مَصْلَحَتِنَا تَعَدُّد أَقْطَاب العَالَم


عبد الرحمان النوضة
2022 / 8 / 1 - 17:19     

فَــــــهْــــــرَسُ هذا الــــــمَـــــقَــــــال (الصيغة 4)
1) القُطْبِيَة العَالَمِيَة تَعْبِير عَن صِرَاعَات وَمَوَازِين قِوى مُتَحَوِّلَة........... 2
1.1- مِثَال مَيْدَان الإِنْتِرْنِيتْ (internet)... ...…............................….8
1.2- «حِلْف فَارْسُوفْيَا» (Varsovie) ضِدَّ «حِلْف النَاطُو» (NATO)... 11
2) حَرْب أُوكْرَانْيَا هِيَ تَنَافُسٌ على اِحْتِكَار الهَيْمَنَة على العالم .............. 14
3) كَيْفَ تُبَرِّرُ رُوسْيَا الحَرْبَ على أُوكْرَانْيَا ................................... 17
4) مَاذَا كَان عَلَى أُوكْرَانِيَا أن تَفْعَلَه لِتَفَادِي الحَرْبَ .......................... 22
5) حَرْب أُوكْرَانْيَا نِـعْـمَة على الإِمْبِرْيَالِيَات الغَرْبِيَة ......................... 22
6) قِيَّادَة العَالَم تَـكُونُ بِالطَلِيعِيَّة، وَلَيْسَ بِالـقُوَّة القَاهِرَة ....................... 25
7) حِينَمَا تَضُرُّ العُقُوبَات الاقتصادية بِالمُعَاقِبِ، والمُعَاقَبِ ................. 27
8) اِسْتِغْلَال الإِمْبِرْيَالِيَة لِأُطْرُوحَةَ "حَقّ التَدَخُّل في الشُؤُون الدَاخِلِيَّة» .... 31
9) مَصْلَحَة الشُعُوب تَكْمُنُ في تَعَدُّد وَتَنَافُس أَقْطَاب العَالَم .................. 36

1) القُطْبِيَة العَالَمِيَة تَعْبِير عَن صِرَاعَات وَمَوَازِين قِوى مُتَحَوِّلَة
يُمْكِنُ أن نَجْزِم أنه، في قُرَابَة السَنَة المُقْبِلَة 2030، لَنْ تبقى الولايات المتحدة الأمريكية هي القـوّة الوحيدة المُهَيْمِنَة على العالم. بَل سَتُصْبِح الأَقَطَاب السَّائِدَة في العَالَم مُتَعَدِّدَة، وَمُتَنَافِسَة. لأن الـقاعدة العَامَّة هي أن لَا شيء دَائِم في الكون. فَكَمْ مِن إِمْبْرَاطُورِيَة قَدِيمَة شَاخَتْ، ثمّ زَالَتْ. وَكُلّ شيء في تَحَوُّل مُتَوَاصِل. الـفَاعِلُون الأَقْوِيَّاء، يَتَحَوَّلُون إلى ضُعَـفَاء. وبعض الـفاعلين الضُعَفَاء، الذين كانوا في السَّابِق مَقْهُورِين، يُـقَاوِمُون، وَيَجْتَهِدُون، ثُمَّ يَتَحَوَّلُون إلى مُنْتَصِرِين، ثُمّ إلى أَقْوِيَاء. وعدد مِن الدُول القَـوية القَدِيمَة، تَتَحَوَّلُ إلى دُول ضَعِيفَة، ثم تَزُولُ. وبعض الـدُول الجَدِيدة الضَعِيفَة، قَدْ تَتَحَوَّلُ إلى دُوَل قَوِيَة. وَبَعْدَ بُلُوغِهَا ذِرْوَة مُعَيَّنَة مِن القُوَّة، تَضْعُفُ هي نـفسها، ثم تَزُول. وهكذا. المَسْأَلَة قضية وقت، وَعَزِيمَة، واجتهاد. وقد سبق لِلْمُؤَرِّخ إِبْن خَلْدُون (1332 - 1406) أن وَضَّح هذه الـقَاعِدَة العامّة في كتابه «المُقَدِّمَة».
وبعد الخُروج مِن «الحرب العالمية الثانية» في سنة 1945، تَحَوَّلَ آلِيًّا المُنْتَصِرُون في هذه الحرب إلى «أَقْطَاب مُتَعَدِّدَة وَسَائِدَة على العَالَم».
وَمَعْنَى «الـقُطْب المُهَيْمِن العَالَمِي» (المُفْرَد) هو الدولة التي تَتَمَيَّزُ بِقُوَّة اقتصادية، وَعَسْكَرِيَة، وسياسية، وثقافية، وَتَـقْدِرُ على التَأْثِير، بِشَكْل سَرِيع وَمَلْحُوظ، في تَطَوُّر مَصِير جُزْء هَامٍّ مِن دُوَل العالم، سَوَاءً كان هذا التَأْثِيرُ إِيجابيًا أم سَلْبِيًا. وَيُمكن لِهذه الهَيْمَنَة، في غَالِبِيَة الحالات، أن تَكُون شَامِلَة، أو شُمُولِيَة، بِمَعْنَى أنها تَشْمَل عِدَّة مَيَادِين، بِمَا فيها على الخُصُوص الاقتصاد، والسياسة، والثَـقَافَة، والمَيْدَان العَسْكَرِي، الخ. وَالأَقْطَاب المُهَيْمِنَة العالمية (المُتَعَدِّدَة) هي مجموعة دُوَل العَالم التي تَتَوَفَّرُ في كُلّ وَاحِدَة منها صِفَات «الـقُطْب المُهَيْمِن العَالَمِي» (المُفْرَد) السَّابِقَة الذِّكْر.
و بعد سنة 1945، كانـت هذه الأقطاب العَالَمِيَة هي : الولايات المُتّحدة الأمريكية، وَالاتحاد السُوفْيَاتِي، وَأَوْرُوبَّا الغربية (بما فيها إِنْجْلَتِرَّا، وَفَرَنْسَا، الـقُوَّتان الاِسْتِـعْمَاريَّتَيْن المُتَـقَهْقِرَتَيْن بَيْنَ سَنَتَيْ 1945 و 1970، الخ). (وَلَوْ أن تَأْثِير الاتحاد السوفياتي والصِّين على بُلدان "العالم الثالث" (tiers-monde) كان مَحْدُودًا، أو ضَعِيـفًا، أو شِبْهَ غَائِب).
وبعد اِنْهِيَّار الاتحاد السوفياتي في قُرَابَة سنة 1991، أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية هي الـقُطْب الوَحِيد المُهَيْمِن على العالم. لكن هذا النظام العالمي ذُو الـقُطْب الوَحِيد المُهَيْمِن، بَدَأَ بِسُرْعَة يَهْتَزُّ، أو يَتَـفَـكَّـك. لأن قُوَّة الصِين الاقتصادية والعسكرية تَصَاعَدَت بِسُرعة (في ظَرْف قُرَابَة 70 سنة). بَل غَدَت الصِّين، منذ قُرَابَة سنة 2020، مُؤَهَّلَة لِتَجَاوُز الولايات المتحدة الأمريكية، على المُسْتَوَيَات الاقتصادية، والعسكرية. ولأن رُوسْيَا مَا تَزَال قُوَّة عَسْكَرِيَة هَامَّة، ولو أن قُوّتها الاقتصادية بَقِيَت ضَعِيـفَة، أو غير كَافِيَة. ولأن دُول أخرى صَاعِدَة مثل الهِند، والبرازيل، وجنوب إفريقـيا، وحتى إِيرَان نِسْبِيًّا، ظَلَّت قُوَّتُها تَنْمُو، وَتَتَزَايَد.
ويجب أن نُدْرِك جَيِّدًا أنه، في إطار الصِّرَاع بين الأَقْطَاب المُهَيْمِنَة في العَالَم، لَوْلَا وَجُود الاتحاد السُوفْيَاتِي، بين سنوات 1945 و 1991، لَمَا وُجِدَت «الحَرْبُ البَارِدَة» بين «المُعَسْكَر الرَأْسَمَالِي الإِمْبِرْيَالِي» وَ«المُعَسْكَر الاشتراكي». وَلَوْلَا وُجُود دَعْم الاتحاد السُوفْيَاتِي لِلصِّين، بين سنوات 1945 1976، لما كانـت الصِّين على ما هي عليه، بين سنوات 1990 و 2022. وَلَوْلَا دَعْم الاتحاد السُوفْيَاتِي والصِّين لِكُورْيَا الشَمَالِيَة، وَلِفِتْنَام، وَلِكُوبَا، بين قُرَابَة سنوات 1950 و 1985، لَما كانـت كُورْيَا الشَمَالِيَة، وَفِتْنَام، وَكُوبَا، على ما هي عليه، في سنوات 2020. وَلَوْلَا نَجَاح ثَوْرَة المَلَالِي في إِيرَان في سنة 1976، وَاِتِّبَاعِهَا نَهْجًا وَطَنِيًّا مُنَاهِضًا لِلْإِمْبِرْيَالِيَّات الغَرْبِيَة، وَلِلصَّهْيُونِيَة، لَمَا وُجِدَ «حِزْب الله» المُقَاوِم في لُبْنَان (بين سنوات 1995 و 2020)؛ وَلَمَا وُجِدَت حَرَكَة «الحُوثِيِّين» المُقَاوِمَة في اليَمَن؛ وَلَمَا تَـقَوَّت «حَرَكَة حَمَاس» الـفَلَسْطِينِيَة المُقَاوِمَة في غَزَّة. وَلَوْلَا هَيْمَنَة أَمْرِيكَا وَ«حِلْف شَمَال الأَطَلَسِي» على العالم، لَمَا حَدَثَ تَخْرِيب العِرَاق في سنة 2003، ثُمَّ تَخْرِيب سُورْيَا وَلِيبْيَا في سنة 2011. وَلَوْلَا هَيْمَنَة الـقُطْب الوَحِيد الأَمْرِيكِي على العالم، لَمَا قَامَت أمريكا بِتَنْظِيم عِدَّة مُحَاوَلَات اِنْـقِلَاب، مِنْهَا مَثَلًا اِنْقِلَاب في إِيران في سنة 1953؛ ومنها اِنْـقِلَاب هيئة أركان الجَيْش في اليُونَان، في 21 أبريل 1967، وإِقَامَة «دكتاتورية الكُولُونِيلَات»، المُنَاصِرَة لِلولايات المتحدة الأمريكية، والمُنَاهِضَة للشيوعيّة؛ ومنها اِنْقِلَاب أَطَاح بِالرَّئِيس الاشتـراكي سَالْفَادُور أَلْيِنْدِي (Salvador Allende) في بِلَاد الشِيلِي (Chili) في سنة 1973؛ وَمِنْهَا عِدَّة مُحَاوَلَات اِنْقِلَاب في نِيكَارَاغْوَا، وَهُونْدُورَاس، وَبُولِيـفْيَا، الخ، بين سنوات 1960 وَ 1990؛ ومنها اِنْـقِلَابات في فِينِيزْوِيلَّا في سنة 2002، ثُمّ في سنة 2019؛ وَمِنْهَا اِنْـقِلَاب في أُوكْرَانْيَا في سنة 2014، أَطَاحَ بالرئيس الأُكْرَانِي فِيكْتُور لَانُوكُوفِيتْش (Victor Lanoukovitch) المُتَعَاطِف مع رُوسيا. [وذلك هو مَا اِعْتَرَفَ بِهِ مَثَلًا جُونْ بُولْطُون (John Robert Bolton)، مُسْتَشَار الأَمْن القَوْمِي السَّابِق لِلولايات المتحدة الأمريكية، في يوم 14 يُولْيُوزْ 2022]. وَلَوْلَا حُدُوث نُـقْصَان في هَيْمَنَة أَمْرِيكَا، وَ«حِلْف شَمَال الأَطْلَسِي»، بين قُرَابَة سنوات 2016 و 2022، لَشَنَّت أَمْرِيكَا وَإِسْرَائِيل حَرْبًا مُبَاغِتَة وَمُدَمِّرَة على إِيرَان، لِتَخْرِيبِهَا، مثلما فَعَلَت بِالعِرَاق في سنة 2003، ثمّ بِسُورْيَا وَلِيبْيَا في سنة 2011.
مَا مَعْنَى مَا ذُكِرَ سَابقًا ؟ مَعْنَاه أن الصِّرَاع بين الأَقْطَاب المُهَيْمِنَة في العَالَم، هُوَ الذي قَدْ يُتِيح، أو قَدْ لَا يُتِيح، خَلْق بعض التَـغْيِيرَات في العَالَم، والتي غَالِبًا مَا تَكُون ذات بُعْد اِسْتْرَاتِيجِي. لِذَلِك نَقُول أن مَصْلَحَة شُعُوب "العالم الثالث" تَكْمُن في تَعَدُّد الأَقْطَاب السَّائِدَة في العالم، لأن هذا التـعدّد في الأقطاب هو الذي يُتِيح فُرَصًا أكبر، وَأَكْثَر، لِشُعُوب "العالم الثالث"، وَذَلِكَ بِالمُقَارَنَة مع حَالَة هَيْمَنَة قُطْب وَاحِد على العالم.
