دِكْتَاتُورِيَة البُنُوك


عبد الرحمان النوضة
2022 / 8 / 14 - 00:53     

خِلال السنوات الأخيرة، أقدمت البُنُوك في المغرب على التَصْعِيد التَدْرِيجِي، والمُتَـوَاصِل، في نَهْبِهَا للمواطنين الذين يُودِعُون أَمْوَالَهُم لَدَيْهَا. وَلِمَاذَا ؟ لأن البُنُوك رَأْسَمَالِيَة. ولأن الرأسماليّين لا يَهُمُّهُم سِوَى شيء واحد، هو جَنْي أكبر كَمِّيَة مُمكنة من الأَرْبَاح، وذلك بِغض النظر عن مَشْرُوعِيَة الوَسَائِل المُسْتَعْمَلَة، سَوَاء كانـت مُتَلَائِمَة مع الـقَانُون الـقَائِم، أم غير قَانُونِيَة، أو حتّى غَير أَخْلَاقِيَة.
وَكَثِير مِن المُوَاطِنِين لَا يَعْرِفُون، أو لَا يَـفْهَمُون، الطُرُق المُتَنَوِّعَة وَالمُتَعَدِّدَة التي تُمَارِسُهَا البُنُوك لِاسْتِخْرَاج أَرْبَاحِهَا مِن وَدَائِع الزَّبَائِن. وَحتّى بعض المسؤولين في مُختلـف أجهزة الدولة لَا يعرفون كلّ أَنْوَاع الرُسُوم والاقتطاعات المتـنوعة التي تُمَارِسُهَا البُنُوك على وَدَائِع زَبَائِنِهَا العَادِيِّين. لأن البُنُوك لا تُعَامِلُ كل زَبَائِنِهَا بِنَفْس الطريـقة. بَل تَحْرُصُ البُنُوك على معاملة الشخصيات المسؤولة في أجهزة الدولة بِطَرِيـقَة فيها قَدْر هَام مِن التَسْهِيلَات، أو التَسَامُح، أو المُحَابَاة، لكي لَا تُثِير البُنُوك اِنْتِبَاهَهُم أو غَضَبَهُم.
وَبَدَلًا مِن أن تَكُون البُنُوك الخُصُوصِيَة مُجْبَرَة على مُكَافَأَة الزَّبَائِن الذين يُودِعُون أموالهم لدى هذه البُنُوك، مثلًا على شكل فَوَائِد دَوْرِيَة مُعَيَّنَة، أو على شكل صِيَانَة حِسَابَات بَنْـكِيَة بِالمَجَّان، فإن هذه البُنُوك تَسْتَـثْـمِرُ كُتْلَة أَمْوَالَ وَوَدَائِعَ زَبَائِنِهَا كَقُرُوض بَنْكِيَة، وَفي نـفس الوقت، تَـفْرِضُ هذه البُنُوك على زَبَائِنِهَا رُسُومًا مُتَعَدِّدَة، وَمُتَنَوِّعَة، وَدَوْرِيَة، وَمُتَزَايِدَة، وَمُتَكَرِّرَة، وَمُتَصَاعِدَة. وحتى الودائع التي يَلْتَزِمُ زَبُون البَنْك بِتَجْمِيدِهَا خلال أَجَل مُحَدَّد لِتَمْكِين البَنْك من اِسْتِثْمَارِهَا، تَبْـقَى مُكَافَآتُهَا البَنْكِيَة زَهِيدَة لِلغاية. ولماذا هذا الشَحُّ أو البُخْل في معاملة الزَبَائِن ؟ لأن دِينَامِيَة الرَأْسَمَالِيَة تَسْتَوْجِبُ تَنْوِيع وَتَصْعِيد هذه الرُسُوم وَالاِقْتِطَاعَات البَنْكِيَة.
