المرحلة؛ يمثل أخطر ما واجهته في تاريخها الحديث، لأنه التحدي الشامل للأمة العربية؛ فالصهيونية في ظل الانحطاط والتطبيع العربي انتقلت من التصور والتخطيط إلى التنفيذ، حيث تَبدّى أن الاختراق الصهيوني يتخطى كل الحواجز، ليحاول أن يصل إلى تغيير المقومات الحضارية والقومية للعرب، على النحو الذي يكرس دوام تبعيتهم وتخلفهم وتشرذمهم.
ولا شك أن التعرف على طبيعة الاقتصاد الإسرائيلي نفسه يبدو أمرًا ضروريًا وسابقًا، لدراسة النتائج الاقتصادية لأية تسوية سلمية مع إسرائيل، ولسوف تقودنا خطانا عندئذ إلى التعرف على إسرائيل في الواقع كشريك أصغر للإمبريالية العالمية في هذه المنطقة البالغة الحيوية من العالم، فلقد غدت إسرائيل استعمارًا صغيرًا، ونعني بهذا الاستعمار الصغير؛ تفويضًا من الإمبريالية العالمية لدولة تابعة تتوطن فيها استثمارات ضخمة، خاصة بالاحتكارات المتعددة الجنسيات، لكنها صارت تستحوذ على قوة عسكرية واقتصادية وسياسية رادعة؛ تفويضًا بالتصدي خارج حدودها لحماية المصالح الإمبريالية عامة.
لقد بدأت إسرائيل كمشروع صهيوني أساسي للإمبريالية، كقاعدة رئيسية لبسط هيمنتها على المنطقة العربية وحماية مصالحها الأساسية فيها، ومن ثم لكبح تحقيق اهداف الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال والعودة من ناحية، ولكبح وإعاقة نهوض حركة التحرر الوطني العربية من ناحية ثانية.
لكن هذه المهمة لم تكن لتنفي أطماع إسرائيل هي نفسها في السيطرة على المنطقة العربية، حيث واتتها الفرصة في حرب يونيو / حزيران، التي خرجت منها إسرائيل وقد احتلت كامل أراضي فلسطين، ومرتفعات الجولان السورية، وشبه جزيرة سيناء المصرية.
وفيما بعد حرب أكتوبر / تشرين أخذت إسرائيل تتهيأ للقيام بدور جديد داخل المنطقة، لم تعد تقتصر على كونها قاعدة – بالوكالة – للاحتكارات الدولية ولتوسع رأس المال الصهيوني وامتدادهما المتمثل في الشركات المتعددة الجنسية، بل صارت تعبر عن حاجات تطور الاقتصاد الإسرائيلي نفسه، داخل المنطقة العربية. إن نمو الصناعة الإسرائيلية صار يتطلع إلى تحطيم حواجز العزلة والانطلاق إلى أسواق تشكل له مجالًا طبيعيًا هي بالدرجة الأولى الأسواق العربية، ولقد تجسد هذا التطور أخيرًا في إطار عملية الاعتراف والتطبيع العربي الذي حقق أطماع إسرائيل في السيطرة الاقتصادية على المنطقة العربية، وطموح رأسمالها في المشاركة المباشرة في نهب الثروات العربية عن طريق الحصول على نصيبها هي الأخرى من الأموال العربية والنفط العربي.
ليست دولة العدو الاسرائيلي إذاً دولة طبيعية كغيرها من الدول في هذا العالم، وما العلاقات الطبيعية الوحيدة الممكنة بين إسرائيل والعرب سوى علاقات الصراع الذي لا يقبل المصالحة بين قطبيه ونحن على ثقة في أنه من هذا الصراع، لا بد من أن تنتصر الشعوب العربية وفي طليعتها الشعب الفلسطيني؛ شرط امتلاك المقومات الحضارية المادية والسياسية لمجابهة الاستعمار الصهيوني القائم على الاغتصاب والعنصرية، في سياق أبشع أنماط الصراع الكولونيالي.
وهنا "ينبغي أن نقف عند بعد أساسي في فكر الشهيد مهدي عامل وهو تصوره "لنمط الإنتاج الكولونيالي" والمناقشة الثرية الجادة الجديدة التي نمت بخصوصه، والتي –كما يقول المفكر الراحل محمود العالم- أعادت لنا الثقة في مستقبل الفكر الماركسي العربي.
فحسب "نمط الإنتاج الكولونيالي" لا توجد برجوازيات وطنية، بل طبقات برجوازية عميلة، تابعة للإمبريالية، لم يحدث إذًا تطور من طبقة سائدة إقطاعية، أو نصف إقطاعية نصف رأسمالية، إلى برجوازية تفرض نمطًا جديدًا للإنتاج، بل "استبدال" طبقي (والمفهوم مفهوم بولنتزاس رغم التغيرات التي أدخلها عليه مهدي عامل)؛ فتقوم الطبقة الجديدة السائدة بنفس دور إعادة إنتاج التخلف لأن السيد الإمبريالي المسيطر لا يسمح بأي تجديد حقيقي ؛ ويؤيد الواقع العربي هذا التصور منذ هزيمة 67 ثم "الردة" في السبعينات التي شهدت تراجع "الإنجازات الوطنية"  والانفتاح وسيطرة الأموال النفطية على العالم العربي مع إخضاع الطبقات الكادحة، إلى قوى القمع والتسلط في مجتمعات وقعت تحت تبعية لم تعرفها بعد، في إطار انتشار الأنماط الاستهلاكية والضغط الإعلامي الذي يغيب وعيها.
 فالبرجوازية في بلادنا -بحكم تبعيتها ورثاثتها- ليست إلا ممثلة للبرجوازية الرأسمالية في البلد الرأسمالي، ولهذا تفتقر هذه البرجوازية التابعة في وجودها الطبقي إلى الأسس التي تجعل منها طبقة، ولهذا السبب – كما يضيف محمود العالم- لا يحدد مهدي عامل بنية هذه البلاد المتخلفة أو علاقة الإنتاج فيها بصفتها الإنتاجية، أي بطبيعة الإنتاج فيها، وإنما يحددها بصفة علاقتها بالرأسمالية الامبريالية، فيطلق عليها صفة علاقة الإنتاج الكولونيالية، وبهذه العلاقة البنيوية، يقول مهدي عامل باللاتفارق الطبقي في بنية البلاد التابعة، وبالاستحالة البنيوية لصيرورة إنتاج هذه البلاد إنتاجاً رأسمالياً؛ فصفة الكولونيالية هي تغليب لطابع العلاقة التابعة للإمبريالية على طبيعة الإنتاج نفسه؛ فالكولونيالية ليست صفة إنتاجية، بل هي علاقة سيطرة وتبعية، فضلًا عن أن العلاقة الكولونيالية هي علاقة تنتسب إلى مرحلة الاستعمار القديم ولا تصح وصفاً للعلاقة في المرحلة الإمبريالية، إلا في بعض الحالات المحددة.
إن العلاقة البنيوية المسيطرة؛ تكاد تنفي الخصائص الذاتية للمجتمع التابع وتجعل من علاقات إنتاجه مجرد علاقات إنتاج تابعة، ولكن من دون صفة إنتاجية ذاتية.
وفي هذا التفارق الطبقي تبرز الطبقة البرجوازية الكولونيالية الممثلة للرأسمالية، كما تبرز الطبقة النقيض، أي الطبقة العاملة، وتبرز بينهما البرجوازية الصغيرة –لا المتوسطة- كما يقول مهدي عامل، حتى لا نقع في تماثل مع الطبقة المتوسطة في البلاد الرأسمالية، وعندما تنجح البرجوازية الصغيرة في أن تصبح قوة مسيطرة في السلطة، لا يحدث تغيير طبقي في هذه السلطة، بل مجرد استبدال طبقي في علاقة الطرف المسيطر في إطار ثباته البنيوي.