وَيُدُور حالِيًّا (في سنة 2022) صِرَاعٌ حَادٌّ، وَشَرِسٌ، بين الولايات المُتّحدة الأمريكية مِن جهة، ومِن جهة أخرى رُوسْيَا والصِّين، حول أَيٍّ مِنْهُم يَحْتَلُّ مَوْقِعَ الهَيْمَنَة على العالم. وَبِقَدْرِ مَا تُحِسُّ الإمبريالية الأمريكية أن هَيْمَنَتِهَا على العَالَم تَـفْلِتُ تَدْرِيجِيًا مِن قَبْضَتِهَا، بِـقَدْرٍ مَا تُوَاجِهُ المُنَافِسِين الصَّاعِدِين بِعُدْوَانِيَة شَرِسَة، وَعَنِيفَة.
فهل مصلحتـنا (نَحْنُ شُعُوب "العالم الثالث") تُوجد في اِسْتِمْرَار النِظَام العالمي القديم، ذُو الـقُطْب الوَحِيد المُهيْمِن، والذي تُهَيْمِنُ فيه الولايات المُتّحدة الأمريكية وحدها على العالم، أم أن مصلحتـنا تَكْمُن في الانتـقال إلى نظام عالمي جديد، مُتَـعَدِّد الأقطاب السَّائِدَة في العالم؟ وهل مصلحتـنا تَكْمُن في هَزِيمَة رُوسْيَا في حَرْبها غير المباشرة ضِدَّ «حِلْف شَمَال الأَطْلَسِي» (NATO)، الجَارِيَة فَوْقَ التُرَاب الأُوكْرَانِي، أم أن مصلحتـنا تَكْمُن في انـتصار رُوسْيَا والصِّين ضِدَّ «حِلـف شَمَال الأطلسي» (NATO) ؟
أُطْرُوحَة المقال الحَالِي تُحَاوِلُ تَوْضِيح أن مَصلحة شُعوب "العالم الثالث"، تَكْمُن في الخُروج مِن النظام العَالمي القَدِيم، المُنَظَّم على أساس قُطْب وَحِيد مُهَيْمِن (إِمْبِرْيَالِي) على العَالَم؛ وَتَكْمُنُ في الانـتـقال نحو نِظام عَالَمِي جَدِيد، مُتَـعَدِّد الأَقْطَاب السَّائِدَة. وَيَتَجَلَّى حاليًا هذا الـقُطب المُهَيْمِن الوحيد في سَيْطَرَة إِمْبِرْيَالِيَة الولايات المتحّدة الأمريكية، وحِلْفِهَا العسكري "النَّاطُو" (NATO)، على العالم. وهذا التَغْيِير (مِن قُطْب مُهَيْمِن واحد إلى أَقْطَاب مُهَيْمِنَة مُتَـعَدِّدَة) مَطْلُوب حَتَّى وَلَوْ كانـت كلّ هذه الأقطاب السَّائِدَة البَدِيلَة (أَيْ رُوسْيَا والصِّين) رَأْسَمَالِيَة، أو إِمْبِرْيَالِيَة مِن صِنْف جديد.
وَرَغْمَ أنني أُنَاصِرُ الاشتـراكية، وَرَغْمَ أنني أُعَارِضُ غَوْصَ رُوسْيَا والصِّين في الرَأْسَمَالِيَة، وَفِي أَنْظِمَة سياسية مُسْتَبِدَّة أو فَاسِدَة، فإنني أُفَضِّلُ أن تـكون رُوسيا والصِّين ضِمْنَ الأَقْطَاب السَّائِدَة في العالم، بَدَلًا مِن تَكون الولايات المتّحدة الأمريكية هي الـقُطْب الوَحِيد المُهَيْمِن على العالم. والصِرَاع العَالَمِي الحَالي، هو في جَوْهَره، صِرَاع بين الرَأْسَمَالِيَة المُتَقَهْقِرَة، والاشتـراكية النَاشِئِة؛ وَلَوْ أن الأَحْدَاث الرَّاهِنَة تَظْهَرُ بَعِيدَة جِدًّا عَن هذه الأُطْرُوحَة. وَإِدْرَاكِي لِمَحْدُودِيَة آفَاق الرَأْسَمَالِيَة، يَجْعَلُنِي أَثِـقُ أن ثَوَرَات اِشْتِرَاكِية تَصْحِيحِيَة سَتَحْدُثُ لَاحِقًا في رُوسْيَا، وَفِي الصِّين. وهذا التَعَدُّد المَطْلُوب حَالِيًّا في الأَقْطَاب المُهَيْمِنَة على العالم، هو الذي يَفْتَحُ إِمْكَانِيَة ظُهُور وَنُمُوّ أَقْطَاب أُخْرَى جَدِيدَة وَإِضَافِيَة إلى الأقطاب المُهَيْمِنَة الـقَدِيمَة، المَذْكُورَة سَابِقًا.
وَالمُهِم حَالِيًّا (في مَجَال تَبْرِير الانتـقال مِن قُطْب وَاحِد مُهَيْمِن على العَالَم إلى أَقْطَاب مُهَيْمِنَة مُتَعَدِّدَة) هو أن التَنَاقُض بين رُوسْيَا والصِّين من جهة، وَمِن جهة أُخْرَى الإِمْبِرْيَالِيَّات الغَرْبِيَة وَحِلْفِهَا العَسْكَرِي (حِلْف شَمَال الأَطْلَسِي NATO)، يُحْتَمَل أَنْ يَدْفَعَ رُوسْيَا والصِّين إلى الـقِيَّام بِمُنَاصَرَة، وَلَوْ جُزْئِيَة، لِمَصَالح بعض شُعُوب العالم الثالث (مثل إِيرَان، وَسُورْيَا، وَكُوبَا، وَفِينِيزْوِيلَا، والجَزَائر، واليَمَن، ولبنان، الخ). الشيء الذي سَيُسَاعِدُهَا على مُقَاوَمَة ضُغُوطَات، وَمُنَاوَرَات، الإمبرياليات الغَربية.
ويطرح المقال الحالي، أن نظام الـقُطب الإمبريالي الوحيد المُهَيْمِن، يُؤَدِّي بالضَّرُورة، إلى تَصَرُّف هذا الـقُطب الوحيد المُهَيْمِن بِشكل أَنَانِي، وَعَدَائِي، وَمُفْرِط، في مَيَادِين استـغلال شُعوب العَالم الثَالث، وَنَهْبِهَا. فَيَكُون بالضّرورة سُلُوك الـقُطب الوحيد الإمبريالي المُهَيْمِن خَارِقًا لِحُقُوق الشعوب، وَمُنَاقِضًا لِحُقُوق الإنسان. بينما وُجود أَقطاب مُهَيْمِنَة مُتـعدِّدة، يَفرض عل هذه الأقطاب بأن تَتَنَافَسَ فيما بينها، وَأَنْ تَعْرِضَ أحسن مَا عندها على شعوب العالم.
وَيَـفْتَحُ نِظَام تَعَدُّد الأقطاب المُهَيْمِنَة في العالم، لِشُعوب بلدان العالم الثالث، إمكانيات اختيّار التـعامل مع الـقُطْب المُهَيْمِن الذي هو أَكْثَرُ إِفَادَة، أو أَقَلُّ ضَرَرًا، بِالمُقَارَنَة مع الأَقْطَاب الأُخْرَى المُهَيْمِنَة.
وتَحَوُّل العالم من أُحَادِية الـقُطْب المُهَيْمِن، إلى أَقْطَاب مُهَيْمِنَة مُتَـعَـدِّدَة وَمُتَنَافِسَة، يَسْتَوْجِبُ حَالِيًّا بَدْلَ مَجهودات جَبّارة مِن طرف الدوّل الصَّاعِدَة، والتي هي حاليًّا الصِّين، وَرُوسيا، والهِند، والبرازيل، وإيران، إلى آخره. وَسَيَتَـطَلَّب هذا التَحَوُّل حُدُوثَ صِرَاعَات حَادّة، وَسَاخِنَة، وَمُؤْلِمَة، وَمُـعَـقَّدة. وَقَدْ يَحتاج هذا التَحَوُّل إلى مُرُور عِدَّة سنوات، أو إلى حُدُوث عِدَّة «حُرُوب غَيْر مُبَاشِرَة»، أو «حُرُوب بِالوَكَالَة»، (مثل حَرْب أُوكْرَانْيَا الحَالِيَة)، أو رُبَّمَا حتى «حرب عَالمية» مِن صِنْفٍ جديد، في حالة تَـعَنُّت، أو تَحَدِّي، الـقُطْب الوَحِيد المُهَيْمِن الـقديم، الذي هو الولايات المتّحدة الأمريكية.
وَمِن المُلَاحَظ أن هَيْمَنَة الـقُطْب الوحيد تُصْبِح بِسُرْعَة مُضِرَّة بِشُعُوب العالم الثالث، في العديد مِن الميادين، وَأَبْرَزُهَا التِجَارَة، والاقتصاد، والاستثمار، والبُنُوك، والتَنْمِيَة، والدِيمُوقْرَاطِيَة، والتِكْنُولُوجِيَات، وَالأَسْلِحَة، والإِعْلَام، والصَّيْدَلَة، والإِنْتِرْنِيت (internet)، الخ.

1.1- مِثَال مَيْدَان الإِنْتِرْنِيتْ (internet)
[وَلِتَوْضِيح مَسْأَلَة تَعَدُّد الأَقْطَاب المُهَيْمِنَة على العالم، كان بالإِمْكَان أن أَتَنَاوَل هذه المَسْأَلَة مِن خِلَال دِرَاسَة عِدَّة مَيَادِين، مثل مَيَادِين التِجَارَة، والاقتصاد، وَالمَالِيَة، والاستثمار، والبُنُوك، والتَنْمِيَة، والدِيمُوقْرَاطِيَة، والتِكْنُولُوجِيَات، وَالأَسْلِحَة، والإِعْلَام، والطِبّ وَالصَّيْدَلَة، والإِنْتِرْنِيت (internet)، الخ. لكنني فَضَّلْتُ الإِكْتِـفَاء بِتَـقْدِيم بعض الإِشَارَات التَوْضِيحِيَة الجُزْئِيَة، وَلَوْ بِشَكْل عَابِر، وَلَوْ في مَيْدَان وَاحِد وَمَحْدُود، وَغَيْر مَأْلُوف، وعلى هَامِش المَوْضُوع الرئيسي، هُوَ مَيْدَان الإِنْتِرْنِيتْ (internet).
