النبي والبروليتاريا: حول موقف اليساريين من الإسلاميين (كريس هارمان)


محمد الهلالي
2022 / 8 / 31 - 14:07     

أصبحت الحركات الإسلامية حاضرة بقوة في المجتمعات العربية الإسلامية، بل تمكنت من الهيمنة على بعض المجتمعات والوصول للسلطة أحيانا (مصر، السودان، الجزائر، غزة...). ينعت الغرب هذه الحركات "بالأصولية الإسلامية"، و"الإسلاموية"، و"التمامية"، و"الإسلام السياسي"...
انضم الليبراليون، أنصار الحداثة والتحديث، لصفوف السلطة ضد الحركات الإسلامية، لأن مشروعهم الحداثي يتناقض مع مشروع "يستلهم الماضي، ويستعمل الإرهاب ويقمع حرية الرأي ويعاقب المخالفين للشريعة بعقوبات وحشية".
أما اليسار فقد احتار في كيفية التعامل مع الحركات الإسلامية: فعقيدة الإسلاميين بالنسبة لليساريين "ظلامية، تساندها قوى رجعية، رغم أنهم يتمتعون بشعبية في أوساط الفئات الشعبية الفقيرة".
اتخذ اليسار موقفين متعارضين من الإسلاميين:

- الموقف الأول:

اعتبر الإسلاميين تجسيدا للرجعية وصيغة من صيغ الفاشية. "تبنى هذا الموقف الجامعي البريطاني فْرِدْ هاليدايْ (Fred Halliday)، والذي أعلن انتماءه لليسار آنذاك، ووصفَ النظام الإيراني بأنه "إسلامٌ بوجه فاشي". وتبنى جزءٌ كبير من اليسار الإيراني هذا الموقف بعدما رسخ الخميني حكمه ونظامه الإسلامي سنة 1981-1982. وتبناه اليسار المصري والجزائري. وجاء في أدبيات مجموعة جزائرية ماركسية ثورية على سبيل المثال أن "مبادئ وإيديولوجية وممارسة الجبهة الإسلامية للإنقاذ شبيهة بمبادئ وإيديولوجية وممارسة الجبهة الوطنية بفرنسا (حزب عائلة لوبان)، وأن الجبهة الإسلامية للإنقاذ تيار فاشي". كما أن اليسار في مصر ساند الدولة في حربها ضد الإسلاميين. استخلص فرد هاليداي أن اليسار في إيران أخطا في عدم تحالفه مع "البرجوازية الليبرالية" ما بين 1979 و1981 لمحاربة "أفكار وممارسة الخميني الرجعية".

ما هي نتيجة هذا الموقف سياسيا؟

إن نتيجة هذا الموقف هي بناء تحالفات سياسية تهدف إلى منع تقدم "الفاشيين" (أي الإسلاميين) بأي ثمن.

الموقف الثاني:

اعتبرَ أن الحركات الإسلامية هي حركات "تقدمية"، أي "حركات معادية للإمبريالية" وتدافع عن "المضطهدين". ولقد تبنى اليسار الإيراني في أغلبيته في بداية الثورة سنة 1979 هذا الموقف: توده (حزب متأثر بالاتحاد السوفييتي)، جزء كبير من "الفدائيين" (منظمة تتبنى حرب العصابات)، "مجاهدي الشعب" (إسلاميون يساريون). ولقد وصف هؤلاء اليساريون كل القوى المساندة للخميني بأنها "برجوازية صغيرة تقدمية".

ما هي نتيجة هذا الموقف؟

إن نتيجة هذا الموقف هي دعم الخميني دعما شبه غير مشروط.
وبعد مرور ربع قرن على تبني اليسار الإيراني، تبنى الشيوعيون المصريون –بصفة مؤقتة- هذا الموقف من "الإخوان المسلمين"، وذلك بدعوتهم إلى التحالف لخوض "نضال مشترك ضد الدكتاتورية الفاشية لجمال عبد الناصر وحلفائه الإنجليز والأمريكان".

تقييم الموقفين معا من الإسلاميين:

إن الموقفين خاطئان معا لعجزهما عن تحديد الخاصية الطبقية للحركة الإسلامية الحديثة ولعجزهما عن تحديد علاقاتها برأس المال والإمبريالية.

