نظرة الى الامام مذكرات ج7


كاظم حسن سعيد
2022 / 8 / 17 - 02:36     

الشاعر البصري المترجم علي عبد الكريم.
السنة 1968.. شتاء.. الصف السادس الابتدائي في الطابق العلوي من مدرسة اوراس الابتدائية ..المطر يبلل زجاج النوافذ, تقدم الاستاذ علي عبد الكريم وكتب بالطبشور على سواد الصبورة (البدل )بخط جميل والتفت الينا وقال : .وكنت تعرفت اليه قبل سنتين اذ دخل يوما للصف الرابع الابتدائي مستبدلا بمدرس الرسم المجاز , واخذ طبشورا ورسم فتاة كدمية تحيطها خطوط عشوائية كاعشاب , وطلب منا رسمها وتلوينها ..بعد فترة صمت التقط دفتر رسم لاحد الطلاب وتوجه للصبورة وقال وهو يعرضها (انظروا ..سيكون رساما ).. حقا صيّر منها ذلك الطالب الموهوب تحفة فنية .
بعدها علقت في لوحة الاعلانات..جوار النشرة المدرسية التي عرضت لوحة طبيعية لطالب رسخت بذاكرتي لسنوات : صفان من النخل يتوسطهما نهر مزرق بهي ربط بضفته زورق حزين.
اخطأت مرة بالاعراب فخاطبني (اتتأخر تدريجا تدريجا حتى تصبح مثل اخيك ) , كان يمنعنا من التكلم بالدارجة ..
اشار له طالب جريء ... كان المطر ينهمرلكن البرد رحيم , اجابه (حقا شرط ان يكون الدماغ صافيا ), مشيرا بسبابته الى رأسه. كنا نشاهد من النافذة بقالا نشتري منه لعبا للاطفال وقرطاسية وحلوى .. محل رسمة للفوضى ..
تقع اوراس في منطقة الطويسة وقتها كانت تجمعا سكانيا للاثرياء وميسوري الحال, منطقة جميلة ونظيفة .. لكل منزل حديقة .. ترى شجيرات البرتقال والليمون من خلال الاسيجة الواطئة المزينة بالمتسلقات من الرازقي والجهنمي ..طالما برزت نسوة سافرات بلا حجاب يمسكن انبوب الماء ويرشن مدخل المنزل . في الطريق اليها نعبر الجسر ونمر على اشجار النخل فنتسلق لنقلع الطلع .لكني امر من زقاق ترابي يقع يسار معمل الطحين فالتقط النبق والتوت والرطب . من هنا ,من باب المدرسة للدخول نجتاز ممرا على جانبيه نبتات الآس والجوري تظلها البمبر وسدرتان ونخلة .. منه غادرنا بنظام نحن الصغار لنتوزع على شارع دينار في استقبال الرئيس عبد السلام عارف يوم 11 نيسان 1966م،حيث ظهر في سيارة شفروليت مكشوفة ليتفقد الميناء ومنطقة المعقل ووضع حجر الأساس لمصنع الأسمدة الكيمياوية، وافتتاح مصنع الأسمنت وكان أكبر معمل إسمنت في الشرق الأوسط ونحن نهتف : (احنة جنودك يا سلام )...لكنه لقي حتفه اثر خلل بالطائرة ولم يكن الاهالي مهتمين باسباب الخلل وهل كانت الطائرة إنكليزية الصنع من نوع (Westland Weesex)‏ ام روسية من طراز ميل موسكو. وهي واحدة من ثلاث طائرات كانت في موكب الرئيس... فتسمع معتوها يقطع الدرب ذهابا وايابا على الدرب الترابي جوار سدة طينية شاهقة .. وهو يقول (صعد لحم نزل فحم من قدرة الله ).. ويردد الناس < اتلاثة طارن فد سوة اثنين رجعن للوا والثالثة قائدنة بيها اشتوا >.