 فالبنية الكولونيالية تفرض على هذه البرجوازية الصغيرة في السلطة أن تصبح برجوازية كولونيالية متجددة، أي يتم استيعابها بنيويًا، وتظل بهذا عاجزة عن أي تنمية رأسمالية، شأن البرجوازية الكولونيالية التقليدية، ولن ينقذ البرجوازية الصغيرة من هذا المصير إلا تحالفها مع الطبقة النقيض، أي الطبقة العاملة، ولهذا، فالتخلف نفسه لا يُفْهَم ولا يُفَسّر بماضيه وآثار هذا الماضي، كما يقول إيف لا كوست، ولا بالفارق الكمي بين بلد متخلف وبلد رأسمالي غربي، وإنما يُفَهم ويُفَسَّر ببنيته الراهنة؛ فالتخلف – كما يقول مهدي عامل- بنية اجتماعية متماسكة، أي إنه نظام إنتاج متميز (أي خاص) هو نظام الإنتاج الكولونيالي، وعليه لن نستطيع أن نفهم الطائفية في لبنان، إلا في ضوء هذا المفهوم البنيوي، كذلك فالطائفة – كما يقول مهدي عامل – هي علاقة سياسية قائمة بين فئات من الطبقات الكادحة وفئة من البرجوازية ورؤساء العائلات الكبيرة ورؤساء طوائف"[3].
في هذا الجانب، أشير إلى أن ماركس ورفيقه إنجلز؛ كانا شديدي الوضوح بالطبع في ما يتعلّق بتحرير الطبقة العاملة وأولويّة وديمومة النضال لإسقاط الأنظمة الإقطاعيّة والبرجوازية، كخطوة لا بدّ منها لإنهاء الطبقات والتحوّل إلى الاشتراكية، لكنّ الرجلَين في بيانهما الشيوعي (1848) وقبل دعوتهما لإطلاق ثورة شيوعيّة تطيح بكلّ الأوضاع القائمة، عبّرا عن تأييدهما لـ «التحرّر الوطني لبولندا». وكان إنجلز في نصوص سابقة له قد دعم بشكل جليّ «التحرر الوطني لإيرلندا»، ودعا إلى النّضال من أجل استقلال الشعب الإيرلندي بعد خمسة قرون من الاستغلال، بينما لم يملّ ماركس في مواضع كثيرة من المناداة للنضال من «أجل تحرير إيرلندا»، وكتب في 1847 عن «تحرر الأمم المضطهدة». وبالتالي، فإن النضال الشيوعيّ للتحرّر الوطنيّ لم ينفصل يومًا عند ماركس وإنجلز عن النضال لتحرير الطبقة العاملة، وقد استمرّا على نهجهما بدعم الاثنين معًا بذات الشغف والقوّة كل الوقت. وقد استمرّ المفكّران في ذات النهج في ما يتعلّق بإيرلندا.
وفي رسالة مطوّلة له، دعم ماركس فكرة تحالف نضال الطبقة العاملة البريطانيّة مع النّضال القوميّ لتحرّر إيرلندا، وأشاد في ذات الرّسالة بالشخصيّة الوطنيّة الصلبة للأمة الإيرلنديّة؛ مشيرًا إلى أن مهمّة الطبقة العاملة في دول الاستعمار هي تكثيف المواجهة مع طبقتها الحاكمة لتخفيف الضغط عن النضالات الوطنيّة للأمم المضطهدة"[4].
وقد وصف ماركس الهند ـــ المستعمرة البريطانيّة ـــ بأنها إيرلندا الشرق، وكان في نصّ سابق له قد حذّر من «أن أولئك الذين لا يقدرون على استيعاب كيف تقوم أمّة بالإثراء على حساب أمّة أخرى، سيكونون أقل قدرة على استيعاب كيف يمكن لطبقة داخل ذات المجتمع أن تثري على حساب طبقة أخرى»[5].
والسؤال هنا، ارتباطًا بتفاقم أوضاع التبعية والاستغلال والاستبداد من أنظمة الكومبرادور في بلادنا، ومن ثم تبلور ووضوح الأزمة والطبقة المسؤولة عنها، وكان الحل، هو السير على طريق التحرر الوطني والديمقراطي والتنموي وفق المنظور الطبقي الماركسي الذي لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال صراعات وتحولات اجتماعية عميقة، تزيح عن السلطة تلك الطبقة أو الطبقات المسؤولة عن الأزمة والعاجزة عن حلها، فلماذا إذن تعثر سيرنا على هذا الطريق؟
 هنا يتضح بجلاء عجز العامل الذاتي، الذي نستنتج منه أن معظم أحزاب وفصائل حركة التحرر العربية في ظل أوضاعها الراهنة ، تعيش -بدرجات متفاوتة - أزمة فكرية تتجلى في التراجع الخطير بالنسبة للهوية الفكرية (الماركسية اللينينية)، على الرغم من أن وحدة الحزب الفكرية هي حجر الزاوية للحزب، وبدونها فإنه قد يتعرض لخطر اسدال الستار عليه، إلى جانب تراجع الأوضاع التنظيمية، من حيث التوسع والانتشار، وكذلك استمرار مظاهر الضعف القيادي والإرباكات الناجمة عن بعض التحالفات غير المقبولة؛ الأمر الذي عزز من أحوال التراجع بين أعضاء الحزب ومؤسساته من جهة وبين الجماهير من جهة ثانية .
ولذلك، فإن النقد الجاد الكامل والصريح، هو نقطة البداية، لإعادة صياغة فصائل وأحزاب حركة التحرر العربية، إلى جانب إعادة صياغة أهداف الثورة التحررية الديمقراطية العربية، وممارستها على أساس علمي، بعد أن توضحت طبيعة الطريق المسدود الذي وصلته الأنظمة العربية، وانتهت إليه مسيرة هذه الحركة؛ بسبب أزمة فصائلها وأحزابها عمومًا، وأزمة قياداتها خصوصًا التي عجزت عن توعية وتثقيف وتنظيم وتعبئة قواعدها وكوادرها لكي تنجز مهامها التاريخية؛ إذ أن هذه الأوضاع القيادية المأزومة، التي جعلت بلدان الوطن العربي، في المرحلة التاريخية المعاصرة، من أقل مناطق العالم؛ إنتاجًا للعمل الديمقراطي الثوري الطويل النفس القادر على حماية نفسه، والمنتج في المدى الطويل لتحولات سياسية ومجتمعية نوعية، ودائمة ومطردة التطور على هذه البقعة أو تلك من الأراضي العربية.
