تونـس: المخاض العسير والأفق الأعرج.


الطايع الهراغي
2022 / 8 / 17 - 14:08     

"إنّ الحكومة الاستبداديّة هي التي ينفّذ فيها تعسّفيّا رئيس الدّولة القوانين التي وضعها على مقاسه ويحلّ بذلك إرادته الخاصّة محلّ الإرادة العامّة".
( إيمانويل كانط )
"وما زُلزلت مصر من كيد ألمّ بها *** بل رقصت من عدلكم طربا"
(محمد بن عاصم )
"أسد عليّ وفي الحروب نعامة....".
(عمران بن حطّان)
تونس، إلى أين؟ السّؤال إشكاليّ حقّا. مردّه الوضعيّة المحيّرة والمربكة التي باتت عليها البلاد التي كان لشعبها شرف تفجير حدث كان يمكن أن يشكّل إعصارا في المنطقة ويؤذن بإدخال تونس طورا جديدا بعد رحيل رأس الاستبداد ورمزه . فالمخارج مسدودة والآفاق أكثر إرباكا.
العشريّة الضّائعة، التي نُكبت بها تونس والتي اعتقد الكثيرون أنّ سعيّد وفّـر فرصة تأسيس موجبات القطع مع مآسيها ومخلّفاتها، فرّخت ما قد يكون أشنع منها.عمليّا الحاكم الجديد لم يفعل غير تكديس كلّ السّلطات تشريعيّها وتنفيذيّها وقضائيّها. لاشيء في سائر مناحي الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسّياسيّة والفكريّة يحيل إلى هويّة حاكم يسعى إلى أن يكون مختلفا عن سالفيه.
25جويلية كحدث قدّم نفسه كحركة تصحيحيّة لوضع كارثيّ وانسداد كلّيّ وتعطّل لسائر مؤسّسات الدّولة - والإجراءات النّاجمة عنه- استنزف نفسه بنفسه بانغلاقه على ذاته والاستعاظة عن الإجراءات الضّروريّة التي تقتضيها المرحلة بخطاب خشبيّ لا تعنيه إكراهات السّياسة بقدر ما يعنيه تماثله مع ذاته واستعلاؤه عمّا سواه فرسم –وعى ذلك أم لم يع- جدارا سميكا بينه وبين الشّعب الذي يدّعي الرّئيس وأنصاره الحديث باسمه والتّعبير عن تطلّعاته.
الاستفتاء (هو عمليّا استتباع وترجمة لنوايا حاكم قرطاج) فقد كلّ وجاهته وكلّ مشروعيّته منذ تبيّن في أكثر من محطّة وفي كم مناسبة أنّه استفتاء الرّئيس عمّا يريده الرّئيس وما يجول في خاطره وما يحلم به لترسيم عهده كعهد معجزات أتى فيه بما لم يأت به الأوائل . هو سباق مع السّاعة لدسترة المؤقت (حكم المراسيم) والإنهاء مع وضعيّة هي موضوعيّا استثنائيّة ولّدتها ظرفيّة مخصوصة.

