دور الفرد في التاريخ


نجيب الخنيزي
2022 / 9 / 2 - 17:33     



يتعين الوقوف هنا أمام اتجاهين رئيسين في فهم التاريخ فهناك من يرى التاريخ مسيرا وفقا لقانون الحتمية التاريخية (الجبرية)، وبالتالي ليس هناك من دور بارز للفرد في صناعة التاريخ، وهناك من يرى بأن صيرورة التاريخ تتأتى في المقام الأول من دور الأفراد والسمات الشخصية للقادة والزعماء الذين يرسمون (سلبا وإيجابا) معالم خط التاريخ، ودون إبداء الاهتمام بدور الظروف والأسباب الموضوعية، ومدى نضج الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والنفسية السائدة ، وقبل كل شيء قدرة ونضج الجماهيرلعملية التغيير .
ركز المستشرقون في كتاباتهم وأبحاثهم على الجزء الأول من الكتاب الكبير في التاريخ لابن خلدون الذي سماه " كتاب العبر ، وديوان المبتدأ والخبر ، في أيام العرب والعجم والبربر ، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر " إضافة إلى مقدمة المؤلف " مقدمة في فضل التاريخ " حيث يطلقون عليهما العنوان المختصر وهو " المقدمة " أو مقدمة ابن خلدون .
وتنبع الأهمية الخاصة التي أولوها للمقدمة و للجزء الأول المعنون " في طبيعة العمران البشري " ما تضمنهما من استنباطات فكرية عميقة واكتشاف أدوات تحليل نظرية جديدة مثلت بداية لتأسيس المنهج العلمي في دراسة التاريخ والاجتماع ( العمران ) الإنساني .
القضية المركزية في التاريخ لدى ابن خلدون ليس الجوانب الظاهرية في توصيف الأخبار والحوادث وسير الأنبياء والملوك ولكن العلل الخفية في تاريخ المجتمع البشري الذي تحكمه قوانين موضوعية أطلق عليها " كيفية الوقائع وأسبابها " ومنتقدا الأغلبية من المؤرخين في عصره والعصور السابقة أنهم اكتفوا بنقل مادة التاريخ من غير نقد وتمحيص " فأدوها إلينا كما سمعوها، ولم يلاحظوا أسباب الوقائع والأحوال ولم يراعوها، ولا رفضوا ترهات الأحاديث ولا دفعوها " .
وقد حدد ابن خلدون أوجه النقص في التاريخ المنقول على الوجه التالي: أولا، التشيع للآراء والمذاهب. ثانيا، الثقة بالناقلين. ثالثا، الذهول عن المقاصد. رابعا، الجهل بتطبيق الأحوال على الوقائع لأجل ما بداخلها من التلبيس والتصنع. خامسا، تقرب الناس في الأكثر لأصحاب التجلة والمراتب بالثناء والمدح. سادسا، الجهل بطبائع الأحوال في العمران. (المقدمة جـزء 1 ) .
وفي هذا السياق فند بعض المبالغات والأحداث التي لا يمكن أن تقع من الناحية العقلية كما في تاريخ ابن كثير ومجايله والسابقين لهم واللاحقين. ومع انه أثنى على كتاب المسعودي " مروج الذهب " في شرحه لأحوال الأمم ووصفه لنحلهم وعوائدهم غير انه أخذ عليه أيضا انه لم يخرج عن منهج الوصف والنقل ولم يستبطن اهداف التاريخ الذي هو " نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق " ( المقدمة ) .
وقد حدد ابن خلدون مكونات منهجه العلمي الجديد في علمي التاريخ والاجتماع بقوله " هذا علم مستقل بنفسه، فانه ذو موضوع وهو العمران البشري والاجتماع الإنساني، وذو مسائل، وهي بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال لذاته واحدة بعد الأخرى، وهذا شأن كل علم من العلوم وضعيا كان أو عقليا. وأعلم ان الكلام في هذا الغرض مستحدث الصنعة، غريب النزعة، غزير الفائدة، أعثر عليه البحث ، وأدى إليه الغوص" محددا منهجه العلمي الجديد بقوله " وكأنه علم مستنبط النشأة ، ولعمري لم أقف على الكلام في منحاه لأحد " .
