الحرب الروسية الأوكرانية والخطر النووي الراهن


رضي السماك
2022 / 9 / 3 - 20:34     

بمناسبة رحيل ميخائيل جورباتشف- آخر زعيم للأتحاد السوفييتي- عن عالمنا يوم الثلاثاء الماضي، بثت قناة DW الألمانية، فيلماً وثائقياً تميز بحد أدنى معقول من الشفافية والموضوعية،لما تضمنه من شهادات مهمة لشخصيات متعددة معظمها غربية، والقليل منها سوفييتية،تناولت وذلك تطور الأوضاع التي أفضت إلى أنهيار الاتحاد السوفييتي في عهده الذي أستمر سبع سنوات فقط جراء النهج الذي أتبعه على صعيد السياسة الداخلية خلال عهده الذي أستمر سبع سنوات تحت شعار البيروسترويكا والجلاسنوست، بموازاة أتباعه سياسة خارجية أتسمت بتقديمه تنازلات مفرطة للغرب، والحد الكبير من سباق التسلح النووي، وسرعان ما أفضى هذا النهج في كلتا السياستين الداخلية والخارجية إلى تفكك وأنهيار الأتحاد السوفييتي في 1991، وسنكتفي تالياً بعرض ثلاث شهادات غربية،وواحدة يابانية؛وتنطوي الشهادات الغربية الثلاث على مغزى و دلالات مهمة من حيث أعتراف أصحابها بدور الجانب الغربي ومسؤوليته عن خلق حرب باردة جديدة وتوتير العلاقات بينه وبين روسيا مما أدى إلى نشوب الحرب الروسية - الأوكرانية الراهنة والتي يخيم عليها شبح مرعب بتحولها إلى حرب نووية شاملة في ظل وقوف الدول الغربية،وعلى رأسها الولايات المتحدة، بكل ثقلها إلى جانب اوكرانيا بالمال والسلاح، في ظل أيضاً تصعيد متبادل بين الطرفين المتحاربين، وغياب أي مبادرة سلام دولية متوازنة بين الطرفين تنهي هذه تنهي الحرب بين البلدين الجارين .
الشهادة الأولى: جاءت على لسان أوبير فيدرين، وزير الخارجية الفرنسي في الفترة 1997- 2002 والذي سلّط الضوء على دلالات موقف الرئيس الفرنسي الأسبق الجنرال ديجول من حليفته الولايات المتحدة عام 1966حيث وقف منها موقف الند للند بعدما أرادت واشنطن أستخدام أستراتيجية "الردع النووي المحدود" ضد الاتحاد السوفييتي وحلف "وارسو"، لكن ديجول رفض هذه الأستراتيجية من منطلق أن العواقب ستكون وخيمة عالمياً إذ سيلجأ كلا الطرفين إلى التصعيد النووي المتبادل ماينذر بكارثة عالمية . وفي فترة من فترات التوتر بين الجانبين الأميركي والسوفييتي في أوائل الثمانينيات عمد الجانب الأول إلى نصب صواريخ بيرشينج النووية متوسطةالمدى في ألمانيا واوروبا،لكن فيدرين يعترف بأن الخطة أنتهت إلى الفشل، إذ تقرر سحب الصواريخ تحت ضغوط شعبية داخلية واوروبية وعالمية ؛ ولم تكن هذه الضغوط-كما نعلم- إلا بفضل نضالات قوى التقدم والسلم في العالم في ألمانيا واوروبا والعالم وكان لليسار العالمي دور محوري فيها..
الشهادة الثانية: وقد جاءت على لسان هورست تيلتشيك، مستشار الزعيم الألماني الأسبق هيلموت كول، وقد أعترف بتفويت الغرب فرص ضائعة زمن الحرب الباردة، ملقياً اللوم على السياسة الأميركية حينذاك، ومن ذلك حينما سنحت فرصة التوصل إلى بيت اوروبي مشترك يوفر الأمن للجميع، وبضمنهم السوفييت ثم الروس بعد أنهيار الاتحاد السوفييتي، ومن ذلك أيضا اقتراح الرئيس الروسي السابق ميدفيدف بانشاء مركز للوقاية من الصراعات الاوروبية الذي اُفتتح فعلا ، لكن التجربة سرعان ما أنتهت إلى الفشل أيضاً. وفي أثناء شهادته برزت على الشاشة مؤشرات رقمية لما كان يهدد العالم من خطر نووي في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، إذ بلغ مجموع أعداد الرؤوس النووية للدول النووية الست 64 ألف رأس نووي و592 موزعين كالتالي: الاتحاد السوفييتي المتحدة 40 ألف و159، الولايات المتحدة 23 ألف و459، بريطانيا 350ألفاً، الصين 522 ألفاً، فرنسا 360ألفاً، إسرائيل 42 ألفاً. وبغض النظر عن مدى دقة هذه الأرقام فقد كانت مؤشرات في منتهى الخطورة آنذاك. ويضيف بأن الرئيس الروسي بوتين قال له ذات مرة: أن رئيس المفوضية الاوروبية أقترح عليه في لقاء بموسكو إقامة منطقة سوق حرة من لشبونة ( أقصى الغرب الأوروبي إلى فيلاديفوستك( أقصى الشرق الروسي) وهذه المبارة أيضاً كانت من الفرص الضائعة التي ضيعها الغرب على حد تعبير تيلتشيك!
