نظرة الى الامام / مذكرات ج 4


كاظم حسن سعيد
2022 / 8 / 10 - 01:25     

الشاعرمهدي طه
ادرك ان قيمة الماضي هي في الدروس وتمتين الارادة, ما عدا ذلك تفاصيل زائلة , يهمني التخطي والتطلع للامام , ولهذا اعمد دائما الى تضبيب الذاكرة , ولم احتفظ بالاشياء , ولم ازر الاموات الا قبرين لشاعرين في مقبرة الحسن البصري : بدر شاكر السياب والبريكان ,الضرورة قادتني لهناك فقد كان معسكري في الدريهمية وكنا نقصده انا وصديقي الشاعر كريم جخيور ونمر عبر المقبرة ..
بعد فترة وجيزة من لقائي بالشاعر حيدر الكعبي في المكتبة المركزية عام 1973تم الحكم عليه لمدة سنة في سجن البصرة فكان لزاما علي ان اقوي الاواصر مع صديقه الشاعر مهدي طه , كنا نزوره معا في السجن ونعقد هناك الندوات الادبية المختزلة وفي يوم ما استعار مهدي مني قلم حبروبعد فترة خط فيه شعره , و عاد ممسكا دفترا مخططا صغيرا قرات منه قصائد مختلفة , عميقة ومتنوعة : هذا الديوان قيل احرقه ابوه احتجاجا على غياب مهدي دون ان يدرك بان نجله ذهب في رحلة الموت .. وكانت قصيدته المطولة (اغنية حب ) من ابرز القصائد في الديوان :
(كيف أَشْـحَـذُ حُبَّـكِ؟ إنّي نسيتُ اللغات
بأيِّ اللغاتِ أُصَـعِّـدُ هذا اللهيبَ؟ بأيِّ اللغات؟
الفراغُ هو الحَلْقةُ الذهبيةُ بيني وبينكِ، مأذونُ عرسٍ يزاوجنا
الفراغُ يَدُقُّ، الفراغُ يجيشُ، الفراغُ يقول
الفراغُ هو البحرُ، هل تبصرين اشتعالي؟
الفراغُ هو النارُ، نفسيَ عنقاؤُهُ
ومبلولةً تخرجين
دون أن يوجد النهر مبلولةً تخرجين
أيَّ جِسْرٍ من الوَهْمِ أبني إليكِ؟ وأيَّ طَوَافٍ على الكلمات؟
ما أنا غَيْرَ صَمْتٍ يُفَتِّشُ عن كَلِمة
كذبةٍ تتغذّى على اللهبِ المتورِّدِ،
شيءٍ بلا أيِّ شيءٍ،
وجودٍ يطوِّفُ محترقاً،
لعبةٍ،
ضِعْتُ، ضُيِّعْتُ، عِشْتُ،
نُقِشْتُ على حائطٍ،
لم يكن لي زمانٌ
أنا هو تأريخُ موتْ . .
ورمادٌ صديءٌ على عُـلْبـةٍ فاخرة.).
وبحكم طبعي كنت اكثر اصدقائه تواصلا مع عائلته بعد رحيله واحمل عاطفة فياضة دفعتهما و دفعوا للشك بصدقي واقنعهم احد اقربائه من رجال الامن ان يشهدا علي في محكمة الثورة ... فقضيت عاما في سجن ابي غريب سنة 1976بتهمة (قذف السلطة ).
كيف نستطيع ان نقنع الاخرين بان مهدي طه كان طاقة شعرية خلاقة , اجهز عليه غرقا بنهر الرباط في ظروف غامضة حيث اكد تقرير الطب الشرعي الذي قراته بان اثار كدمات على جسده , وان تفسخ الجثمان كان في بدايته قبل ان يطفو .
استقرت في البصرة ظاهرتان :موت الطاقات الادبية في ظروف مريبة وفقدان نتاجاتهم وعزوفهم عن نشر اعمالهم .
لقد تنبأ مهدي بموته كطبيعة الشعراء البصريين فقال مخاطبا حيدر الكعبي: (اذا ابتكر الموت ثانية لعبة للغرق
ساضمخ كفي بدمّي
واصرخ من غرقي ابتعد ).
يهمني كتابة النص ولهذا يتناول كتابي (البريكان )المجال النقدي واراءه ومواقفه محاذرا الكتابة عن سيرتة الا تلميحا رغم اني زاملته لاكثر من خمسة عشر عاما , وعشت في داره لسنوات , ولا ازعم ان الكتابة عن الاخرين او الذات معيبة لكن مزاجي هكذا , اصهرني في النص واطور مرشحات الماضي , ولهذا لم استطع ان افضح عن الشاعر مهدي طه سوى قصيدة شاء القدر ان تنجو من القدر, ان يعفو عنها وتقع بين يديّ.. وبالامكان الخص مهدي ب (كان سلوكا شعريا متفردا ):