ما الذي يميز الحركات الإسلامية؟

تمكن الإسلام من التلاؤم مع مصالح طبقات مختلفة ومتصارعة ومتناقضة المصالح. كما تمكن من الحصول على تأييد فئات كبيرة من الجماهير الشعبية وذلك بفضل خطابه المتضامن مع الفقراء والمضطهدين والداعي لحسن معاملتهم ودعمهم وتخصيص نسبة من الثروة سنويا لهم. لكن خطاب الإسلام تأرجح سياسيا ما بين الوعد بحماية المضطهدين وضمان عدم حدوث انقلاب ثوري.
فالإسلام يطالب الأغنياء بأداء الزكاة (2.5°/°) لصالح الفقراء، ويطالب الحكام بالعدل، ويوصي بالنساء خيرا، لكنه يعتبر عصيان الشعب للحاكم جريمة، كما أن تشريعاته المتعلقة بالزواج وحقوق الأولاد بعد الطلاق منحازة للرجال.
كان الإسلام سندا ومبررا للتمرد ومحاربة الحكام والتنديد بالظلم: فهو منبع قوي لفكرة المهدي المنتظر المخلص. "فالتاريخ الإسلامي مليء بنماذج عديدة من "المهدي"، ولقد قام الذين جسدوا المهدي بالتمرد ضد النظام القائم وأدوا حياتهم ثمنا لذلك".
وبالإضافة إلى ذلك، للإسلام الشعبي أهمية كبرى ودور فعال في حياة المسلمين. "فهو يتشكل بناء على تفاعل بين الإسلام كدعوة والعادات والتقاليد المحلية لكل مجتمع، بل ولكل منطقة في نفس المجتمع".
ولذلك كله: فالدعوة للعودة لممارسات النبي ليست بالضرورة دعوة للعودة إلى الماضي، إنها دعوة للتمرد ضد الحاضر وتبني سلوكات واختيارات جديدة. كان الإسلام حاضرا في مواجهة الغزاة الأجانب وكان سلاحا قويا في السيطرة على بلدان عديدة في جميع أنحاء الأرض.
إن العودة إلى البداية هي رفض للحاضر من أجل التغيير، واعتبار البداية مصدرا ثوريا يضمن التعبئة ويؤجج الروح القتالية ويضمن التضحية. فباسم العودة إلى البداية ألغى الخميني 1300 عام من تاريخ الإسلام "غير الحقيقي".
لا تدعو الحركات الإسلامية إلى العودة للاقتداء بالماضي، لأن هذا أمر مستحيل أصلا، "فالتطلع لإعادة خلق ماضٍ مثالي هو تعبير عن إرادة لتغيير المجتمع الحالي تغييرا جذريا". (فمن الخطأ النظر إلى الإسلاميين انطلاقا من نموذج الأصوليين المسيحيين الأمريكيين الذين يشكلون معقل الحزب الجمهوري اليميني). ينبغي "التمييز بين الإسلاميين وبين التقليدانيين، فالأمر يتعلق عند الإسلاميين بإصلاح وليس بالدفاع عن التقليد". فالتقليدانية الإسلامية تريد إدامة الواقع والحفاظ عليه مادام يخدم الطبقات المسيطرة، أما الحركات الإسلامية فهي حاملة لإيديولوجية تهدف إلى تغيير المجتمع، لذلك لا يمكن وصفها "بالتمامية" (أو الكمالية أو التزمتية، أي الدعوة للحفاظ على المذهب كما هو في كليته) لأن "التمامية تحيل على التصلب الديني والنقاء الثقافي والتقليدانية السياسية والمحافظة الاجتماعية ومركزية المبادئ العقائدية ورفض العالم الحديث".
ترتكز الحركات الإسلامية "على الملاءمة الإيديولوجية والمرونة الثقافية إضافة إلى رفض الوضع القائم وأخذ المشاكل الاجتماعية والاقتصادية بعين الاعتبار". ونظرا لقابلية الخطاب الإسلامي للتأويلات فيصعب التمييز دوما بين الحركات الإسلامية والتقليدانية الإسلامية.
ينبغي التأكيد على ما قامت به الحركات الإسلامية في غزة ولبنان وإيران ضد أمريكا وإسرائيل، واحتجاجات الإسلاميين في بلدان عديدة ضد غزو العراق ومساندة فلسطين.
إن اختلاف التأويلات حول المقصود بتجديد الدين مشكلة معقدة تزداد تعقيدا بسبب استعمال الإسلاميين لجمل نمطية ولغلوّهم في الشعارات الدينية وخلطهم بين الرهانات والتناقضات، فيقدمون حربهم ضد نزع حجاب النساء وكأنها حرب ضد الشركات الغربية العملاقة المحتكرة لسوق النفط، أو كأنها حرب ضد الفقر المدقع لفئات كبيرة من الشعب. (وعلى سبيل المثال: خُطب على بلحاج الجزائري أحد قياديي الجبهة الإسلامية للإنقاذ الذي يشن حربه كل جمعة ضد العالم بأسره، ضد اليهود والمسيحيين والصهاينة والشيوعيين والعلمانيين والليبراليين واللاأدريين والحكام في الشرق والغرب ورؤساء الدولة العربية والإسلامية ورؤساء الأحزاب والمثقفين المدافعين عن ثقافة الغرب).