عودة لمدرسة اوراس
الدوام بعدنا لمدرسة عتبة بن غزوان ...ويجذب نظرك اسماء الشوارع والمدارس والاحياء تخلد العلماء والقادة العرب , في احد الايام دخل الاستاذ علي عبد الكريم واستفسر عن طالب خطه انيق .. فرفع احد يده وقدم له دفترا واخذ يتلو اليه .. فسّرت ذلك عندما وجدت كتاب (الورد لا يرضع الدموع : علي عبد الكريم 1968 ) وهو كتاب نثري اقرب للخواطر .. بعدها عثرت على كتاب (ديوان النار ) . حفظت منه (لا نبتغي اوراده تلك التي -لم يختف الثعبان تحت ترابها -كي يلدغ الاعداء عند الشمة . وعلقت ببالي مفردة <المياه الزرقة >.. مستقبلا سالتقيه واساله عن هذا الديوان الصغير الحجم فقال(ارجوك لا تسالني عنه فقد كتبته لاستفادة مادية )...في مطلع السبعينيات .. اخبرني احد بان علي عبد الكريم كتب قصيدة منها -امش على درب الصلاة لعالم ..
كتب البقاء على البقاء خلود-.جذبتني النغمة وحيرني الاعراب -خاصة مفردة خلود-..وسألته عنها بعد حوالي نصف قرن فقال لا اتذكر الا انها خطت على لوحة بيضاء من الورق المقوى وهي مودعة لدى الصحفي الكاتب (محمد صالح عبد الرضا )..الذي يظهر انه اضاعها حين استفسرت منه عنها.
في الاعمار المبكرة ترتبط اشياء في الذاكرة كوشم لا يمحى .عام 1975 ارسل علي الاستاذ علي عبد الكريم فالتقيته في مدرسة بمنطقة التميمية قال (رأيت فيك صمت الشعراء لكني لم اتوقع منك شاعرا )... واتفقنا على موعد باحدى مقاهي البصرة .. كان معنا صديقي الشاعر حيدر خضير الكعبي .. كان لقاء حماسيا ومثمرا الا انه كان يمجد البياتي فيما كنت غير ميّال لهذا الشاعر .علق الكعبي بعد ذلك < انت فاجأته فهو معجب بالبياتي >.اتذكر كلمته الاخيرة لي قبل الوداع :(( اهنئك على هذا المستوى الثقافي الذي توصلت اليه ))
افتتح الاستاذ محلا للترجمة القانونية مقابل سينما الكرنك في موقع ملهى السندباد التي ازيلت .. كنت ازوره في فترات متباعدة ..احيانا لديه طلاب في محله: واحد او اثنان يشرح لهم في سبورة صغيرة .. لم اسأله كيف صار مترجما.. قيل دخل مدرسة الامريكان في البصرة .. كان يسكن في قلب العشار ثم انتقل .. التقيته مرة فحدثني انه اقتنى عودا وهو يستمتع به .. انه هاديء الطبع , متزن , جميل الروح , انيق.لا يمكن ان انسى يوم التقيته في موقع الترجمة بعد سقوط النظام ـــ كنت اعمل في اذاعة المستقبل ومراسلا لاذاعة العراق الحر في الجيك ــــ وسالني <هل قرات بعض قصائدي ..نشرتها >قلت لا <قال بحزن :-اذن لمن نكتب ؟ ! -شعرت بخجل واحراج .كان اخر لقاء بيننا يوم قصدته في معهد لتعليم اللغات مقابل نهر العشار .. وجدت لديه كتابا باللغة الانكليزية (ذ بيست اوف امريكان شورت ستوري -افضل القصص الامريكية القصيرة -) وكنت اقتني هذا الكتاب الذي صدر اول الثمانينيات ولاني لا اجيد الانكليزية كم تمنيت ان يترجمه الا انه ترجم كتيبات للاطفال.. فليس من طبعه ان يشرع بعمل مجهد. في ذلك اللقاء اهداني كتابين من شعره .. وقبل ان اودّعه وجدت على الرف كتاب علم الاجتماع يقع بحوالي 900 صفحة للعالم والمؤلف الاشهر حول العالم انتوني غدنز, كنت بحاجة للكتاب الذي لا يتوفر بمكتبات البصرة .. قال هو هدية لك فرفضت قال (لا نظريساعدني لاقرأه وانت افضل من يقتنيه ).
هذا الاديب لم يمنحه اتحاد الادباء هوية ولم يسألوا عنه (انا في مكاني ان منحوني هوية فاهلا اما ان اسعى اليها فلا .).