قراءة بوشكين في القرن الواحد والعشرين


يزن زريق
2022 / 8 / 9 - 12:11     


انتهى الدور التاريخي للأدب! نتيجة مفزعة يمكن لأحد ما استنتاجها من الفرضيات الأساسية التي تستند عليها هذه المقالة.. فالفرضية الأولى التي تستند عليها الأفكار المطروحة هنا هي أن للأدب والفن عمومًا في مراحل تاريخية سابقة أهميةً معرفية حاسمة في تاريخ الفكر الإنساني. فنظرًا لتأخر تطور العلوم، بالمعنى العام بمجموعها، والعلوم الإنسانية بشكل خاص، كانت الآداب والفنون هي قاطرة المعارف البشرية الأولى. كانت في المقدمة منها ومحركها الأساس. بل يمكن القول إن الأدب كان الشكل التاريخي لتبلور المعرفة العلمية والأفكار في مرحلة تاريخية معينة من التطور الاجتماعي. فمثلًا، نجد أن كتابات والتر سكوت، وشكسبير، خير معبر عن التطور الاقتصادي والاجتماعي الإنكليزي. إنها تعبر عنه وتشرحه بما يغطي ربما نقاط ضعف وثغرات كتابات آدم سميث، التي كانت تعبر عن أقصى ما بلغته العلوم الاقتصادية في تلك المرحلة، وهو ما كان متواضعًا فعليًا، والحق يقال. إن هذه الأعمال الأدبية كشفت مجتمعًا لم يكن ممكنًا كشفه بالأساليب العلمية والبحثية في تلك المرحلة. وكان الأدب هو أسلوب التعبير عن واقع المجتمع، وأهم أداة من أدوات فهمه، إذ لا توجد أداة جدية أخرى غيرها نسيبًا آخذين بعين الاعتبار (ومؤكدين مجددًا) على حقيقة واقع تأخر العلوم والمناهج العلمية التي قد أصبحت أداتنا الفعلية اليوم. ويبقى هنا أن نضيف إلى هذه الفرضية أن الأدب التاريخي هذا عبّر بالتأكيد عن واقعه الاقتصادي والاجتماعي دراميًا، أي بمقتضى قواعد الطريقة الأدبية والأسلوب الفني. وعبّر عنه عبر تركيب النماذج والشخوص وبناء البيئة، عبر طبيعة العقدة الدرامية والحدث... إلخ، أي أن الأدب هنا عبّر تاريخيًا عن واقعه بأدواته.
الفرضية الثانية هي أن للأدب التاريخي راهنية كبرى بالتحديد، بسبب كونه أفضل تعبير تاريخي ممكن عن مرحلة سابقة. وذلك يجعله أداتنا لفهم المرحلة الحالية والواقع المعاصر الحالي. وبالاستناد على نفس مثالنا السابق، لفهم الواقع المعاصر للبرجوازية الإنكليزية وموقعها التاريخي الحالي، فعلينا بشكسبير. لفهم المرحلة الحاسمة في تطورها والقطع الذي تحقق مع الاستقرار الإليزابيثي، وبأي ثمن (ماكبث دراميًا كمثال)، وبأي وسائل، وبأي أساليب، علينا بشكسبير! ولتشريح المجتمع الإنكليزي الانتقالي من العصر الوسيط نحو العصور الحديثة، علينا بسكوت. فهو لخص وكثف بنماذجه الأدبية (أبطاله) مختلف الاتجاهات التاريخية للمجتمع في لحظة معينة، ورسم لوحة متكاملة متعددة الطوابق لذلك المجتمع الانتقالي، الذي هو جنين مجتمعنا المعاصر، وواقعنا الحالي هو نتيجة خلاصة صراعاته.


