أحزاب القبيلة وحُكم الأقلّيات


عزالدين بوغانمي
2022 / 8 / 6 - 13:20     

موريس ديفرجيه، هذا محامي شيوعي، فرنسي الجنسية، عالم سياسة وأستاذ قانون دستوري، متوفي في 2014 عن عمر 97 عام. ألّف 15 كتابا ضخما معروفة جدا في الأوساط الأكاديمية، واحد من هذه الكتب عنوانه "الأحزاب السياسية". صنف فيه الأحزاب. ويعتبر مجهوده كعالم سياسة، من أهم المحاولات التي بُذلت لتصنيف الاحزاب السياسية الى انواع مختلفة، وعلى نحو علميّ. بحيث ربط دوفرجيه تنظيم الحزب باهدافه وسياسته. ففي واحده من أهم فرضياته عن الاحزاب يرى "أن أهداف الحزب واستراتيجيته يحددان النموذج التنظيمي لذلك الحزب، والذي يؤثر بدوره في نمطه السياسي".. ومن هذا الافتراض انطلق دوفرجيه ليميز بين احزاب العضوية المباشرة ، واحزاب العضوية غير المباشرة، واحزاب المؤتمرات، واحزاب الفروع، والاحزاب الاستبدادية، وأحزاب العقيدة، والأحزاب العملية.

جيوفاني سارتوري، هذا صحفي وعالم سياسة وكاتب إيطالي، متوفي في 2017 عن سن ناهز 93 عاما. بدأ مسيرته الأكاديمية كمحاضر في تاريخ الفلسفة الحديثة، ثم عميد قسم العلوم السياسية بجامعة فلورنسا. السيد هذا أيضا له كتابات عديدة منها "الأحزاب والأنظمة الحزبية".

فليب برو، هذا أحد كبار القضاة الأمريكان، عالم قانون، وعالم اجتماع من جملة مؤلفات "علم الاجتماع السياسي" خصص بابه الأخير لتصنيف الأحزاب السياسية...

باختصار، اختلف المفكرون في تحديد معايير لتصنيف الأحزاب السياسية. ولذلك هنالك عدد كبير جدا لهذه التصنيفات. فالأحزاب حسب الباحثين وعلماء السياسة: أحزاب ايديولوجية، وأحزاب المصلحة، وأحزاب القلة، والأحزاب الغنية، وأحزاب الطبقة الوسطى، وأحزاب الولاء، والأحزاب الشخصية، وأحزاب المبادئ، وأحزاب جغرافية، وأحزاب الهوية، وأحزاب وطنية، وقومية، وأممية، ودينية، وعلمانية وجامدة، ومرنة، ومحافظة، وليبرالية، وعضوية مباشرة، وعضوية غير مباشرة، وشمولية، ومتخصصة، وطليعية، وجماهيرية، ونخبوية، وأحزاب الأفراد (قائمة حول شخصية)، وأحزاب براغماتية، وأحزاب الأعيان، وأحزاب المناضلين، وأحزاب التجمع ... الخ

