أثار ضجة واسعة حين صدوره الرصافي وكتابه(رسائل التعليقات)


شكيب كاظم
2022 / 8 / 27 - 16:32     

في سنة ١٩٤٤، أصدر الشاعر والباحث المتمكن معروف بن عبد الغني الرصافي (ت.١٩٤٥) كتابه ( رسائل التعليقات)، وقد تولى الشاعر المطبوع؛ الباحث نعمان ماهر الكنعاني (ت.٢٠١٠) كتابة مقدمة للكتاب مؤرخة في ١٢ كانون الأول ١٩٤٣، وقد اشتمل الكتاب على ثلاث رسائل؛ فصول في مصطلحات زمننا هذا، والرصافي ينحو منحا المتقدمين في عنوّنة كتابه هذا، إذ عُرِف عن العرب كتابة الرسائل، التي هي بمثابة الفصول، ومنها رسالة الطير، والرسالة الوعظية لأبي حامد الغزالي (٥٠٥ه‍) فضلا عن رسالة الأموية ورسالة العباسية للجاحظ (٢٥٥ه‍) -على سبيل المثال-.
تناول الرصافي في رسالته الأولى من رسائله الثلاث هذه، كتاب(التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق) لمؤلفه الباحث المصري محمد زكي عبد السلام مبارك، والكتاب في الأصل أطروحة الدكتوراه الثالثة التي تقدم بها الباحث إلى جامعة فؤاد الأول (القاهرة فيما بعد)، ونال عنها الإجازة سنة ١٩٣٧، تناولها الرصافي مناقشاً مبارك ومحاوره بشأن ما ورد في كتابه، وجاء الحوار في أغلبه عن مسألة (وحدة الوجود) التي قال بها كثير من المتكلمين والمتصوفة، أمثال محيي الدين بن العربي، والتي يقول بها الرصافي مؤكداً:" إن البحث والتفكير قد ألجآني إلجاء لا محيص عنه إلى الإيمان بوحدة الوجود" ص١٢.
ونظرية وحدة الوجود تعني كما يقول الرصافي: "أن لا موجود إلا الله، هو الأول الذي ليست له بداية والآخر، الذي ليست له نهاية، وهو السرمدي اللانهائي، هو الظاهر الذي نراه بأعيننا وندركه بحواسنا، والباطن الذي لا نراه ولا ندركه، ومعنى هذا إنه هو كل شيء، وإنه لا موجود غيره" ص١٣.
هذا هو ظاهر الفكرة، مختصرة، لكن فيها الكثير من الباطن في مسألة العقاب والثواب، ولا سيما العقاب الأخروي، الذي يقرب من الشطحات الصوفية، هذه الفكرة لا يرتضيها الدكتور زكي مبارك، لا بل يعجب لأن المتصوف محيي الدين بن العربي قال بها، جاهداً عقله في البحث عن السبب الذي دعاه للقول بها، متوصلاً إلى أن هذه النظرة لم تنشأ إلا لأن الإنسان بطبيعة تكوينه، لا يتصور موجوداً بلا حيز ولا جهة ولا مكان". ص١٨
لكن الرصافي المقتنع بهذه القولة، يؤكد سرمدية الله تعالى وكليته، هو الأول والآخر، فكلية وجود الله تنزهه عن المكان، وسرمديته؛ أي لا نهائيته تنزهه عن الزمان" ص١٩.
يواصل الرصافي نقاشه مع الدكاترة زكي مبارك، ليبين خطل رأيه في عد الصوفية، أنهم لابسو الصوف والمُرَقّعات، والعيش الخشن، في حين يراهم الرصافي فلاسفة وأصحاب رأي، بخلاف أولئك الكسالى اللابدين في الخانقاه والرُبَط والتكايا والزوايا، لا يؤدون عملا ولا يجترحون فكرا.