الإسلاميون والصراع الطبقي

من الأسباب الأساسية لظهور الحركات الإسلامية التحولات الاقتصادية والاجتماعية السلبية التي تسببت فيها الإمبريالية الغربية، وتفاقم الأوضاع في البلدان المستعمرة والتابعة اقتصاديا، وأزمات الرأسمالية العالمية. يمكن اعتبار الحركات الإسلامية محاولة لإيجاد مخرج من المأزق الاقتصادي والاجتماعي الذي تسببت فيه الرأسمالية العالمية.
ونظرا للطبيعة المعقدة للمجتمعات العربية الإسلامية التابعة اقتصاديا للرأسمالية العالمية ستجد الحركات الإسلامية دعما من عدة فئات اجتماعية متناقضة المصالح، أي:
- سيدعهما جزء من الملاكين العقاريين وجزء من رجال الدين خوفا على مصالحهم من نتائج التحديث الاقتصادي الذي فرضته الرأسمالية العالمية.
- سيدعمهم التجار التقليديون وملاكو المحلات التجارية الصغرى وأصحاب الورشات.
- سيدعمهم بعض الرأسماليين المحليين الذين لا يتمتعون برضى المجموعات الاقتصادية المستفيدة من الدولة (نموذج عثمان أحمد عثمان، الذي كان يعتبر روكفلر مصر، والذي كان يدعم الإخوان المسلمين، ونموذج تركيا حيث أيّد رأسماليون متوسطون الإسلاميين الأتراك، كما حظي الخميني في إيران بتأييد رأسماليين لم يكونوا مقربين من الشاه).
- تؤيدهم فئات الفقراء القادمة من البادية والتي عانت من الاستغلال وأجبِرَت على الهجرة إلى المدن. (ففي الجزائر مثلا: لم يستفد من الإصلاح الزراعي 6 ملايين شخص، وكان عليهم الاختيار بين الفقر في البادية أو الهجرة إلى المدينة. فلم يستفد من الإصلاح الزراعي إلا مليونيْ شخص).
ولقد ازداد الإقبال على الحركات الإسلامية من الثمانينيات في علاقة وطيدة بتفاقم الأزمة الاقتصادية.

الإسلاميون والطبقة المتوسطة الجديدة

لم يكن بإمكان طبقة الأغنياء التقليديين ولا جماهير الفقراء (المؤيدين للإسلاميين) أن يوفروا العناصر والأطر الأساسية الحيوية للحركات الإسلامية. فالعناصر والأطر الحيوية التي تحتاج لها الحركات الإسلامية هي التي تنشر مبادئ هذه الحركات وتخاطر بحياتها للدفاع عن قناعاتها وتتعرض للاعتداءات الجسدية والسجن والموت في مواجهتها للدول القائمة.
فمن أين إذن تحصل الحركات الإسلامية على أطرها الحيوية؟ إنها تحصل عليها من الطبقة المتوسطة، وتحديدا من الفئة التي ظهرت بسبب التحديث الرأسمالي. فهذه العناصر والأطر تنحدر من جزء مكوِّن للطبقة المتوسطة التي تكونت بسبب التحديث الرأسمالي.
يتم استقطاب العناصر الحيوية الضرورية للحركات الإسلامية (الانتحاريون، المقاتلون، المغامرون بحياتهم، المواجهون للسلطة بالسلاح، المتخصصون في نشر المبادئ والدعاية، الأطر القيادية...) في القطاعات الحديثة في المجتمع. فالإسلاميون "متعلمون" و"مثقفون" تكونوا في المجالات الحديثة داخل المجتمع التقليدي، ينتمون لبرجوازية الدولة (خريجو التعليم العمومي، الطلبة الجامعيون...).