لماذا موضوع أصناف الأحزاب؟
اهتممت بدراسة هذا الموضوع أولا بعد الثورة مباشرة، لما شهدت تونس تخمة من الأحزاب، حتى بلغ الأمر إلى حيرة أصحابها في التسمية. وطالما سمعنا بأسماء مضحكة على غرار تلك التي ظنت أنها ستختطف الجمهور باسم يشبه "نداء تونس"، فسموا "قلب تونس"، وتحيا تونس"، و"عيش تونسي"، و"حراك تونس الإرادة" و"تونس إلى الأمام"، و"صوت شعب تونس"، و"مشروع تونس"، و"تونس الخضراء" ... وأسماء أخرى مضحكة مثل: حزب القراصنة التونسي، وتيار المحبة، وحزب صوت الفلاحين، وحزب الوفاق، وحزب الرحمة، وحزب الأمل وحزب الوفاء وحزب الكرامة وحزب التشغيل ...
ثم انكببت من جديد على تتبع آثار علماء السياسة الكبار، ونظرياتهم حول الأحزاب السياسية مباشرة بعد أن تفككت الجبهة الشعبية. والخلاصة الأكثر أهمية مما حصّلت من معرفة حول هذا الموضوع هو أن أكثر من 90% من الأحزاب التونسية، لا علاقة لها بأسمائها، وجميعها تقع خارج كلّ التصنيفات. بحيث لا يمكن اعتبارها أحزابا بأيّ معيار من المعايير. بل أن أغلبها مجرّد (وِفاق تآمُري)، وأحيانا (وِفاق إجرامي) لمجموعة من الأشخاص، في العادة، محدودي الثقافة، عندهم استعداد لممارسة كلّ أنواع الغِشّ والغدر والنّفاق من أجل أنفسهم، مُصرّين على افتكاك مكان قريب من القرار، قد يفتح لهم الباب لاحتلال نفوذ ما. بعضهم يبغي الجاه. والبعض الآخر يحلم بوضع يده على نصيب من الموارد. ولأنها مبنية على مثل هذه النوايا الصغيرة، فهي لا تتطوّر، ولا تتّسع للمواطنين، ولا تحظى باحترامهم، ولا يسمع الناس بأخبارها إلا وهي تتفكّك وتتلاشى... وحين تتلاشى لا يتأسّف عليها أحدٌ، لأنها ليست أكثر من أحلام أصحابها.

ماهي جذور حقد "اليسار الصغير" على الرئيس قيس سعيّد؟

أستاذنا الكبير المرحوم ألبرت حوراني، يقول: عام 1913 كان عدد سكان انقلترا حوالي 35 مليون نسمة. فكيف نجح الانقليز في السيطرة على ما يقارب 412 مليون إنسانا حول العالم. أي حوالي 23% من سكان الكرة الأرضية في ذلك الوقت؟ وكيف تمكنوا من السيطرة على مساحة 35,500,000 كلم مربع، أي تقريبا ربع مساحة العالم؟
ويجيب عن السؤال. يقول نجحوا في ذلك باستخدام وجهاء تلك الشعوب وسادتها. بحيث يستميلونهم بالمال وبالنفوذ والامتيازات. وبذلك تنحني لهم تلك الأقوام صاغرة مُطيعة.
لكن ألبرت حوراني يضيف مسألة مهمة جدا. يقول أبناء تلك الأقليات، (يقصد أولائك الاعيان المتعاونين مع المستعمر)، وأحفادهم الذين تلقّوا تعليما حديثا في المدارس والجامعات الاروبية، هم الذين شكّلوا الطبقة الحاكمة بعد الاستقلال. وتواصل حكم هذه الفئات إلى الآن في لبوس وأشكال مختلفة، أهمها وضع آياديها على مقدرات البلاد من خلال الاستحواذ على أهم عقود التجارة الخارجية...
لماذا أعدت طرح نظرية ألبرت حوراني حول "حكم الأقليات"؟
حتى تنتبهوا إلى تفصيل قد يبدو ثانوي، ولكنه جوهري الحقيقة. لا شكّ أن رأس الحربة ضد الرئيس، هو راشد الغنوشي. وتقف وراءه تلك "الأقليات" المتنفذة، تلك التي تشعر بالتهديد بسبب وجود رجل في قصر قرطاج لا يُباع ولا يُشترى. ولكن هنالك في نفس خندق الرجعية، تقف فئة أخرى واسعة من النشطاء الوطنيين والتقدميبن واليساريين. هؤلاء ليست لهم مشكلة بوصلة وحسب. بل عندهم مشكل نفسي وراثي. فآباؤنا واجدادهم عاشوا قرونا في خدمة الأقليات وأبناء الأقليات. ولذلك عدد كبير منهم لم يستوعب وصول واحد من أبناء الشعب إلى سُدّة الحكم. هذا البعض التّعيس، روحه ونفسيته وعقله، كلها مُعِدّة لِيحكمها الآكابر. لذلك أحيانًا تقرأ لبعضهم كلاما فيه سخريّة من الرّجل، لو تأمّلت فيها وفكّكتها، لوجبت بداخلها شعارا يقول: "الشهداء من القصرين، والوزراء من المرسى".
فلا تسمعوهم حتى حين يقولون لكم بأن هذا هو الموقف الثوري. فهم في الحقيقة عندهم ذبحة وجدانية، فظنّوها أفكارا ثورية.