من ذاكرة جبل عوام


عذري مازغ
2022 / 8 / 19 - 14:11     

في بداية الثمانينات أدخلت الشركة المنجمية فوجا جديدا من العمال لتعويض فوج آخر بعض أفراده بلغوا سن التقاعد وبعضهم خرج من العمل لأسباب تتعلق بتفاقم أمراضهم المهنية، وكان يتم اختيار الجدد وفق بروتوكول خاص، مختلف نسبيا عن البروتوكول الموروث من فرنسا في سياق سياسة ما سمي بالمغرب ب"مغربة المؤسسات"، لقد بدات بالفعل المؤسسة ذات الرأسمال الأجنبي تزيح الأطر الفرنسية والأوربية بشكل عام وتعوضها بالأطر الإدارية والتقنية المغربية وهذا ما كان يفهم على مستوى وعي العمال وإن ليس كل العمال بل فقط الذين يمتلكون وعيا نقابيا وسياسيا بدرجة معينة اما الذين يملكون الوعي النقابي والاقتصادي فكان يعني الأمر إضاقة إلى مغربة الأطر مغربة الرأسمال او "مغربة" فائض الأرباح منه واستثمارها في مشاريع أخرى بالمغرب وليس هروبها إلى الخارج كما هي العادة بشكل تبقى الأصول أجنبية ولكن توظف بالمغرب لخلق مناصب شغل وتنمية الجهة التي تبنى فيها هذه الاستثمارات وعموما كان تشريع مغربة المؤسسات يهدف إلى امور عدة: ضمان بقاء رؤوس الأموال الأجنبية، توفير مناصب شغل للمغاربة إضافة إلى إبقاء النماء الإقتصادي بالمناطق التي تعرف نشاطا ما مثل منجمنا هذا.
معروف عن المناجم ان لها احتياطات معلومة ويمكن أن تزيد عمليات التنقيب في تمديد هذه الاحتياطات أو تقصيرها وبالتالي تبنى عليها مخططات مستقبلية وفقا لهذا التمديد أو التقصير، لكن الجانب الآخر الموازي لنشاط المناجم هو النشاط الاجتماعي والنمو الديموغرافي: اكتشاف منجم معدني في منطقة جبلية نائية يفترض إيجاد عمال وبالتالي بناء احياء عمالية وربما قرية او مدينة ثم خلق أسباب العمران: أسوااق المواد الاستهلاكية أو بشكل عام نشاط تجاري، تعليم، صناعات حرفية تستجيب للساكنة، نقل، تطبيب وغير ذلك من الامور التي تصاحب النشاط الاجتماعي للسكان، لكن في المقام الأخير تأخذ سياسة مغربة المؤسسات كل هذه الأموربالاعتبار: إن النشاط المعدني هو الأساسي لهذا المجتمع العمالي، إن المنجم مرهون بسنوات احتياطات المواد المعدنية فيه وبالتالي فسياسة المغربة كانت تعني التخطيط وفق هذه المعطيات وهي مستخلصة من تجارب سابقة في مناطق أخرى عرفت إغلاقا تاما للمنجم وبقي سكانه يعانون إلى الآن بسبب غياب التدبير في وضع بدائل استثمارية من فوائض المنجم التي ذهبت كلها إلى الخارج (أتكلم هنا عن منجم "ميبلاضن أحولي" على سبيل المثل والذي أغلق في بداية الثمانينات كما أعتقد)، إن مغربة المؤسسات كانت بمعنى ما سياسة وطنية في تدبير الانتاج المحلي وتوجيهه في خلق آليات بديلة للمنتوج المحلي المرهون بمدد الاحتياط وهذا التدبير بالضبط هو ما يسطلح عليه الآن بلغة العولمة ب"التنمية المستدامة": خلق تنمية بديلة للمنتوج الطبيعي وعموما يفترض في هذا وعي جبار يستلهم ثقافة المستقبليات. وعي علمي يستلهم البدائل وليس بديلا واحدا فقط، مثلا، في مجالنا الغابوي، في سياسة الترخيص لقطع الغابات لتوفير الفحم والحطب فكر السكان العاديون وليس تدبيرا سياسيا من طرف الدولة في تعويض بعض الحقول الغابوية (الخاصة منها خصوصا، اي التي في ملكية الأفراد، خضعت هذه الحقول بتعويض شجرة البلوط بغرس أشجار أخرى ذات مردود موسمي كأشجار الفواكه أوالزراعات الأخرى البورية، لأن أشجار البلوط بطيئة في النمو ومردودها على الأفراد سلبي، لكن هذا التدبير هو تدبير عشوائي وليس سياسة من الدولة بل هي سياسة الأفراض وإن كانت بدون وعي او