وَنُلاحظ في مَيْدَان الإِنْتِرْنِيت أن أمريكا تُشَكِّل حَالِيًّا الـقُطْب الوحيد المُهَيْمِن على عالم الإِنْتِرْنِيت. وَتَتَحَكَّمُ اليوم الولايات المتحدة الأمريكية في شَبَكَة الإِنْتِرْنِيت، وفي مُعْظَم تِـقْـنِيَات العالم الرَّقْمِي. وَأَصبح الإِنْتِرْنِيت أَذَاةً مُفِيدَة، في كلّ المَيَادِين، وفي كلّ المِهَن. وَلَوْ أن الأَمْنَ في الإِنْتِرْنِيت مَا زَالَ هَشًّا. وَغَدَى أيضًا الإِنْتِرْنِيتْ وَسِيلَة ضخمة لِجَمْع المُعْطَيَات حَوْل المِئَات مِن مَلَايِين المُسْتَـعْمِلِين لِلْإِنْتِرْنِيت في العالم. وَفي سنة 2021، تَحت حُكم الرئيس الأمريكي دُونَالد اتْرَامْب (Donald Trump)، مَنَعَت الولايات المُتحدة الأمريكية الصِّينَ مِن بَيْع، أو نَشْر، مَنْظُومَة المُوَاصَلَات مِن الجِيل الخامس «5 ج» (5G) إلى مُخْتَلَف بُلدان العَالَم. وَمَنَعَتْ أَمْرِيكَا بعض الدول الحَلِيـفَة لها (مثل اِنْجَلْتْرَا، وَكَنَدَا) مِن شِرَاء هذه التِـقْنِيَات أو التَجْهِيزَات مِن عند الصِّين. وَرَغْمَ أن اِنْجَلْتْرَا، وَكَنَدَا، وَقَّعَتَا اِتِّـفَاقِيَات تِجَارِيَة مع الصِّين لِشِرَاء وَلِتَرْكِيب تَجْهِيزَات «5ج» (5G)، فَرَضَت عليهما أمريكا إِلْغَاء تلك الإِتِفَاقِيَّات. وسبب ذلك المَنْع، هو أن أمريكا أَرَادَت إِجْهَاض، أو إِفْشَال، تَـفَوُّق الصِّين في هذا الميدان التِكْنُولُوجِي الحَيَوِي الجَدِيد (5G). ومثل هذه السُلُوكِيَات المُهَيْمِنَة، والعُدْوَانِيَة، تَـعُوقُ حُرِّيَة التِجَارَة الرَأْسَمَالِيَة، وَتُبْطِئُ تَنْمِيَة بعض الأَنْشِطَة الاقتصادية الجَدِيدة، أو تُـقَوِّضُ حُرِّيَة الوُصُول إلى المَعْلُومَات، أو قد تُـهَدِّد بعض الحُرِّيَات الديموقراطية في العالم الرَّقْمِي. لكننا نَعْتَرِفُ هُنَا أن هَيْمَنَة أمريكا على العالم الرّقمي، لَم تَنْتُج عن مُجَرَّد احتلال سَافِر، وَإِنَّمَا نَتَجَت عن كَوْنِهَا كانـت سَبَّاقَة إلى اِسْتِثْمَار أموال ضخمة، وَمُتَوَاصِلَة، خِلَال عُقُود مُتَوَالِيَة، في مَيَادِين الحَوَاسِيب (computers)، والبَرْمَجِيَّات (logiciels) الرقمية. والدول الوحيدة التي لها اليَوْمَ قُدْرَة على صُنْع وتَرْكِيب حَوَاسِيب، وَلَهَا شَبكة إِنْتِرْنِيت جاهزة للعمل بشكل مُستـقل عن أمريكا، ولها مُحَرِّكَات بَحث، ولها عدد لَا بَأْسَ به من التطبيـقات (applications) الرَقْمِيَة البَدِيلَة نِسْبِيًّا عن أكبر وأهم التَطْبِيـقَات الرَقْمِيَة الأمريكية، هي الصِّين، وبدرجة أقل روسيا، وألمانيا، والهِنْد، الخ. بَيْنَمَا مَصَالِحُ الشُعُوب، وكذلك الحاجة إلى الديموقراطية الرَّقْمِيَة، على الصعيد العالمي، تَسْتَوْجِبُ تَعَدُّد الأقطاب الـقَوِيَة وَالسَّائِدَة في فضاء الإِنْتِرْنِيت. أَمَّا هَيْمَنَة قُطْب واحد على العالم الرقمي، وعلى الإنتـرنيت، فَإِنه يُؤدّي بالضرورة إلى هَيْمَنَة رَقْمِيَة، ثمّ إلى استبداد سياسي. وَتَكْمُنُ مصلحة عَامّة شُعوب العالم في وُجُود إِنْتِرْنِيت عالمي مُشْتَرَك، وَمُوَحَّد، وَمَفْتُوح، وَحُرّ، ومجّاني، وَدِيمُوقراطي. كما تَسْتَوْجِبُ مصلحة عامّة شعوب العالم ضمانَ حُرِّيَة الوُصول، عَبْرَ الإِنْتِرْنِيت، إلى مُجمل المَعْلُومَات (الثـقافية، والعِلْمِيَة، والتِكْنُلُوجِيَة، والاقتصادية، والـقانونية، الخ). لأن مَصْلَحَة الإنسانية تُوجِبُ تَـقَاسُم كلّ المَعَارِف. وَالحَضَارَة الرَقْمِيَة العالمية الجديدة الناشئة تَسْتَوْجِبُ أن يكون بِإِمْكَان كل مواطن، وَمَهْمَا كان بَلَدُهُ في العالم، التَوَفُّرُ على جِهَاز طَرَفِي إلكتروني (مثل الهاتف الذَكِـي، أو الكَمْبْيُوتَر المَحْمُول، الخ)، وَبِأَرْخَصِ ثَمَنٍ مُمْكِن، وأن يكون هذا الجِهَاز بدون «باب خلفي» (back-door) يَسْمَحُ بِالتَجَسُّـس عليه. كما يجب أن يكون بِمَقْدُورِ كل مواطن في العالم أن يدخل إلى هذا الإنتـرنيت المُوَحَّد، وأن يصل إلى مُجمل المَعْلُومَات بشكل حُرّ، وَمَجَّانِي، دُون التـعرّض لِلتَجَسُّـس، وَدُون اِسْتِبَاحَة معلوماته الشخصية، وَدُون إِغْرَاقِهِ، ضِدَّ إِرَادَتِه، في إِشْهَار تِجَارِي غير مرغوب فيه. وَمُنْذُ عُقُود، تُوجد عَبْرَ مُختلـف أنحاء العالم، عِدَّة مُؤَسَّـسَات جَمَاعِية، أو مُشْتَرَكَة، وَغَيْر رِبْحِيَة (مثل Linux, Open Office، الخ). وَتُنَاضِلُ هذه المُؤَسَّـسَات بِهَدَف تَطْوِير تطبيقات رَقْمِيَة، تَتَمَيَّزُ بِكَوْنِهَا حُرَّة (free)، وَمَجَّانِيَة، وَمَفْتُوحَة المَصْدَر (Open Source)، وَمُبَاحَة لِكُلّ مُوَاطِنِي العالم. ومن المطلوب في كلّ جهاز هاتف ذَكِـي، أو كُمْبْيُوتَر مَحْمُول، مَعْرُوض لِلبيع، أن يَكُون مُصَمَّـمًا بِأَنْظِمَة مَفْتُوحَة (Open Source)، مِثْل مَنْظُومَات Androide, Linux، وقائمة على بَرْمَجِيَّات حُرّة (logiciels libres)، وخاضعة لِلنَـقْد، ولِلمُحاسبة، ولِلْمُرَاقَبَة، وَلِلتَحْسِين، وَلِإِعَادَة الاستعمال. وَمَا عَالَم الإِنْتِرْنِيت المَعْرُوض هنا سِوَى مِثَال جُزْئِي، في مَيَادين قَضِيَة تَعَدُّد الأَقْطَاب السَّائِدَة في العالم].

1.2- «حِلْف فَارْسُوفْيَا» (Varsovie) ضِدَّ «حِلْف النَاطُو» (NATO)
وَلِفَهْم إِشْكَالِيَة تَـعَدُّد الأَقْطَاب السَّائِدَة في العالم، يجب التَـعَرُّف على الأَحْلَاف الكُبْرَى التي كانـت مُتَصَارِعَة إِبَّان «الحَرْب البَارِِدَة»، بين سنـتي 1945 و 1991. وَلِاسْتِيعَاب بعض التَطَوُّرَات التي جَرَت على الصعيد العالمي، يَلْزَمُ التَذْكِير، وَلَوْ بِإِيجَاز، بِالصراع بين «حِلْف النَاطُو» (NATO) وَ«حِلْف فَارْسُوفْيَا» (Varsovie). وقد كان هذان الحِلْفَان هما قُطْبَي «الحرب البَارِدَة» بين المُعَسْكَر الرَأْسَمَالِي الإمبريالي، والمُعَسْكَر «الاشتراكي» المُفْتَرَض. و«حِلْف النَاطُو» (NATO) هو حِلْفٌ سِيَاسِي وعَسْكَرِي. وَقَد تَأَسَّـسَ مُبَاشَرَةً بعد «الحرب العالمية الثانية»، في 4 أبريل 1949. وكان هَدَف «حِلْف النَاطُو» (NATO) الرَأْسَمَالِي هو الاِسْتِـعْدَاد لِمُحَارَبَة «خَطَر الشِيُوعِيَة» الـقَائِمَة آنذاك في الاتحاد السوفياتي، وَفي الجُمْهُورِيَات «الشِيُوعِيَة» الحَلِيـفَة لَهُ. وفي سنوات 1950، لَمْ تَكُن الإِمْبِرْيَالِيَات الغَربية تَرَى في الصِين أَيَّ خَطَرٍ جِدِّي. لأن الصِّين كانت آنَذَاك بَلَدًا فِلَاحِيًّا مُتَخَلِّفًا في "العالم الثالث". وكانـت الصِين تُعَانِي مِن حَرْب أَهْلِيَة داخلية (بين الحزب الشيوعي وحزب الكْيُومِينْطَان). وكانـت الإمبريالية تُزَوِّدُ حزب الكْيُومِينْطَان بِالأَسْلِحَة. وَلَمْ يَكُن مُسْتَوَى النُمُوِّ الاِقْتِصَادي في الصِّين بين سنوات 1945 و 1955 يَخْتَلِف عن مُستوى نُمُوّ الكثير من البُلْدَان الناطقة بالعربية.
وَكَانَ نَـقِيضُ «حِلْف النَاطُو» (NATO) هو «حِلْفُ وَارْسُو». وَ«حِلْفُ وَارْسُو» هو تَحَالُف اقتصادي وسياسي وعسكري، وَكان يَجْمَعُ كُلًّا مِن الاتحاد السوفيتي، وَدُوَل أَوْرُوبَّا الشَرْقِيَة (أَلْبَانْيَا، وَبُولْغَارْيَا، وَرُومَانْيَا، وَهَانْغَارْيَا، وَبُولُونْيَا، وَاتْشِيكُوسْلُوفَاكْيَا، وَأَلْمَانْيَا الشَرْقِيَة). وَكَان هَدَف «حِلْفُ وَارْسُو» هو إِقَامَة «الصداقة، والتعاون، والمساعدة المُتَبَادَلَة»، فيما بين أعضاءه. وَلَمْ يَتَأَسَّـس «حِلْفُ وَارْسُو» إِلَّا سِتَّةَ سنوات مِن بَعْد تَأْسِيس «حِلْف النَاطُو» (NATO). أي في 14 مايو 1955.
وَكَانَت دُوَل «حِلْف النَاطُو» (NATO) تَـقُول أن عَدُوَّهَا لَيْسَ هُو الشعب الرُّوسِي، (أو الشعب الصِّينِي)، وَإِنَّمَا هو «الشِيُوعِيَة» الـقَائِمَة في الاتحاد السوفياتي. وَكان المَنْطِقُ يَسْتَوْجِبُ أن يَحُلّ «حِلْف النَاطُو» (NATO) نَفْسَهُ في دِيسَمْبَر 1991، حِينَمَا اِنْهَارَ عَدُوُّه الأساسي الذي هو الاتحاد السُوفْيَاتِي، وَانْشَطَرَ إلى 15 جُمْهُورِيَة مُسْتَـقِلَّة. حيثُ أن رُوسْيَا وَ 14 جُمْهُورِيَة اِنْـفَصَلُوا عَن بَعْضِهم بعضًا، وَانْتَـقَلُوا كُلُّهُم فَجْأَةً مِن «اِشْتِرَاكِيَة» مُفْتَرَضَة إِلى الرَأْسَمَالِيَة المُتَوَحِّشَة(1).
وَرَغْمَ زَوَال «الشِيُوعِيَة»، عَدُوِّ دُوَل «حِلْف النَاطُو» (NATO)، لَمْ يَحُلْ هذا الحِلْفُ نَـفْسَهُ. كَأَنّ المُبَرِّر الأَصْلِي لِلْعَدَاوَة، ليس هو الاختلاف في نَمَط الإِنْتَاج الاقتصادي (أي «الرَأْسَمَالِيَة» ضِدَّ «الاشتراكية»)، وَإنَمَا هُو عُنْصُرِيَة قَوْمِيَة غَرْبِيَة، مُعَادِيَة لِلرُّوس كَرُوس، (وَمُعَادِيَة لِلصِّينِيِّين بِاعْتِبَارِهِم صِينِيِّين). وَيُمكن لهذه العَدَاوَة الـقَوْمِيَة أن تَجُرُّ إلى «حرب عالمية» ثَالِثَة مُبِيدَة لِلحَيَاة على وَجْه الكُرَة الأرضية.
وَاِنْتَـقَلَ «حِلْف النَاطُو» (NATO) مِن الدِفَاع إلى الهُجُوم، رَغْمَ أن الصِّين اِنْتَـقَلَت، هي أيضًا، وَبِالتَدْرِيج، مِن «الاِشْتِرَاكِيَة» إلى «الرَأْسَمَالِيَة». وَأَخَذَ «حِلْف النَاطُو» (NATO) يَفْعَلُ كُلّ مَا في وُسْعِهِ لِكَيْ يَسْتَـقْطِبُ جُمْهُورِيَّات أَوْرُوبَّا الشَرْقِيَة، التي كانـت سَابِقًا حَلِيـفَة لِرُوسْيَا «الشيوعية». وَحَوَّلَ «حِلْف النَاطُو» هذه الجُمْهُورِيَّات، الوَاحِدَة تِلْوَ الأُخْرَى، إلى عَدُوٍّ مُجَنَّد ضِدَّ رُوسْيَا، وَضِدَّ الصِين، وَلَو أن رُوسْيَا والصِّين إِنْتَـقَلَتَا مِن «الاشتـراكية» إلى «الرَأْسَمَالِيَّة». وَأَقَامَ «حِلْف النَاطُو» (NATO) قَوَاعِدَ عَسْكَرِيَة، وَمَنْظُومَات من الصَوَارِيخ المُتَنَوِّعَة، وَرَادَارَات تَجَسُّـس، فوق تُرَاب هذه الجُمْهُورِيَات الشَرْقِيَة. الشيء الذي يَفْضَحُ أن هذه الأَحْلَاف، وهذه العَدَاوَات، هي مَبْنِيَة أَسَاس قَوْمِيَّات عُنْصُرِيَة، وليس على أساس اِختِلَاف في الأَنْظِمَة السياسية، أو في أَنْمَاط الإِنْتَاج الاقتصادية.

2) حَرْب أُوكْرَانْيَا هِيَ تَنَافُسٌ على اِحْتِكَار الهَيْمَنَة على العالم
يَسْتَوْجِبُ الحَدِيث عن إِشْكَالِيَة تَعَدُّد الأَقْطَاب المُهَيْمِنَة على العالم، بِالضَرُورَة، تَنَاوُل، وَتَحْلِيل، الحَرْب الجَارِيَة حَالِيًّا (في سنة 2022) في أُوكْرَانْيَا. وَلَوْ أن الحَرب بين رُوسْيَا وَأُوكْرَانْيَا لَمْ تَكُن في أَصْلِهَا حَرْبًا بين أَقْطَاب عَالَمِيَة مُتَنَافِسَة، فَإن الدِّينَامِيَة العَالَمِيَة حَوَّلَتْهَا بِسُرْعَة إلى حرب غير مُبَاشِرَة بين أَقَطَاب العالم. لأن جَوْهَر هذه الحرب هو بالضَّبْط صِرَاع غير مباشر حَوْل مَن هو الـقُطْب الذي يَحِـقُّ له أن يَحْتَكِرُ الهَيْمَنَة على العالم. فَحَرْب أُوكْرَانْيَا تَخْـفِي وَرَاءَهَا حَرْبًا غَيْر مُبَاشِرَة بين قُطْب الولايات المتحدة الأمريكية والأقطاب الصَّاعِدَة (رُوسيا، والصِّين، الخ).