كما أن الـفَوَائِد البَنْكِيَة المَفْرُوضَة على الـقُرُوض، ظلّت في المغرب، ومنذ الاستـقلال في سنة 1956 إلى الآن، بَاهِظَة، بالمُقارنة مع فَوَائِد الـقُرُوض المَعْمُول بها في كثير من دول العالم. وهذا كُلُّه استـغلال رأسمالي مُسْتَتِر، وَمُبَالَغ فيه، وَظَالِم. لأن طَبِيـعَة الرَأْسَمَالِيَة تَجْعَلُهَا بِالضَرُورَة تَتَصَرَّفُ بشكل مُفْتَرِس.
وَلَا تَسْتَـغِلُّ البُنُوك المُواطِنِين الأفراد الذين يُودِعُون لَدَيْهَا مُدَّخَرَاتِهِم وَأَمْوَالِهِم فَحَسْب، بَلْ تَسْتَـغِلُ البُنُوك أيضًا الشركات والمقاولات التي هي زَبُونَة لَدَى هذه البُنُوك.
كَمَا تُـبَالِـغ البُنُوك في المغرب في مَا تَقْتَطِعُه من رُسُوم على الحِسَابَات البَنْكِيَة لِزَبَائِنِهَا. حيث تَصَاعَدَت كل الرُسُوم التي تَـقْتَطِعُهَا البُنُوك بشكل مُسْتَبِد، على مُخْتَلَف الخَدَمَات البَنْكِيَة. ومنها مثلًا الرُّسُوم، والاِقْتِطَاعَات، وَرُسُوم صِيَانَة الحِسَاب، وَرُسُوم إِدَارَة الحِسَاب، وَرُسُوم حِفْظ الأَوْرَاق المَالِيَة أو الأَسْهُم، وَرُسُوم مُخْتَلَف الخَدَمَات البَنْكِيَة، إلى آخره. وذلك دون أن يتحرك "البـنك المركزي" بالمغرب، ودون أن تُرَاقِبَ الحُكُومَة، ودون أن تَـكْتَرِثَ وِزَارَة المالية، ودون أن يَحْتَـجَّ البرلمان، ودون أن تَهْتَمَّ الدولة بهذا الاستـغلال الرأسمالي المُتَصَاعِد وَالفَاحِش. لأن كلّ هؤلاء الـفاعلين (المَذْكُورِين سَابِقًا) هُم رَأْسَمَالِيُّون، وَمُتَضَامِنُون فيما بينهم. وَلأنهم جميعًا يعتبرون أن الرأسمالية شَرْعِيَة، وَضَرُورِيَة لِمَصَالِحِهِم الخُصُوصِيَة. ولأنهم يعتبرون أن الاستغلال الرأسمالي المُفْتَرِس، هو عَمَل عَادِي، وَمَشْرُوع، بَلْ ضَرُورِي. ولأنهم يُدْرِكُون أنه بدون هذا الاستـغلال الرأسمالي المُفْتَرِس، فإن مَصَالِحَهُم الخُصُوصِيَة سَتَنْهَار، وأن الرَأْسَمَالِيَة هي نَفْسُهَا سَتسْقُط.
وحتّى إذا اِشْتَكَى زَبُون بَنْك إلى "البـنك المركزي"، ضِدَّ اِقْتِطَاعَات مُبَالَغ فيها من طرف بَنْكِهِ، أو ضِدَّ فَوَائِد قُرُوض مُبَالَغ فيها، وَحتّى إذا طَالَبَ هذا الزبون بِإِنْصَافِه، فإن "البـنك المركزي" لا يهتمّ بِشَكْوَاه، وَلَا يُجِيبُه. لأن البـنك المركزي يهتم أكثر بمصالح الشركات الكبيرة والمتوسّطة، بينما معاناة المُوَاطِنِين البُسَطَاء لا تَهُمُّه، حتّى لَوْ تَحوّل هؤلاء المواطنين البُسطاء إلى قُرَابَة أَرْبَعِين مَلْيُون من المواطنين الذين هُم سُكّان المَغْرِب. فَتُصْبِح هَكَذَا مصالح أربعين مَلْيُون مِن المواطنين لَا تُساوِي شيئًا بِالمُقَارَنَة مع مصالح الشركات الكبيرة والمتوسّطة، بِمَا فيها البُنُوك، سواءً كانـت هذه الشركات مغربية أم أجنبية. ولماذا ؟ لأن هذا السُلُوكِيَات هي المُعَامَلَات التي تُوجِبُهَا الرَأْسَمَالِيَة.