01/ في إشكاليّة الدّستور
الدّساتير هي عمليّا ميثاق مجتمعيّ ممتدّ بالضّرورة في الزّمن، وليست أسيرة ملابسات حينيّة ونزوع ذاتيّ. أيّ دستور هو تعاقد لإنشاء (في وضعيّة الحال تدعيم) مجتمع سياسيّ في ما اصطلح عليه بالمجتمع المدنيّ.عقد اجتماعيّ بما يتطلّبه من توافق اختياريّ، رهان على مشروع. في مراحل الانتقال الدّيمقراطيّ تتطلّب الدّساتير حدّا من الاتّفاق - لكي لا نقول إجماعا- بدونه تُمضي النّخب شهادة وفاة الانتقال الدّيمقراطيّ الذي يحلم به البعض ويتوهّمه البعض الآخر. هو عمليا قطع مع مرحلة .
يفقد الدّستور جدواه إذا تمّ اختزاله في مجرد معادلة تقنية فقه دستوريّة، همّها تماسك الفصول فقط. وينزل إلى مستوى من التّفاهة إن هو تحوّل إلى مطيّة لدسترة التّحكّم في مفاصل الدّولة واحتكار مختلف السّلط . ما لم يكن مقادا برؤية وفلسفة وتصوّر يتحوّل بالضّرورة وبطبيعة الأشياء إلى قراءة تحريفيّة – إن لم تكن استئصاليّة للتّاريخ والتّواريخ، الأساسيّ فيها مركزة الذّات وإشباعها . آية ذلك أنّ التّاريخ محكوم عليه بأن يتحوّل إلى لعنة ونقمة كلّما كان الحاكم في غربة واغتراب عنه كما هو الحال في وضعيّة الحال حيث الرّئيس قيس سعيّد يعاني من عقدة يتم سياسيّ . رئيس يعتلي دفّة الرّئاسة بتشّعب مدلولاتها في المخيّلة العامّة دون أن يمتلك شبح بصمة في تاريخ تونس حتّى بالمعنى السّلبيّ. فأيّة غرابة أن يصبح تشكيل تاريخ افتراضيّ – موجود في مخيّلة الحاكم- متعة وانتشاء في ما يرقى إلى ضرب من السّاديّة، قوامها الانتقام من الآخر وتهميشه وإلغائه .
ما بعد 25جويلية مغامرة وإبحار في عالم المجهول، أحد معالمها الاستفتاء الذي أراده الرّئيس (وهلّلت له وكبّرت جموع الحشود) تملّكا للبلاد والعباد وانتقاما من شبح المؤقّت والاستثنائيّ واجتثاثا لزمرة الأعداء .لم يكن الاستفتاء موقفا من دستور بل أريد له أن يكون مبايعة لصاحب الدّستور.دستور أعلِي عمدا وبقصديّة إلى مرتبة الكتب المنزّلة وأحيط بهالة من الطّهوريّة والقداسة تكشفها ديباجته العجائبيّة (التّوطئة هي فعليّا وجه كلّ دستور بما أنّها تعبّر عن روحه والخلفيّة التي تقود من صاغه فردا أو نخبة). فهو "الصّعود الشّاهق غير المسبوق في التّاريخ" أنجزه شعب "صبر وصابر لمدة أكثر من عقد من الزّمن" .ديباجة أقرب إلى مدحيّة مطعّمة باستهلال فخريّ ،غايتها الإبهار والتّمتّع بغريب الصّياغة وهلاميّتها. دستور 25 جويلية في عرف سعيّد هو الاكتمال، غاية الغايات.وفاء للحظة بعينها، لحظة تلغي ما سواها وتؤبلسه .فلا مكان لمرحلة التّحرّر الوطنيّ، ولا أثر لــ 14جانفي2011 ولا ذكر لمحطّات مفصليّة، هي في تاريخ الشّعوب منارات. أبلسة مقصودة. لأنّ بعض التّواريخ والمحطّات والوقائع سياط تلهب ظهور البعض إمّا لأنّهم لم يساهموا في صنعها أو أنّهم يستبخسونها ولا يرون أنفسهم معنيّين بها. 14جانفي على سبيل الذكر لا الحصر مؤامرة، سرقة موصوفة لبناء كان شاهقا من 17ديسمبر 2010إلى ليلة14جانفي2011 ليلة تذرّر الحلم وتهاويه بأمر دُبّـر بليل وبمؤامرة مقصودة. هذه القراءة الانتقائيّة التّسلّطيّة المارقة عن كلّ الضّوابط والمتنطّعة عن كلّ ضبط والمعادية لكلّ منطق والمتلاعبة بالتّاريخ في استعداء مفضوح تُــفهم إذا أحطنا بموجباتها. فقيس سعيّد – العصفور النّادر- الذي تفنن أتباعه وأنصاره ومريدوه في نحت سرديّة خرافيّة لا علاقة لها بالواقع بل متطاولة عليه- سيعلى فوق التّاريخ. وأيّة غرابة في ذلك وسيادته لا حديث له إلاّ عن" البناء الشّاهق"؟.ولم يجد حرجا في تعميد نفسه نبيّا مرسلا تفضّلت به العناية الإلهية على الشّعب التّونسيّ "فكان لا بدّ من موقع الشّعور العميق بالمسؤوليّة التّاريخيّة من تصحيح مسار الثّورة بل ومن تصحيح مسار التّاريخ"كما هو مثبت في توطئة الدّستور التي هي أقرب إلى معلّقة فخر منها إلى وثيقة قانونيّة. ولن تبخل عليه النّخب التي تنهل من الذّهنيّة التّراثيّة المسكونة بعقدة الاحتماء بالمنقذ من الضّلال بالتّقديس والمبايعة. سيُعمّد الشّيخ الرّئيس إمام الفرقة النّاجية وبطلا أسطوريّا باعتماد قراءة خرافيّة للتّاريخ، سرديّتها قائمة على التّلفيق :رئيس من خارج السّيستام الذي ابتلع الجميع ما عدا سيادته (رغم أنّ التّاريخ يشهد ويجزم أنّه متصالح مع السّيستام والمحاضرات التي أمّنها لشُعب التّجمّع الدّستوريّ الدّيمقراطيّ دليل دامغ) ، غير مرتبط بأجهزة الدّولة، غير متورّط مع النّظام السّابق، نظيف، عفيف، تقيّ،زاهد في الحكم.