وَأَبْرَزُ حَدَثٍ مُعَاصِر يُعَبِّر عن الصِّرَاع حَوْل اِحْتِلَال مَوْقِع الهَيْمَنَة على العالم، أو الرَغْبَة في اِحْتِكَارِهِ، هو «الحَرْب بين رُوسْيَا وَأُوكْرَانِيَا».
ومنذ يوم 24 فبراير 2022، إنطلقت «حَرْب خاصّة» بين رُوسْيَا وَأُوكْرَانْيَا. وهي «خاصّة» لأن رُوسيا تستـعمل جزءًا محدودًا مِن إِمْكَانَاتِهَا العسكرية. وَفي ظاهر الأُمُور، تَجْرِي هذه الحرب بين رُوسيا وَأُوكْرَانْيَا. لكن منذ أن نـبدأ في تحليل هذا الصِرَاع، نَكْتَشِف أن الأمور هي مُعَـقَّدَة أكثر مِمَّا يُمكن أن نتصوّر. حيث أن هذه الحرب (الجارية فوق تُرَاب أُوكرانيا) هي في العُمْق "حَرب بالوكالة" بين رُوسْيَا مِن جِهَة أُولَى، وَمِن جِهَة ثَانِيَة الحِلْف العسكري "النَاطُو" (NATO)، الذي يَجْمَعُ الولايات المتحّدة الأمريكية، وَ 27 دَوْلَة مِن أوروبِّا، والمَمْلَكَة المُتَّحِدَة، وَكَنَدَا، وَأْسْطْرَالْيَا، وَنْيُو زِيلَانْدَا، وَتُورْكْيَا (كَعُضْو في حِلْف النَاطُو)، الخ. وهذا الحِلْف يَشْمَل مُجْمَل الإمبرياليات الغربية (أي أَمْرِيكَا والاتحاد الأوروبّي). وَيَحْظَى «حِلْف النَاطُو» بِدَعْم اليَابَان، وَكُورْيَا الجَنُوبِيَة. وَتَعْتَبِرُ ضِمْنِيًّا إِسْرَائِيل نَفْسَهَا طَرَفًا غَيْر عَادِيٍّ في «حِلْف النَاطُو». كَمَا أن أعضاء «حِلْف النَاطُو» يَعْتَبِرُون ضِمْنِيًّا أنهم مُلْزَمُون بِحِمَايَة إِسْرَائِيل، وَبِدُون شُرُوط مُسْبَـقَة. وَيَدُور هذا الصراع حول مَن يَحِقُّ له اِحْتِكَار الهَيْمَنَة على العالم (هل أمريكا وحلـفاؤها الغربيّون، أم الصِّين وَرُوسْيَا وَأَقْطَاب أُخْرَى صَاعِدَة).
وَاعْتَبَرَ بعض المُلاحظين أن «حَرْب أُوكْرَانْيَا هي فَخّ نَصَبَتْه الولايات المتحدة الأمريكية إلى رُوسيا»، بِهَدَف اِِستِدْرَاجِ رُوسْيَا في حَرْب مُكَلِّفَة، وَطَوِيلَة، وَمُنْهِكَة (مثلما حدث في المَاضِي لِرُوسْيَا في أَفْغَانِسْتَان بين سَنَـتَـي 1979 و 1989). والهَدَف مِن هذا «الفَخِّ» هو اِسْتِنْزَاف رُوسْيَا، وإِضْعَافِهَا، وَرُبَّمَا تَشْتِيتِهَا. وَكَتَبَ مُنير شَفِيـق: في المظهر، «روسيا هي التي حَشَدَت القوات العسكرية، وهي التي بدأت بشنّ الحرب، أو إطلاق النار [على أُوكْرَانْيَا]، ولكن في الواقع، أمريكا هي وَرَاءَ تَهْيِئَة المَيدان لاشتـعال الحرب في أوكرانيا، وذلك بسبب السَعْيِ الحَثِيث لتوسيع [حِلْف] النَاتُو، حتى كادت تدخل أوكرانيا فيه، وتستكمل تطويق رُوسْيَا»(1).
وحتى لَوْ لَمْ يَكُن نَصْبُ هذا «الـفَخّ» مُؤَكَّدًا، فـقد اِنْتَهَزَت الولايات المتحدة الأمريكية وَحُلَفَاءها الأَوْرُوبِّيُون فُرْصَة اِنْطِلَاق «حَرب أُوكْرَانْيَا» لِفَرْض سِلْسِلَةً طَوِيلَة، وَسَاحِقَة، من «العُـقـوبات الاقتصادية»، ضدّ رُوسيا. وَيُهَيّئُ الغَرْبُ عقـوبات مُمَاثِلَة ضدّ الصّين، لِفَرْضِهَا، في مستـقبل قَريب، مَثَلًا عبر اِسْتِغَلَال أَزْمَة مُـقْبِلَة وَمُـفْـتَـعَـلَة بين الصِين وَجَزِيرَة طَايْوَان الصينية. (وجزيرة طَايْوَان تَحْظَى بِشِبْه اِسْتِـقْلَال ذَاتِي، منذ أن هَزَمَ الحِزْبُ الشيوعيُ الصينيُ حزبَ الكْيُومِينْطَان، المُوَالِي لِلْإِمْبِرْيَالِيَة الغَرْبِيَة، في سنة 1949، بعد حَرْب أَهْلِيَة طَوِيلَة، اِبْتَدَأَت منذ قُرَابَة سنة 1927).
ولماذا هذا الصِّرَاع الحَادّ بين الغَرْب والشَّرْق ؟ لأن رُوسْيَا والصِين هما قُوَّتَان صَاعِدَتَان، وَتُنَافِسَان أمريكا في مَجَال الهَيْمَنَة على العالم.
وكانـت غاية أمريكا هي طَرْد رُوسيا من التجارة العالمية، ومِن السَيْطَرَة على بُلدان "العالم الثالث". لكن دُوَلًا من أوروبّا وغيرها، تَفَاجَأُوا بِأَنْ اِكْتَشَفُوا أن العَلَاقَات فيما دُوَل العالم مُتَدَاخِلَة أَكْثَر مِمَّا كانوا يَتَصَوَّرُون، وَأَنَّ هذه «العُقُوبَات الاقتصادية» أصبحت تَضُرُّ بِهِم أَكْثَر مِمَّا تَضُرُّ بِرُوسْيَا. وأنه يَصْعُبُ عليهم الاستـغناء عن التجارة مع رُوسْيَا. وأنهم يَحْتَاجُون إلى اِسْتِيرَاد كثير من المَنْتُوجَات مِن رُوسْيَا، مثل الغاز، والبتـرول، والحُبُوب، والذَّهَب، واليُورَانْيُوم، والمَعَادِن، الخ).

3) كَيْفَ تُبَرِّرُ رُوسْيَا الحَرْبَ على أُوكْرَانْيَا
في دِعَايَة الدُوَل الغَرْبِيَة، «رُوسْيَا مُذْنِبَة في كلّ شَيْء، وَأُكْرَانْيَا بَرِيئَة في كلّ شيء». فَلِمَاذا هَجَمَت إِذَنْ رُوسْيَا على أُوكْرَانْيَا في 24 فبراير 2022 ؟ لِعِدَّة أَسْبَاب. أَبْرَزُهَا مَا يَلِي:
أَوَّلًا، لأن أُوكْرَانْيَا لَمْ تَلْتَزِم بِـ «بْرُوتُوكُول مِينْسْكْ» الذي وَقَّعَت عليه في 5 سبتمبر 2014.
ثَانِيًّا، لأن أُكْرَانْيا هي جارة لِرُوسْيَا. وَلأن الرُّوس والأُكْرَانِيُّون هُم إِخْوَة، أو أَبْنَاء أَعْمَام. وَتَارِيخُهُم مُتَدَاخِل، أو مُشْتَرَك (مثلما هُو الحَال بين الجزائريّين والمغاربة). وبعض الرُؤَسَاء الذين تَعَاقَبُوا على رِئَاسَة الاتحاد السُوفْيَاتِي كَانُوا مِن أَصْلٍ أُوكْرَانِي (مثل نِيكِيتَا اخْرُوتْشُوفْ).
ثَالِثًا، لِأَن رُوسْيَا عَابَتْ على أُكْرَانْيَا أنها اِسْتَـفَادت سَابِقًا من مُساعدات وَهِبَات الاتحاد السُّوفْيَاتِي، قَبْلَ اِنْهِيَّارِه، بِما فيها الهِبَات التُرابية المُتَجَلِّيَة في "جزيرة القِرْم" (Crimée)، وَمَنَاطِق "دُونِيتْسْك" (Donetsk)، وَ"لُوغَانْسْك" (Lougansk). حيث أن قُرَابَة نِصف سكان المناطق الأُوكْرَانِيَة الشَرْقِيَة، ظَلُّوا مِن أَصْل رُوسِي، وَيَتَكَلَّمُون الْلُّغَة الرُّوسِيَة. وَبِالرَّغْم من هذه الهِبَات التُرَابِيَة، تُريد اليوم أوكرانيا الانضمام إلى «حِلْف النَاطُو» (NATO)، الذي هو عَدُوِّ رُوسْيَا. وَمَعْنَى ذلك أن أُوكْرَانِيَا تُرِيد الهِبَات الـقَدِيمَة المَمْنُوحَة مِن طَرَف رُوسْيَا، وَتُرِيدُ في نـفس الوقت مُعَادَاة رُوسيَا (عبر السَّمَاح لِـ «حِلْف النَاطُو» NATO بِإِقَامَة قَوَاعِد عَسْكَرِيَة عُدْوَانِيَة على الحُدُود مع رُوسْيَا). وهذا تَـنَاقُض تَرْفُضُه رُوسْيَا.
رَابِعًا، لأن رُوسْيَا عَابَتْ على دَوْلَة أُكْرَانْيَا أنها تَسَاهَلَت مع وُجُود، وَنُهُوض، حركات أُوكْرَانِيَة نَازِيَة، وَمُسَلَّحَة، مِثْل "كَتِيبَة أَزُوفْ"؛ وأن هذه الحركات الـنَازِيَة تَسَرَّبَت دَاخِلَ أَجْهِزَة البُولِيس والجَيْش في دولة أُوكْرَانيَا. وَتُمَارِس هذه الحركات النَازِيَة اِضْطِهَادًا عُنْصُرِيًّا ضِدَّ سُكَّان شَرْق أُوكْرَانْيَا الذين هم من أصل رُوسِي. (وَتَنْكُر أُوكْرَانْيَا، والدُول الغَرْبِيَة، وُجُود هذه الميليشيات النَازِيَة. وَلَا تَـقْبَل الكَلَام عنها. وَتَنْكُرَان أيضًا وُجُود حَرْب أَهْلِيَة في شَرْق أُوكْرَانْيَا. وَتُرِيدَان، في نـفس الوقت، اِسْتِعْمَال هذه الحركات النَازِيَة لِمُحَارَبَة رُوسْيَا). وَتَنْشُرُ الحركات الـقَوْمِيَة، والحركات النَازِيَة الأُوكْرَانِيَة، كَرَاهِيَة مُطلـقة ضِدَّ الرُّوس. وَتَخُوضُ «حَرْبًا أَهْلِيَة» مُسَلَّحَة، وَعَنِيفَة، وَمُدَمِّرَة، ضِدَّ سُكَّان مناطق شَرْق أُوكْرَانْيَا، مثل "دُونْبَاسْ"، وَ"لُوغَانْسْك"، لِإِجْبَارِهِم على الهِجْرَة إلى رُوسْيَا. أَيْ أنَّهَا مَارَسَت «التَطْهِير العِرْقِي».
خَامِسًا، لأن الحركات الأُوكْرَانِيَة النازية تُعْلِنُ عَلَانِيَّةً حُبَّهَا، وَوَلَاءَهَا، لِلدول الْإِمْبِرْيَالِيَّة الغربية العَدُوَّة لِرُوسْيَا. وتـعمل هذه الحركات النازية الأُوكْرَانِيَة على جَرِّ الإمبرياليات الغربية إلى شَنِّ حَرب كُلِّيَة ضِدَّ رُوسْيَا، بِهدف تَشْتِيتِهَا، أو تَخْرِيبِهَا. ثم أَرَادَ النظام السياسي الجديد في أُوكْرَانْيَا (بعد اِنْقِلَاب سنة 2014) الاِلْتِحَاقَ بِعَدُوّ رُوسْيَا، المُتَجَلِّي في «حِلْف شَمَال الأَطْلَسِي» (أي حِلْف "النَاطُو" NATO)، تحت قِيَادة الولايات المتحدة الأمريكية. والتحاق أُُوكْرَانْيَا بِـ «حِلْف النَاطُو» (NATO) سَيُؤَدِّي حتمًا إلى إقامة قواعد عسكرية أمريكية في أُوكْرَانْيَا، تَكُونُ مُعَادِيَة لِرُوسْيَا، وَتَابِعَة لِـ "حِلْف النَاطُو"، مثلما حدث سَابِقًا في عِدَّة بُلْدَان مِن أَوْرُوبَّا الشَّرْقِيَة، مثل بُولَانْدَا، وَرُومَانْيَا، وَأَلْبَانْيَا، وَبَلْغَارْيَا، وَكْرُووَاتْيَا، وَهَانْغَارْيَا، وَمَاسِيدْوَان الشمالية، وَاصْلُوفَاكْيَا، وَاتْشِيكْيَا، وَمُونْتِينِيغْرُو، وَمَاصِيدْوَان، وغيرها. كما سَيُؤَدِّي اِلْتِحَاق أُوكْرَانْيَا بِـ "حِلْف الأَطْلَسِي" (NATO) إلى تَثْبِيت أَنْظِمَة مِن الأسلحة الهُجومية، وَرَادَارَات تَجَسُّـس، وَصَوَارِيخ متنوّعة، فَوْق تُرَاب أُوكْرَانْيَا، أي بِالْقُرب من حُدود رُوسيا. الشيء الذي يُهَدِّدُ الأمنَ الـقَوْمِي لِـرُوسْيَا.