في هذا الجانب، أشير إلى دور الحركات والأحزاب الشيوعية العالمية في دعمها لحركات التحرر الوطني في العالم، خاصة منذ انتصار الثورة البلشفية في روسيا عام 1917 والنداء الذي وجهه فلاديمير لينين عام 1919 لشعوب الشرق الإسلامي من أجل تحرير نفسها من الاستعمار، ثم فرض مؤتمر الكومنترن فيما بعد على مختلف الأحزاب الشيوعية مبدأ الوقوف إلى جانب حركات التحرر في العالم ودعم نضالها ضد الاستعمار، لكن السؤال المطروح هل استجابت الشعوب المستعمرة لنداء الرفيق لينين؟ والجواب – في ضوء التجارب التاريخية لتلك الشعوب في تلك المرحلة حتى نهاية ستينيات القرن الماضي- هو لا كبيرة، حيث أن سيطرة القوى السياسية شبه الإقطاعية والبورجوازية الرثة في بلدان الشرق حالت؛ دون تحقيق أهداف الجماهير الشعبية في تحرير نفسها من الاستعمار، وذلك بسبب رخاوة تلك القوى الإقطاعية والبورجوازية واستعدادها لمهادنة الاستعمار من ناحية والتزامها ببرامج وآليات في النضال ضد الاستعمار لا تتجاوز الخطابات الإصلاحية السياسية التي ترفض الآليات والبرامج الوطنية والثورية الكفاحية المسلحة أو البرامج والرؤى التي تنطلق من منظور الصراع الطبقي الذي يرى في الوجود الاستعماري من ناحية والقوى الطبقية الاقطاعية والبورجوازية من ناحية ثانية، نوعًا من التوافق والمصالح المشتركة بينهما حالة يقضه لتطلعات الجماهير الشعبية في التحرر الوطني؛ الأمر الذي يعزز تفعيل المنظور الماركسي الثوري لحركات التحرر الوطني عبر الترابط بين الأهداف الوطنية والطبقية في آن معاً، إذ أن النضال ضد الاستعمار الاستيطاني أو الامبريالية لا يختلف في جوهره في المرحلة الراهنة عن النضال ضد أنظمة التبعية والكومبرادور في بلداننا، وبالتالي لم تعد طروحات الثورة البلشفية، ونداء الرفيق لينين لشعوب الشرق الإسلامي (رغم مكوناتها وتناقضاتها الطبقية الداخلية)؛ قادرة على الاستجابة لمهمات التحرر الوطني والديمقراطي المطلبي التقدمي الهادف إلى الخلاص من كل أشال التبعية والاستغلال الكومبرادوري، وفق برامج تنطلق من المنظور الماركسي الذي بات ضروريًا بإلحاح في هذه المرحلة.
  وبالتالي، فإن معرفة الماركسية والتعمق في دراستها وممارستها تجعل من كل ماركسي في بلداننا أكثر تواصلًا وتفاعلًا مع قضايا العصر بكل جوانبها وتطوراتها المعرفية والتكنولوجية والاقتصادية والمجتمعية والثقافية ، ومع القضايا الوطنية التحررية والطبقية  داخل كل قطر بالارتباط العضوي المستقبلي مع القضايا القومية والأممية .
ففي عصرنا الحالي تتزايد ظواهر التفسخ الاجتماعي والفقر والبؤس ومظاهر العنصرية والصراعات الطبقية والصراع داخل دول رأس المال وكذلك الصراع بين الدول الإمبريالية الغنية كالولايات المتحدة وغرب أوروبا وبين الشعوب المضطهدة والفقيرة حول العالم. وتجري محاولات من قبل وسائل الإعلام في دول رأس المال بهدف تهميش ونقد الفلسفة الماركسية، من أجل إحداث انعطاف وتراجع عن مفاهيم الاشتراكية الدمقراطية الثورية الماركسية نحو طروحات تتبنى المفاهيم الإصلاحية الاجتماعية البرجوازية التي تخدم مصالح طبقة رأس المال والسوق الحرة المتوحشة في عصرنا الحالي، وهذه الممارسات تهدف إلى افساد الوعي الثوري لدى الطبقة العاملة والشعوب المضطهدة، لكي يرتموا في أحضان الانتهازية السياسية، ولكي يبتعدوا عن النضال الطبقي والقومي المثابر والمدروس والثوري سواء ضد الوجود الامبريالي او ضد الحركة الصهيونية وكيانها. وفضح وتعرية منطلقاته التوراتية الفاقدة لأي معنى او ارتباط تاريخي ، ومواصلة  مسيرة النضال ضده باعتبار الصراع معه صراعا عربيا صهيونيا تحتل القوى الوطنية الثورية الفلسطينية دورا طليعيا في هذه المسيرة .
  فالصراع بيننا وبين الصهيونية ليس صراعًا بين أديان أو أجناس أو عقائد، وإنما هو -وفق المنظور الوطني والقومي الماركسي- صراع عربي جماهيري ضد التحالف والوجود الإمبريالي الصهيوني وحلفاؤه؛ أنظمة التبعية والتطبيع والعمالة، تلك هي حقيقة الصراع الموضوعية على الرغم من الوضع العربي المنحط الراهن؛ إذ أن الكيان الصهيوني لن يصبح جزءًا من نسيج المنطقة العربية وسيظل كيانًا مغتصبًا عنصريًا وعدوانيًا في خدمة المصالح الإمبريالية الأمريكية، ما يعني ضرورة التمسك بهذه الرؤية على الرغم من أحوال الضعف والتشرذم والتفكك والانتهازية التي أصابت أحزاب وفصائل حركة التحرر العربية من جهة، وعلى الرغم من أن "دولة" الكيان الصهيوني بدعم إمبريالي، استجمعت كل مصدر من مصادر القوة وسخّرت لأغراضها وأطماعها كل مركز نفوذ لها في أنحاء العالم، وفي مثل هذه الأوضاع، فإننا -في أحزاب اليسار العربي- لن نفوز على أطماع الصهيونية والقوى الإمبريالية؛ إلا بقدر ما نحقق من مكاسب نهضوية ديمقراطية وثورية: سياسية واقتصادية واجتماعية وتكنولوجية وثقافية في ميادين كفاحنا في خضم الصراع الطبقي داخل بلداننا عبر مواصلة توعية الجماهير وتحريضها وتنظيمها؛ تمهيدًا لمراكمة عوامل نضوج الثورات الشعبية الهادفة إلى إسقاط أنظمة الخضوع والعمالة والتطبيع والتخلف وتحقيق برامج الثورة الوطنية الديمقراطية بقيادة أحزاب الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء في كل أقطارنا العربية برؤية قومية ديمقراطية تقدمية واضحة، أي إننا سننتصر بقدر ما يكون نضالنا نضالًا ثوريًا تقدميًا عربيًا مشتركًا، ونضالًا ذاتيًا في سبيل الإنشاء القومي والتجدد الحضاري.
 وبإيجاز كلي أقول –مستلهما مقولة الرفيق الشهيد مهدي عامل- "أن عملية التحرير الوطني هي، في مفهومها النظري، عملية تحويل ثوري لعلاقات الإنتاج الرأسمالية القائمة بعلاقة تبعيتها البنيوية بالإمبريالية؛ فالقطع مع الإمبريالية والاستقلال عنها يقضيان بضرورة تحويل هذه العلاقات من الإنتاج التي هي في البلد المستعمر؛ القاعدة المادية لديمومة السيطرة الإمبريالية، فلا سبيل إلى تحرر وطني فعلي من الامبريالية إلا بقطع لعلاقة التبعية البنيوية بها هو بالضرورة تحويل لعلاقات الإنتاج الرأسمالية القائمة في ارتباطها التبعي بنظام الانتاج الرأسمالي العالمي"، وبهذا المعنى وجب القول أن سيرورة التحرر الوطني في المجتمعات التي كانت مستعمرة، أعني في المجتمعات الكولونيالية، هي سيرورة الانتقال الثوري إلى الاشتراكية.
يتضح مما تقدم أن الصراع التحرري الوطني (ضد الوجود الصهيوني الإمبريالي) يمتلك عند مفكرنا الشهيد مهدي عامل بعدًا طبقيًا ضمن علاقة جدلية بينهما، وهو استنتاج أكدت على صحته مجريات الأحداث والصراعات العربية سواء في إطار الصراع ضد التحالف الإمبريالي الصهيوني أو في إطار النضال السياسي والمطلبي الديمقراطي، وهي في جوهرها عندي صراع طبقي) ضد أنظمة الاستبداد والاستغلال والتبعية والتخلف على حد سواء؛ ذلك إن التحرر من البرجوازية ونظام سيطرتها الطبقي "يمر، بضرورة منطقه، عند الرفيق الشهيد مهدي عامل ، بالتحرر من الإمبريالية، بل إنه هذا التحرر نفسه، كما أن التحرر من الإمبريالية، بقطع علاقة التبعية البنيوية بها، يمر بضرورة منطقه ، بالتحرر من البرجوازية ونظام سيطرتها الطبقية، بل إنه هذا التحرر إياه، وسيرورة التحرر هذا، في وجهيه الملتحمين في سيرورة معقدة واحدة، هي سيرورة التغيير الثوري في سيرورة الانتقال الكوني إلى الاشتراكية".