عن الرواية التاريخية



إن منهجية جورج لوكاتش عن الرواية التاريخية وأبحاثه عن الواقعية وأفكار من جورج هالداس (خاصة عن تناقض الشخصية الخاصة مع "الشخصية الأدبية" للأديب) هي الأدوات المعرفية التي قادت للاستنتاجات التي سنقدمها هنا مطبقة على بوشكين وإسهامه الحاسم في التأريخ الروسي، وبالتالي الواقع الروسي المعاصر (ومن هنا يمكن الحديث عن راهنية ما لأعمال بوشكين، وحضور حداثي ومتجدد لأدبه)، وطبعًا ذلك مستند على الفرضية الثانية القائلة باحتواء الحاضر في الماضي بالضرورة، ولو بصورته الجنينية.


"للأدب التاريخي راهنية كبرى بالتحديد، بسبب كونه أفضل تعبير تاريخي ممكن عن مرحلة سابقة. وذلك يجعله أداتنا لفهم المرحلة الحالية والواقع المعاصر الحالي"



في تاريخ روسيا القديمة، حدث عظيم ومعروف كان قد هز الحياة السياسية والاجتماعية الروسية حتى الأعماق. إنه انتفاضة الديسمبريين الفاشلة في 14 ديسمبر/ كانون الأول 1825. بعد الانتصار في الحرب الوطنية ضد نابليون (هذا الحدث التاريخي الذي من نافل القول إن من بين أفضل من غطوه إلى اليوم تولستوي في ملحمة "الحرب والسلم") انتفض النبلاء. فئة واسعة من الأمراء الروس (الذين كانوا يشكلون "نخبة" بكل ما تحمله الكلمة من معنى، بالمعنى الوطني، ومساهمتهم في الحرب الوطنية، وبالمعنى التنويري والليبرالي من حيث أهدافهم ودوافعهم السياسية، ناهيك عن مستوياتهم الثقافية وانتماءاتهم الفكرية... إلخ). انتفضوا عبر تحرك شبه عسكري ذي مطالب وأبعاد ديموقراطية ودستورية، لينتهي الأمر بشبه مذبحة! وانتصار كامل للقيصرية على كافة المستويات، عسكريًا وسياسيًا، وبالتالي اجتماعيًا ليسود بعدها عهد من الحكم المطلق يُعد من أشد العهود ظلامية في التاريخ الروسي استمر بعد هذا الحدث مستقرًا وراسخًا لعقود طويلة.
هذا الحدث الذي عبر قراءة سياسية سريعة له يمكن أن يبدو لنا سطحيًا وعابرًا (إذ ما قيمة انتفاضة سياسية فاشلة في تاريخ إمبراطورية كبرى، مثل القيصرية الروسية)، هذا الحدث بالذات كان المحور الأساسي لجميع أعمال بوشكين الأدبية بشكل عام ومطلق. لقد كان الموضوعة (الثيم theme) التي ربما لم يذكرها بوشكين بشكل مباشر أبدًا، لكنها حاضرة بثقل حاسم كموجه وكـ"فكرة مهيمنة" في كامل إرثه الأدبي تقريبًا.
كيف ولماذا؟ هما السؤالان الذين سنحاول الإجابة عنهما.