سَادِسًا، لأن رُوسْيَا عَابَتْ على أُوكْرَانْيَا كَوْنَهَا سَمَحَتْ لِحَرَكَات أُوكْرَانِيَة نَازِيَة بِأَن تُدَبِّرَ «اِنْـقِلَابًا سِياسيًّا» على شكل «اِنْتِـفَاضَة شعبية»، في ساحة (مَيْدَان، بين يومي 18 و 20 فباير 2014) في العاصمة كْيِيـفْ (Kieev). وكانـت هذه «الانتفاضة» مُدَعَّمَة، وَمُمَوَّلَة، في الخَفَاء، مِن طرف الإِمْبِرْيَالِيَات الغَرْبِيَة (وعلى رأسها الولايات المتّحدة الأمريكية). وَقَد شاركت الـقِوَى الأمريكية الخَفِيَة في إِنْجَاح «اِنْـقِلَاب» سنة 2014 الذي جَرَى في أُوكْرَانْيَا. وَأَطَاح هذا «الانقلاب» بالنظام السياسي الأوكراني الذي كان مُتَعَاطِفًا مع رُوسْيَا. وَأَقَامَت الحَرَكَات النَازِيَة الأُكْرَانِيَة مَكَانَه نظامًا سياسيا تَبَـعَيًّا لِأَمْرِيكا، وَمُعَادِيًّا لِرُوسْيَا. وقامت هذه «الانتفاضة» المَحْبُوكَة بالإِطَاحَة بالرئيس الأُكْرَانِي فِيكْتُور لَانُوكُوفِيتْش (Victor Lanoukovitch) الذي هو مُتَعَاطِف مع رُوسيا. وَعَوَّضَ المُنْتَفِضُون ذلك الرئيس السّابق بالرئيس أُولِيكْسَانْدَر تُورْتْشِينُوف (Oleksander Tourtchynov)، والذي هو مُنَاصِر مُطلق للدول الغربية الإمبريالية، وعلى رأسها الولايات المُتّحدة الأمريكية.
سَابعًا، لأن رُوسْيَا لَامَت أُوكْرَانْيَا على اِتِّخَاذِهَا قَرَار سَحْب اللغة الرُّوسية من «لَائِحَة اللغات الوطنية» الـقائمة قانونيًا في أُكْرَانْيَا. وبعد هذا القرار، اِنْتَـفَضَ السُكَّان الأوكرانيّون مِن أصل رُوسِي في مناطق دُونِيتْسْك (Donetsk)، وَلُوهَانْسْك (Louhansk)، وَخَرْكِيـفْ (Kharkiv)، وَسِيبَاسْتُوبُول (Sebastopol)، الخ، الموجودة في شرق أوكرانيا. وَتَكَوَّنَت «لِجَان مُسلّحة للدفاع المدني» في هذه المناطق الشرقية. بينما تُرِيد الحركات النازية الأوكرانية تَرْهِيب، أو طَرْد، أو تَهْجِير، أو قَتْل، السكّان الأُوكرانيّين من أصل رُوسِي.
وَفي 11 مارس 2014، نَظَّمَت جمهورية جَزِيرَة الـقِرْم (Crimée)، وَبِدَعْم مِن رُوسْيَا، اسْتِـفْتَاءً لِتَـقْرِير المَصِير، ولِْلِانْـفِصَال عن أوكرانيا. لأن أغلبية كَبِيرَة مِن سُكَّان جَزِيرَة الـقِرْم، وَمُنذ عهد الاتحاد السُّوفْيَاتِي، هُم مِن أصل رُوسِي. وفي 16 مارس 2014، قرّرت جُمْهُورية القِرْم الانضمام إلى جُمهورية رُوسيا الاتحادية. وَيُعَارِضُ الأُكْرَانِيُّون هذا الانـفصال، ولا يعتـرفون به. لكن، كيـف يُمكن لِسُكَّان جزيرة الـقِرْم أن يَبْقَوْا في إِطَار أُكْرَانْيا، في حِين أن سُكَّان الـقِرْم هم مِن أصل رُوسِي بِنِسْبَة 95 %، وَأَن الأُوكْرَانِيِّين يُكِنُّون لهم عَدَاءً مُطْلَقًا ؟ هذا غير مُمكن.
وفي 5 سبتمبر 2014، تَمَّ التَوْقِيع على «بْرُوتُوكُول مِينْسْكْ (أو مِينْسْك الأول)» مِن طَرَف مُمَثِّلِـي أُوكْرَانْيَا، وَرُوسْيَا، وَمَسْؤُولِين على رَأْسِ "الجمهوريات الشعبية" الاِنْفِِصَالِيَة المُعْلَنَة في دُونِيتْسْك وَلُوغَانْسْك. وكان هدف هذا الاتِفَاق هو «إنهاء الحَرْب في شرق أوكرانيا». وكان من بين بُنُود هذا البْرُوتُوكُول، «وَقْف إِطْلَاق النار»، وَ«تَنْظِيم لَامَرْكَزِيَة السلطات في أُوكْرَانْيَا، بِشَكْل يَمْنَحُ حُكْمًا ذَاتِـيًّا مَحَلّـيًا في وِلَايَتَـيْ دُونِيتْسْك وَلُوغَانْسْك». لكن في يناير 2022، تَرَاجَعَت السلطة السياسية في أُوكْرَانْيَا عن هذا البْرُوتُوكُول، وَلَم تَعُد تَـقْبَلُ به. «»
وفي 12 فبراير 2015، وُقِّـعَت «اِتِـفَاقِيَة مينسك الثانية» لِإِعَادَة تَثْبِيت وَقْف إِطْلَاق النَار.
وفي 21 فبراير 2022 ، اِعْتَرَفَت رُوسيا باستقلال جُمْهُورِيَتَيْ دُونِيتْسْك وَلُوغَانْسْك، الْلَّتَيْن نَصَّبَتَا نَـفْسَيْهِمَا مِنْطَقَتَيْن مُنْـفَصِلَتَيْن، في جِهَة دُونْبَاسْ بشرق أوكرانيا.
وَفي رَدِّهِم على اِعْتِرَاض رُوسْيَا على اِنْضِمَام أُوكْرَانِيَا إلى «حِلْف النَاطُو» (NATO)، تَدَّعِي بعض الدول الغَربية أن «أُوكْرَانْيَا هي دولة مُستـقلّة، وَذَات سِيَّادَة، وأنه مِن حَقِّهَا أن تَلْتَحِقَ بِأيّ حِلْفٍ كَان، بِمَا فِيه "حِلْـف النَاطُو"» (NATO). وهذا نَوْع مِن المُغَالَطَة، أو النِفَاق. ولماذا؟ لأن مَا تَتَجَاهَلُه الدوّل الغربية هو أن حقـوق أُوكرانيا تـنتهي حيث تبدأ حقـوق رُوسيا. حيث ظلّت رُوسيا تُؤَكِّد، منذ سنوات، أن «اِلْتِحَاق أُوكْرَانْيَا بِـ "حِلْـف الناطو" هو هُجُوم خَطِير على رُوسْيَا، وعلى أمنها». وظلّت رُوسْيَا تُؤَكِّد أنها لَا تَقْبَلُ بِأَنْ تُعَزِّزَ أيّة دولة كانـت أَمْنَهَا على حِسَاب أَمْن رُوسْيَا. وَوَرَاء أوكرانيا، اِصْطَفَّت فَوْرًا مُجمل دُوّل «حلف شمال الأطلسي» (NATO)، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية.
وَنُذَكِّر هُنا بِسَابقة مُشَابِهة لِقَضِيَة تَرَشُّح أُوكْرَانْيَا لِلعُضْوِيَة في "حِلْف النَّاطُو" (NATO)، مع مَا يَنْتُج عن ذلك مِن نَشْر لِلصَّوَاريخ الأمريكية على حدود رُوسْيَا. وهي سَابِقة أزمة الصواريخ السُّوفْيَاتِيَة المُودَعَة في جزيرة كُوبَا، في أكتوبر 1962. فَرَغم أن كُوبَا هي دولة مُستـقلّة وذات سِيَّادَة، ورغم أن كُوبا اِخْتَارت بحرّية التَحَالُف مع "الاتحاد السُّوفْيَاتِي"، واختارت تَثْبِيت صواريخ سُوفْيَاتِيَة على أرضها، فإن الولايات المتحدة الأمريكية هَدَّدت بِشَنّ حَرب شَامِلَة، وَنَوَوِيَة، ضِدّ كُوبَا، وَضِدّ الاتحاد السوفياتي، إذا لم يَسْحَب الاتحاد السُوفْيَاتِي بِسُرعة هذه الصواريخ النَوَوِيَة من جزيرة كُوبَا، التي تَبْعُدُ عن الولايات المتحدة الأمريكية بِـ 212 كِيلُومِتْر. وَدَفَـعَت آنذاك هذه الأزمة الكُتْلَتَيْن (الاشتـراكية والرأسمالية) إلى شَفَا حَرب نَوَوِيَة تُهَدِّدُ العَالم بكامله بالاِنْقِرَاض. وقرّر آنذاك الرئيس السُوفْيَاتِي نِيكِيتَا اخْرُوتْشُوفْ تَهْدِئَة الأوضاع، وَسَحَبَ تلك الصواريخ من كُوبَا. وذلك مُـقَابِلَ سَحْب بعض الصواريخ النووية الأمريكية من تركيا، وإيطاليا، وكذلك مُقَابِل وَعْدِ الولايات المتحدة بعدم غزو كوبا مرة أخرى (بعد المحاولة الـفاشلة في عام 1961).
لكن الإمبرياليات الغربية تـعتبر أن مَا هُو حَـقّ لَهَا، لَا يُـقْبَلُ بِأَنْ يَكُون حَـقًّـا مُتَسَاوِيًّا لِمُنَافِسِيهَا، أو لِخُصُومها (مثل رُوسْيَا والصِّين). حيث أن الإمبرياليات الغربية تَـرفض وُجود أسلحة سُوفْيَاتِيَة في كُوبَا المُجَاوِرَة لِأَمْرِيكَا، وتُرِيد فرض وُجُود أَسْلِحَة تَابِعَة لِـ "حِلْف النَاطُو" في أُوكْرَانْيَا المُجَاوِرَة لِرُوسْيَا. وَلأن مِيزَة القـِوَى الإمبريالية هي أنها دائمًا أنانية، وانـتهازية، وَعَدَائِيَة، وغير قانونية، وَغَيْر عَادِلَة، وغير مَبْدَئِيَة، وغير أخلاقـية، وَتَعْمَل دَائِمًا بِـ «ازْدِوَاجِيَة المَعَايِير». ولا تهتمّ الـقِوَى الإِمْبِرْيَالِيَة سِوَى بمصالحها الخاصّة. وَلَا تُعِير أَيَّ اِهْتِمَام لِمَصَالِح الشُعُوب الأخرى.

4) مَاذَا كَان عَلَى أُوكْرَانِيَا أن تَفْعَلَه لِتَـفَادِي الحَرْبَ
لَمْ تَكُن الحَرْب في أُوكْرَانِيَا حَتْمِيَة. بَل كان مِن السَّهْل تَلَافِيهَا. بِشَرْط أن لَا يَرْتَكِب المَسْؤُولُون في دَولة أُوكْرَانِيَا أَخَطَاءً جَسِيمَة.
وَبَعْد اِنْطِلَاق حَرْب أُكْرَانْيا، حَدَثَت في أُكْرَانْيا تَحَوُّلَات خَطِيرَة في الجُغَرَافْيَا. وَغَدَت أُوكْرَانِيَا تَشْتَكِي مِن غَزْوِهَا مِن طَرَف رُوسْيَا، وَتَطْلُب مِنها الاِنْسِحَاب مِن عِدَّة مَنَاطِق مُحْتَلَّة، أَبْرَزُهَا : جزيرة الـقِرْم، وَمَنَاطِق دُونِيتْسْك، وَلُوغَانْسْك، الخ.
فَمَاذَا كان على أُوكْرَانِيَا أن تَفْعَله لِتَلَافِي الصِّدَام مع رُوسْيَا ؟ كان على أُوكْرَانِيَا أن تَقُومَ بِالتَدَابِير التَالِيَة :
- كان على دَوْلَة أُوكْرَانِيَا أن تُدْرِكَ أن رُوسْيَا هي جَارَة أَبَدِيَة لِأُوكْرَانْيَا. وَأنها قُوَّة عَالَمِيَة في صِرَاع اِسْتْرَاتِيجِي، قَدِيم، وَشَرِس، مع الإِمْبِرْيَالِيَات الغَرْبِيَة، وعلى رأسها أمريكا. فَلَا يُـقْبَلُ مِن أُوكْرَانِيَا أن تَسْتَـفِزَّ رُوسْيَا، أو أن تُهَدِّدَ أَمْنَهَا القَوْمِي، أو أن تُعَادِيَهَا، أو أن تَدْخُل في أَحْلَاف مُعَادِيَة لِرُوسْيَا (مثل «حِلْف النَاطُو» NATO).