هل لعرب الجاهلية نثر فني؟
في رسالته الثانية، يناقش الرصافي بعض ما ورد في كتاب (النثر الفني في القرن الرابع) والكتاب هذا بحث قدمه زكي مبارك إلى جامعة باريس سنة ١٩٣١، لنيل الدكتوراه بإشراف أستاذه المستشرق المسيو مرسيه، الذي ينكر على العرب نثرهم الفني في الزمن الذي سبق الإسلام، إذ لو كان موجوداً- كما يرى مرسيه- لوصلتنا منه مؤلفات وكتب نثرية، كما لدى الأقوام الأخرى، الهنود والفرس والروم، لأنهم كانوا يعيشون عيشة أولية، أي بدائية، والنثر واجهة من واجهات العقل، والحياة الأولية تفتقر إلى العقل، متناسيا هذا المستشرق أن العرب كانوا قوما أميين- في الغالب- ولاسيما في البوادي والأرياف، وأنهم كانوا يفخرون بالحافظة، فهي ملكهم، ويزدرون بما في القماطر؛ أي القراطيس، والمكتوب على قلته، وإن النثر الفني، على رأي هذا المستشرق، إنما بدأ بعبد الله بن المقفع! وتلك فرية لا تكاد تقف على قدميها، لكن الدكاترة زكي مبارك في فورة عواطفه، وقع في المحظور العلمي، عادا القرآن الكريم نثراً جاهلياً، أما لماذا؟! فلأن العرب فهموه وتفاعلوا معه، وأصغوا لآياته، ولو كان هذا الرأي مقبولا وصحيحا، لأمكننا- كما يقول الرصافي- أن نعد الحديث النبوي الشريف، نثراً جاهلياً كذلك، مؤكداً أن أسلوب القرآن، هو أسلوب مبتكر خاص غير مسبوق في العربية، بل أسلوب مُعْجِز ما عرفته العرب ولا ألِفَتْه في كلامها قبل القرآن، إنه الأسلوب المُفَصّل، كتاب فصلت آياته، قد فصلنا الآيات، ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على مكث ، كتاب أحكمت آياته ثم فصلت، إنه نثر مفصل، لا مسجوع ولا مرسل، وليس كما قال طه حسين، "لا هو نثر ولا شعر وإنما هو قرآن" ويكون طه قد فسر الماء بعد الجهد بالماء!
هؤلاء المستشرقون المتعصبون ينكرون على العرب كل شيئ، فلقد أنكر ديفيد مركليوث شعرنا الجاهلي، فتلقف طه حسين هذه الأقوال المفتراة، وكتب فيها كتابه (في الشعر الجاهلي) وها هو المستشرق مسيو مرسيه ينكر علينا نثرنا الفني، ناسبا إياه إلى الفارسي روزبة بن داذويه؛ المعروف بـ( ابن المقفع)، وسنطلع على الكثير من أخلاط هؤلاء المستشرقين وأغاليطهم وخطاياهم، في الفصل الذي عقده الرصافي، لمعاينة بعض ما ورد في كتاب (التاريخ الإسلامي) للمستشرق الإيطالي ليونا كايتاني (١٨٦٩١٩٣٥) الذي قرأت بعض ما كتب، كما احترمت موقفه من طلاب الجامعة المصرية، يوم أعلنوا الإضراب عن الدراسة، احتجاجاً على التوغل العسكري الإيطالي في ليبيا سنة ١٩١١، فقال لطلابه المصريين المضربين عن الدرس معاتبا: إنكم مثل الرجل يغضب على زوجته، فيخصي نفسه! وفي هذا العتاب ما فيه من معان واقعية.
استعار الرصافي نسخة الكتاب هذه المترجمة إلى التركية، إذ لم يكن قد ترجم للعربية، تولاها المترجم التركي حسين جاهد، استعارها من الأستاذ كامل الخيام (الجادرجي) وكان الرصافي يطلق اللقب العربي (الخيام) على الأستاذ كامل، لأن لقبه (الجادرجي) غير عربي، فهذا المستشرق الإيطالي ينكر على العرب كل مزية، حتى اهتمامهم بالأنساب، وإن ذلك تأخر حتى الخلافة الراشدة، يوم أسس ديوان الجند زمن الخليفة عمر بن الخطاب، مع أن العرب كانوا أهل بداوة، أو شبه بداوة، ولو لم يكونوا يهتمون بالأنساب، لما استطاع الخليفة تدوين أسماء الجند.