الإسلام الراديكالي كحركة اجتماعية

إن الأساس الطبقي للحركات الإسلامية هو البرجوازية الصغيرة: الأوساط الطلابية، التجارة والمهن الحرة، البرجوازية الصغيرة التقليدية.
ولقد دفعَ عداءُ أغلب الحركات الإسلامية لليسار ولحقوق المرأة وللأفكار العلمية... الاشتراكيينَ والليبراليينَ لإدانة الحركات الإسلامية باعتبارها حركات فاشية. وهذا حكم متسرع. فاليساريون الذين يرون أن الإسلاميين فاشيون لا ينتبهون إلى أنّ الحركات الإسلامية تقوم بدور المزعزع لمصالح الرأسمالية العالمية. إن اعتبار الإسلاميين فاشيين يجعل اليساريين يتبنون نفس موقف الإمبرياليين والدول الرجعية التي تخدمهم.
لكن إذا كان وصف الإسلاميين بالفاشيين تقديرا خاطئا من الناحية السياسية فإن اعتبارهم معادين للإمبريالية أو معادين للدول التي يحاربونها موقف خاطئ أيضا. فالإسلاميون لا يحاربون فقط الطبقات والدول التي تستغل أغلبية الشعب، ولكنهم يحاربون أيضا العلمانية والنساء اللواتي يرفضن الامتثال لتصوراتهم الدينية حول المرأة، ويحاربون اليسار وأحيانا يحاربون الأقليات الإثنية أو الدينية (اغتيال الإسلاميين لنشطاء يساريين في لبنان والجزائر والمغرب وتونس...).
وبما أن الإمبريالية اليوم تشتغل بآليات غير مرئية (أي لا تشتغل كاستعمار مباشر) فإن الإسلاميين كثيرا ما يتراجعون عن محاربتها، إضافة إلى أن الإسلاميين يستعملون أساليب الشعبويين فيرفعون شعارات أكثر راديكالية من مطالب الماركسيين. فالحركات الإسلامية تستعمل الغضب الشعبي وتخنقه في نفس الوقت. تشجع الناس على المساهمة في التغيير لكنها توجههم نحو طرق مسدودة.

تناقضات الإسلاميين

تخترق فكر وممارسة الإسلاميين عدة تناقضات: العودة للقرآن التي تحتمل عدة تأويلات، الدعوة سلميا واللجوء للعنف، تبني الإصلاح والتغيير الجذري، إصلاح الدولة وإصلاح المجتمع، تغير الأعداء والخصوم والحلفاء، رفض قيم الغرب ومهادنة الغرب والتعامل معه، نصرة المضطهَدين والحصول على تمويلات من مضطهِديهم، الدفاع عن الفلاحين الفقراء ورفض الإصلاح الزراعي، إعلان الحرب وشنها على اليساريين بتحالف مع الدولة التي يريدون إزالتها، خدمة الدولة والانقضاض عليها...

الخلاصة

يتضح مما سبق أن اليسار أخطأ في اعتبار الإسلاميين: إما رجعيين وفاشيين، وإما معادين للإمبريالية وتقدميين.
فالإسلام الراديكالي له مشروع طوباوي تدافع عنه فئة مهمشة من البرجوازية الصغيرة الجديدة (الناتجة عن تأثير الرأسمالية العالمية). لذلك فأنصار هذا المشروع يختارون إما الحرب حتى النصر أو الموت، وإما التعامل مع الدولة والطبقات المسيطرة.
وهذان الاختياران يفسران الانقسام داخل الحركات الإسلامية: إلى تيار مهادن وخدوم للدولة وانتهازي وقادر على تبرير سياسة الدولة والطبقات التي تمثلها، وتيار راديكالي يعلنها حربا على الدولة وطبقاتها وعلى الإمبريالية.
وبناء على ما سبق ذكره، لا ينبغي على اليساريين أن يساندوا الدولة في حربها ضد الإسلاميين، كما لا ينبغي لهم دعم الإسلاميين بسبب مواقفهم الرجعية. فالإسلاميون ليسوا حلفاء لليساريين، إنهم ممثلون لفئة اجتماعية لها تأثير على الكادحين، لذلك ينبغي تبني موقف جدلي من الإسلاميين: هذا الموقف الجدلي سيمكن من تحقيق نتائج إيجابية على مستوى الصراعات الطبقية بناء على التناقضات التي تخترق صفوف الإسلاميين وتأرجحهم ما بين الثورة ومهادنة النظام، دون أن ننسى أن الإسلاميين هم نتاج المجتمعات الحديثة ويحملون سماتها، كما أنهم لا يمكنهم تجميد التطور الاقتصادي والاجتماعي.
ارتكب اليسارُ خَطئيْن في موقفه من الإسلاميين: الخطأ الأول هو اعتبار الإسلاميين فاشيين وبالتالي لا يمكن التعامل معهم نهائيا. والخطأ الثاني هو اعتبارهم تقدميين وبالتالي لا يمكن انتقادهم.

قراءة تركيبية لكتاب "كريس هارمان" (النبي والبروليتاريا): محمد الهلالي

المرجع:

- Chris Harman, Le prophète et le prolétariat, Automne 1994, https://www.marxists.org/francais/harman/1994/00/prophet.htm