هي بوعي نفعي للأفراد والأسر وربما تبلور مفهوم "التنمية المستدامة" من هذا التدبير للسكان: وضع زراعات بديلة لشجر البلوط وهذا بالطبع مضر للمجال الغابوي، في أوربا مثلا هناك وعي بترك هذا المجال الغابوي البطيء في التنمية مثل البلوط، إن الطاقة الكهربائية والهيدروجينية والغازية تعوض الفحم الشجري وتعوض التدفئة: منع التحطيب او عملية قطع الأشجار كحطب للتدفئة، لكن في المقابل تعوض الدولة السكان دوي الملكيات الغابوية الخاصة بتعويض مالي وتمنع قطعيا استغلال هذه الأشجار لدورها البيئي وفي السياق نفسه تحتفظ على التنوع العشبي والحيواني، أي انها تنتهج سياسة بيئية قحة.
القطاع المنجمي كارثي بشكل عام ولا يتيح للسكان الأفراد المالكين لموقع منجمي أي بدائل: المعادن المستخرجة لا يمكن استعادتها، لكن حفر آبار وأنفاق يضر بالفرشة المائية التي في متناول هؤلاء الأفراد، يجفف المياه السطحية، يلوث الجو وغير ذلك من السلبيات وهنا سأدخل في صلب الموضوع واتناول ظاهرة المنجم الذي ينتمي إلى مجالنا والذي عملت به في نفس الوقت في اواخر الثمانينات وبداية التسعينات، وطبعا لن أتكلم عن مرحلتي إلا فيما يتعلق بالموضوع. بدأ استغلال مناجم جبل عوام بشكل رسمي في منتصف الخمسينات من القرن الماضي (أعتقد ذكرت هذا في مقال بالحوار المتمدن في مقال سابق، أعتقد أنه بدأ العمل به بشكل رسمي سنة 1955 أو 1956)، خلال الخمسينات والستينات حتى بداية الثمانينات لم يكن شباب منطقتي (الذين هم آباؤنا الآن) يحبون العمل في المنجم وهذا ما يفسر وجود عمال من مناطق أخرى بالمغرب بالمنجم، كانت المنطقة زراعية تعتمد على زراعة القمح والمواد التي لا تحتاج كميات كبيرة من الماء، وغضافة إلى زراعة القمح كنا هناك نشاط رعوي (تاكسابت بالمصطلح المحلي) كانت الأراضي بشكل عام ذات مياه سطحية متدفقة، إن بروتوكول التشغيل في الوثائق الفرنسية كان ينص عمليا على تشغيل اليد العاملة المحلية قبل الإتيان بعمال من منطقة اخرى، لكن السكان المحليين حينها نظرا لغناء المنطقة الطبيعي لم يكونوا في حاجة إلى العمل في المنجم لقد كانوا ينتجون اكتفاءهم الذاتي من القمح ومواد العلف وكان تشاطهم التجاري الذي يذر عليهم المال من بيع المواشي وبالتالي كان "أزوفري" عندهم محط سخرية (ازوفري هي كلمة مقتبسة من كلمة " ouvrier" الفرنسية، في الفرنسية تعني العامل لكن في سياقها الاجتماعي في مجالنا القروي حملت إلى كون انها تعبر عن العامل تعبر أيضا عن الانسان المستعبد التائه الذي لا اهل له ولا شرف له والذي تجتمع فيه كل الرذائل: باغي من البغاء، سكايري (شارب خمر)، مدخن لأنواع التدخين، عنيف، قمار، سبايسي (يدحن مخدر الكيف)، لص، وغير ذلك من الأنشطة الثقافية التي تصاحب العامل المهاجر من منطقته لأجل العمل: نفس السيمات التي يطلقها علينا الأوربيون في المهجر في الوعي الجمعي لديهم حول المهاجر. اول العمال في منطقتنا كانوا من عديمي الملكية الخاصة وكانوا اقلية حتى منتصف السبعينات (قد يطرح البعض سنة اكتشاف المعن بمناجم جبل عوام في التاريخ الرسمي للمغرب حيث الإشارة إلى سنة 1927 لكن هذا التاريخ لا يعني بدا الأشغال بشكل مؤسس ورسمي، وربما حمولة كلمة ازوفري الفرنسية راكمت تطور العمل في المنجم منذ تلك السنة بشكل شحن بكل تلك الصفات السلبية، وعموما مناجم جبل عوام معروفة تاريخيا منذ ماقبل الموحدين وهذا نقاش آخر سيجرنا إلى ذكر مدين معادن عوام (مآثر إغرم اوسار حاليا) والتي أبيدت في الصراع المريني الموحدي عن بكرة أبيها).