وبدلًا مِن أن يَكُون "البـنك المركزي" التَابِع لِلدَّوْلَة مُحَايِدًا، وَمُرَاقِبًا، وَمُحَاسِبًا، وَمُعَاقِبًا، لِلْمُخَالَفَات والانـتهاكات التي تَرْتَـكِبُهَا البُنُوك الخُصُوصِيَة، يَظْهَرُ أن نَقَابَة البَنْكِيِّين الخُصُوصِيِّين الكٍبَار، أي  «التَجَمُّع المِهَنِي لِبُـنُوك المغرب» (GPBM)، هي التي تُخِيـف  «البـنك المركزي»، وَهِيَ التي تُرَاقِبُه، وَهي التي تُوحِي إليه بِأَفْـعَالِه، أو بِتَوَجُّهَاتِه. وهذا أمر حَتْمِيٌّ في الرَأْسَمَالِيَة. لأن الرأسمالية تُخْضِعُ حَتْمًا كلّ مُؤَسَّـسَات الدولة لِخِدْمَة مَصَالِح الرَأْسَمَالِيِّين الكِبَار. وَمِن المُعَبِّر أنه لم يَسْبِق  «للبـنك المركزي» أن عَاقَبَ أيّ بَنْك خُصوصي على مُخَالَفَات مُفْتَرَضَة، على اِمْتِدَاد كلّ العُـقُود الأخيرة. لأن البُنُوك، بما فيها "البـنك المركزي"، يعتـقدون أن صِيَّانَة الثِّـقَة في المَنْظُومَة البَنْكِيَة، تَسْتَوْجِبُ مَنْعَ نَـقد البُنُوك، أَوْ مُعَاقَبَة مُبَالَغَاتِهَا، أو رَدْع مُخَالَـفَاتِهَا. ولأن منطق الرَأْسَمَالِيَة يَفْرِضُ تَغْلِيب مصالح البُنوك على مَصَالِح المواطنين.
وَلَا تُوجَد مُنَافَسَة حَقِيـقِيَّة وَكَافِيَة بين هذه البُنُوك الخُصُوصِيَة المَوْجُودة في البلاد. حَيْثُ تَـعْمَلُ هذه البُنُوك كَأَنَّهَا بِمَثَابَة اِتِحَاد إِحْتِكَارِي لِلبُنُوك، أَيْ كَارْتِل (cartel) مُنَسَّـق، وَمُوَحَّد، وَاحْتِـكَارِي. وَإذَا أَحَسَّ زَبُون بَنْك بِسُوء مُعَامَلَة، أو بِاسْتِغْلَال مُفْرِط من طَرَف بَنْكِه، فإنه لا يـقدر على الانتـقال إلى بـنك آخر، لأن كل هذه البُنُوك تُمَارِسُ نـفس السياسة تُجَاه الزَبَائِن. ولأن الرأسمالية تَسْتَوْجِبُ تَغْلِيب مصالح البُنُوك على مصالح المواطنين.
وحتّى السَّمَاح لِبُنُوك أَجْنَبِيَة بأن تـعمل داخل المغرب، لم يَأْتِ بِأَيَّة فَائِدَة لِلمُواطنين المغاربة. بل على عكس ذلك، أَضْعَفَت البُنُوكُ الأَجْنَبِيَةُ مُنَافِسَاتِهَا البُنُوكَ المغربية. كما سَاهَمَت البُنُوك الأجنـبية في تَصْعِيد اِسْتِـغْلَال زَبَائِن البُنُوك المغاربة. وَسَاهَمَت أيضًا البُنُوك الأجنبية في تَسْهِيل عمليات تَهْرِيب الأموال، وعمليّات الـفَسَاد، الجَارِيَة بين الداخل والخارج. لأنه مِن المُحَتَّم أن تُؤَدِّيَ الرَأْسَمَالِيَة إلى هذه التَلَاعُبَات.