في هذا السياق، فإننا -في كل أحزاب اليسار في مشرق ومغرب هذا الوطن- ندرك بوضوح أن الثورة ليست عفوية، والوعي الطبقي الثوري لا يأتي إلى الطبقة العاملة بشكل عفوي، بل يأتيها من الخارج، أي من طليعتها؛ الحزب الثوري، الذي يُعبّر عن معاناتها ويجسد مصالحها وطموحاتها؛ فالحزب هو مكان تبلور الوعي الطبقي الثوري  المرتبط بالماركسية كنظرية ثورية، وهو أداة توعية للجماهير الفقيرة، من هنا أتت ضرورة الصراع الأيديولوجي.
في ضوء كل ما تقدم، وارتباطًا بموضوعنا حول مفهوم التحرر الوطني؛ نستنتج بوضوح أن الماركسية تسلط الضوء على جذر المشكلة، وجذر المشكلة في مشرق ومغرب وطننا العربي هو هيمنة الصهيوإمبريالية وعملائها حكام أنظمة الكومبرادور، على مقدرات شعوبنا العربية وحرمان الجماهير الكادحة والمهمشة من هذه الموارد وثمارها.
وبالتالي فإن تحرر هذه الجماهير من ربقة هذه القوى المهيمنة، يشترط من القوى والأحزاب الماركسية أن تقوم بتنظيم الجماهير وتوعيتها وتحريضها لخوض الثورة وفق المنظور الطبقي، ومن ذلك تنبع ضرورة أن تكون قيادة حركة التحرر القومي العربية ماركسية ثورية، بما يضمن تحقيق أهدافها التحررية الوطنية على طريق الثورة الاشتراكية؛ ذلك أن نظر الماركسية إلى الصراع الطبقي ينطلق من أنه "أمر موضوعي"؛ ينتج عن الوجود الموضوعي للاستغلال الناتج عن تحكم الرأسمال. وكان ماركس يبحث في وضع نشوء الصناعة في أوروبا، وكيف أن الرأسمالي يستغل "قوة عمل" العامل من أجل إنتاج فائض قيمة، وهو يزيد في استغلاله من أجل الحصول على الحد الأقصى من هذا الفائض، وهذا ما يجعل العامل يعيش في وضع صعب، حيث الفقر والاستغلال نتيجة العمل الطويل، هو الذي يدفعه إلى التذمر، ومن ثم الاحتجاج، والإضراب، إلى أن ينفجر في ثورة.
هذا هو لبّ النظر الماركسي، لكنه يُطرح في إطار أوسع، إذ أن الأمر يتعلق بمجموع الشعب الذي يتسم بتعدد الطبقات وليس بثنائيتها. لهذا، تنطلق الماركسية من فهم وضع مجمل الطبقات، حيث إنه كلما زاد تمركز الرأسمال انحدرت الفئات الوسطى، وزادت أعداد العاطلين عن العمل، ولهذا يتشكّل وضع تناقضي مركب، ورغم أن الطبقة التي تحتكر الثروة هي ذاتها (الرأسمالية)، فإن المتضررين منها هم من طبقات متعددة، لكل منها مصالحه، وهي كلها تميل إلى الاحتجاج، والتمرّد، والثورة، هذا هو الأمر الذي يفضي إلى الثورة العفوية، وهذا هو منظور الماركسية التي تعتبر أن الصراع موضوعيًا، ويفرض ثورات عفوية بالضرورة.
في هذا السياق ، اشير الى أن همّ كارل ماركس (وكذلك إنجلز ولينين) كان  يتحدد في فهم دور الفكر والتنظيم في تطوير هذه الثورة من أجل أن تنتصر وتحقق مطالب الطبقات الثائرة. هذا ما طرح مسألة الماركسية كمنهجية وكرؤية ونظرية تمثّل العمال، وطرح مسألة الحزب منذ تشكيل عصبة الشيوعيين إلى الأممية الأولى والثانية، ونشوء الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية، فالشيوعية. فما توصّل إليه ماركس وإنجلز هو أن الطبقة المضطهَدة لا تمتلك الوعي نتيجة تشربها بالوعي الذي تعممه الطبقة المسيطرة، ولا تمتلك التنظيم، وأكثر ما تستطيع هو تأسيس النقابات أو الاتحادات أو التجمعات، ولهذا كان على "نخب" تعتنق الماركسية دور بلورة الرؤية والاستراتيجية والخطاب في ترابط مع العمال وبهدف تشرّب العمال الوعي وتنظيم نشاطهم بما هو أبعد من المطالب الاقتصادية، أي الاستيلاء على السلطة"[6].
وإذا كانت الرأسمالية في بلدان  المراكز الرأسمالية الغربية واليابان قد قدمت  الامتيازات أو"الرشاوي" المباشرة وغير المباشرة للبروليتاريا ( سواء عبر ارتفاع الأجور والتأمينات المتنوعة والدعم والحقوق النقابية وغير ذلك من الامتيازات التي أفرغت طبقة البروليتاريا من مضمونها الثوري كما افرغتها من شعورها بالظلم الطبقي  كما أشار " هربرت ماركيوزة " في كتابه الشهير " الانسان ذو البعد الواحد " ، وبناءً على ذلك ، فقد زادت الرأسمالية الامبريالية المعولمة من استغلال ثروات بلدان وشعوب الأطراف، انطلاقا من تطبيق قاعدة " الاستيلاء على فائض القيمة لبلدان الأطراف في اسيا وافريقيا وبلداننا العربية، ووسعت من نهبها واستغلالها ،  وهو الأمر الذي فجّر الحالات الثورية العفوية العربية ، لكن تفكك وضعف وقصور قوى اليسار في بلادنا وعجزها عن قيادة الجماهير ، أدى الى توفير الفرص لقوى الثورة المضادة والقوى اليمينية بمختلف اطيافها ومنطلقاتها الفكرية لمجابهة ثورة الجماهير العفوية وحرمانها من تحقيق أي هدف من الأهداف التي قامت من اجلها سواء في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية او في تحقيق لقمة العيش والكرامة .
 وعليه، فإن أي حديث عن "الإمبريالية" و"التحرر الوطني"، والاستقلال، دون التفات إلى توعية وتنظيم الجماهير الشعبية التي تعاني الفقر والبطالة والقهر، ودون معرفة بأن الوطني مبني على الطبقي وليس العكس هو نوع من العجز والقصور؛ ذلك إن مواجهة الإمبريالية، وتحقيق "التحرر الوطني" والاستقلال، تتم فقط في مواجهة النظم التي تمثّل رأسمالية كومبرادورية تترابط وتتداخل مع الإمبريالية، وهي التي تكرّس التبعية. وهنا نعود إلى ماركس، وأساسية الصراع الطبقي، فهو الذي يمثل التناقض الرئيسي الذي يجب حسمه.
على أي حال ، فقد أوضحت الحالات الثورية الجماهيرية العفوية أن الصراع الطبقي قد تفجّر، وإذا لم تنتصر الجماهير الشعبية في المحاولة الأولى، هناك بالضرورة محاولة ثانية وثالثة، نتيجة أن هذه الجماهير لم تعد قادرًة على تحمّل وضع الاستغلال والاستبداد والخضوع ، وبالتالي فان النهاية المنطقية هي انتصار الجماهير على تلك الأنظمة شرط توفر أحزابها الطليعية الماركسية الثورية.
