تحولات الانسان بين ((نسّاي)) يوسف المحسن و((عمى)) جوزيه ساراماغو


حميد الحريزي
2022 / 8 / 21 - 14:04     

تحولات الانسان
بين
((نسّاي)) يوسف المحسن و((عمى)) جوزيه ساراماغو



((الأهالي باتوا يخشون الشفاء من النساي، لايجدون ولا يجتهدون للبحث عن طريق للخلاص منه )) ر النساي ص259
((اعتقد أننا عميان ، عميان يرون ، بشر عميان يستطيعون أن يروا ، لكنهم لا يرون)) ر العمى ص379.
بقلم حميد الحريــــــــــــــزي


العنــــــــــوان :
(النساي) رواية الروائي العراقي السماوي يوسف جابر المحسن الصادرة عن دار سطور للطباعة والنشر ط1 2020، الرواية التي بحثت عنها كثيراً لأكمل بدراستها دراساتي التي شملت كل المنتج الروائي في مدينة السماوة من خلال متابعتي للمنتج الروائي للأدباء في هذه المدينة العزيزة، وقد سررت كثيرا بالحصول عليها اخيراً حيث تفضّل بإرسالها المؤلف قبل ايام، ولكنني عندما قرأت الرواية تأسفت لأني طلبتها حيث وجدتني وسط حقل سردي شائك استعصى عليّ سلوك دروبه وطرقه المتشابكة حدّ فقدان طريق الخلاص دون بوصلة عالية التقنية وعبر دليل خبير في فك عُقد السرد ومنعرجاته وفكّ رموز طلاسمه، ووجدت صعوبة في امتلاك رشاقة حركة الفكر والقدرة على الامساك بخيوط السرد والربط بين مجرياته ودلالاته، والقدرة على امكانية تصنيع لوحة تجمع الـ (100) لوحة صغيرة وعلاقة بعضها ببعض...
فقلت في نفسي يا ليتني ما فتّشت يا ليتني ما نلت لأجدني في هذه الورطة الكبيرة، وعلى وجه الخصوص ونحن نعيش حالة عامة من التشوش والغموض والضياع على مختلف المستويات الاجتماعية العامة وعلى مستوى الوضع الخاص، فالمتن الروائي يتطلب منّي اقصى حالات التركيز والصفاء الذهني والفكري واستذكار الحدث والربط بين لوحات السرد الـ (100) لوحة التي تحمل الكثير من الخطوط المتقاطعة والافكار المدهشة والتطلعات الانسانيّة المضمَرة والمسكوت عنها، كل هذا مطلوب منّي وأنا في أمس الحاجة لأكون واحداً من سكّان القرية أو المدينة التي اصابتها عدوى النساي، ففي الوقت الذي قادتنا فيه الحياة الى شيخوخة السبعين، نرى ان الذكريات تتنامى شبابا متجددا في كل يوم، ذكريات الطفولة البائسة، والشباب المحمّل بأحلام لا تحصى تبخرت وطارت كما طارت الطيور من رأس صورة غلاف النسّاي، وشيخوخة عاصرت الانهيار غير المسبوق في القيم الاجتماعيّة العامّة وجهل وفساد غير مسبوق على مستوى الحُكم !!
هنا تقاطعت في ذاكرتي المستفَزة صور واحداث رواية (العمى) للروائي الكبير جوزيه ساراماغو، حيث أصيب الناس على حين غرة بالعمى واختلط الحابل والنابل، ولم تسلم من العمى سوى زوجة الطبيب الرجل الأول الذي أصيب بالعمى وهو يقود سيارته وسط الشارع، وصاحبة النظارة السوداء، والحيوانات مما دعا السلطات لحجز من اصيب بالعمى سعياً منها لاحتواء المرض ولكن دون جدوى...
(النسّاي) توصيف لوباء أصاب الناس في احدى مناطق العالم بنسيان ذكرياتهم الشخصية والعامة بما فيها اسمائهم ...وعبر الـ (100) لوحة وعلى امتداد 285 صفحة من الرواية وصف لنا الروائي حالة الناس والحيوان والنبات بعد تفشي وباء النسّاي بين الجميع ماعدا المخبولين والبلهاء والمجانين، امّا الاذكياء والشطّار والنبهين فقد اصابهم المرض، لم يذكروا أسماءهم ولا اسماء واشكال ابائهم وامهاتهم وزوجاتهم، لا اماكن سكنهم ودورهم ولا ممتلكاتهم ولا ماهي مهنهم، ولا معنى للبحر والنهر، فمثلا كانوا يقتحمون البحر حتى الغرق، يفترشون الخلاء للنوم، يصنعون من أوراق النقود قوارب وطائرات ورقيّة ويقذفونها لتدفعها الريح فيتلقفها الفقراء الذين أحولت عيونهم من البحلقة الى الأعلى ترقّباً للنقود النازلة عليهم من السماء ( انّه النسيان الذي افرغ ما في رأس الهواء، شحاذو المدينة صاروا اثرياء بفعل الريح التي تقذف بالأوراق النقديّة، الاغنياء غدوا معوزين لتمضيتهم ساعات النهار وهم يصوغون الطائرات الورقية من أموالهم )) ر ص255.
