من الليبرالية الى الطائفية

معقل زهور عدي
2006 / 9 / 26 - 09:56     

أسفر سقوط بغداد أمام الدبابات الأمريكية عن انبعاث تيار ليبرالي جديد في سورية والمنطقة العربية ، تيار بدأ يتبلور شيئا فشيئا ويطرح أفكاره في البداية متفرقة وعلى استحياء الى ان جاء الوقت الذي وجد فيه هذا التيار من يعبر عنه صراحة بصورة مباشرة أمثال السادة : شاكر النابلسي ، بشير البكر ، جورج كتن ، وليد مبيض وغيرهم ، وبصورة غير مباشرة مثل بعض أطراف قوى اعلان دمشق وبعض المثقفين والكتاب الذين لايتعبون من النوسان بين الخط الليبرالي والخط الوطني الديمقراطي .
لسنا الآن في وارد استعراض أفكار تيار الليبرالية الجديدة ومناقشتها وسبق أن تعرضت لهذه المسألة في عدة مقالات ابتداء من ( الليبرالية السورية الجديدة في طريق التكون – نشر في عام 2004 ) وصولا الى ( أثر الحرب في لبنان في المعارضة السورية – ايلول 2006 ) ، المسألة التي أود اثارتها في هذا المقال هي السياق الموضوعي الذي يدفع هذا التيار نحو الطائفية .
للوهلة الأولى يبدو الميل الطائفي مناقضا للمبادىء العلمانية والديمقراطية للتيار الليبرالي ، ويبدو الحديث عنه شكلا من أشكال الاتهام والتجني غير المستند لمبررات منطقية .
من أجل ذلك أرغب في مناقشة الموضوع بقدر من الهدوء والروية .
يولد التيار الفكري – السياسي بفعل مؤثرات خارجية وعوامل داخلية ( اقتصادية – اجتماعية – سياسية – ثقافية ) ويسعى مع تشكله لانتاج وعي يجد ملاذه النهائي في القيم والمثل الانسانية ، لكن مسار التيار لايتحدد بنمط الوعي الذي أنتجه في لحظة تشكله ولكن عبر الممارسات السياسية الواقعية بالتفاعل مع القوى الاجتماعية والسياسية الأخرى في سياق تاريخي محدد .
هكذا نشهد في كثير من الأحيان تعديلات متلاحقة تبعد تيارا سياسيا معينا عن أفكاره الأولية ليصنع تراكم تلك التعديلات خطا سياسيا واقعيا لايعبأ كثيرا بمرجعيته النظرية .
القومية يمكن ان تتدهور الى شوفينية ، وديكتاتورية البروليتاريا الى ديكتاتورية الحزب والأجهزة الأمنية ، والديمقراطية الى مؤسسة لانتاج الحكام من طبقة واحدة وبخيارات محدودة للغاية ، مانرغب في متابعته هنا هو السياق الممكن لتحول الليبرالية الجديدة نحو الطائفية .
ليس الجوهري في الليبرالية الجديدة سعيها نحو الديمقراطية والحريات كتيار سياسي يستند الى قوى اجتماعية محددة ويعبر عن مصالحها وثقافتها ، ولكن الجوهري هو الاعتماد على القوى السياسية العالمية لتحقيق المهمة الليبرالية ، فالليبرالية الجديدة تعترف ضمنا بأن حاملها الاجتماعي الداخلي غير موجود وبالتالي تسعى للاستعانة بحامل خارجي ( المتغيرات العالمية أدت لتآكل السيادة المطلقة للدول وأعطت المجتمع الدولي حق مراقبة الدول المخالفة لشرائعه الانسانية والتدخل لتخليص الشعوب من أنظمتها المستبدة المتذرعة بالسيادة الوطنية لمنع محاسبتها – اقتراحات لبرنامج ليبرالي سوري – وليد المبيض وجورج كتن ).
من تلك النقطة يغدو أساسيا تكيف الليبرالية الجديدة مع القوى الدولية النافذة والتي ليست في نهاية المطاف سوى الولايات المتحدة الأمريكية .
وبصورة أكثر وضوحا لايجد مشروع الليبرالية الجديدة للتغيير أية فرصة له للحياة خارج تمفصله مع مشروع الولايات المتحدة للتغيير في المنطقة العربية .