الأدب البوشكيني
قبل أن نثبت فرضية تمحور أدب الإرث البوشكيني حول حدث انتفاضة الديسمبريين، يجب أن نشرح أولًا طريقة فهم بوشكين التاريخية للحدث، كيف تلقاه تاريخيًا، وبتعبير أدق كيف فهم أبعاده كاملة؟ كيف شكل بوشكين "فهمًا" خاصًا حول الحدث، وكيف أدرك حقيقته الكاملة ليس كحدث سياسي عابر، بل كمفصل تاريخي حدد مسار التطور التاريخي الروسي؟
مهمتنا هنا يمكن أن تنجز فقط بدراسة "الممارسة الأدبية" لبوشكين (بحسب تعبير لوكاتش) أي لأعماله الأدبية على وجه التحديد (خطه أو نهجه الأدبي الذي يظهر تحديدًا، وعلى وجه الحصر في أعماله النثرية والشعرية)، وأي "رؤية" متضمنة فيها؟ والتي ليس بالضرورة أن تتطابق مع رأيه الشخصي المعلن، أو حتى مع ممارسته السياسية، أو الفكرية، أو الحياتية (مثال بلزاك عن تناقض "الخط الأدبي" مع الانتماءات السياسية والشخصية للأديب خير نموذج).
عند بوشكين، فإن "فهم" فشل الانتفاضة (أي "المفهوم" الذي كونه عبر أعماله الأدبية عن فشلها) ليس مسألة تكتيكية! ليس مسألة خطة عسكرية فشلت، أو مؤامرة تم إحباطها لهذا السبب أو ذاك... بل إن التفاصيل غير مهمة هنا أبدًا. ففي كل الأعمال البوشكينية يوضح لنا بوشكين وبصوت أدبي رخيم وبالغ الجمالية (عبر نماذجه الشبه كاملة دراميًا وتقريبًا بشكل دائم) الفكرة الكبرى التي تقف خلف تحليل وتفسير سبب فشل الانتفاضة الديسمبرية بكل أبعادها ومستوياتها مرة واحدة وإلى الأبد: الطبقة الأرستقراطية الروسية استنفدت تاريخيًا كل إمكانياتها، ولم يعد لديها شيء لتقدمه، لا على مستوى السياسة، أو على مستوى الإصلاحات، أو البنية الاجتماعية، أو أي شيء آخر.


نتائج انتفاضة ديسمبر 1825


إننا هنا أمام طبقة بكل بساطة منتهية تاريخيًا. وفشل الانتفاضة نتيجة، وإثبات ليس أكثر. إنها عاجزة عن الفعل الاجتماعي، وعن المبادرة التاريخية (وبالتالي المبادرة السياسية)، ولم تعد بعد اليوم، وبعد هذه المرحلة من التطور التاريخي في روسيا، إلا قوة محافظة لا غير! بغض النظر عن "تفوق" ما لأفراد هذه الطبقة، أو وجود أشخاص ذوي صفات إنسانية متقدمة فيها (وفي بعض الحالات تصل لحد البطولة، خاصة بنماذجه النسائية)، وبغض النظر عن رغباتهم ونواياهم وصدقهم (وهنا تناقض درامي أساسي لدى بوشكين سيتكرر مرارًا، ويذكر طبعًا بالتراجيديا الإغريقية من نوع أن البطل في مواجهة القدر، إلا أن بوشكين يصوغه بشكل أكثر عمقًا وواقعية كبطل يواجه التاريخ، التاريخ الذي حكم نهائيًا على طبقته للأسف بالفناء)، بغض النظر عن أي عوامل عرضية أو ذاتية، هم أبطال مهزومون. ويحاربون في سبيل قضية هم أنفسهم قد لا يدركون أنها منتهية. وإنهم كأبطال ينتمون إلى طبقة معينة باتوا غير قادرين على تقديم أي حل تاريخي لا لأنفسهم ولا لمجتمعهم. ومن هذا التناقض الجوهري يصدر كل ذلك النغم المأساوي الشجي للأعمال البوشكينية. فهو تناقض سيحل دائمًا وأبدًا لصالح التاريخ. ومهما تعاطفنا مع أبطاله، ومهما امتلكوا من صفات ومهما كانوا نبلاء حقًا (بالمعنى الإنساني وليس فقط الطبقي للكلمة) فإن التاريخ قد أعطى حكمه والمعركة باتت محسومة. تلك هي الحقيقة المفجعة التي أدركها بوشكين ببصيرته التاريخية الفذة. فإن الرجل أدرك مبكرًا انحدار طبقة قديمة حاكمة، وانفتاح عهد جديد في التاريخ الروسي لا مكان ولا دور فيه لأبناء الطبقة القديمة وأبطالها مهما كانت خصالهم، أو دوافعهم على المستوى الفردي والشخصي. إننا هنا أمام قراءة مذهلة على الصعيدين الاجتماعي والفلسفي للواقع الروسي وللتاريخ الروسي تم تقديمها بأسلوب أدبي رفيع في صدقه وتعبيره، قل مثيله في تاريخ الأدب.