- وَكَان على أُوكْرَانِيَا أن تَـفْهَم أنه لَا يُمْكِن لِأَيَّة قُوَّة في العالم (بما فيها أمريكا) أن تَحْمِيَ بِاسْتِمْرَار أُوكْرَانِيَا مِن بَطْشٍ مُحْتَمَل مِن طَرف رُوسْيَا.
- وكان على أُوكْرَانِيَا أَن تَلْتَزِمَ لِرُوسْيَا بِأَن لَا تَلْتَحِقَ بِـ «حِلْف الأَطْلَسِي» (NATO) المُعَادِي لِرُوسْيَا والصِّين.
- وكان على دَوْلَة أُوكْرَانِيَا أن لَا تَسْمَح لِأَيَّة قُوَّة سِيَاسِيَة أُوكْرَانِيَا بِمُمَارَسَة تَمْيِيز سَلْبِي ضِدَّ السُكَّان الأُوكْرَانِيِّين مِن أَصْلٍ رُوسِي، أو أن تَضْطَهِدَهُم، أو أن تَعْتَدِيَ عليهم.
- وكان على دولة أُوكْرَانِيَا أن لَا تَمْنَع اِسْتِعْمَال الْلُّغَة الرُوسِيَة في المناطق التي يَتَوَاجَدُ فيها سُكّان أُوكْرَانِيُّون مِن أَصْل رُوسِي.
- وكان على دولة أُوكْرَانِيَا أن تَمْنَعَ نُشُوء وَتَنَامِي حَرَكَات سياسية نَازِيَة (nazi)، وَمُعَادِيَة لِلْجَارَة رُوسْيَا.
لَوْ اِتَّبَعَت دولة أُوكْرَانِيَا هذه الإِجْرَاءات العَـقْلَانِية المَذْكُورَة سَابِقًا، والتي لَا تُكَلِّفُ مَادِيًا، لَمَا قَامَت رُوسْيَا بِأَيّ عَمَل مُضادٍّ لِأُكْرَانْيَا، وَلَمَا وَقَع اِنْفِصَال جَزِيرة الـقِرْم والتِحَاقِهَا بِرُوسْيا، وَلَمَا حَدَثَت صِرَاعَات مُسَلَّحَة في المَنَاطِق الشَّرْقِيَة دُونِيتْسْك (Donetsk)، وَلُوغَانْسْك (Lougansk)، وَمَارْيُوبُول (Marioupol)، الخ. وَلَمَا أَصْبَح المَصِير الْأَكْثَرُ اِحْتِمَالًا لهذه المناطق هو الاِسْتِـقْلَال والاِنْفِصَال عن أُوكْرَانِيَا.
وَزَعَمَت بعض الحَرَكَات السياسية الأُكْرَانِيَة أن «رُوسْيَا هَيَّأَت الحَرْب قَبْلَ حُدُوثِهَا بِحَوَالَيْ 20 سنة». فَإِنْ كَانُوا حَقًّا على عِلْم بهذه الاِسْتِعْدَادَات، كان المَنْطِق يَفْرِضُ عليهم بِأَن يُهَدِّئُوا الأَوْضَاع الجَار الأَبَدِي، عَبْر طَمْأَنَة رُوسْيَا، وليس عَبر مُعَادَاتِهَا بِشَكْل مُبَالَغ فيه.
وَتَدَخَّلَت المُخَابَرَات الأجنبية، والـقِوَى الخَاصَّة، التَابِعَة للإمْبِرْيَالِيَات الغَرْبية، تَدَخَّلَت في أُوكْرَانِيَا، وَدَعَّمَت الحَرَكَات النَازِيَة الأُوكْرَانِيَة، وَنَظَّمَت اِنْقِلَابًا سِيَّاسيا في سنة 2014، وَأَقَامَت سُلْطَة سِيَّاسية أُوكْرَانِيَة شَرِسَة، وَمُعَادِيَة لِرُوسْيَا، وَتَابِعَة لِلْإمِْبِرْيَالِيَّات الغَربية، وَعلى رَأْسِها أمريكا. وَشَنَّت حَرْبًا أَهْلِيَة شَرِسَة ضِدَّ السُكَّان الأُوكْرَانِيِّين مِن أَصْلٍ رُوسِي، في شَرْق أُوكْرَانِيَا، بِهَدف تَرْهِيبِهِم، وَتَهْجِيرِهِم إلى رُوسْيَا. وَالآن، يَتَوَجَّبُ على أُوكْرَانِيَا أن تَصْبِر، وَأَن تُؤَدِّيَ ثَمَنَ أَخْطَائِهَا السَّابِـقَة، وَالمُتَهَوِّرَة.
وَمِن بَيْن الدُرُوس المُسْتَخْلَصَة مِن تَجْرِبَة حَرْب أُوكْرَانِيَا، والتي تَهُمُّ مُبَاشَرَةً الشُعُوب المُسلمة، أو الناطقة بِالعَرَبِيَة، أَذْكُرُ مَا يَلِي :
- على الشُعُوب والدُول التي تَجِدَ نَفْسَهَا في جِوَار جُغْرَافِي صَعْب، أو مُتَنَاقِض (مثل المغرب والجزائر، أو السعودية والإمارات وإيران، أو مصر والسعودية، أو السعودية واليمن، الخ)، أن يُدْرِكُوا أن هذا الجِوَار الجُغْرَافِي أَبَدِي، وأنه مِن الحُمْق تَحَدِّي الجِيرَان وَمُعَادَاتِهِم، والتَحَالُف مَع قِوَى اِسْتِعْمَارِيَة، أو إِمْبِرْيَالِيَة، عُدْوَانِيَة، وَبَعِيدَة بِآلَاف الكِيلُومِتْرَات، أو الثِـقَة العَمْيَاء في الحِمَايَة المُفْتَرَضَة المَوْعُودَة مِن طَرَف الإِمْبِرْيَالِيَات الغَرْبِيَة. وهذه السياسة العُدْوَانِيَة المُتَهَوِّرَة تُجَاهَ الجِيرَان، تُؤَدِّي حَتْمًا إلى خَرَاب يَشْمَلُ كلّ الأَطْرَاف المُتَحَارِبَة. بَل الحَلّ الأحسن هو تَعَلُّم فَنّ مُعَالَجَة التَنَاقُضَات البَيْنِيَة، والمُرَاهَنَة على التَكَامُل مَع الجِيرَان، والتَعَاوُن مَعَهُم، وَبِنَاء مَشَارِيع مُشْتَرَكَة مَعَهُم. لأن المصالح المشتـركة، والنضال المُشتـرك، هما اللذان يُوَحِّدَان الجِيرَان، وَيُـقَوِّيَانِهِم.

5) حَرْب أُوكْرَانْيَا نِـعْـمَة على الإِمْبِرْيَالِيَات الغَرْبِيَة
يجب أن لَا نَـغْـفِلَ أن حَرْب أُوكرانيا جَاءَت كَـنِـعْمَة ثَمِينَة، وَمُـفِيدَة، على الإِمْبِرْيَالِيَات الغَرْبِيَة. وذلك لِعِدَّة اِعْتِبَارَات هَامَّة، أبرزها ما يلي :
- قَبْل عَهْد الرئيس الأمريكي جُو بَايْدَنْ (J. Biden)، كان «حِلْف الأَطْلَسِي» (NATO) في حالة مُزْرِيَة مِن الإِهْمَال، والضُعْف، والتَلَاشِي. وَسَبَقَ لِرَئِيس جُمْهُورِيَة فَرَنْسَا، العُضْوَة في هذا الحِلْف، أن اِنْتَـقَدَ «حِلْف الأَطْلَسِي»، وَاصِفًا إِيَّاهُ في حَالَة مِن «المَوْت الدِمَاغِي». وَسَبَقَ لِرِئَاسَة فرنسا أن دَعَت إلى إِنْشَاء حِلْف عَسْكَرِي خَاصّ بِدُوَل أَوْرُوبَّا وَحْدَهَا، وَمُسْتَـقِل عن أمريكا. بَلْ في عَهْد الرئيس الأمريكي دُونَالْد تْرَامْبْ (D. Trump)، كان جزء مِن قـيادة أمريكا تُفَكِّرُ في إِمْكَانِيَة الانسحاب من "الحِلْف الأَطْلَسِي"، أو حَلِّه. وذلك بِدَعْوَى أن نَـفَـقَات تَسْيِير هذا الحِلـف يُكَلِّفُ اقتصاد أمريكا مَصَارِيـفَ بَاهِظَة؛ وأن الحُلَفَاء الأَوْرُوبِيُّون يَتَهَرَّبُون مِن المُسَاهَمَة المُتَكَافِئَة في نَـفَـقَات هذا الحِلْف. حيثُ أن دول أورُوبّا الغَربية كانـت تَرْفُضُ إِيصَال مِيزَانِيَّاتِهَا العسكرية إلى 2 % مِن النَاتِج الدَاخِلِي (PIB) الخاص بها. وَبَعْد حَرْب أُوكْرَانِيَا، أُصِيبَت دُوَل أَوْرُوبَّا بِالرُّعْب مِن رُوسْيَا والصِّين، وَوَطَّدُوا عَلَاقَاتِهم بِأَمْرِيكَا، وَقَبِلُوا بِكُلّ مَا تَسْتَدْعِيه تَـقْوِيَة «حِلْف الأَطْلَسِي».
- قبل حَرْب أُوكْرَانِيَا، كانت الإِمْبِرْيَالِيَات الأَوْرُوبِّيَة تَـغْـتَاظُ مِن كَون أمريكا لَا تُخْبِرُهَا، وَلَا تُنَسِّـقُ معها، بما فيه الكِفَايَة، فيما تَـقُوم به بِأَجْهِزَة "الحِلْف الأَطْلَسِي». حيث اِسْتَعْمَلَت مثلًا أمريكا بعض أَدَوَات "حِلْف الأَطْلَسِي" (NATO) لِإِنْشَاء دولة جَدِيدة في أَوْرُوبَّا، هي "الكُوسُوفُو" (Kosovo)، في 17 فبراير 2008. وذلك دُون اِسْتِشَارَة دُوَّل أَوْرُوبَّا، وَلَا مُوَافَقَتِهَا. وهذا الكُوسُوفُو هو منطقة مَأْخُوذَة من صِرْبْيَا (Serbie) التي لها رَوَابط صَدَاقَة تَاريخية مع رُوسْيَا. وَلَا تـعترف بِـدَوْلَة «كُوسُوفُو»، لَا "الاتحاد الأوروبّي" (European -union-)، ولَا "الأمم المتّحدة" (United Nations). كما أن أمريكا قَرَّرَت بشكل أُحَادِي وَمُفَاجِئ الانسحاب من أَفْغَانِسْتَان (في عام 2021)، وَتَخْـفِـيـف تَوَاجُدِهَا العَسْكَرِي في الشَرْق الأَوْسَط، دُون استشارة، وَلَا مُوَافَقَة، دُول أورُوبّا.
- منذ قُرابة 20 سنة قَبْل حَرْب أُوكْرَانِيَا، ظَلَّت الولايات المتّحدة الأمريكية تَطْلُب مِن حُلَفَائِهَا في دُوَل أَوْرُوبَّا، وَخَاصَّةً مِن أَلْمَانْيَا، أن يُـقَلِّصُوا جَذْرِيًّا مُبَادَلَاتِهِم التجارية مع رُوسْيَا (التي يَعْتَبِرُهَا "حِلْف الأطلسي" «عَدُوًّا»)، وَأَن يَسْتَغْنُوا عَن الغَاز المُسْتَوْرَد مِن رُوسْيَا. لكن دول أوروبّا لم تَكُن تَعْبَأُ بِمَطَالِب أمريكا. بل دَخَلَت ألمانيا في تَعَاوُن استراتيجي مع رُوسْيَا لِإِنْشَاء خَطِّ أُنْبُوب الغَاز الأَوّل (Nord Stream 1)، ثم الثاني (Nord Stream 2)، عَبْرَ بَحْر البَلْطِيق، لِاسْتِيرَاد كَمِّيَة مِن الغَاز الرُّوسي تَبْلُغُ قُرَابَة 45 % مِن الغَاز المُسْتَهْلَك في ألمانيا. وَتَبْلُغ قُدْرَة هذا الخَط الأوّل قُرَابَة 38 مَلْيَار مِتْر مُكَعَّب سَنَوِيًّا. وبعد اِنْدِلَاع حَرْب أُوكْرَانِيَا، أُصِيبَت فَجْأَةً دُوَل أَوْرُوبَّا بِرُعْب شَدِيد مِن رُوسْيَا. وَتَـقَوَّى اِلْتِـفَاف الدُول الغَربية حول أمريكا. وَأَخَذَت الدُوَل الأَوْرُوبِيَّة تَتَسَابَق إلى تَطْبِيـق العُقُوبَات الاقتصادية على رُوسْيَا، وَتَتَنَافَسُ في مُعَادَاتِهَا لِرُوسْيَا، وَتَزِيدُ في مِيزَانِيَتِهَا العَسْكَرِيَة لِكَيْ تَبْلُغَ 2 % مِن النَاتِج الدَاخِلِي الخَام (PIB). وَانْتَـقَلَت الدُوَل الغَرْبِيَة مِن رَفْض مَطَالِب أَمْرِيكَا الرَّامِيَة إلى مُقَاطَعَة رُوسْيَا، إِلَى تَنْفِيذِهَا بِحَمَاس كبير.