في سنة 1993 أثناء الإضراب العام لعمال مناجم جبل عوام كانت لي علاقة جيدة مع عامل منجمي من منجم إغرم اوسار، كان عمره 55 سنة وكان عمري 27 سنة، هو امضى في العمل في المنجم سنوات أكثر من سنوات عمري وهذا يعني أنه دخل المنجم وهو شاب يافع رغم أنه من طبقة متوسطة (لا أحب أن أذكر الأسماء حفاظا على هوية هؤلاء)، وهذا يعني أن أول الذين دخلوا إلى المنجم في مجالنا القروي هم الفئات الشابة المحرومة من الموارد المالية داخل الأسر، في عائلة والدي (اقصد أسرة والدي) كان أخوه الأصغر هو اول من ولج العمل في المنجم قصد أن يتوفر على استقلاله المالي، وهذا معروف عندنا كمجتمع ما قبل المجتمع الرأسمالي، فالشباب لا يمنح لهم حق التصرف في الاملاك الموروثة إلا حين يتزوجون والزواج هنا له مفهوم سوسيواقتصادي اي انه يعني المسؤولية التامة في التدبير المعيشي، واذكر أن كلمة "أزوفري" ذات الحمولة السوسيولوجية كما بينت كانت تطلق أيضا على الشاب الناعس (الشاب الذي لا يتزوج برغم توفره واسرته على إرث مقبول). اريد بهذا أن أبرهن على ان السباقون في منطقتنا إلى العمل في المنجم هم الشبان المستقلون المتشبعون بهرمون الادرينالين الحافز على إثبات الذات. والدي مثلا التحق بالمنجم في الوقت الذي رأى ان نمط العيش المتوارث غير كاف، وبشكل عام، كان اول من التحق بالعمل المأجور في منطقتي هم المعدمون والشباب غير المستقل كعالة على الأسرة.
كان معيار الدخول إلى المنجم حسب البروتوكول الموروث من فرنسا هو ان يتوفر العامل على بنية جسمية صلبة: عضلات وايادي خشنة ثم أيضا يمتحنونهم في الذكاء وهي عملية بسيطة، لا أذكر تفاصيلها لكن بشكل عام عبارة عن لعبة خشبية (كانت العملية تسمى دارجيا بامتحان الياجور): بناء مربع من قطع خشبية مربعة بشكل تحدد لون المركب الخشبي خارجا، اخشاب غير ملونة واخرى ذات لون احمر في جانب، عليك تركيبها في بناء مربع بشكل يظهر اللون الاحمر غلافا للمربع المبني، هناك أيضا من ذكر لي انها اخشاب مرقمة وبشكل عام كانت لعبة لامتحان الذكاءفي تركيب بناء المربعات (كان هذا في زمن طغيان الأمية) وكان هناك أيضا امتحان طبي حول الرئتين (وهذا مرده هو توريد اليد العاملة المنجمية من مناطق أخرى أو مناجم اخرى (كان العمال في الإمتحان الطبي يشربون الحليب في الصباح الباكر لكي لا يظهر السواد في رئتيهم وهذا موضوع آخر في الثقافة الشعبية العمالية). في بداية الثمانينات مع سياسة "المغربة" أضيف إلى البروتوكول الإمتحاني مستويين مختلفين: طبيا فرض التعري كما الطريقة العسكرية: تقييم تبلور الخصيتين والتنفس إضافة إلى راديو الرئتين، على المستوى الفيزيائي إظهار قدرة في التمرين الرياضي المطلوب (القدرة في المرور في حركات رياضية تبدو عسكرية) ثم تقييم البنية والخشونة الجسدية من خلال استعمال الفأس للحفر أو القطع على جذوع شجر الكاليبتوس، وعموما هذه الامور لم تكن الحاسمة في قبول عامل بل ذكرتها مجازا كقاغدة اختيار العامل، أما الحقيقة فكانت هناك أمور اخرى لا علاقة لها بهذا وتنم عن فساد مستشري من قبيل الوساطات الزبونية والرشوة وغيرها.