"في كل الأعمال البوشكينية يوضح لنا بوشكين وبصوت أدبي رخيم وبالغ الجمالية الفكرة الكبرى التي تقف خلف تحليل وتفسير سبب فشل الانتفاضة الديسمبرية بكل أبعادها ومستوياتها مرة واحدة وإلى الأبد"



إذا أخذنا مثلًا في "دوبروفسكي" التي كان قد قال عنها الناقد الروسي الديموقراطي الشهير بيلينسكي إنها "من أعظم إبداعات عبقرية بوشكين" نجد أنه، وبالإضافة إلى العرض المتمكن والمقتدر الذي يعرض فيه بوشكين الريف الإقطاعي الروسي والفلاح القن الروسي قبل الإصلاح (طبعًا كان قد بلغ بوشكين مرحلة الذروة في تشريحه لبنية هذا الريف والنفاذ إلى أعمق الصفات الاجتماعية والتاريخية فيه في عمل لاحق هو "تاريخ قرية غوريخينو")، هناك التشريح النافذ إلى أعمق أعماق طبيعة البيروقراطية الروسية والجهاز الإداري المهترئ (حيث يُقلب الحق باطلًا والباطل حقًا عبر أدوات المال والسلطة والنفوذ وسائر أدوات فساد الرأسمالية المعاصرة. وهنا يجدر القول إن الكاتب كان مدركًا لحقيقة اختراق الرأسمالية بهذه الطريقة، أو تلك بقوانينها وأساليبها للجهاز البيروقراطي الإقطاعي المتداعي، بالإضافة إلى مجمل البنية الاجتماعية ونخرها لها حتى العظام.. أي أننا هنا أمام مجتمع "مترسمل"، إن صح التعبير) مع قدرة رائعة على تصوير رجل النفوذ الرأسمالي الحديث الذي كان بوشكين قد أدرك أنه لم يبق من صفاته الاقطاعية إلا المظاهر (الصور الأدبية المبدعة في اكتمالها الدرامي التي يرسمها بوشكين للبطلين من الجيل القديم دوبروفسكي الأب والجنرال ترويكوف، يمكن أن تذكر أي قارئ عربي بأي رجل متنفذ رأسمالي في قريته، أو مدينته، أو بلدته، التي يعيش فيها، خاصة أننا في عمل بوشكين أمام رسم لنموذج رأسمالي متنفذ في بيئة متخلفة شبه إقطاعية متأخرة... أي أنها تخصنا بشكل مباشر وعلى الوتر!. ولا داعي لقول إن شخصيات بوشكين عمومًا مكتملة البناء، إن دراميًا، أو سيكولوجيا، وببساطة نافذة ومدهشة. فهذه الناحية درست كثيرًا عند بوشكين). الفكرة أننا هنا أمام مشهد تشريحي نافذ للبنية الاجتماعية والإدارية للريف الاقطاعي الروسي المترسمل جوهريًا (وهي حقيقة لم تحسم جيدًا حول الريف الروسي، واستمرت الجدالات حولها حتى بداية القرن العشرين، حيث تمكن الاشتراكيون الديموقراطيون أخيرًا، وبصعوبة، من حسم الجدال، راجع مثلًا كتاب لينين عن تطور الرأسمالية في روسيا)، وكل ذلك عبر عرض دقيق لتفاصيل دقيقة ومرهفة إن في الجهاز القضائي، أو في شخوص السماسرة، أو المحامين، أو الفلاحين... ثم يأتي الدخول إلى قضية العمل الأدبي الأساسية: انتفاضة النبلاء والأرستقراطية الروسية العادلة، ولكن الفاشلة، ضد مثالب النظام المهترئ والمتدهور والمتداعي (تقدم الانتفاضة هنا ممثلة بحركة تمرد ريفية يقودها النبيل دوبروفسكي الابن على شكل عصيان وأعمال سلب ونهب، احتجاجًا على الظلم الذي حاقه شخصيًا كنبيل وملاك عقاري، ثم ضد الظلم الاجتماعي الذي يشكله النظام بشكل عام ومحاولة إصلاحه عبر أعمال مسلحة وإرهابية). في "خمود" الانتفاضة الفلاحية في نهاية القصة عرض بأسلوب بارع لحقيقة استنفاد الطبقة الارستقراطية لكامل قدرتها، من دون معارك كبرى، ومن دون نهاية بطولية (لعلها بطولية على المستوى الفردي بحكم تعاطفنا مع الخصال الشخصية للبطل)، ومن دون أي انجاز اجتماعي، أو سياسي، أو إصلاحي، حتى على مستوى البلدة، أو الناحية. تكون الرسالة كاملة وواضحة: ليست الأرستقراطية هي الطبقة القادرة على قيادة الفلاح الروسي لتحقيق إصلاحات، أو تغييرات كبرى. إنها طبقة ميتة، قدراتها خمدت، وانتفاضاتها بالتالي ميتة. إنها انتفاضة الديسمبريين تطل بوجهها مرة أخرى كحقيقة تاريخية ساطعة. وبوشكين ببساطة كرس نتائجها وكثفها ولخصها عبر عمل أدبي فردي واقعي ومتقن. فكل تحرك قائم على القواعد والأسس الاجتماعية نفسها لحركة الديسمبريين سينتهي إلى النهاية نفسها بالتأكيد!