(الطبيبة (جنّة) منذ ان دهتها العدوى صارت تدأب على الاستجداء بعد ساعات العمل في الميناء...) ص255.
الطفل يتوه ولم يعد يتعرّف على والدته، ولا والدته قادرة على التعرّف عليه فور افلاته من يدها وسط زحام الناس في الأسواق أو الطرق المزدحمة ... حتى الكلاب رفضت اللحاق والإمساك بالفرائس حتى ولو ضربت بالسياط .
الرجل يلتقي زوجته على سرير الزوجيّة وكأنّه يراها لأول مرة والمرأة تلتقي زوجها وكأنّه يوم زفافها !!
تم نسيان كل شيء، العدوات والاديان والقوميات والطوائف، وحتى الحيوانات نست غريزتها في الافتراس والتوحش، فابن المقتول يعانق ويجالس القاتل، واليهودي يجالس المسلم والمسيحي والملحد، لا سنّيّ ولا شيعيّ ولا صابئي ولاهندوسي ولا بوذي... النسّاي دفع الناس لحصد اوراق الأشجار لتغطية عوراتهم بعد ان تخلّوا عن الملابس والنسيان اصبح نعمة للناس ( الناس الذين اصيبوا بالنساي أحسّو بأنّهم أكثر نشاطا وحيويّة، ربّما لأنّهم تحرّروا بعد أن كانوا مكبلين بذكريات الحنق وعدم الرضا والآمال والخيبات، لقد وعوا ان النسيان هو افضل طريقة للعيش بسعادة ... النسيان صار عزاء للمهزومين والمجروحين والعشّاق والمشتاقين والمفقودين والمشتغلين بالسياسة ...) ص 51.
وجبات الأكل اصبحت جديدة في كل مرة يتناولها على الرغم من تكرارها اللبوة ترضع وليد الغزال، والذئب يداعب الحمل، والكلب يلاعب القط ... ولكنّنا نستغرب كيف تحاصر الذئاب ( حاء نون) وهو داخل قفصه الحديدي لأكله وربّما تمكّنت منه في نهاية الامر بعد طول حصار وانتظار لأنّه خارج نطاق قرية (النساي)؟؟
من يجيد القراءة والكتابة اخذ يخط الاسماء والعناوين والمهن على قطع من المقوى وتعليقها في رقاب الناس ليعرفوا من هم، وكذلك سجّلوا قائمة بأسماء الاعداء ومن لم يرغبوا بمجالسته أو مرافقته، ومن تسرق أو تضيع قطعته من رقبته يتوه !!!
أمّا من لا يعرفون القراءة والكتابة فاخذوا يتعاملون ويتعارفون ويعرِّفون عن انفسهم بالصور (الصور وليس غير الصور هي التي لجأ اليها من لا يعرف القراءة والكتابة، كانوا يطلقون عليهم سرا أسم الصوريين )) ص 183.
وبذلك تحوّل الناس الى صوريين وكتابيين.
حتى المدخنين اخذوا يتعجبون ويقفون مبهورين ممن يحرق ناراً ويمتص دخانها!!
امتهن البلهاء والمجانين مهنة التذكير ليذكِّروا الناس بما نسوه وهم ينادون ( تذكير .. تذكير ...تذكير)، ومن مهن الحرب هناك مهنة (التطيين – ياجندينه خل الطينه... ومن ترجع سالم نظفه ) وهي عملية تطيين السيارات حتى لا تعكس أشعة الشمس وتكون هدفاً لنيران الأعداء، ومن المهن حفر القبور وبيع الأكفان والكافور ...الخ .
من المهن الطريفة مهنة اناء الزواع الذي يدور به أحدهم على السكارى الذين يريدون التزوع بعد السكر (تزوّع يبيه ... تزوّع استاذ .. تزوّع يبيه )!! ص 141.
ليس من مهمّة الناقد العرض الشامل لمتن الرواية ولكنّ الاشارة الى اهم مضامينها لبيان سعة معرفة وثقافة بالإضافة الى دقّة ملاحظة الروائي وفطنته والتقاطه للصور والأحداث التي قد تمرّ مروراً عادياً خارج عين وقلم الرائي العادي حينما يحولها الى نص أدبي من خلال سرده الروائي...