هذه القراءة الجديدة لحقيقة التاريخ الإنساني وما يعتمل فيه من أحداث ونوازل ومتغيرات تعود في الدرجة الأولى إلى العوامل الموضوعية ودور القوى الدافعة والمحركة للتاريخ وفي ذلك يقول " حقيقة التاريخ انه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم ، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض ، وما ينشأ عن ذلك من الملك ، والدول ومراتبها ، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال" .
وحدد ابن خلدون منهجه في فلسفة التاريخ بأنه " سلكت في ترتيبه وتبويبه مسلكا غريبا ، واخترعته من بين المناحي مذهبا عجيبا ، وطريقة مبتدعة وأسلوبا ، وشرحت فيه من أحوال العمران والتمدن وما يعرض في الاجتماع الإنساني في العوارض الذاتية ما يمتعك بعلل الكوائن وأسبابها ، ويعرفك كيف دخل أهل الدول من أبوابها ، حتى تنزع من التقليد يدك ، وتقف على أحوال ما قبلك من الأيام والأجيال وما بعدك " .
ووفقا لابن خلدون فأنه أكد أن التاريخ لا يعيد نفسه حيث يقول: " من الغلط الخفي في التاريخ الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الأمصار ومرور الأيام وهو داء دوي شديد الخفاء إذ لا يقع إلا بعد أحقاب متطاولة فلا يكاد يفطن له إلا الآحاد من أهل الخليقة، وذلك أن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال وكما يكون ذلك في الأشخاص والأزمان والإعصار فكذلك يقع في الآفاق والأقطار"
هذا الطرح الخلدوني يذكرنا يأطروحة ماركس " التاريخ لا يكرر نفسه ، وإذا تكرر ففي المرة الأولى مأساة ، وفي المرة الثانية ملهاة "
رتب ابن خلدون كتابه على مقدمة وثلاثة كتب على الوجه التالي المقدمة : في فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه والالمام بمغالط المؤرخين .
ثم الكتاب الأول في العمران وذكر ما يعرض فيه من العوارض الذاتية من الملك والسلطان والكسب والمعاش والصنائع والعلوم وما لذلك من العلل والأسباب.
أما الكتاب الثاني ففيه استعراض أخبار العرب واجيالهم ودولهم منذ بدء الخليقة إلى هذا العهد (زمن تأليف الكتاب)، وفيه الألمام ببعض من عاصرهم من الأمم المشاهير ودولهم ، مثل النبط والسريانيين والفرس وبني إسرائيل والقبط واليونان والروم والترك والفرنجة . وأخيرا الكتاب الثالث وهو يتضمن أخبار البربر ومن إليهم من زناته، وذكر اوليتهم وأجيالهم، وما كان لهم بديار المغرب خاصة من الملك والدول.
كما تضمن كتابه وصف رحلته المشرقية التي شملت الحجاز ومصر " سالكا سبيل الاختصار والتلخيص، مفتديا بالمرام السهل من العويص، داخلا من باب الأسباب على العموم إلى الأخبار على الخصوص، فاستوعب أخبار الخليقة استيعابا، وذلل من الحكم النافرة صعابا، وأعطى لحوادث الدول عللا وأسبابا، وأصبح للحكمة صوانا وللتاريخ جرابا".
ومن هنا فان المقدمة والكتاب حوى جانبي التوصيف في سرد الحوادث والمتغيرات والتحليل النظري العلمي لها في آن معا مبرزا ومدللا بصور علمية ومنهجية على دور القوانين (قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج) الاجتماعية العامة في نشوء وتطور العمران البشري للمجتمعات الإنسانية كافة. للحديث صلة