في الاختلاف السوري: المجزرة تفادياً للمجزرة


ياسين الحاج صالح
2022 / 7 / 29 - 00:05     

تشبه سورية الجمهوريات الدكتاتورية العربية من أوجه، وتشبه الملكيات الوراثية من أوجه أخرى، لكنها تختلف عن الدول العربية كافة من وجه مهم، يستحق مزيداً من تسليط الضوء عليه.
نشأت سورية بعد الحرب العالمية الأولى، واستقلت عن الاستعمار الفرنسي بعيد الحرب العالمية الأولى، وظهرت كجمهورية لها مجلس نيابي وحياة سياسية تعددية، لكنها مضطربة وضعيفة الاستقرار على ما برهنت انقلابات عسكرية متكررة، وقع أولها بعد أقل من ثلاث سنوات من الاستقلال. مع ذلك، وعبر ذلك، عرفت سورية، حياة سياسية صاخبة حتى وقعت تحت حكم حافظ الأسد، وذلك بفعل التداول الانقلابي المتكرر للسلطة خلال ما يقترب من ربع قرن بعد الاستقلال. لم يطل العهد بأي ممن حكموا سورية كي يقضي على الأحزاب والتنظيمات السياسية، فيلغي الحياة السياسية كلياً، ويمنع كلياً بالتالي وجود تعبيرات سياسية عن التعدد الاجتماعي السوري.
خلال نحو ربع قرن من تاريخها بعد الاستقلال كانت سورية بلداً عالم-ثالثياً ضعيف الاستقرار، تتوسع قاعدة الحياة الوطنية والمطالبات المتنازعة فيه دون توسع موازٍ في مؤسساته السياسية، ويمارس العسكريون دوراً سياسيا كبيراً حتى في الفترات البرلمانية الوجيزة: السنوات الثلاث التالية للاستقلال، بين نهاية حكم أديب الشيشكلي عام 1954 والوحدة السورية المصرية 1958، ثم ما بين انفكاك الوحدة 1961 والانقلاب البعثي الأول 1963.
الانقلاب الذي لا انقلاب بعده على ما ينسب إلى حافظ الأسد قوله إثر انقلابه عام 1970 كان تغيراً كبيراً في النموذج، وإن لم يظهر ذلك كذلك في عين المعاصرين، ليس في سنوات حكمه الباكرة على الأقل. بدا لسنوات أننا حيال دكتاتورية عسكرية أشد صرامة من سابقاتها، لكنها من نوع دكتاتورية ناصر في مصر والحكم البعثي في العراق وحكم بومدين في الجزائر. حتى أواسط السبعينات، كان اختلاف سورية المحتمل عن مصر أو الجزائر أو العراق أو تونس هو اختلاف ضمن المقولة العامة لدكتاتوريات تنموية تحديثية، تحكم بلداناً خرجت من الاستعمار قبل جيل واحد أو أقل، وتواجه بمشقة مشكلات اجتماعية واقتصادية وجيوسياسية. غير أن الأمور أخذت منحى مختلفاً إثر التدخل السوري في لبنان عام 1976، وقد أتاح للنظام نصب خطوط دفاعه خارج سورية، ومنحه مساحة استقلال أوسع عن المجتمع السوري، عززته ريوع نفطية من دول الخليج إثر حزب أكتوبر 1973. كانت السيطرة على لبنان مختبراً لسياسة القسوة والقوة، في لبنان نفسه وفي الداخل السوري. تفجر الأزمة الاجتماعية والوطنية في أواخر السبعينات ووجه بحرب استئصالية وعشرات المجازر، قضت على ما كان ثمة من منظمات سياسية مستقلة ومعارضة. مزيج التصحير السياسي والمجازر التي توجت في حماه 1982 أفضى إلى تصحير اجتماعي شامل، والقضاء على فكرة شعب سوري.
لم يعد الأمر يتعلق بدكتاتورية عسكرية تحديثية، بل بمشروع شخصي وعائلي، مر برفع حافظ الأسد فوق المرتبة البشرية، وفوق سورية وشعبها. لسنوات حافظ الأسد الثلاثين في الحكم قطبان: المجزرة وعظمته الشخصية والعائلية، الرعب العظيم والحاكم الإله. وفي شخصه كان يتكثف الرعب والقداسة، تتولاهما أجهزة أمن مختصة بالتعذيب وإنتاج الخوف، وأجهزة إعلام مكرس لعبادة الحاكم. هذان القطبان هما ركيزتا التوريث الذي تحولت سورية بفعله إلى حكم سلالي وراثي يشبه ممالك الخليج والأردن والمغرب، لكن بتوكيد أشد وعنف أكبر. من جهة كانت سورية جمهورية قبل التحول السلالي، وهو ما يعني من جهة أخرى أن السلالة لم تظهر مع ظهور كيان البلد نفسه مثلما هو الحال بخصوص الممالك العربية كلها. هناك ترابط مقتصد في العنف بين شرعية الأسر وشرعية الكيانات في الأردن والسعودية والكويت وعمان وقطر والمغرب وغيرها، فيما ليس هناك ترابط في الحالة السورية، والعنف هنا وفير وسائل. لم يكن ثمة من سبيل لقلب سورية إلى شيء لم تكنه من قبل غير مزيج من عنف ودين. وما لم تكنه سورية قبلاً هو حكم سلالي صار الدستور الحقيقي لنظام الأبد، ولم يعد عارضاً تاريخياً حدث يوما في حزيران 2000.