فإذا كانت الجماهير الشعبية قد نجحت في كسر حاجز الخوف من أنظمتها وأجهزتها الامنية، فليس من الممكن أن يعود ذلك الحاجز مجددا ، لكن المعضلة أو العقبة الرئيسية الجوهرية في الحراك الجماهير الشعبي المستقبلي  ، تتبدى في تفعيل واستنهاض أحزاب اليسار الماركسي، حيث لا بد من ماركسيين معنيين  في المبادرة الى المزيد من توعية العمال والفلاحين الفقراء  وكل الكادحين والمضطهدين وتنظيمهم وتحريضهم على الثورة ضد أنظمة الاستغلال الكومبرادوري، وهذا يعني ان تكون تلك الأحزاب بمثابة عقل العمال والفلاحين الفقراء والمضطهدين، وأن يبلوروا رؤية تخصهم، وإستراتيجية  واضحة واهداف محددة وآليات ثورية تقودهم للانتصار.
هنا بالضبط ، اخاطب رفاقي  عرباً وأمازيغ وأكراد وغيرهم في كافة أحزاب اليسار الماركسي في الوطن العربي، قائلا بوضوح ساطع :  إن الحاجة إلى وعي النظرية الثورية الماركسية ومنهجها المادي الجدلي، قضية تقرر مصير العمل الثوري كله في بلداننا، فلا إمكانية لتأسيس أو لتواصل حزب ثوري بدونها ، وعليكم ان تسألوا ؟ الى متى سنظل نردد هذه المقولة التي أصبحت بديهية  بلا نشاط فكري ونضال سياسي وديمقراطي وجماهيري وكفاحي مكثف وفعال؟
فليسَ يساريًا من لا يعي ويؤمن بعمق بدور النظرية الثورية أولًا لتفعيل الحركة الثورية، وليس يساريًا من لا يلتزم في الممارسة والنظرية بأسس النضال الطبقي والصراع السياسي والديمقراطي والثوري ضد أنظمة الاستبداد والاستغلال والتخلف وضد قوى اليمين الليبرالي والرجعي السلفي، وضد كل أشكال التبعية والتخلف والاستبداد والخضوع، وليس يساريًا من لا يمارس - وفق الزمان والمكان المناسبين- كل أشكال المقاومة المسلحة والشعبية ضد الوجود الصهيوني والقواعد الأمريكية المنتشرة في الوطن العربي... وليس يساريًا – بل خائنا - من يستعين بأعداء وطنه بذريعة الديمقراطية، وليس يساريًا من يشارك في حكومة من صنع الاحتلال أو يتحالف معها، وبالطبع ليس يساريًا أيضًا من يعترف بدولة العدو الصهيوني ويتناسى دورها ووظيفتها في خدمة النظام الإمبريالي .
 وفق هذا المنطلق، يجب أن نعيد تحديد معنى اليسار عمومًا، والماركسي المتطور المتجدد خصوصًا، الملتزم بالمنهج المادي الجدلي، فلا مكان هنا للتلفيق أو التوفيق ناهيكم عن الارتداد الفكري صوب الأفكار الهابطة والانتهازية والليبرالية الرثة؛ إذ أنَ هذه المنهجيات المُضَللة أساءت كثيرًا جدًا لليسار العربي كله وأدت إلى عزلته عن الجماهير وعن سقوطه المدوي في آن واحد، هذه تعريفات جوهرية وقيم عامة لليسار، ومن وجهة نظري، ليس يساريًا من لا يدافع عنها. وبالتالي، بات من الضروري تحقيق الفرز انطلاقاً منها، وأن لا يُكتفى بالتسميات أو الألوان الحمراء، بل أن يجري الانطلاق من المواقف والسياسات علاوة على الوعي المتجدد للماركسية ومنهجها، ولهذا حينما يجري التأسيس لعمل يساري أو وحدة قوى يسارية، يجب أن ينطلق من هذا الفرز، ويقوم على أساسه، وإلا استمرت التوجهات السياسية الانتهازية والارتدادات الفكرية وتفاقم مظاهر التفكك الشللية والتحريفية الانتهازية والمصالح الطبقية الخاصة؛ فاليسار ليس تسمية بل موقف وفعل أولًا وأساسًا؛ ذلك إنَّ القول بدور تاريخي لليسار العربي ليس إلا فرضية على جميع فصائله وأحزابه واجب إثباتها عبر التفاعل والتطابق الجدلي بين النظرية والواقع المعاش (الملموس) عبر الممارسة اليومية المتصلة بكل مقتضياتها السياسية والكفاحية والمجتمعية والجماهيرية .
إنَّ ما تقدم، يتطلب من احزاب وفصائل اليسار ترسيخ الأسس العلمية الصحيحة (السياسية والفكرية والجماهيرية والتحررية والاعلامية والمجتمعية والإدارية والمالية)، لبناء حركة ثورية ديمقراطية صحيحة وممأسسة تطرد كل مظاهر ازماتها الفكرية والتنظيمية والسياسة، بما يمكنها من جسر الفجوة بينها وبين جماهيرها والتوسع الكمي والنوعي في أوساطها واستعادة ثقتها بما يمكنها من مواجهة هذه التحولات السريعة المعقدة على المستوى المحلي والقومي والعالمي، وإلا فإن مسيرتها في الظروف الصعبة والمعقدة الراهنة من اجل تحقيق اهداف الثورة الوطنية الديمقراطية ستضل الطريق.
 خلاصة القول، ما زالت المهمة الملحة التي تنتظرنا هي تحويل نضال أحزاب وفصائل اليسار العربي وحركة الجماهير الشعبية الفقيرة في كل قطر عربي إلى حركة تحرر قومي شاملة ترفد حركة الثورة العالمية ضد الرأسمالية الإمبريالية برمتها. ولا بديل عن الماركسية الثورية المتجددة أبدًا بحكم طبيعتها الداخلية مرشدًا ومضمونًا لهذه السيرورة الثورية؛ إذ لا مستقبل لشعوبنا وكل الشعوب الفقيرة في كوكبنا، إلا من خلال الالتزام الواعي بالرؤية الماركسية ومنهجها، بقيادة الأحزاب الماركسية الثورية المُعَبِّرَة عن مصالح الجماهير الشعبية وتطلعاتها، ما يعني بوضوح أن منطلقاتنا الفكرية أو المعرفية ذات العلاقة بالرؤية أو المنظور الطبقي للصراع  ضد قوى الاستغلال والتبعية في بلداننا من ناحية وضد الوجود الإمبريالي الصهيوني من ناحية ثانية، ينبغي أن تقاس  بعلاقتها بالتحرر الوطني، وبالسؤال المصيري: إلى أي مدى تقوم تلك الأفكار عبر الحزب الطليعي الماركسي في تفعيل النضال والكفاح الجماهيري بالدفع الثوري الى الأمام لتحقيق أهداف التحرر الوطني  بعيداً عن أي شكل من أشكال الإعاقة للحركة التحررية  الوطنية الديمقراطي الثورية؟
هذا هو  المعيار الرئيسي للحكم على سيرورة التحرر الوطني في بلداننا ارتباطاً بالعلاقة العضوية بالمنظور الطبقي الماركسي كضمانة استراتيجية لتحقيق انتصار الجماهير الشعبية، ولهذا أرى أن من واجب قوى اليسار الماركسي العربي، أن تكون معنية بتحديد الموضوعات الأساسية القومية والوطنية التحررية من جهة والطبقية المجتمعية من جهة ثانية، التي يشكل وعيها، مدخلًا أساسيًا لوعي حركة وتناقضات النظام الرأسمالي من جهة، وحركة واقع بلدانها بكل مكوناته وآفاق صيرورته التطورية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من جهة ثانية، انطلاقًا من إدراكها الموضوعي، بأن التعاطي مع الماركسية ومنهجها؛ بعيداً عن كل أشكال  الديماغوجيا والجمود وتقديس النصـوص، كفيل بتجاوز أزمتها الراهنة، إذا ما أدركت بوعي عميق طبيعة ومتطلبات واقع بلدانها بكل جوانبه الاقتصادية والسياسية والمجتمعية، وامتلكت برامح واضحة واليات وطنية تحررية وديمقراطية طبقية للنضال.