عبقرية بوشكين


مكتب بوشكين في مزرعة والدته الريفية في ميخائيلوفسكي، حيث بقي الشاعر في المنفى بين عامي 1823 و 1826 (Getty)

خروجًا عن الموضوع الأساسي لهذا البحث، من الطريف هنا، ولندرك كامل أبعاد عبقرية بوشكين المذهلة، وذات البصيرة التاريخية حقًا، أن نجد أنه عرض عبر "ابنة الآمر" مسألة الانتفاضة الفلاحية نفسها، ولكن هذه المرة من وجهة نظر معاكسة. إذا كانت "دوبروفسكي" عرضًا معمقًا لفشل انتفاضة فلاحية قادتها الأرستقراطية، ففي "ابنة الآمر" يوضح بوشكين، وبالعمق نفسه، وبالنَفس ذاته، والأسلوب المذهل الذي لا يخلو من السحر، أن الانتفاضة الفلاحية بقيادة فلاحية ذاتية ليست بحال أفضل، ولن تنتهي إلى نتائج أحسن! طبعًا، عين بوشكين كانت على البرجوازية الليبرالية الروسية الديموقراطية. ومسألة فشلها، أو نجاحها، في قيادة الانتفاضة الفلاحية الروسية تقع خارج إطار هذا البحث كليًا. وعمومًا، فقد حلها الاشتراكيون الديموقراطيون الروس في ما بعد، بعد بضعة عقود.


"شخصيات بوشكين عمومًا مكتملة البناء، إن دراميًا، أو سيكولوجيا، وببساطة نافذة ومدهشة"