وبحساب توازن القوى لايملك تيار الليبرالية الجديدة أي ثقل حقيقي ذاتي في تحالفه التاريخي مع مشروع التغيير الأمريكي لذا فهو معرض بقوة للانجراف وراء مشروع التغيير الأمريكي ما ان يبدأ ذلك المشروع في مباشرة الوضع الداخلي السوري .
لقد أماطت الحرب على العراق اللثام عن حقيقة مشروع التغيير الأمريكي بالنسبة للعراق ، ونحن لانتحدث هنا عن الايديولوجيات أو العواطف ولكن عن التجربة الواقعية ، فبغض النظر عن دعاوى الديمقراطية الجوفاء ، ظهر مشروع التغيير الأمريكي في العراق كمشروع تدمير للدولة وتفكيك للمجتمع بتغذية الانقسامات العرقية والطائفية وتغذيتها ورعايتها ( اقترح توماس فريدمان احد منظري السياسة الأمريكية اعطاء جائزة نوبل للسيستاني ! لماذا ؟ للدور الذي لعبه في تفريق الشيعة عن السنة ، وقال فريدمان في مقال آخر : اذا اتحد السنة والشيعة انتهت اللعبة ) وقد عبر مارتن اندك بصراحة عن الموقف ذاته : ( ينبغي للولايات المتحدة استخدام سياسة قديمة جديدة في العراق هي سياسة فرق تسد ).
من المعروف على نطاق واسع ان الدستور العراقي الحالي الذي يكرس الطائفية ويؤسس لانفصال الجنوب فعليا قد وضع في الولايات المتحدة واقتصر دور العراقيين على ترجمته والموافقة عليه ( يمكن مراجعة دراستي المنشورة حول الدستور العراقي في موقع مركز دمشق للدراسات الحقوقية ) ، كما ان ميليشيا بدر وغيرها من الميليشيات الطائفية تعمل بتنسيق مع الاحتلال الأمريكي عن طريق وزارة الداخلية .
فاذا كان الأمر كذلك بالنسبة للعراق فلماذا سيكون مشروع التغيير الأمريكي بالنسبة لسورية شيئا مختلفا في الأهداف ؟
هل هي صدفة ان يطل علينا السيد فريد الغادري أوثق السياسيين السوريين صلة بالادارة الأمريكية من قناة الحرة التابعة للحكومة الأمريكية ليبدأ مرحلة غير مسبوقة من بث السموم والشحن الطائفي البغيض ؟
دعونا من السيد الغادري ، ولكن اذا اتخذ مشروع التغيير الأمريكي تجاه سورية ذات المنحى العراقي فماذا بمقدور تيار الليبرالية الجديدة ان يفعل سوى التماهي معه بعد ان ربط مصيره به في تحالف تاريخي .
الخيار الآخر هو السعي لتعديل السياسة الأمريكية لجعلها أكثر ديمقراطية وأقل طائفية ، ولكن الوزن السياسي للتيار الليبرالي لايجعله في موضع التأثير في السياسة الأمريكية بل التكيف معها .
بهذا المعنى لايتمثل خيار تيار الليبرالية الجديدة في تفادي الانزلاق نحو الطائفية فهو مسار اجباري ولكن خياره يمكن ان يكون في كيفية انتاج ليبرالية – طائفية تحتفظ ولو بنكهة الليبرالية .
مثلا يمكن أن يتحول تيار الليبرالية الجديدة في أي وقت لطرح الديمقراطية – الطائفية على الطريقة اللبنانية كنموذج ( ليس كاملا ولكنه واقعي ) .
أما التيار الوطني – الديمقراطي فلديه خيار آخر هو خيار الديمقراطية – الوطنية ، خيار مقاومة مشروع التغيير الأمريكي الذي هو مشروع استعماري جديد لايحمل سوى التدمير والتفكيك والهيمنة ، وفضح كل أدواته ومرتكزاته والوقوف بصلابة في وجهها حتى لايجد الأمريكي حصان طروادة جديد أو معبرا للدخول يكمل مافعله الاستبداد من نخر في بنية المجتمع وتدمير لقواه الحية طوال عقود طويلة .