بالإضافة لما ذكرت، ثمّة الكثير من ما سيطّلع عليه القارئ لرواية النسّاي، اجاد به الخيال المدهش للروائي وقدرته الكبيرة على تصنيع الشخصيات وتخليق الكائنات السحرية التي لا تمرّ على بال.
اكتنزت الرواية بالعديد من المقولات التي تدل على الحكمة والموعظة كما تدل على تجاوز السائد والتقليد :
(الجوع جندي تجيد الحكومات تدريبه، اما الفقر فمومس تضاجع المصلين في احلامهم ليستيقظوا خضلين مبللين بسائلهم المنوي وبلذة تنسيهم وقت الصلاة) ص 149.
(الجنس ليس وقاحة، الوقاحة في إخفاء الجنس خلف تقاليد وضعها مهووسون لم يوفوا بها، وهم الاكثر شذوذا) ص 152.
(العاشق حتى وان كان ميتا يحوم مثل فراشةٍ حارسةٍ لنصفه الآخر..) ص 157.
(حتى لو كان الطبيب مدركاً بنسبة مئة بالمئة أن مريضه سيموت، فعليه ان لا يكون سبباً في انتزاع حياة لم يمنحها في يوم ما) ص 135.
(الألم فقاعة تنفجر لتنجب مزيدا من الفقاعات ))ص 103.
(وفاء الكلب لعبة حتى الموت )ص 109.
( الغروب منطقة منزوعة السلاح ) ص 120.
(القنابل وجه آخر للقبح، يقسم رغيف العشق الى نصفين أو أكثر، هي لغة المهزومين حين تخطّ للبشاعة خريطتها وللاندحار مسوغاته ) ص95
( الحيوانات اصدقائي وأنا لا آكل اصدقائي)ص 101.
( الرصاص هو الرصاص في المسدس أم في القلم) ص 56.
( الدائن مثل الكلب البدوي.. ان قدِمت عليه هرب منك وان هربت منه هاجمك) ص40.
(الحب يدب في كل الأديان ، ولكن لا دين له ) ص262.
(الحرب لا تبقي غير شواهد الأضرحة ))رص159
( كيف يمكن للورود أن تنمو في الثكنات) ص170
( مثل طعم القبلات الذي يهرم مع التكرار تبقى القبلة الاولى هي الأشهى)
(الدفء ليس بإشعال النار وقتل نبتة أو اقتلاع جذر، الدفء في المحبة ونسيان الأذى، لا بقتل الهواء المنعش بالدخان) ص 229.
( صناعة اللحوم تتجاوز في خطورتها صناعة الاسلحة )ص229.
اكتفي بهذا القدر من المقولات الرائعة حيث الحكمة والصدق وسعة الخيال والاكتناز بالمعرفة والجرأة الكبيرة التي سجلها الروائي في متن روايته ... لم احرمكم من متعة متابعة العديد من الأحداث والسلوكيات والمشاهد السحرية والعجائبيّة في الرواية والاحداث الطريفة والمفارقات المدهشة التي سطّرها المؤلف بين ثنايا روايته.
تكاد تكون الشخصيات الرئيسية في الرواية التي تداخلت فيها الأدوار والسلوكيات والشخصيات بين الواقعية والسحرية العجائبية بين الأنسان والحيوان والشجر والنبات ،والجن ، والخرافي، على الرغم من ذلك يمكننا تمييز شخصيتين مميزتين رئيسيتين وهما شخصية ( نبيل حامد وهو ذاته نون حاء وذاته الملاذ)، هذا الذي ولد على الرغم من أن امّهُ كانت تتناول حبتين مانع حمل في اليوم الواحد، الذكي الوسيم المعشوق من قبل فتيات القرية الجميلات، والذي عشقته واغرمت به أبنة الحاك خارقة الجمال ( جنّة) التي عشقها الجميع والتي اشتهاها الجميع في الواقع والحلم والخيال والتي ابتدأت الرواية بخبر موتها الذي ترقبته وهو مكتوب باللون الاصفر على جدار الموتى كبقية الاسماء بعد أن تسلّلت من قبرها ذي القبّة الزجاجية لتطل برأسها من وراء السياج وترى ( شباب وقفوا ذاهلين غير مصدقين إن اجمل الفاتنات توفيت، رفيقة أحلامهم وشغلهم الشاغل في الصحو ثوت، منهم من اشتهاها، ومن حلم بها في لحظات خلوة وعاداته السرية، من درس معها أو وقف بجانبها، ولعب مثل عنكبوت صغير مجرّباً ايقاعها في مكائد العشق) ص10.