هنا يتبدى لنا مجدداً السؤال التقليدي: ما العمل؟ ما هي العملية النقيض لذلك كله؟
إن الإجابة عن هذا السؤال مرهونة بصحوة حقيقية نشطة، سياسيًا وفكريًا وتنظيميًا، من قبل أحزاب وحركات اليسار في بلادنا في كل أرجاء المشرق والمغرب، على الرغم من إدراكنا للطبيعة المركبة والمعقدة لأزمة هذه الأحزاب، ومرهونة أيضًا بتبلور ولادة أحزاب وحركات يسارية ماركسية ثورية قادرة على التقاط هذه اللحظة، ومن ثم الالتزام بعملية النضال الحقيقي السياسي الديمقراطي والجماهيري من منظور طبقي، من أجل تحقيق الأهداف التي تتطلع اليها جماهيرنا الشعبية، وخاصة إسقاط رؤوس وأنظمة التبعية والاستبداد والتخلف والاستغلال، وتأسيس النظام الاشتراكي الديمقراطي الجديد.
وعلى هذا الأساس، فإنني أدعو ندعو إلى البدء في تفعيل عملية الحوار والبحث، بين كافة أحزاب وفصائل اليسار في الوطن العربي -بكثير من الهدوء والتدرج والعمق- بهدف إيجاد آلية حوار فكري من على أرضية الحداثة والماركسية، حول كل القضايا السياسية والاقتصادية والمجتمعية القومية والإنسانية، بما يخدم ويعزز الدور الطليعي -الراهن والمستقبلي- لقوى اليسار الماركسي العربي، رغم كل الصعوبات والتعقيدات التي تفرضها أنظمة التبعية والاستبداد والاستغلال الطبقي في بلادنا، ورغم الهجمة العدوانية الصهيونية الإمبريالية على شعوبنا من جهة، ورغم ما يعتري هذه المرحلة من ادعاءات القوى اليمينية بكل أطيافها ومنطلقاتها الرجعية المتخلفة أو الليبرالية الهابطة تجاه ضرورات الماركسية وراهنيتها من الجهة الأخرى... الأمر الذي يفرض على أحزاب وفصائل اليسار الماركسي أن تبدأ بعملية الاستنهاض الذاتي للخروج من أزماتها، واثبات وجودها ودورها في أوساط جماهيرها في كل قطر عربي أولاً، عبر برامج سياسية ومجتمعية تستجيب لمنطلقات الثورة الوطنية التحررية الديمقراطية بارتباطها المستقبلي الوثيق بالثورة القومية الديمقراطية الوحدوية ضد التحالف الإمبريالي والوجود الصهيوني والقوى الرجعية والطبقية وكافة قوى الاستبداد والتبعية والتخلف في وطننا العربي، بما يوفر أداة ورافعة نهضوية ديمقراطية تقدمية وثورية تسهم بدورها التاريخي الراهن في تجاوز الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التابعة والمتخلفة والمأزومة صوب تحقيق مهمات الثورة القومية الديمقراطية والمشروع النهضوي العربي على طريق المجتمع العربي الاشتراكي الموحد.
في هذا السياق، اعتبر المفكر القومي الماركسي الراحل ياسين الحفظ أن التخلف أو التأخر هو المسألة المركزية في الواقع العربي المعاصر، لذلك انتقد "المنظور التنموي" الذي توهم بإمكانية دخول العصر و"تجنب الثورة القومية الديمقراطية التي دشنت العصر الحديث من خلال قلبها وتصفيتها المجتمع التقليدي القديم، وعبر هذه التصفية أمكنها أن ترسي بنى المجتمع الحديث المجتمعية والأيديولوجية والسياسية وإطلاق قواه الإنتاجية. واستنادا إلى استقرائه لتاريخ الفكر السياسي العربي الحديث وجد "الحافظ" أن جماع السياسة العربية متأخر؛ فالتأخر كامن في البنية السياسية العربية، ليس في المنطق اليميني فحسب، ولا يقتصر على الأقليات العربية الحاكمة: "لسنا إزاء أخطاء فحسب، بل إزاء تأخر، لسنا إزاء سياسات يمينية فقط، بل سياسات لا عقلانية، لسنا إزاء تأخر الأقليات المهيمنة فقط، بل إزاء تأخر البنية السياسية العربية بجماعها". ومن هنا ألح على الحاجة إلى الثورة القومية الديمقراطية انطلاقاً من علمية وعلمانية الماركسية؛ إذ أن الانطلاق من الواقع، واعتبار الحقيقة دائما ثورية كامنة في بنية وعي الحافظ، ولذا فهو منذ الستينات يتنبه إلى خصوصيات الواقع العربي (خاصة التخلف الثقافي)، وعليه فإنها تتطلب الجانب العلمي والعلماني من الماركسية للاستجابة لحاجاته للتقدم.. وقد شدد الحافظ على خصوصية المجتمع العربي، بوصفه أشد حاجة لهذه العلمية والعلمانية "لأنه لم يعش المرحلة الديمقراطية البورجوازية على الصعيد – الفكري والثقافي". وقد تعمق فهمه لهذه المسألة بعد خيبته بالمشروع القومي التقدمي، وبعد استفادته من تاريخانية المفكر المغربي عبد الله العروي، وبداية إلحاحه على مسألة التأخر، وتهافت التفسير الطبقوي  للقوى التي صنعت الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة، ليبدأ السؤال المرير: أي ثورات صنعنا؟ وأي اشتراكيات بنينا؟ والجواب يتجلى في ضرورة المراجعة المعرفية والسياسية الكفيلة بامتلاك الوعي بالماركسية الثورية في بنية أحزاب اليسار العربي لكي تتمكن من هزيمة وتقويض أنظمة الرجعية والكومبرادور.
ختاماً، إنني؛ إذ اؤكد على أن اللحظة الراهنة من المشهد العربي، هي لحظة لا تعبر عن صيرورة ومستقبل وطننا العربي، رغم كل المؤشرات التي توحي للبعض أو القلة المهزومة، من أصحاب المصالح الأنانية الضيقة، أن المشهد العربي المهزوم والمأزوم الراهن؛ يوحي بأن المطلوب قد تحقق، وأن الإمبريالية الأمريكية وصنيعتها وحليفتها الحركة الصهيونية وإسرائيل، قد نجحتا في نزع إرادة العمال والفلاحين وكل الكادحين والمضطهدين العرب، ذلك إن وعينا بأن المشهد الراهن –على سوداويته- لا يعبر عن حقائق الصراع الاجتماعي/الطبقي، والكامنة في قلوب وعقول هذه الجماهير وطلائعها السياسية الثورية المتمثلة في حركات وأحزاب وفصائل اليسار الماركسي في بلدان وطننا العربي التي تناضل من أجل استعادة دورها الطليعي المنتظر لحركة التحرر العربية في مسيرة نضالها الوطني والقومي التحرري والمجتمعي الطبقي على طريق تحقيق أهدافها الثورية .