(خذ كلابك للصيد يا سيدي
فالقطيع الذي صدْتـَه جالباً لقطيعْ
دعْه يرقدْ هناك بأمنْ
دعْ عصايَ ، خطايَ ، تجدْ نبعها
فماذا أقول لهذي الليالي
وهي تجري أمامي بعري ٍ شهيّ
سوى أنّ لي سيـّداً ولديّ قطيعْ؟
تمرّغنَ باللحم ِ يا نزواتْ ،
تلفـّعْـنَ بالضحـِكاتْ ،
تثنـّيْـنَ ... كـُـوْرٌ محَـمَّـلْ ،
تراقصْـنَ كالصَـبَـواتْ.
آه ِ ما أبعدَ الإشتهاءَ وما أوحشَ الطرُقاتْ!
خذ كلابَك للصيد يا سيدي
تحفّ مهللةً بكَ ،
منذا يلـفــّعـني ،
إذا جُـنـّتِ الريحُ ، هذا الرداء؟
وماذا يطاردني ،
وقوسي يفتـّـش عن صيده ِ ، وسَـط َ الغابةِ المُـسْـتكنـّةِ ،
يجعل من جنحِ عصفورةٍ كفناً للضياء؟
صرخاتي التي لستَ تعرفها ،
ذبالة خيلي وصيدي ،
ومائدتي في العراء مرقـّصةً برنين الكؤوس.).
احد الايام كنا نمضي في كوت الحجاج ضحى , شتاء ,بين صفين من النخيل في الدرب الترابي , اشرقت بدفيء بهي فرأيت الى مهدي طه يتسمر وهو يحدجها , ثم بدأ جسمه يرتعش حتى سجد
خانته الذاكره الصديق حيدر الكعبي حين كتب (قضّيت الليلة في خيمة العزاء المنصوبة قبالة بيت الشاعر فيما سمي بمحلة حسينية العبيد في منطقة الجمهورية. قلتُ "قضيت الليلة" ولم أقل "نمت." كنتُ وحيداً في الخيمة وأرقاً ) فلقد كنت معه في تلك الليلة .
في جامعة البصرة / بمنطقة التنومة دعينا لالقاء القصائد .. كنا انا والكعبي ومهدي نفضل الجلوس في المقاعد الخلفية ...واعتلى المنصة مهدي فيما كان يعالج انفه بمنديل .. رأيتهم ,بعض الحضور, يستهجن منه ولم يعلموا بانه كان ينزف اثر ضربة تلقاها ...زمرة من الطلاب المؤدلجين اعترضوا سبيلنا في الحرم الجامعي .واجهزوا عليه ضربا .
صرح يوما (الكتاب الوحيد الذي تعذر علي تفكيكه هو (اسس الاستقراء ).كنا مبكرين على الحياة مندفعين بحماس دافق لالتهام المعارف والاداب , ورغم ان شراعنا نحو الحداثة ,فان التراث كان موضع استقطاب ,في القصيدة التي اشترك بها ح الكعبي بمسابقات الطلاب (القول بعروة الصعاليك ) / التي فازت بالجائزة الاولى / تدرك تأثير التراث...فقد استهلها باستعارة من الشاعر الجاهلي تأبط شرا (واني امرؤ عافى انائي شركة .. وانت امرؤ عافى انائك واحد , افرق جسمي في جسوم كثيرة واحسو قراح الماء والماء بارد ).مبكرا استوعبنا علم العروض وتجاوزنا محنة الايقاع .
<< كل ما املك من دنياي ما قلت اذن صفري قبري / مهدي طه >>.