فقد كانا شخصيتين جمعتا مواصفات الواقعيّة والسحريّة والعجائبيّة، وقد خصبهما الروائي بخياله الباذخ في سحريته وادهاشه. وربّما لن يصابا بالنسّاي كما هي زوجة الدكتور وصاحبة النظارة السوداء اللتان لم تصابا بالعمى في رواية (العمى) لجوزيه ساراماغو.
وقد أعلن الروائي موت ( نبيل حامد) في نهاية الرواية ولكن ( لا احد يعلم كيف مات نبيل حامد أو الملاذ، كما تسميه الطبيبة جنة أو نون حاء كما يحلو لأصدقائه ...لا احد يفقه على وجه الدقة كم مرّة مات فيها نون حاء، وكم مرة عاد الى الحياة، وكيف مات ...) ص 283-284. ولكنّ جنّة لمحت تحت اللافتة المعلقة على جدار الموت التي عبثت بها الرياح عبارة :
COM نون حاء WWW.FACEBOOK ، منحوتة منذ زمن في جدار الموتى، بمعنى هنا انه شخصية افتراضية، وهذا هو الفرق المهم بين رواية ساراماغو حيث بقيت شخصية الأعمى الأول وزوجته المبصرة أحياء وبدأ داء العتمة البيضاء والعمى ينقشع حيث اكتشف الاغلبية بأنّه عمى فكري أصاب المجتمع وجعله يتقاتل على المنافع والمصالح وانتشرت في وسطه الجريمة والقتل والامتلاك والاغتصاب وصراع حامي الوطيس بين معسكري الشر والخير وغياب وهروب كامل لقوات السلطة التي اصيبت بالعمى أيضا وفشلت كل اساليبها القمعيّة من السيطرة على هذا النوع من العمى، واراد الروائي أن يقول أن الحل هو في وعي الناس وتبصرهم وليس بالقمع، فكانت رواية البصيرة هي الجزء المكمل للجزء الاول رواية

العمى حيث امسك الشعب بزمام قضيته ولم تعد تنطلي عليه الاعيب السلطة وعنفها وقمعها ...
لكن في النسّاي الناس استسلمت لحالة النسيان فهو خلاصها من كل تبعات الواقع المتردّي وحالات الإحتراب والخراب والاقتتال القبلي الطائفي العرقي ... فهل نتوقع أن يتحفنا الروائي برواية تصور الناس وقد استعادوا ذاكرتهم الواعية المتبصرة المتعايشة بسلام وحب ووئام نابذة كل اساليب العداء والتفرقة على اساس العرق والجنس والقومية والدين والعقيدة، والتوزيع العادل للثروة ( احبب لأخيك ما تحب لنفسك ).
كم أتمنى وربّما الكثير غيري أن أعيش حالة العمى والنسّاي كليهما حتى يوم ولادة البصيرة في الوعي الاجتماعي الجمعي لخلاصنا من واقعنا الحالي ... كان الروائي متمكّنا تماما من الإمساك بخيوط السرد كـ(حائك للكلام) وكما يقول ياسين النصيّر، حائك ماهر ومتمرس وخبير، يمتلك خزيناً لغويّاً غزيراً وشاعرية جميلة في صياغة الجمل وفي التوصيف والتعريف للحدث، فلم يكن سرداً تقريراً بل كان سرداً ادبيّاً فنيّاً مشوِّقاً رائعاً، تمكن من خلال اختياره لخيوط السرد وانتقاء الوانها لينتج نسيجا سرديّاً مبهِراً يسرّ القراء والناظرين والمتخيلين لصوره السردية، واضح المعالم من خلال التشبيه والترميز والبلاغة، وكأنّه تمثل مهارة الحائك الذي استولد (جنّة) ساحرة الجمال واصفاً اياها بأروع واجمل منسوجاته، فأستولد لنا يوسف المحسن رواية النسّاي الساحرة المبهرة...
رواية النسّاي رواية تتميز بثيمتها المميزة وغير المكررة، السرد ليس سرداً خيطيّاً نمطيّاً، مشبعة بروح السحريّة العجائبيّة الشعريّة غير منفصلة عن الواقع، وتتضمن اشارة مضمرة بأن كل شعب يريد أن يعيش بسلام فلا بدّ له من نسيان تاريخ الخلافات وتاريخ العداء والاقتتال والتمييز والاستحواذ على الثروة، مع ان حالة النسّاي حالة متطرّفة حد العدميّة وهي الأقرب إلى الفوضى بدلاً عن الامان.
وتنظيم الحياة لأنه نسيان قسري غير واع، فهذه الشعوب بحاجة الى بصيرة (ساراماغو) اكثر من حاجتها الى نساي ( يوسف المحسن ).
وقولي الختام بأنني قرأت رواية تصطف مع اجمل وانضج واكمل الروايات العراقية التي اطلعت عليها وهي غير قليلة.