إن قراءتنا لواقع أحزاب وفصائل اليسار التي تجسد وحدها في مرحلة الانحطاط العربي الراهن، الإطار الثوري الوحيد لحركة التحرر الوطني العربية، تشير إلى أن معظم هذه الأحزاب والفصائل أزمة بنيوية (سياسية ونظرية ثقافية ومعرفية وطبقية عميقة) قد تصل – في حال استمرار عوامل تراكماتها- إلى حالة من الانسداد تؤذن بإسدال الستار على العديد منها اذا لم تبادر صوب تفعيل عملية المراجعة النقدية الموضوعية لتجربتها التاريخية السابقة، ومن ثم تفعيل التزامها المعرفي بالماركسية ومنهجها المادي الجدلي، إلى جانب تجديد رؤاها السياسية وبرامجها وآليات عملها التنظيمية وتحالفاتها بما يستجيب لتحقيق أهداف الثورة الوطنية الديمقراطية بآفاقها الاشتراكية.
وهنا أود التأكيد على أهمية انحياز المثقف الماركسي لمصالح وأهداف الطبقات الشعبية الفقيرة؛ إذ أن هذا الانحياز الواعي والمسئول هو الأساس الأول في تحديد ماهية موقفه السياسي، ورؤيته الفكرية أو الأيدلوجية وفق ما يتطابق مع تطلعات الطبقات الشعبية وأهدافها المستقبلية، حيث أن مجتمعاتنا بحاجة ماسة إلى مراكمة عوامل إنضاج ثورة وطنية ديمقراطية وانتصارها تمهيدًا لبناء مقومات القوة الكفيلة بهزيمة وطرد الوجود الصهيوني والامريكي من بلادنا، وبدون ذلك لن نستطيع تحقيق اي هدف تحرري ونحن عراة، متخلفين وتابعين ومهزومين يحكمنا الميت (شيوخ قبائل وأمراء وملوك عملاء ورؤساء مستبدين)؛ أكثر من الحي (النهوض الوطني والقومي التقدمي الديمقراطي)، ففي مثل هذه الأوضاع يحكمنا الماضي أكثر من المستقبل... فما هي قيمة الحياة والوجود لأي حزب أو مثقف تقدمي إن لم يكن مبرر وجوده تكريس وعيه وممارساته في سبيل مراكمة عوامل الثورة على الأموات والتحريض عليهم لدفنهم الى الأبد لولادة النظام الثوري الديمقراطي الجديد للخلاص من كل أشكال التبعية والعمالة والاستبداد والتخلف وتحقيق أهداف ومصالح وتطلعات العمال والفلاحين الفقراء وكافة الكادحين والمضطهدين.
وعليه أقول بكل وضوح، إنّ الثورة لا تنضج بمقدماتها فحسب، بل تكتمل بتوفير الوعي المعمق لكافة العناصر الموضوعية للوضع الثوري والعامل الذاتي (الحزب) ووحدتهما معاً، وهي أيضاً لا يمكن أن تندلع –بالصدفة أو بحفنة من المناضلين المعزولين عن الشعب، بل بالحزب الثوري الديمقراطي المؤهل، الذي يتقدم صفوف الجماهير الشعبية الفقيرة، واعياً لمصالحها وتطلعاتها وحاملاً للإجابة على أسئلتها، ومستعداً للتضحية من أجلها، واثقاً كل الثقة من الانتصار في مسيرته وتحقيق الاهداف التي تأسس من أجلها (مكرر نصا سابقا).
وفي هذا الجانب، أشير إلى أنه بدون توفر الإرادة الشعبية والالتفاف الجماهيري، يصبح خوض التمرد الثوري بالعنف الشعبي والمسلح أو بوسائل الضغط الجماهير الديمقراطي لأي حزب أو فصيل نوعًا من المغامرة، لأن الجماهير منفضة من حوله، خاصة وأن الطليعة لا تناضل نيابة عن جماهيرها، بل بها، وفي مقدمتها، فهي من يرعى المناضلين، ويمدهم بالعون والدعم المادي والمعنوي، ويخفيهم ويحميهم عند الضرورة، كما يمدهم بالدماء الجديدة، ما يجعل انفصال الأحزاب الثورية الديمقراطية عن الجماهير الشعبية – كما هو حالها اليوم في مجتمعاتنا- سمة من سمات هبوط وتفكك هذه الأحزاب وتراجعها السياسي والفكري والتنظيمي والجماهيري. لذلك؛ فإن التأييد الجماهيري مسألة أساسية؛ إذ إننا – على سبيل المثال- لن نستطيع تنظيم وإنجاح إضراب أو اعتصام أو مظاهرة شعبية لا يقتنع الجمهور بأهدافها أو بالأسباب الداعية لتنظيمها، فإذا كان الأمر كذلك ، فإن غياب أو ضعف قناعة الجماهير الشعبية بممارسة النضال التحرري الثوري المسلح ، تتزايد وربما تصل الى أعلى درجات اليأس والإحباط طالما أن هذه الجماهير الفقيرة عاجزة بسبب فقرها وحرمانها عن تأمين أسباب الحياة الكريمة لعوائلها، حيث يغيب العقل حين يغيب الدقيق كما يقول ماركس ، ما يعني بوضوح ثوري ساطع أن أي نضال وطني تحرري معزول عن النضال الطبقي الاجتماعي وقضايا الجماهير الشعبية المطلبية، هو نضال قاصر لن يستطيع تحقيق الالتفاف الجماهيري من حوله، ويظل محكومًا بالأفق المسدود رغم ضخامة التضحيات. وبالتالي، لا بد أن تنطلق الثورة التحررية الوطنية الديمقراطية في بلادنا العربية، من منظور يساري يضمن تفعيل العلاقة الجدلية بين الثورة الوطنية التحررية الديمقراطية وبين القضايا المطلبية والصراع الطبقي على طريق الثورة الاشتراكية.
ذلك إن قضية التحرر الوطني والتحرير إذاً هي بالضرورة في مرحلة الانحطاط العربي الرسمي الراهن– في هذا العصر بالذات – قضية لا يمكن فصلها عن بعدها الطبقي الاجتماعي المطلبي الثوري، فهي ليست مسألة وجدانية او فلسفية عن حق الشعوب في تقرير مصيرها، أو حق الشعوب في مقاومة المحتل، والدفاع عن حريتها وتحررها، لأن مهمة التحرر الوطني، ينبغي ان تتوفر لها عوامل وشروط، تُحَوِّل هذا الفهم الوجداني او الفلسفي، الى تطلعات سياسية وطبقية تخدم فكرة النضال التحرري الوطني ، وتعزز ايضا بلورة الهوية الوطنية والقومية التقدمية الديمقراطية الجامعة.
فحينما أتحدث عن هوية قومية تقدميه ، فإنني أتحدث في نفس الوقت عن حركه تحرر وطني وقومي في كل قطر عربي في مشرق ومغرب الوطن العربي ، حركة ملتزمة بالهدف التحرري التوحيدي القومي انطلاقاً من الوعي العميق بأن لا مستقبل لأي قطر عربي دون تكامله السياسي الاقتصادي المحكوم بالرؤية التنموية الاشتراكية مع بقية الاقطار العربية ، آخذين بعين الاعتبار أننا نتحدث عن النضال التحرري الوطني العربي، في كل أرجاء الوطن العربي ، باعتباره منطقة تشكل بموقعها وثرواتها أهم وأعقد المناطق في العالم، ضمن الصراع التناحري ضد تحالف القوى الامبريالية والكيان الصهيوني ، الذي يسعى الى تكريس السيطرة على هذه المنطقة وما تمثله من ثروات نفطية ومواقع استراتيجية ، لضمان المصالح الامبريالية وضمان استمرار احتجاز تطور مجتمعاتنا العربية وتخلفها ، وتلك هي وظيفة الكيان الصهيوني ودوره المرسوم في بلادنا .