في "ملكة البستوني"، تظهر البصيرة نفسها، ولكن على مستوى مشخص أكثر، وأكثر ذاتية. كيف يمكن الوصول إلى المال والثروة (عصب العصر الحديث والهدف العقلاني والطبيعي لكل أبناء المجتمع الحديث)؟ عبر هذا السؤال وتقديم الإجابات الدرامية عنه، يريد بوشكين متابعة مسارات الاستنتاجات الأساسية نفسها التي بدأ فيها... إن طرق وأساليب العهد القديم لم تعد نافعة. والأرستقراطية الروسية بأساليبها وقدراتها وأفكارها لم تعد فعالة، أو منتجة بكل بساطة. روعة بوشكين أنه بشكل عام لا يقدم حكم قيمة ضد هذه الطبقة (بل في الحقيقة هو متعاطف معها نسبيًا، وأحكام القيمة لديه على المستوى الشخصي لصالحها)، إنما ببساطة يقدم حكم فاعلية. إنها باختصار لم تعد فعالة لا على المستوى الاجتماعي، وفي "ملكة البستوني" لا على المستوى الشخصي، أو الفردي أيضًا (فالبطل كان يتبع الدرب العقلاني نحو جمع الثروة والمراكمة المثابرة ـ على الطريقة " الألمانية" ـ، فينحدر نحو أساليب الأرستقراطية الروسية المليئة بالقمار والخزعبلات والأوهام وأحلام الكسب السريع السحري... لينتهي إلى دمار شخصي مدقع وجنون).
يمكننا تلخيص عبقرية بوشكين في أنه كان مخلصًا لحسن قراءته للواقع (ضد تحيزاته الشخصية على الأرجح). إنه الواقع الروسي الانتقالي الذي استطاع تكوين مفهوم تاريخي اجتماعي عنه سبق فيه عصره ومستوى فهم عصره ببضعة عقود على الأقل. حتى على صعيد الأدب الروسي، فإن حقيقة البطل الأرستقراطي المفرغ فعليًا من أي محتوى إيجابي (وخاصة من ناحية الفاعلية التاريخية والاجتماعية بالتحديد) انتظرت بضعة عقود حتى ظهرت وترسخت وصارت واضحة أدبيًا وفكريًا. فبعد بضعة عقود بدأت في الظهور (وإن بشكل أكثر اكتمالًا وتفصيلًا) نماذج غونتشاروف وظاهرة "الأبلوموفية"، ونماذج تورغينيف، وغوغول، الذين يمكن اعتبارهم عمومًا متابعين على الخط نفسه. خط سيجد ذروته الرفيعة في نقائه واكتماله بالتأكيد عند "أنا كارنينا"، و"بعث" تولستوي. لكن تبقى حقيقة أن أونيغين بوشكين (كنموذج معمق لعقم البطل الأرستقراطي حتى رومانسيًا وعاطفيًا، فما بالك اجتماعيًا أو سياسيًا! فالنسبة لأونيغين نحن هنا أمام بطل لم يستطع حتى حل تناقضات حياته العاطفية بطرقة إيجابية، أو الارتقاء إلى مستوى أعلى فيها، ولينتهي إلى فشل ذريع، يعكس مأساة طبقة كاملة باتت مفرغة على جميع المستويات)، فهو يسبق "أبلوموف" غونتشاروف (أول نموذج مكتمل أدبي يحدد صفات البطل الأرستقراطي السلبي) بعقود، وهذه حقيقة باعثة على التأمل حول نفاذ بصيرة الكاتب الشاب، وعمق سبره لحقائق مجتمعه وعصره الكبرى والأساسية. (طبعًا وكملاحظة اعتراضية لا بد هنا من إعطاء ليرمنتوف حقه في هذا الموضوع حول حقيقة معاصرته لبوشكين في نموذجه العبقري بتشورين ضمن عمله الفذ "بطل من هذا الزمن"، حيث من الواضح فيه التقاطه للعناصر الجوهرية نفسها في المجتمع الروسي، والأرستقراطية الروسية، وبواقعية وعمق لا تقل عن بوشكين صراحة. إلا أنها عند بوشكين أكثر اكتمالًا، وتطورت مع الوقت لتبلغ كمالًا أكبر. فربما الموت والقدر لم يسعفا عبقرية الشاعر ليرمنتوف بالوقت اللازم لبلوغها، بينما منحا بوشكين وقتًا أكبر نسبيًا رغم أن الآخر كان قد مات شابًا ليبقى إسهام ليرمنتوف في هذا الإطار بارقة عبقرية مدوية واعدة إنما غير مكتملة إذا ما قورنت بالإرث البوشكيني).