كايتاني يطلق الكلام على عواهنه في كثير من المواضع، ومن غير تثبت، وديدنه الإنكار والمخالفة، لكن هذا الأمر لا يمنع الرصافي أن يُنْزِل الرجل منزلته، مشيدا بالكتاب الضخم الذي يقع في عشرة مجلدات، فهو كتاب جليل يستمد مباحثه- كما يقول الرصافي- من مصادر كثيرة قديمة وحديثة لا يتيسر الحصول عليها لكل أحد، ولا اكتم أني به من المعجبين المعترفين له بالفضل وسعة الاطلاع وبراعة التمحيص والتدقيق في المسائل العلمية، ولا أؤاخذه إلا بتسرعه أحيانا في الحكم وأخذه بالظن (..) ويؤسفني أنني أشم منه في بعض أقواله رائحة الانحياز إلى جانب دون آخر، مما لا يناسب مواقف أهل العلم تجاه الحقائق العلمية".ص٢٠٢.
وأخيراً أرغب في الإشارة إلى بعض القضايا التي وردت في الرسائل الثلاث، التي كان من المؤمل أن تنشر معها الرسالة الرابعة (على باب سجن أبي العلاء. دراسة ونقد) وقد خصصها لمناقشة ما بثه الدكتور طه حسين في كتابه (مع أبي العلاء في سجنه) وقد نشرت في وقت لاحق، ومن هذه القضايا، أن الرصافي لا يورد النص الكامل- في بعض الأحيان-الذي يناقشه، مما يبلبل القارئ، كما يشير مرات عدة إلى تفسير الكشاف للزمخشري المعتزلي ويحيلنا إليه، وما كل الناس يحتازون هذا التفسير الضخم، وثالثا، يحيلنا مرات عديدة في رسائله الثلاث هذه، إلى كتابه ( الشخصية المحمدية)، وهو الكتاب الذي دونه الرصافي لدى مبارحته بغداد نحو الفلوجة، والسكن في إحدى الدور العائدة إلى آل عريم الكرام، والمطلة على نهر الفرات، قريبا من الجسر القديم الذي يشابه جسر الصرافية ببغداد، سنة ١٩٣٣، ومغادرته مدينة الفلوجة نحو بغداد، إثر نشوب الحرب بين الجيش العراقي الباسل وبين القوات البريطانية بسبب حركة مايس ١٩٤١، وهو كتاب ما كان مطبوعا كي يسهل الركون إليه، لا بل أوصى أن لا ينشر إلا بعد وفاته، وقد تولت دار الجمل في المانية نشره سنة ٢٠٠٢!
ورابعا، يحدثنا عن قصة الشاب المتعبد مع الحسناء التي عشقته، ولعلها تقترب من قصة الراهب بافنوس الشهيرة، ويحيل قراءه إلى ص٣١٩ من الجزء الثاني من كتاب (التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق) لمبارك، قائلا:" ولا نذكر القصة هنا لأن كتاب الدكتور متداول فليرجع إليها من أراد". ص٨٧.
وأقول: وماذا يفعل من ليست لديه نسخة من الكتاب؟ زيادة على بعد العهد بصدوره.
وختاما، إن الرصافي يترك مناقشة بعض الذي ورد في كتاب (التاريخ الإسلامي) لكايتاني بحجة أن المقام يضيق عن مناقشته، لأنه يحتاج إلى وضع كل قول من أقواله، موضع المناقشة، حتى يظهر زيغ كايتاني وبهرجه، فلذا- يقول الرصافي- أترك الكلام عنه إلى وقت آخر". ص١٦٣.
وأتساءل متى يحين هذا الحين الآخر؟ وما هو الضمين والضمان أن لا يتخطفه الموت، وهو الذي بلغ من الكِبَر عِتيّاً، ونظل نؤجل والموت لا يؤجل موعده، وهكذا ضاع منا هذا النقاش المهم، ومن جهة أخرى يومىء هذا الأمر إلى ضيق الشعراء بالبحث والمدارسة.