داعبت فكرة إنشاء سلالة وراثية في "جمهوريات" تسيدوها طويلاً حكامَ تونس ومصر وليبيا واليمن، لكن الثورات قضت هذا التطلع (والغزو الأميركي بخصوص "جمهورية" صدام). سورية تنفرد بأن التوريث نجح فيها، بفعل ثنائية المجزرة والحاكم الإله. وفي أساس ذلك نفسه، الشيء الذي أخذت سورية تختلف فيه عن الدكتاتوريات التحديثية العسكرية وعن الممالك السلالية، أعني المنزع الثأري للدولة الباطنة الأسدية ذات الطابع الطائفي القوي، على ما ذكرت به بقوة مجزرة التضامن التي كشف الغطاء عنها في نيسان من هذا العام، وعلى ما كان سارياً منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي. الحكم الثأري يبدو ثائراً على المجتمع المحكوم طوال الوقت، يغذي انقساماته ويشله بالخوف ولا يكف عن تسعير أزمة ثقة عامة. صار الثأر والخوف من الثأر الروح الخفية للسياسة. إذا سقط النظام ستجري إبادة العلويين واضطهاد الأقليات، هذا ما يقال طوال الوقت دون أن يكون خطاباً رسمياً، لكن دون خطاب رسمي يعترض عليه أو يفند مخاطره أو يحاول تقصي أصوله. على هذا النحو تصير المجزرة هي المنهج الصحيح لتوقّي المجزرة، والإبادة سلاحاً ضد الإبادة، والأبد المسلح هو النجاة. والبنية المستمرة الداعمة لديناميكية المجزرة هي الأجهزة الأمنية والعسكرية المطيفة التي هي كذلك مستودعات للنزوع الثأري.
هذا للقول إن نازع الأبد الهجومي ليس وحده ما يميز سورية خلال النصف الأسدي من تاريخها، وإنما المنبع الانفعالي لهذا الأبد، الثأر. وبطبيعة الحال يعني الكلام على الثأر الكلام على العنف والدم والكراهية والخوف والعداوة، ويعني جر الماضي ليسود الحاضر، وليصير الثأر صيغة وجود سورية في التاريخ المعاصر. ليس هذا هو الحال في أي بلد عربي آخر.
وتطفو إلى السطح هذه الخصوصية السورية في مشاهد تكررت أثناء الثورة السورية، يستحيل تصور أمثالها في أي بلدان عربية أخرى، أعني إجبار ضحايا جرى توقيفهم للتو على الشهادة أن لا إله إلا بشار أو إلا أخوه ماهر. بنية الموقف تعذيبية في كل الحالات، يمازجها إذلال ديني ثأري، يمس صلب المعتقد الديني للضحايا، الإسلامي السني في كل حال. هل هذا موقف ديني أم سياسي؟ إنه ديني سياسي، يقول إن "الدولة" دين، ليست مؤسسة حكم عامة، ولا حتى مجرد قاعدة مِلْك سلطانية. الأمر يتجاوز المصلحة في أشد أشكالها فئوية وأنانية إلى ضرب وحشي من السيادة ذات المحتوى الانتقامي المستمر.
المجزرة تفادياً للمجزرة كانت بمثابة نبوءة ذاتية التحقق، جعلت من مجزرة تستهدف العلويين خطراً حقيقياً بالفعل، ورأينا أمثلة عديدة عليه. هذا ما يتعين أن يخاطبه مباشرة أي تفكير في حل سياسي جدي في سورية. كيف يعاد تأسيس النظام السياسي بحيث لا تبقى المجزرة أمامنا؟ كيف يطوى منطق الثأر دون التضحية بالعدالة (العدالة الجزائية، وعدالة سياسية تقوم على المواطنة المتساوية)؟ كيف نتجنب مستقبلاً طائفياً في بلد حرم خلال نصف قرن ونيف من مستقبل؟ ليس هذا ما يتداول في شأنه الأستانيون والجنيفيون وما شابه، لكن هذا ما يتعين أن يكون موضع نقاش مفتوح بين المعنيين بالبحث عن مستقبل مختلف لسورية.