الأصول الفكرية للحملة الفرنسية علي مصر: الاستشراق المتأسلم في فرنسا ( 1698-1798 )- تأليف هنري لورنس ؛ترجمة : بشير السباعي


عطا درغام
2022 / 8 / 5 - 13:25     

علي مدار زمن كامل لم يكن الاستشراق يستشعر حاجة إلي التساؤل عن أصوله ولا أسسه، وقد ركن إلي وجوده وكان ذلك كافيًا له .لكن حركة نزع الاستعمار العامة قد أرغمته علي أن يضع نفسه موضع التساؤل، وعلي أن يتساءل ما إذا كان لم يتورط في أغلب الأحيان مع الاستعمار.والحال أن محصلة هذه الأزمة قد تمثلت في تعريف مزدوج للاستشراق هو في آنٍ واحد عقلاني،علمي وغربي.
وهكذا يذهب مكسيم رودنسون إلي أن الاستشراق المتأسلم نتيجة: " لعدد معين من الممارسات العلمية في أوربا وأمريكا ، وهي ممارسات تهتم بدراسة شعوب البلدان الإسلامية (أي مجموع الشعوب التي يهيمن الإسلام بينها) ومجتمعاتها وحضاراتها ولغاتها".
ويري محمد أركون أن الإسلامولوجيا (علم الدراسات الإسلامية) هي خطاب غربي يهدف إلي تكوين تصور عقلاني حول الإسلام بينما يكتفي المسلمون أنفسهم بالتحدث عن الإسلام مثلما يتحدث المسيحيون عن المسيحية.
أما دومينيك شوفالييه فهو يشدد علي أن رأي العلم نفسه هو نتاج حضارة أوربا الغربية ،وأن صوغه إنما يتجاوب مع حاجة إلي تفسير هذه الحضارة وتطورها وتوسعها. وغالبًا ما يؤدي التنظيم الميكانيكي للمفاهيم التاريخية الغربية علي الحقائق الواقعية الشرقية إلي أخطار في الحكم،خاصة في عصر العلم"الاستعماري" . ومن ثم يجب التشديد علي الخصوصية، وهو "مالا يؤول إلي إثارة نقاش حول العالمية، بل حول المستوي الذي تحتله الهوية الفعلية للطبيعة البشرية عبر تبايناتها المحلية".
في القرن التاسع عشر يختفي الوجه الغربي للمسألة تحت الوجه العقلاني – العلمي الذي لا يمكن إلا أن يكون عالميًا.إن غربيين هم الذين كانوا يكتبون، لكن أعمالهم لا يمكن إلا ان تُحيل إلي عالمية العلم.
وفي أيامنا فإن امتلاك الشرقيين الأخير لتاريخهم الخاص، إنما يستتبع في حالات معينة التطرف المقابل،والذي يتمثل في رفض"ديماجوجي للاعتراف بصلاحية مكتسبات هذا العلم، الذي يبدو من حيث الجوهر مُصابًا بروح تفوق غربي .وبوجه عام يجري الاكتفاء بهذا الشاهد دون البحث فعلًا.
وفي جميع تلك المجادلات لا تجري دراسة عن أسلوب عمل ممارسة علمية عميقة التورط في التاريخ، و الحال أن تاريخانية الاستشراق هذه موسومة بمحركي تطوره؛ فمن جهة يعتمد علي هذا التخصص اعتمادًا وثيقًا علي العلوم الإنسانية الأخري. والتغيرات المنهجية الكبري، وظهور ميادين تساؤل علمي جديدة إنما نجد أصداء لها في إشكاليته بقدر من التباين.
وفي أغلب الأحيان تجيء التغيرات الكبري من تكيف أدوات فكرية جديدة يجري تطويرها من خارجه،ومن جهة أخري يتأثر الاستشراق تأثرًا مباشرًا بالسياق العام للعلاقات بين الشرق والغرب.ومهما كان سمو المستشرقين الروحي ودرجة تجردهم عن الظرف السياسي فمن الواضح تمامًا ان موقفهم لن يكون واحدًا عندما يهدد الأتراك وسط أوربا أو عندما تستعمر الدول الأوربية مجمل حوض البحر المتوسط.
ويمكن دائمًا العثور علي رواد سباقين، لكن الاستشراق المتأسلم الحقيقي إنما يولد في النصف الأول من القرن السابع عشر، وعلي المستوي الفكري يظهر بوصفه تطبيقًا من جانب أرباب بحث كاثوليك لتقنيات البحث التي طورها الإنسانيون؛ أما من الناحية السياسية، فنجد شاغل التوازن الهش بين أوربا والدولة العثمانية وقمة هذا الاستشراق الأول هي تلك الموسوعة الإسلامية الفعلية التي تتمثل في عمل هربلو"المكتبة الشرقية" المنشور عام 1697، بعد ثلاثين عامًا من التحضير وبفضل رعاية ملكية.
وفي ذلك التاريخ بالفعل كانت الظروف قد بدأت تتغير في المجالات الفكرية كما في المجالات السياسية.فالانحدار العثماني يتزامن مع انبثاق العلوم الإنسانية.وفي أواخر القرن الثامن عشر يقترن مشروع عسكري للاستعمار مع أغرب مهمة علمية في كل التاريخ السابق.فلأول مرة يجد بلد عربي نفسه تحت صدمة الاستعمار.وخلافًا لما حدث في الهند وفي العالم الجديد ، يحمل الواصلون معهم عددًا معينًا من الأفكار جد المحددة التي تميل إلي استثارة تحولات سياسية واجتماعية محددة.
غالبًا ماجرت السخرية من شعارات"السلم للأكواخ،والحرب علي القصور" الشرقية التي تُعزي إلي بونابرت.إذ يجري النظر إلي هذه الشعارات عادة علي أنها مجرد تطبيق ميكانيكي لدعاية الثورية دون التساؤل ما إذا لم يكن من الأبسط الاستغناء عنها والتصرف كأي فاتح آخر.علي أن هؤلاء الكتاب أنفسهم يثنون علي بونابرت لأنه كان لديه عدد معين من الرؤي العبقرية حول يقظة الشرق أو الاستقلال العربي .
والحال أن الكتابة التاريخية عن الحملة الفرنسية علي مصر إنما تشكو من كونها نابوليونية بشكل بالغ الحدة؛ إذ يجري النظر إليها غالبًا بوصفها مرحلة مسيرة فاتح ولا يجري النظر إلي الجوانب الشرقية للمسألة.وما نعرفه عن الحملة هو في الواقع عسكري ودبلوماسي،أما عدا ذلك فهو يغيب عن أبصارنا.
علي أن هذا المشروع لا يمكن اختزاله في مناورة سياسية تهدف إلي التخلص من جنرال جد مرموق ورائع، وهو جنرال يقبل من جهة أخري تحمل مسئولياته بحماس،إنه يتماشي مع مخطط عميق ولعل الصدفة هي اضطلاع بونابرت به.
وتتمثل المهمة المحورية لهذا الكتاب في تتبع مسيرة الاستشراق الفرنسي المهتم بعالم الإسلام علي مدار القرن الثامن عشر ، وهو تتيع يجري من زاوية البحث في الأصول الفكرية للحملة الفرنسية علي مصر.
ويكشف العمل عن واقع تاريخي أساسي هو مرآة الحملة الفرنسية علي مصر لم تكن صدفة تاريخية، بل كانت اختبارًا عمليًا لروح استعمارية جديدة تهدف من حيث الجوهر إلي تغريب معمم لمجمل العالم غير العربي..