وهكذا، بعد حَرْب أُوكْرَانِيَا، زَالَت الكثير من المشاكل الـقديمة لِـ "حِلْف الأَطْلَسِي" (NATO). حيث أن عَدَاء الدُوَل الغَربية لِرُوسْيَا والصِّين تَضَخَّمَ أكثر مِمَّا كان سَابِقًا. وَأَنَّ دُوَل أَوْرُوبَّا تَوَحَّدَت، وَتَمَاسَكَت، حول قُطْب الوِلَايَات المُتّحدة الأَمْرِيكِيَة. وأن أَلْمَانْيَا قَبِلَت التَخْطِيط لِلتَخَلِّي التَدْرِيجِي عن الغار الرُّوسي في أُفُق 2030. وأن كَثِيرًا من دُول أَوْرُوبَّا قَبِلَت رَفْع مِيزَانِيَتِهَا العَسْكَرِية. وَأن كُلّ تَـقْلِيص في المُبَادَلَات التجارية بين دُوَل أَوْرُوبَّا وَرُوسْيَا، يُعَوَّضُ فَوْرًا بِتَـقْوِيَة المُبَادَلَات التجارية بين دُوَل أَوْرُوبَّا وأمريكا. فَكَان الرَّابِحُ الأكبر مِن حَرْب أُوكْرَانِيَا هو الوِلَايَات المُتَكَافِئَة الأَمْرِيكِيَة. وَقَوَّت حَرْب أُوكْرَانِيَا، مِن جِهَة أُولَى تَرَابُط الدُّوَل الأَوْرُوبِيَّة مَع أمريكا، وَمِن جِهَة ثانية تَرَابُط رُوسْيَا، والصِّين، وَإِيرَان، وَفِينِيزْوِيلَا.

6) قِيَّادَة العَالَم تَـكُونُ بِالطَلِيعِيَّة، وَلَيْسَ بِالـقُوَّة القَاهِرَة
تَعْتَبِرُ الولايات المتحدة الأمريكية أنه مِن حَقِّهَا أن تَكُون هي الـقُطْب السَّائِد الوحيد في العالم، وَأَنَّهُ يَحِقُّ لها أن تَحْتَـكِر السَّيْطَرَة على العالم، واسْتِـغْلَالِ ثَرَوَات بُلْدَانِه. وَتَرْفُضُ الولايات المتحدة الأمريكية أن تُنَافِسَهَا أيّة دولة أخرى حَوْل هذا الدَّوْر.
وَلَا تَتَحَمَّل الولايات المتحدة الأمريكية أن تُبَارِزَهَا الـقُوَّتَان الصَّاعِدَتَان، رُوسيا، والصّين، في مَيْدَان التِجَارة العالمية، وفي مَجال التَأْثِير على العالم، أو السَّيْطَرَة عليه. بَل تَرْفُضُ الإمبريالية الأمريكية أن تَتَمَتَّعَ رُوسْيَا والصِّين بِحُرِّيَة التجارة مع مُجْمَل دول العالم. (وَلِلتَذْكِير، فقد تَطَلَّب قَبُول الصِّين في "المُنَظَّمَة العالمية لِلتِجَارَة" أكثر من ثَلَاثِين عَامًا مِن المُفَاوَضَات الصَّعْبَة). وَتُرِيد الولايات المتّحدة الأمريكية أن تبقى هي الـقُطْب الوحيد المُهَيْمِن على العالم. وَتَحْرُصُ الولايات المتّحدة الأمريكية على مَنْع روسيا والصّين مِن أن تَكُونَا قُوَّتَيْن عَالَمِيَتَيْن.
وَتَـعتبر الولايات المتحدة الأمريكية، ودول أوروبا، و"حلـف شمال الأطلسي"، أن «الصِّين هي العَدُو الأكبر»، وأن «رُوسْيَا هي عَدُوّ مَرْحَلِي اِنْتِقَالِي». وَبَعْد إِضْعَاف، أو تَشْتِيت رُوسْيَا، سَتَنْتَـقِلُ الإمبرياليات الغَربية إلى مُوَاجَهَة الصِّين. لِذلك تُحاول الولايات المتحدة الأمريكية وحُلَفَاءُهَا اِسْتِـغْلَال فُرْصَة حَرب أوكرانيا (في سنة 2022) للإطاحة بالرئيس الرُوسِي فْلَادِيمِير بُوتِين (V. Poutine)، أَو لِإِضْعَاف رُوسيا، أو تَشْتِيتَهَا. كما أن الولايات المتحدة الأمريكية، وَحُلَفَاؤُهَا الغَرْبِيُّون، يعتبرون أن الشُعُوب الآسْيَوِيَة، وَشُعُوب أمريكا الْـلَّاتِينِيَة، وَالشُعُوب المُسْلِمَة، والنَاطِقَة بِالعَرَبِيَة، هُم أَيْضًا جُزْءٌ مِن أَعْدَائِهِم الاِسْتْرَاتِيجِيِّين. أما شُعُوب اِفْرِيـقْيَا، فَيَـعْتَبِرُونَهَا ضَعِيـفَة إلى درجة أنها لَا تُؤْخَذ بِعَيْن الاعتبار.
وَمُنْذُ سنوات 2015، التي بَدَأَت فيها التِيَارَات السِيَاسِيَة اليَمِينِيَة تَتَصَاعُد في مُعْظَمِ الدُوَل الغَرْبِيَة (أَوْرُوبَّا وَأَمْرِيكَا)، أَصْبَحَ كَثِيرُون من السياسيّين الغَرْبِيِّين، وَبِعُنْصُرِيَة مُتَعَمَّدَة، يُـقِيمُون تَطَابُـقًا بين الإِرْهَاب الإِسْلَامِي (الـقَاعِدَة، ثمّ دَاعِشْ، الخ)، والإِسْلَام، والمُسْلِمِين. وَخَلَقُوا مَوْجَة مِن الكَرَاهِيَة ضِدَّ الشُعُوب المُسْلِمَة، والنَاطِقَة بِالعَرَبِيَة. وَلَوْ أن الإِمْبِرْيَالِيَات الغَربية، بالإِضَافَة إلى الإِمَارَات العَرَبِيَة، وَقَطَر، والسَعُودية، الخ، هُم الذين مَوَّلُوا هذه الحَرَكَات الإِسْلَامِية الأُصُولِيَة والإِرْهَابِية.
ومنذ اِنْدِلَاع هذه الحرب في أُكْرَانْيَا في فبراير 2022، نُلاحظ أن مُجمل الدول الرأسمالية الغربية خَضَعَت لِأمريكا (بما فيها المَمْلَكَة المُتَّحِدَة، وَأَلْمَانْيَا، وَفَرَنْسَا، الخ)، وَدَخَلَت في حَمْلَة عَدَائِيَة، وَشَامِلَة، وَمُتَوَاصِلَة، ضدّ رُوسْيَا. (وكانـت كذلك، قُبَيْلَ اِنْدِلَاع حَرْب أُوكْرَانْيَا، قد اِنْزَلَقَت مُعظم الدول الغَربية في حَمْلَة دِعَائِيَة شَعْوَاء ضدّ الصِّين، وَضِدَّ المُسْلِمِين، وَضِدَّ العَرَب، أو النَاطِقِين بِالعَربية). وَتَسْتَعْمِلُ الدول الغربية كل الوسائل في هذه الحَمْلَة العَدَائِيَة، بما فيها قَلْبُ الحَقَائِق، وَتَسْلِيح أُوكْرَانْيَا، وَتَزْوِيدُها بالمُعْطَيَات المُخَابَرَاتِيَة، وَنَشْر دِعَايَة شَرِسَة عبر قَنَوَاتِهَا التِلِفِزْيُونِيَة الفَضَائِيَة، وَعَبْرَ الإِنْتِرْنِيتْ، وَالسِّينيمَا، والرياضة، والثـقافة، إلى آخره.
وَتَزْعُمُ الدِعَايَة الغَرْبِيَِّة أن الرَئِيس الرُوسِي افْلَادِيمِير بُوتِين (V. Poutine) «دِيكْتَاتُورِي»، وَأن رُوسْيَا «اِسْتِبْدَادِيَة»، وفيها «فَسَاد». وَهَلْ أُوكْرَانِيَا أَقَلُّ دِيكْتَاتُورِيَةً وَفَسَادًا مِن رُوسْيَا ؟ وَهَلْ سَبَقَ لِـأَمْرِيكَا وَدُوَل أَوْرُوبَّا، هُمْ أُنْفُسُهُم، أن تَعَامَلُوا بِمَنَاهِجَ دِيمُوقْرَاطِيَة، أو عَادِلَة، مع قَضَايَا شُعُوب "العالم الثالث"، ومنها مثلًا قَضِيَة فَلَسْطِين، وَقَضِيَة سُورْيَا، وَقَضَايَا العِرَاق، وَمَصْر، وإِيرَان، الخ ؟ أَلَمْ يَكُن رَفَاهُ البُلْدَان الغَرْبِيَة مَبْنِيًّا على أَسَاس قَهْر، وَاسْتِغْلَال، وَنَهْب، شُعُوب "العالم الثالث" ؟ أَلَمْ يَتَحَوَّل الدُّلَار الأَمْرِيكِي إلى أَدَاة لِلسَّيْطَرَة على العَالَم ؟ أَلَمْ يُصْبِح النِظَام الاِقْتِصَادِي العَالَمِي الحَالِي، المَبْنِي مِن طَرَف الدُوَل الإِمْبِرْيَالِيَة الغٍَرْبِيَة، هُو أَرْقَى تَحَايُل لِلسَّيْطَرَة على شُعُوب "العالم الثالث"، وَاسْتِغْلَالِهَا ؟
وبالنسبة لِكثير مِن شُعوب "العالم الثالث"، الذين يبحثون منذ عُقُود عن نَمَاذِج لِلْخُروج مِن التَخَلُّف المُجْتَمَعِي، لَمْ تَعُد الدُوَل الغَرْبِيَة (أمريكا وَأَوْرُوبَّا) نَمَاذِجَ تُثِيرُ الإِعْجَاب، بَلْ أَصْبَحَت الصِّين هي النَمُوذَج الذي يُثِير الاِهْتِمَام، نَظَرًا لِلسُّرْعَة التي نَمَت بِهَا الصِّين، وَنظرًا لِلْقُوَّة الهَائِلَة التي وَصَلَت إليها. فَـغَدَت الصِّين هي الطَلِيعَة الأكثر أَهَمِّيَةً، والتي قَدْ تَرْغَبُ بعض الشُعُوب في الْاِقْتِدَاء بِهَا، في ميادين التَنْمِيَة المُجتمعية.

7) حِينَمَا تَضُرُّ العُقُوبَات الاقتصادية بِالمُعَاقِبِ، والمُعَاقَبِ
وَلِمُعَاقَبَة رُوسْيَا على حَرْبِهَا ضِدَّ أُوكْرَانِيَا، جَنَّدَت الوِلَايَات المُتَّحِدَة الأَمْرِيكِية حُلَفَاءَهَا التَـقْلِيدِيِّين، مثل دول "الاتحاد الأوروبّي" (الذي يَضُمُّ 27 دولة مِن أوروبا)، وَكذلك كَنَدا، وأستراليا، وَزِيلَانْدَا الجديدة، واليَابَان، وَكُورْيَا الجنوبية، وَطَايْوَان، وغيرها. وَجَرَّتْهُم أمريكا إلى فَرْضِ «عُقُوبَات اقتصادية» عُدْوَانِيَة، وَشُمُولِيَة، ضِدَّ رُوسيا. وتشمل هذه العُـقـوبات الاقتصادية المُبَادَلَات في ميادين التِجَارَة الدُوَلِيَة، والتِكْنُولُوجْيَا، وَالمَالِيَة، والبُنُوك، والمؤسّـسات الدولية، الخ. وَتَهدف هذه «العُقُوبَات الاقتصادية» إلى تَـرْكِـِيع رُوسْيَا، وَإِخْضَاعِهَا لِلْإمِْبِرْيَالِيَّات الغَرْبِيَة.
وَأَصْبَحَت هذه «العُقُوبَات الاِقْتِصَادِيَة» لَدَى الإِمْبِرْيَالِيَات الغَرْبِيَة هي البَدِيل المُفَضَّل عَن الحَرْب السَّاخِنَة والمُبَاشِرَة. وَغَدَت «العُقـوبات الاقتصادية» لَدَى الإِمْبِرْيَالِيَات الغَربية بِمَثَابَة «سِلَاح الدَّمَار الشَامِل وَالنَاعِم». لكن عَدَدًا مِن دُوَل العالم رَفَضَ الالتـزام بِتَطْبِيق هذه «العُـقـوبات الاقتصادية»، ومنها الصِّين، وَالهِنْد، وَإِيران، والعديد مِن دُوَل إِفْرِيـقْيَا، وآسْيَا، وَأَمْرِيكَا الجُنُوبِيَة، الخ).