خلاصة
بالعودة إلى فكرة افتتاحية المقال عن نهاية الدور التاريخي للأدب، لا يمكن إلا أن نؤكد أن المكانة المعرفية للآداب والفنون في هرمية المعارف البشرية قد تراجعت اليوم بلا شك، مفسحة مجالًا بات حاسمًا اليوم للعلوم المحضة والنظرية وللعلوم التجريبية والتطبيقية، ولكافة فروع العلم الحديث (لعله هنا السبب، أو التفسير للرأي المتداول حول انخفاض قامة الآداب والفنون المعاصرة أمام آداب وفنون القرون الأربعة السابقة، حيث بكل عصر، وبحسب الضرورات التاريخية، ساد نمط ما من الفنون كان هو تاريخيًا الأداة، أو من بين الأدوات المعرفية الأساسية في التاريخ الإنساني).

"عبقرية بوشكين تتلخص في حسن قراءته للواقع (ضد تحيزاته الشخصية على الأرجح). إنه الواقع الروسي الانتقالي الذي استطاع تكوين مفهوم تاريخي اجتماعي عنه سبق فيه عصره ومستوى فهم عصره ببضعة عقود على الأقل"


وكتعدٍ على موضوع المقالة الذي يفترض أن يكون مرشدًا متواضعًا لتقديم زاوية نظر ملائمة لقراءة بوشكين المعاصرة، هل يمكن قول كلمات عدة عن إمكانية ظهور بوشكين معاصر؟ أي عن إمكانية تقديم أدب بوشكيني العبقرية في القرن الواحد والعشرين، خاصة في ضوء الاستنتاج الذي وصلنا إليه بخصوص تراجع الدور التاريخي المعرفي للأدب عمومًا؟ أعتقد أن النقطة الأولى هنا هي إدراك أن دور الأدب والفن اليوم لم يعد تقديم الكشوف والفتوحات المعرفية والإنسانية (كما كان سابقًا) بقدر ما هو اليوم دور توضيحي وتعبيري. إن بوشكين القرن الواحد والعشرين لن يكشف معارف جديدة، أو يقدم رؤى جديدة في مجالات الفلسفة والتاريخ والتحليل الاجتماعي، فهذه المهمة اليوم هي مهمة العلوم المختصة بالذات، ولا تتم إلا بأدواتها العلمية بالذات، من بحث وتجريب واختبار وصياغة مفاهيم... إلخ. تبقى هذه مهمة العلوم. والأدب بأدواته الفنية غير قادر على المنافسة بالتأكيد في هذا المضمار. لكن يبقى دوره هو دور التوضيح، والتوصيل. عبر أدواته التعبيرية الغنية، تكون مهمته اليوم في القرن الواحد والعشرين هي توصيل الحقائق العلمية والأفكار الكبرى التي تعبر عن حقائق العصر إلى الجماهير الواسعة، وشرائح الناس والقراء والمتلقين الواسعة. للفن والأدب اليوم مهمة تثقيفية إن صح التعبير، وهذه هي رسالة الفن المقدسة في عصرنا الحديث؛ التثقيف والتوعية ونشر الحقائق التي بالأسلوب العلمي الجاف تبقى حكرًا على المختصين، أما عبر الفن والأدب، فتصبح ملكًا للجمهور العريض لتصبح عندها هذه الحقائق قوة وذات فاعلية إنسانية حقيقية مؤثرة. إنه عصر الآداب الجماهيرية والفنون الشعبية، حيث تستخدم الفنون مهاراتها في التأثير الشعبي والتعبير، لتغني الأفكار والمشاعر والعواطف على أوسع النطاقات. فالفن الحديث وبوشكين القرن الواحد والعشرين ما كان ليجعل من كشف الحقيقة مهمته، بل كان في أغلب الظن سيختار أن يكون صوتها المدوي والصادق بشجاعة لا يردها لا خوف ولا جهل!