كما أن اِنْزِلَاق دولة المغرب في خِيَّانَة التَطْبِيع مع إِسْرَائِيل الصَهْيُونِيَة، والاستـعمارية، والعُنْصُرِية، زَادَ في تَسْهِيلَ هَيْمَنَة المُؤَسَّـسَات البَنْكِيَة والمَالِيَة العَالَمِيَة، المُنَاصِرَة لِلصَّهْيُونِيَة، على المغرب. وكان مِن المَحْتُوم أن تُؤَدِّيَ الرَأْسَمَالِيَة التَبَعِيَة إلى خُضُوع المغرب لِلصَهْيُونِيَة.
وما دام المواطنون مُنْـقَسِمِين إلى أفراد مُتَنَافِرِين، سَيَـكُونُون بالضّرورة ضَعِيـفِين، وَمَغْلُوبِين، وَعَاجِزِين، وَمُجْبَرِين على الاِسْتِسْلَام، وعلى الخُضُوع، لِدِيكْتَاتُورِيَة البُنُوك الرأسمالية. أَمّا إذا تَـنَظَّمَ المواطنون وَتَوَحَّدُوا في تَنْظِيمَات ذَاتِيَة مُسْتَـقِلَّة، سَيُصْبِحُ بِإِمْكَانِهِم هَزْم أَيٍّ كان، وَتَحْقِيـق طُمُوحَاتِهِم. لأن الرَأْسَمَالِيَة تُشَتِّتُ حَتْمًا الشعبَ، وَتُحَوِّلُه إلى أفراد مُتَنَافِرِين وَعَاجِزِين.
وما تُمَارِسُه هذه البُنُوك الرأسمالية مِن اِسْتِبْدَاد تُجاه زَبَائِنِهَا، هو إساءة استخدام للسلطة (abus de pouvoir)، وخيانة لِلثِّـقَـة التي وَضَعَهَا المُوَاطِنُون الزَبَائِن في بُنُوكِـهِم الرأسمالية. لأنه لَا يُمْكِنُ أن تَـقُوم الرَأْسَمَالِيَة سِوَى على أَسَاس ضَبْطِ المُوَاطِنِين، وَإِخْضَاعِهِم، وَقَمْعِهِم، وَتَـفْرِيـقِهِم، وَتَرْهِيبِهِم، وَخِدَاعِهِم، وَاسْتِغْلَالِهِم.
وَبِصِفَـتِهَا مُؤَسَّـسَات رَأْسَمَالِيَة، لا تـعرف البُنُوك الخُصُوصِيَة من سبيل لِلزيادة في أرباحها، سوى اِسْتِـعْـمَال التَـفَـنُّـن في التَحَايُل، والتَضْلِيل، وَالمَكْر، والتَمْوِيه، بِهَدَف اِسْتِـغْلَال أو نَهْب زَبَائِنِهَا.
وَتَتَطَوَّرُ الرَأْسَمَالِية مِن التَنَافُس إلى الاِحْتِكَار. وَيَنْدَمِجُ الرَأْسَمَال البَنْكِي الكبير، مع الرَأْسَمَال الصِنَاعِي الكبير، لِيُنْشِئَا الرَأْسَمَال المَالِي الكبير. وَلَا تَمْتَلِكُ الرَأْسَمَالِيَة مِن أُفُـقٍ مُسْتَـقْبَلِي سِوى الاِحْتِـكَارَات، والاِسْتِـغْلَال المُكَثَّـف. وَتُعْتَبَرُ إِمْبِرْيَالِيَة الاِحْتِكَارَات المَرْحَلَة العُلْيَا مِن تَطَوُّر الرَأْسَمَالِيَة.
ولا يوجد حل جذري لِمَشَاكِل البُنُوك سوى عبر التحرّر مِن الرَأْسَمَالِيَة.
وما دامت البُنُوك رأسمالية، يستحيل إصلاحها.
رحمان النوضة (5 غشت 2022).