02/ الشّعبويّة وتأميم السّياسة
يوما ما ستتحوّل ظاهرة قيس سعيّد إلى موضوع دراسة حول القالب الإيديولوجيّ الذي يمكن ويجوز وضعه فيه.المحاولة بالتّأكيد يقابلها غموض في ما يرتئيه الرّجل . يُنعت قيس سعيّد بالشّعبويّ.
ولكنّ الشّعبويّة ليست إيديولوجيا ولا منظومة تفكير أو أفكار. يسمه معارضوه بالمحافظ والتّقليديّ ولكنّه ليس قوميّا ولا إسلاميّا بالمعنى الإيديولوجيّ والسّياسيّ.
بقطع النّظر عن مدى وعي سعيّد بالسّجلات التي تشدّ خطابه وسلوكه وسياسته فلن يجد المتابع صعوبة في رسم الملامح والمعالم الكبرى لخطابه وتجسيداته. ككلّ خطاب شعبويّ يتعمّد الرّئيس دغدغة عواطف الحشود ومخاطبتها ككتلة هلاميةّ ضبابيّة. يتوجّه إليها كجموع فاقدة لهويّة وباحثة عن هويّة . كبديل للثّنائيّات الكلاسيكيّة يسار/يمين’ رأسمال /عمل’عمّال/ بورجوازيّة،رجعيّ/تقدّميّ يتمّ تعمّد نحت ثنائيّة جديدة :الشّعب مقابل النّخبة على أن تكون العلاقة عدائيّة.شعب نقيّ يًقدّم على أنّه وحدة متجانسة ونخبة فاسدة بالضّرورة .صورة لا وجود لها إلاّ في مخيّلة صانعها.هي شكل من أشكال إحياء صورة تقليديّة نمطيّة: الخير مقابل الشّرّ،الفضيلة ونقيضها الرّذيلة، العفّة والفساد،الطّهارة والنّجاسة،، مع توهّم تمثيل بديل لا يكون حاجزا بين الشّعب والسّلطة باسم إلغاء الوسائط غير الضّروريّة .وسائط يجزم الرّئيس بأنّ الزّمن تجاوزها وباتت تراثا سيّئا.المعركة ستكون إذن معركة إزاحة الوسائط،إذلاها وكسرها وتلطيخ صورتها بتقديمها في أشنع صورة: عميلة/ بيّوعة/عصابات فساد/مواليّة للأجنبيّ ومنفصلة عن أمّتها ومحيطها وشعبها/ مهمّتها نهب أموال الشّعب.في هذا الإطار تًفهم الحرب الضّروس ضدّ التّمثيل النّقابيّ والسّياسيّ والمدنيّ. وفي ذات الإطار تتنزّل السّياسات المتبّعة في تأديب الخصوم والتّعامل معهم على أنّهم زائدة دوديّة مضارّها أكثر من جليّة. ولكي تكتمل الصّورة فلا مناص في المقابل من التّباري في نحت صورة أسطوريّة للرّئيس:الوافد من كوكب آخر، من خارج عفن الطّبقة السّياسيّة ،رسالته تتمثّل في تخليص البلاد والعباد –ولِم لا العالم؟- من أخطبوط رجال السّياسة.
كلّ فشل وكلّ تعثّر لا يمكن إلاّ أن يكون نتاجا لمؤامرة خارجيّة بدعم وتورّط داخليّ.
كيف السّبيل إلى تعويض الوسائط التي تبيّن – استنادا إلى خطاب الرّئيس وإسهاب الشّرّاح والمفسّرين
والأنصار والمريدين –ضررها وانعدام نفعها؟ كيف السّبيل إلى ذلك وكلّ الفاعلين السّياسيّين زمرة فسّاد بنقاباتهم وجمعيّاتهم وأحزابهم ومفكّريهم؟؟ لا حلّ إلاّ بتضخيم الجهاز البيروقراطيّ للدّولة.وشعار الرّئيس في حملته لتمرير الدّستور يرشح بالدّلالات"قولوا نعم حتّى لا يصيب الدّولة هرم".شعار كم هو عزيز على أسلاف الرّئيس، من بورقيبة في دولة حزب المجاهد الأكبر إلى بن علي الذي لم يخلع سيّده إلاّ لإنقاذ الدّولة من التّهرّم والشّيخوخة إلى الباجي وحنينه الملفت إلى هيبة الدّولة التي قدّمها على أنّها حجر الزّاوية في تأمين إنجاح مسار "الانتقال الدّيمقراطيّ"إلى حمّادي الجبالي ورشّ سليانة للحفاظ على سطوة الدّولة..والقافلة دوما تسير.

03/ وختامــــا
**الدّستور هو ترتيب مناصب الحكم في دولة ما. (أرسطو).
**قلب رجل الدّولة يجب أن يكون في رأسه. (نابليون بونابارت).
**إذا أردت أن تكون تافها فما عليك إلاّ أن تدير ظهرك لهموم الآخرين. (كارل ماركس).