شريط -مطار حمّام الأنف - أو الهجرة السّرّية والحلول المؤجلة


إبراهيم العثماني
2022 / 8 / 23 - 04:33     

"مطار حمام الأنف" شريط وثائقي قصير لا يتجاوز عرضه 21 دقيقة لكنه عميق بدلالاته ثري بمغازيه، يطرح قضيّة الهجرة السّرّية. إلاّ أنه أُنجِزَ بطريقة سرية وفي ظروف ليست باليسيرة. فالموضوع يُعدُّ من المحظورات والاقتراب منه قد يقود إلى الاحتراق، ورغم ذلك أقدم الشاب سليم بالشيخ على خوض هذه المغامرة فكانت النتيجة هذا العمل الذي أثار إعجاب المشاهدين وحصد الجائزة الأولى في المهرجان الوطني للسينيمائيين الهواة الذي انعقد في قليبية في شهر أوت 2007 .
وقد قُدَّت مادّة هذا الشريط من واقع شباب مقصى ومهمّش، وانتُقِيت أحداثه من أحياء شعبية فقيرة ومهملة في مدينة حمام الأنف، وتمّ إخراجه بطريقة تشدّ انتباه المشاهد وتخاطب وجدانه وتحرّك مشاعره إذ تفاعلت الكلمة المعبّرة مع الصورة المؤثرة ، وتجاوبت الموسيقى الشّجية مع الأصوات الحزينة.
فقد اصطفى المخرج مجموعة من الشبان تدمّرهم البطالة وتنهكهم الأحلام فكانت حياتهم استفاقة يوميّة على أوجاع واقع أليم ، وعذابا لا يضاهيه إلاّ عذاب الجحيم. وهكذا دواليك، عوْد على بدء، فراغ يقود إلى فراغ مقيت، وآلام تولّد آلاما أكثر َوجَعا، ومرارة تخلف مرارة أشدّ وقعا.لا شغل ولا فلس، خواطئ بلا خطايا وشكاة وما بهم داء، تقتلهم السنون بلا قتال.
ولمّا تتالت الأيّام وتعاقبت الليالي رتيبة كالحة متجهّمة ، واستوت عندهم الأنوار والظّلمات، وتشابهت الأصباح والأماسي، وتماهت الأفراح والأتراح استهوتهم المغامرة فقرّروا الهجرة إلى الشمال بدون جواز سفر هذه المرة. فكانت الخيبة، وكان الفشل، وكانت لكل واحد قصة مع العيون الساهرة والآذان المتحفّزة والنفوس المتيقظة، واستحال الشريط بوحا واعترافات. فقد روى كلّ شاب قصته بطريقة مؤثرة. فكان الفيلم مجموعة قصص تتعدّد ولا تتشابه إلاّ في عمق مأساتها وقتامة لوحاتها. فما يجمع بين هؤلاء الشبان هو حب الحياة والرّغبة في التمتّع بنعمها، لكن أنّى لهم ذلك وقد أشاحت الدنيا عنهم بوجهها لما أقبلوا عليها ، وأدبرت لمّا همّوا بها. لذا تميّزت خطاباتهم بالتلقائية والجرأة وهم يسردون تفاصيل خيباتهم وانكساراتهم. فهذا شاب يحمد الله على السلامة ذلك أنّ ثلاثة أشهر سجنا و21 يوما أفضل من الغرق بعد أن أبحر في زودياك" نحو إيطاليا فوجد نفسه في الهوارية. وهناك شاب ثان جالس فوق جدار يتأمل باخرة وهي تمخر عباب البحر، ويدخّن السيجارة تلو السيجارة وقد تكدّست في ركن قوارير خمر وجعة كان قد استلّ روحها. ذهن شارد، ووجه ناصب "عليه غَبَرَة وتَرهقه قَتَرَة"، ونظرة حالمة وتركيز على الباخرة. وشّتان بين الموجود والمنشود. ولعلّه أراد أن يحترق بالسيجارة قبل أن "يحرق". وفي مشهد آخر يظهر شاب يتوكّأ على عكاز يندب حظ الشباب العاثر ويرثيه وهو حي. فالشباب "الحارق"، بالنسبة إليه، مهدّد أينما ولّى وجهه. فالبحر أمامه والسّجن وراءه. فإن لم يغرق ويمت فهو معرّض للاعتقال والحبس و"خطية" بألف دينار.
وقد يستعرض أحد الشبان الطّرق التي يستعملها "الحارقون" للوصول إلى الحاويات من قبيل الوقوف فوق القنطرة والتسلّل إلى "الكادرة" والتخفي بين أكداس البضاعة وملازمة الصمت وتجنب التدخين والمكالمات الهاتفية حتى لا يتفطن المراقبون لوجود شبان بين البضاعة.
وقد يستعيض المخرج عن التأملات والحوارات الباطنية بحوارات جماعية فيقدم مشهدا يصوّر جمعا من الشبان قد تحلّق حول قوارير الجعة مستعرضا مغامرات "الحرقان" بشيء من التباهي والاعتزاز رغم المحاولات الفاشلة التي تكرّرت أحيانا 8 مرات. وقد يستغني المخرج عن الصورة والحوار ويوظّف السّرد. فقد وجدنا شابين يرويان قصة التاجوري الذي اُضطر إلى دفع 5 ،3 "كيلو" (ألف دينار) للخروج عبر المنستير.
وينتهي الشريط بناقوس خطر يدقه حشد من الأطفال الصغار، وبعضهم عراة، عبّروا عن رغبتهم في "الحرقان". والسؤال الذي يُطرح هو: وإذا الشباب سأل بأي ذنب ُوئدت أحلامه وُقبرت آماله فمن المجيب؟
تلك هي أهم ّالمشاهد التي عرضها هذا الشريط وشرّح فيها واقع شريحة من شباب مدينة حمام الأنف اُضطُرت إلى التهميش والإقصاء فغامرت بحياتها وخاطرت بنفسها، واكتسبت عادات جديدة وتطبّعت بطباع غير مألوفة، وتساوى عندها البيت والسّجن، والحياة والموت، والجنوب والشّمال، ووطّن نفسه على واقع الحاويات والموانئ، وعدّل ساعته على ميقات البواخر وزمن إرسائها ولحظة إبحارها وطبيعة حمولتها ووجهتها ولونها المميز.
وبعد عرض هذا الشّريط ومناقشته في المعهد العالي للعلوم الإنسانيّة بتونس يوم الأربعاء 5/12/2007 ردّ المخرج سليم بالشيخ ومساعدته أحلام الوسلاتي على كيفيّة إنجازه فركزا على أساليب المخاتلة التي استعملاها لإنجاز هذا العمل لأن السلطة تمنع ظهور مثل هذه الأشرطة، كما تحدثا عن أسباب اختيارهما الفيلم الوثائقي وصعوبة هذا الاختيار...إلخ .

[ كُتب هذا المقال في شهر ديسمبر 2007]