كما أنتقد عدم الاستفادة من مقولة لرئيس الوزراء البريطاني الأسبق تشرتشل: "يجب أن تكون كريما بعد هزيمة عدوك في الحرب" مذكراً بتجربة اتفاقية فرساي بُعيد الحرب العالمية الأولى والتي تضمنت بنوداً تمعن في إذلال ألمانيا المهزومة في الحرب، ما أدى إلى أندلاع شرارة الحرب العالمية الثانية لاحقاً على يد هتلر، وقال ما كان مفترضاً أن تسمح ألمانيا والغرب بتسلمه السلطة في برلين.
الشهادة الثالثة: وتتمثل في شهادة وزير الخارجية الأميركي الأسبق جورج شولتز الذي يروي بأنه كان في زيارة رسمية للاتحاد السوفييتي عندما كان وزيراً للمالية، وزار على هامشها، بصحبة نظيره السوفييتي بيتولاجوف السوفييتي، النصب التذكاري في مقبرة الشهداء الضخمة في لينينجراد (بطرسبورغ حاليا)وبأنه لاحظ أتناء مرورهم بصفوف طويلة من المقابر الجماعية لشهداء المدينة ( يقصد الذين سقطوا جراء حصار النازيين لها) بأن نظيره السوفييتي والمترجم الروسي داخل المقبرة تفجرت فجأةً أعينهم بالدموع . وأضاف شولتز أنه لتأثره لهذا الموقف فإنه عندما وصل إلى منصة النصب التذكاري للمقبرة بادر إلى تأدية التحية، ما أثار في نفس نظيره الارتياح معبرا عن شكره وتقديره لنظيره الروسي وأعترف شولتز لنظيره السوفييتي بما قدمه الاتحاد السوفييتي من ملايين الشهداء السوفييت في الانتصار على النازية في الحرب العالمية الثانية، لأنه هو نفسه -على حد تعبيره- شارك في الحرب نفسها وفقد فيها رفاقاً أعزاء عليه.
الشهادة الرابعة: وقد جاءت على لسان السيدة اليابانية سيتسكو تورلو،وكانت لإحدى الناجين من محرقة مدينة هيروشيما النووية التي اُلقيت عليها أول قنبلة نووية في التاريخ من قِبل سلاح الجو الأميركي ليفني المدينة بالغالبية الساحقة من سكانها وعمرانها في غضون ثلاث دقائق ، وكانت شهادتها مؤثرة للغاية في وصفها الدقيق لفظائع المحرقة النووية، كما تنم شهادتها عن تمتعها بوعي سياسي عال وروح إنسانية عالمية، مذكرةً بأن العالم كان مخطئاً حينما توهم بزوال خطر الأسلحة النووية بعد هدم جدار برلين، وناشدت البشرية بأن تستيقظ، إذ بات الخطر النووي خطراً أكثر من أي وقت مضى، ولا يجب أن تمر البشرية بمحرقة عالمية جديدة كالتجربة التي عشناها. ومن المفيد الإشارة هنا إلى أنه في الحرب الروسية الأوكرانية الراهنة فقد لوح خلالها الرئيس الروسي بوتين غير مرة بجاهزية أسلحة بلاده النووية بعدما ما وصلت قوات من الناتو إلى أعتاب حدود بلاده من خلال أراضي دول حلفاء روسيا السابقين زمن الاتحاد السوفييتي، وبضمنها أوكرانيا نفسها ، لكن الرئيس الروسي لم يتحل بالصبر الكافي باستنفاذ كل وسائل وأسلحة الضغوط غير العسكرية قبل الإقدام على قرار يُعد في منتهى الخطورة بشن الحرب على أوكرانيا في فبراير الماضي .
والحال أن الشهادات الأربع المتقدم عرضها تنطوي على دروس حية بالغة الدلالة، على مخاطر تطور مسار الحرب الراهنة إلى أستخدام السلاح النووي سواء من قِبل جروسيا، أو من قِبل الغرب بقيادة الولايات المتحدة والتي ما فتئت هي وحلفاؤها يلقون بكل ثقلهم بمد أوكرانيا بالأسلحة المتطورة بلا أنقطاع، منذ أكثر من ستة شهور على بدء الحرب . وعند ما ما يلجأ أي من الطرفين إلى أستخدام السلاح النووي ويرد عبيه الآخر بالمثل، فلن يكون عندئذ رابحاً وخاسراً في الحرب لأنها ستفضي إلى جُل كوكبنا، وهذا باعتراف وأثباتات قاطعة من قبل العلماء العقلاء لكلا الجانبين الروسي والغربي .