هنا، لا بد لي من أن أؤكد بوضوح شديد على أن النضال الوطني التحرري هو اليوم في ظروفنا العربية المحكومة الى حد كبير في مصر والسودان والعراق والاردن والمغرب وتونس والسعودية والخليج وفلسطين..الخ، لشروط التبعية لنظام العولمة الإمبريالي، هو جزء من النضال الطبقي للكادحين والفقراء والمضطهدين، وهو نضال لا يتميز عن النضالات التاريخية السابقة شدةً واتساعًا فحسب، بل يتميز أيضًا، بتطوره، نوعيًا وكيفيًا شرط توفر التنظيم الماركسي الطليعي الكفيل بإدخال الوعي الطبقي الثوري في صفوف الفقراء، بما يمكنهم من التحول الى حالة نوعية في النضال التحرري والديمقراطي الاجتماعي والاقتصادي ضمن منظورهم ومصالحهم الطبقية واهدافهم الوطنية.
وفي هذا الجانب، من المفيد أن نستذكر معًا قول المفكر اللبناني الشيوعي الشهيد مهدي عامل حول حركة التحرر الوطني: "من داخل، أعني بآليتها الداخلية، وبمنطق سيرورتها كحركة عداء للإمبريالية، هي بالضرورة حركة عداء للرأسمالية، تتحدد حركة التحرر الوطني كجزء من الثورة الاشتراكية". إذًا، يمكن القول إن العداء للإمبريالية لا يكون بالفعل متسقًا إلا بما هو عداء للرأسمالية، ومن حيث هو هذا العداء بالذات، ففي حقل علاقتها العضوية بأزمة الإمبريالية، من حيث هي، بالدرجة الأولى؛ أزمة نمط الانتاج الرأسمالي نفسه؛ تتمدد حركة التحرر الوطني في ذلك الشكل التاريخي الذي يجعل منها جزءاً من العملية الثورية العالمية.
وبإيجاز كلي نقول -كما يضيف مهدي عامل- "أن عملية التحرير الوطني هي، في مفهومها النظري، عملية تحويل ثوري لعلاقات الإنتاج الرأسمالية القائمة بعلاقة تبعيتها البنيوية بالإمبريالية، فالقطع مع الإمبريالية والاستقلال عنها يقضيان بضرورة تحويل هذه العلاقات من الإنتاج التي هي في البلد المستعمر، القاعدة المادية لديمومة السيطرة الإمبريالية، فلا سبيل إلى تحرر وطني فعلي من الإمبريالية إلا بقطع لعلاقة التبعية البنيوية بها هو بالضرورة تحويل لعلاقات الانتاج الرأسمالية القائمة في ارتباطها التبعي بنظام الانتاج الرأسمالي العالمي".
بهذا المعنى وجب القول: أن سيرورة التحرر الوطني في المجتمعات التي كانت مستعمرة؛ أعني في المجتمعات الكولونيالية، هي سيرورة الانتقال الثوري إلى الاشتراكية، وهنا بالضبط تكمن الأهمية القصوى للنظرية الماركسية وراهنيتها في تفعيل النضال التحرر الوطني والديمقراطي المجتمعي في إطار الصراع الطبقي من منظور ماركسي نضالي؛ يهدف إلى إسقاط أنظمة التبعية والخضوع الكومبرادوي، ويمهد بالضرورة إلى توفر الإمكانات المادية الاقتصادية والعسكرية وغيرها المطلوبة في سياق النضال ضد الوجود الإمبريالي الصهيوني وإزالته من بلادنا. لذلك، فإن جميع الماركسيين في كافة الأحزاب والحركات اليسارية على الصعيدين العربي والأممي؛ مطالبون بدراسة واقع بلدانهم وتطبيق النظرية على هذا الواقع تطبيقـًا خلاقـًا.
إن أهمية هذه الرؤية؛ مرتبطة بما يجري من أزمات سياسية واقتصادية عالمية من جهة، ومزيد من محاولات الاستغلال والسيطرة الإمبريالية على مقدرات شعوب البلدان الفقيرة عموماً وبلدان وطننا العربي خصوصاً، بما يؤكد على عودة الماركسية المتطورة؛ المستفيدة من كل خطايا وأخطاء التجارب السابقة من جديد وعلى الاشتراكية كخيار وحيد للمستقبل.
في إطار هذه الضرورة، ووعينا لها، تتبدى الماركسية كمنهج للتحليل وكنظرية في التغيير الثوري، إلى جانب الاستفادة من المسار التطوري والتجديدي للفكر الماركسي ما بعد لينين إلى يومنا هذا عبر العديد من المفكرين والمثقفين الماركسيين الذين قدموا إضافات نوعية في الفلسفة والعلوم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، أغنت الماركسية كنظرية في التغيير الثوري وكمنهج للتحليل؛ الأمر الذي يضع أحزاب وفصائل اليسار العربي أمام خيارين لا ثالث لهما، إما استلهام ووعي المسار التطوري المتجدد للماركسية أو دخول هذه الأحزاب مرحلة التفكك والاندثار في انتظار الجديد، الذي سيولد حتمًا من بين صفوفها أو من خارجها.
 
 
 
 
 


-      1- د. عبد الله تركماني – الأحزاب الشيوعية.. في المشرق العربي – لبنان - الطبعة الاولى 2002 -صفحة 285/286
- [2]المصدر السابق ص 290
[3]-  النظرية والممارسة في فكرة مهدي عامل – خاص بوابة الهدف – 19 أكتوبر 2020.
[4]-  سعيد محمد – أولوية التحرر الوطني عند ماركس وإنجلز – 22 تشرين الثاني 2019.
[5] - ترافق النضالَين الوطني والطبقي عند ماركس وإنجلز، لم يكن مجرّد ترف نظريّ أو سياسي فحسب. إذ يذكر الاشتراكي الفرنسي تشارلز لونجيه في نصّ له من عام 1872 ـــ وهو كان متزوجاً من إحدى كريمات ماركس ـــ أن العائلة كانت جميعها تتابع نضالات وثورات البولنديين والإيرلنديين الوطنيّة بذات الحماسة التي كانت تتابع بها نضالات البروليتاريا في مختلف الدّول. وعندما أعدم ثلاثة من الثوار الإيرلنديين في مانشستر 1867 بعد القبض عليهم يتآمرون لتحرير اثنين من القادة الإيرلنديين المسجونين هناك، كتب ماركس لرفيقه إنجلز يقول: «جيني (زوجة ماركس) ما زالت ترتدي السواد منذ إعدامات مانشستر، وتضع صليباً بولندياً وعصابة إيرلندية خضراء». في هذا السياق ربمّا ينبغي أن نعيد قراءة مفهوم «الصراعات الطبقية» كما في البيان الشيوعيّ كتمثلات مختلفة شكلاً وموضوعاً يمكن أن يأخذها «الصّراع الطبقي» الذي ينبغي للشيوعيين الانخراط به، مرّة ضد الطبقة المهيمنة داخل المجتمع الواحد، وأخرى ضدّ الهيمنة الخارجيّة ـــ وهذه تكتسب أولويّة في حال الأمم المضطهدة ــ.. فيافطة «الصّراع الطبقي» التي برّر يساريون كثر مواقفهم المتآلفة مع غايات الإمبراطوريّة الأميركيّة على أساسها يجب أن تُزال لمصلحة رؤية أشمل للمفهوم، تنقله إلى حيّز نظريّة عامّة للنّضال الاجتماعي (الطبقي) لكل المضطهدين تتعدد أشكاله وساحاته وفق تعقيد الحالة، بينما ترتب فيها الأولويات المرحليّة في لحظة تاريخيّة محددةـ
[6]  سلامة كيلة – العفوية والوعي والبروليتاريا – 19/11/2016.