في إضرابات الثمانينات، وفي سياق سياسة المغربة كما حاولت شرحه، انتزع العمال في نضالات ماراطونية في الثمانينات من القرن الماضي أولوية تشغيل ابن العامل المنجمي على غيره (إنها صيغة مقبولة من صيغة البروتوكول الاول في التشغيل، البروتوكول الإستعماري : أفضلية التشغيل لأبناء المنطقة قبل غيرهم، أصبح الآن أسبقية ابن العامل على غيره)، لكن في سياق امتحان التشغيل وفق تلك الشروط الصحية والرياضية قد لا ينجح ابن العامل بل أخ المهندس او أي قريب لإيطار إداري أو تقني رغم أنه لا يتوفر فيزيائيا على تلك الشروط الصحية أو الرياضية او حتى الذكائية بشكل بدا نمو تشغيل عمال من خارج المنطقة أكثر من تشغيل أبناء المنطقة (وهنا وظف مفهوم المغربة بشكل سيء: أصبح من حق اي مغربي ان يعمل حيث يشاء في المغرب وهو شكل وهمي لإذكاء مفهوم الوطنية التي هي في تناقض مع سياسة المجال التي أصلا تتبناها الدولة). يبدو الآن الأمر معقد! لكن لنكن صريحين: إن المجال التشغيلي المورث من فرنسا هو في المقام الاول : "تشغيل اليد العاملة المحلية، حين لا تتوفر هذه اليد محليا يمكن جلبها من منطقة اخرى"، يجب فهم هذا البروتوكول بشكل جيد بشكل يظهر مسؤولية الدولة الوطنية: الدولة الوطنية هي المسؤولة بشكل او آخر على توفير الشغل وتوزيعه وفقا لنظام استثمار الموارد البشرية المحلية، وطبيعي ان هناك تفاوتات في المجال الإقتصادي المحلي بسبب ضعف التدبير، لكن في منطقة معينة من مجال معين، سكان هذه المنطقة لن يقبلوا تهميش سكانهم على حساب منطقة أخرى: يمكن للدولة توظيف فائض ربح معين لمنطقة وتوظيفه في تدبير منطقة اخرى أفقر، لكن ليس من حقها تهميش ساكنة مجال معين لإغناء وافدين إلى منطقتها. وعلى كل حال الأمر معقد بشكل أن الشعارات الوطنية أو القومية لا تحله.
في المجال المائي مثلا، وانا اتفهم جيدا اولوية الدولة، لكن لا يعقل أن يدخل الماء النابع من منطقتنا في الأطلس المتوسط على سكان الدار البيضاء (أم الربيع، موربيع) والرباط (بورقراق)وفي منطقتنا لم يدخل إلا بعد سنوات من دخوله إلى الدار البيضاء والرباط وغيرها من المدن الاخرى، حتى ملوية ينبع من منطقتنا)، كثير حجم ما تدفعه منطقتنا على حساب مناطق اخرى، وحتى في مجال التنمية والإستثمارات منطقتنا هي المهمشة على الإطلاق برغم انها هي ثرواتها الطبيعية صنعت المغرب المستقر: اعتمادنا على الموارد الطبيعية في العيش أنسى الدولة في أنها تهتم بشأننا: حتى الخدمات الإدارية في منقتنا بيروقراطية بشكل لا يعرف الموظف عندنا انه محظوظ في العمل في منطقتنا: إنه يبيع لنا خدماته بالرشوة والزبونية واعرف تعقيد الأمر سوسيولوجيا: غن الموظف المرتشي قد يكون منا وهذا لا يعاب عليه بل يعاب على مؤسسات الدولة .