وَلَمْ تَمْنَع هذه «العُقـوبات الاقتصادية» الولايات المتحدة الأمريكية مِن أن تُخَصِّصَ (في يُونْيُو 2022) مِيزانية تَفُوق أكثر من 30 مليار دولار أمريكي لِبَعْثِهَا إلى أُوكْرَانْيَا على شكل أسلحة مُتـنوّعة مِن صُنْع أمريكي. وهذه الأسلحة ليست هِبَة، أو مُسَاعَدَات مَجَّانِيَة، وَإِنَّمَا تُحْسَبُ كَدُيُون طَوِيلة الأَمَد. وَسُرْعَان مَا تَبَيَّن أن الدَّعْمَ العَسْكَرِي لِأُوكْرَانْيَا يَحْتَاج إلى أَكْثَرَ مِن تِلْك المِيزَانِية الهَائِلَة (30 مليار دُولار أمريكي). لأن الحَرْب الجَارِيَة في أُوكْرَانْيَا تَطْحَن في كُلّ يَوْم، وفي كلّ أُسْبُوع، كَمِّيَات ضَخْمَة مِن المُقَاتِلِين، وَمِن الأَسْلِحَة المُتَنَوِّعَة، وَمِن البِنْيَات التَحْتِيَة، وَمِن الضَحَايَا في أَوْسَاط المَدَنِيِّين، والمُهَجَّرِين، وَالْلَّاجِئِين.
وَتَتَّصِفُ هذه «العُقـوبات الاقتصادية» بكونها مُمَنْهَجَة، وَشَامِلَة، وخَانِـقَة، وَعَدَائِيَة، وَجَذْرِيَة، وَمُنَافِيَة لِلـقَانُون الدُوَلِي. حيث أن هذه «العُقُوبَات الاقتصادية» تَتَنَافَى مع قَوَانِين التجارة العالمية التي وَضَعتها الأُمَم المُتَّحِدَة (United Nations). وَتَتَعَارَضُ مع قَوَاعِد «المُنَظَّمَة العالمية لِلتِجَارَة» (OMC). لكن حِينَمَا تَهُبُّ الـقِوَى الإِمْبِرْيَالِيَة لِتَحْقِيـق مَصَالِحِهَا، فَإِنَّهَا لَا تَهْتَمَ بِـقَانُونِيَة مُبَادَرَاتِهَا.
وَتُؤَدِّي عَمَلِيًّا هذه «العُقُوبَات الاقتصادية» إلى فرض «حَظْرٍ» اقتصادي (embargo, blocus)، أو «مُقَاطَعَة» (boycott) خَانِـقَة على رُوسيا.
وَفي الوقت الذي تَطْلُبُ أمريكا مِن حُلَفَاءَهَا أن يَكُفُّوا عَن شِرَاء الغَاز (والبِتْرُول، وَمَوَاد أخرى)، مِن رُوسْيَا، فَإن أمريكا تَعْجِزُ عن أن تُوَفِّرَ لِحُلَفَائِهَا الأَوْرُوبِيِّين قُرَابَة 150 مليار مِتْر مُكَعَّب مِن الغَاز الذي كانوا يَسْتَوْرِدُونَهُ مِن رُوسْيَا. وَلَا تَعْبَأُ أَمْرِيكَا بِكَوْن مَا تَطْلُبُه مِن حُلَفَائِهَا الغَربيِّين يُؤَدِّي بِاقْتِصَادَاتِهِم إلى الاِضْطِرَاب، والاِنْكِمَاش.
وكانـت «العُـقُوبات الاقتصادية» تهدف إلى خَلـق تَضَخُّم (inflation) مُخَرِّب في رُوسيا، وإلى إِضعاف اقتصادها. وَتَتَهَيَّأُ الدول الغربية لِفَرْض «عُقُوبَات اقتصادية» مُشَابِهَة على مُنَافِسَتِهِم الاقتصادية الصِّين، (إِضَافَةً إلى العُقُوبَات الاقتصادية الـقديمة، المَفْرُوضَة منذُ عُـقُود، على بُلْدَان مُقَاوِمَة لِلْإِمْبِرْيَالِيَات الغَرْبِيَة، مِثْل كُوبَا، وَإِيرَان، وفِينِيزْوِيلَا، وَسُورْيَا، وَكُورْيَا الشَمَالِيَة، الخ).
وفي نهاية شهر يونيو / حزيران 2022، اِجْتَمَعَت "فِرْقَة العَمَل" (task force) التي تَجْمَعُ الحُلفاء الغَربيين، والتي تُرَاقِبُ أَرْصِدَة النُخَب الرُّوسِيَة (Repo). وَتَضُمُّ "فرقة العمل" (task force) كُلًّا مِن الولايات المتحدة الأمريكية، وأستراليا، وفرنسا، وكندا، وألمانيا، واليابان، وإيطاليا، والمملكة المتحدة، والمُفَوَّضِيَة الأَوْرُوبِّيَة. وَأَشَارَت "فرقة العمل" (task force) إلى أنه تَمَّ تَجْمِيد، أو حَظْر، 30 مليار دولار من الأَرْصِدَةُ المَالِيَة المُودَعَة مِن طَرَف قُرَابَة 500 شخص من أصل رُوسِي في أَبْنَاك دُوَل "الاِتِحَاد الأَوْرُوبِّي". كَمَا أنها حَجَزَت حوالي 300 مليار دُولَار من أُصُول البنك المركزي الرُّوسِي(1). وهذا اِعْتِدَاء، أو قَرْصَنَة، أو سَرِقَة، مُنَافِيَة لِكُلّ الأَعْرَاف والقَوَانِين الدولية. وَهَذَا السَّطْوُ على الأَرْصِدَة البَنْكِيَة لِلْغَيْر، يُحَطِّمُ مِصْدَاقِيَة، أو وُثُوقِيَة، المُؤَسَّـسَات المالية الغربية. وَمِن الغَرِيب أن تَكُون صِفَة «الـقُطْب المُهَيْمِن الوَحِيد على العَالَم» تُعْطِي لِأَمْرِيكَا الـقُدْرَة على التَحَكُّم في الدُوَل الغَرْبِيَِّة والحَلِيـقَة لها، إلى دَرَجَة جَعْلِ هذه الدُوَل تُوَافِقُ على القِيَّام بِهذا الحَظْر البَنْكِي العُدْوَانِي لِأَرْصِدَة الغَيْر، وَلَوْ أن هذا الحَظْر يَتَنَافَـى مع الـقَانُون الدُوَلِي. وهذا السُّلُوك يُعَبِّرُ عن دَرَجَة كُرْهِ رُوسْيَا، وَاحْتِـقَارِهَا، مِن طَرَف تِلك الدُول الغَرْبِيَة وَحُلَفَائِهَا.
وَدَعَى رَسْمِيًّا «المُفَوَّض الأوروبي لِلْعَدْل» دِيدْيِيه رَايْنْدَرْزً (Didier Reynders)، الدُوَلَ الأَعْضَاء في "الاتحاد الأَوْرُوبِّي" إلى الـقِيَّام بِإِجْرَاءَات عِقَابِيَة مُمَاثِلَة لِتِلك العُقُوبَات المَذْكُورَة سَابِقًا. وَبَرَّرَت الدِعَايَة الغَرْبِيَة هذا التَجْمِيد لِلْأَرْصِدَة بِكَوْن «هؤلاء الأشخاص هُم أَغْنِيَاء، أو أَعْيَان، مِن أَصْل رُوسي». لكن الـقانون الدولي لا يُعْطِي لِلْأَبْنَاك الغَرْبِيَة اِمْتِيَّاز السَّطْو على مُمْتَلَكَات أشخاص مُعَيَّنِين، بِحُجَّة أنهم «أَغْنِيَاء، أو أَعْيَان، رُوس، أو أَعْدَاء».
وَمَعْلُوم أن «العُـقـوبات الاقتصادية» تستهدف كُلًّا مِن المُبَادَلَات التِجَارية، وَالتِكْنُولُوجْيَة، وَالمَالِيَة، والبَنْكِيَة، الخ. وَتَرْمِي إلى إِضْعَاف رُوسْيَا، وَإِخْضَاعِهَا لِأَمْرِيكا.
وَكَيْفَ كانـت نَتَائِجُ هذه «العُقُوبَات الاقتصادية» الغَرْبِيَة على رُوسْيَا، وعلى العالم، في سنة 2022 ؟ جُزْء هَام مِن نـتائج هذه «العُقُوبات الاقتصادية» لم يَكُن مُتَوَقَّعًا، وَلَا مَرْغُوبًا فيه. لِذَلك شَبَّهَ بعض المُلَاحِظِين هذه «العُقـوبات الاقتصادية» بِكَون «أمريكا وأوروبّا أَطْلَقَت رَصَاصَة على رِجْلِهَا».
وَأَبْرَز نـتائج هذه «العُقُوبَات الاِقْتِصادية» الغَرْبِيَة هي : اِغْتِنَاء الشَرِكَات الأَمْرِيكِيَة التي عَوَّضَت الْاِسْتِيرَاد مِن رُوسْيَا؛ وَاِرْتِفَاع في أثمان المواد البِتْرُولِية، والغَاز، في كل بلدان العالم الرأسمالي (دُونَ أن تَتَغَيَّرَ كُلْفَات إِنْتَاجِ هذه المَوَادّ)؛ وَتَزَايُد أَثْمَان الكثير مِن المنـتجات الأخرى (مثل المَوَاد الغَدَائِيَة، والأَسْمِدَة، الخ)؛ وَارْتِـفَاع في فَوَائِد الـقُرُوض البَنْكِيَة؛ وَتَصَاعُد التَضَخُّم (inflation) المُدَمِّر (حَيْثُ أَصْبَحَ، في مُعْظَم بلدان العالم الغَرْبِي، يَتَرَاوَحُ في مَا بَيْن 5 إلى 10 %)؛ وَانْخِـفَاض الـقُدْرَة الشِرَائِيَة لِلْمُوَاطِنِين؛ وَتَسْرِيح العديد مِن المَأْجُورِين (نَتِيجَةً لِلنَّقْص في الغَاز)؛ وَرُكُود أو انْكِمَاش اِقتصادي نِسْبِي في الكثير مِن اقتصادات البلدان الغربية؛ وَتَزَايُد في النَـفَـقَات العَسْكرية في رُوسْيَا وفي البلدان الغربية؛ وَتَنَامِي البِطَالَة؛ وَصُمُود عُمْلَة الرُّوبَلْ الرُّوسِي تُجَاه عُمْلَة الدُولَار الأمريكي (قبل بَدْءِ حَرْب أُوكْرَانْيَا فبراير 2022، كان الدُولَار الأمريكي يُسَاوِي 87 رُوبَل رُوسِي، وفي أبريل 2022، أصبح الدُولار الأَمْرِيكِي يُساوِي 54 رُوبَل رُسِي)؛ الخ. وَتَضَرُّر أَلْمَانْيَا مِن النَـقْص في الغَاز المُسْتَوْرَد مِن رُوسْيَا، يَضُرُّ بِـأَلْمَانِيَا كَـ «قَاطِرَة» تَجُرُّ مُجْمَل اقتصاد أَوْرُوبَّا. وَحَتّى الوِلَايَات المُتَّحِدَة الأمريكية، ظهر فيها تَضَخُّم (inflation) يُقَارِبُ 8 %؛ الشيء الذي لَمْ يَحْدُث منذ أكثر مِن أَرْبَعِين عَامًا.
وَأَفَاقَ بعض الأشخاص الغَرْبِيُّون مِن سُبَاتِهِم، وَبَدَأُوا يُوَلْوِلُون، لِأَنهم اِكْتَشَـفُوا فَجْأَةً أن «الدُوَل الغَرْبِيَة تُعَاني مِن تَبَـعِيَة اِقْتِصَادِيَة نِسْبِيَة تُجَاه رُوسْيَا والصِّين». حيثُ لَا تَـقْدِرُ هذه الدُوَل الغَرْبِيَة على الاِسْتِغْنَاءَ عن غَاز وَبِتْرُول رُوسْيَا، وَعَن المَنْتُوجَات الصِّنَاعِيَة الصِّينِيَة الرَّخِيصَة. كأن هؤلاء الأشخاص الغَرْبِيُّون يُرِيدُون أن تَسُودَ دُوَلُهُم الغَرْبِيَة على مُخْتَلَف اِقْتِصَادَات العَالَم، وَفي نَفْس الوَقْت، يَرْفُضُون أن تَكُون مُخْتَلَف اِقْتِصَادَات العَالَم مُتَدَاخِلَة، وَمُتَشَابِكَة، وَمُتَرَابِطَة، وَمُتَكَامِلَة. وهذا تَنَاقُض غير مَعْقُول.
وَتَـفَاجَأَ بعض الغَرْبِيِّين بِكَوْنِهِم لَا يَقْدِرُون على طَرْد رُوسْيَا والصِّين مِن الاقتصاد العالمي. وَأَنَّهُم يَتَضَرَّرُون مِن مُحَاوَلَة مُقَاطَعَة رُوسْيَا والصِّين. لأن رُوسْيَا والصِّين هما، مثل الكَثِير مِن الـقِوَى العَالَمِيَة، مُنْدَمِجَتَيْن في الاقتصاد العالمي. وَيَبْلُغ حَجْم المُبَادَلات الاقتصادية بين أمريكا والصِّين قُرَابَة 750 مليار دُولار أمريكي، وبين أمريكا ورُوسْيَا قُرَابَة 150 مليار دُولار أمريكي.
لكن بِفَضل إِصْرَار رُوسيا والصين على مُقاومة الإِمْبِرْيَالِيَّات الغَرْبِيَة، أصبحت هذه «العُقـوبات الاقتصادية» تُنْتِج تـدريجيًّا نـتائجَ مُعاكسة لأهدافها الأصلية. وَأَجْبَرَت هذه «العُقـوبات» رُوسيا والصين على البدء في إِنْشَاء نظام اقتصاديّ وَمَالِيٍّ مُوَازٍ، وَبَدِيل، عن النظام الاقتصادي العالمي الـقديم، الذي ظَلَّت تَسُود فيه الإِمْبِرْيَالِيَّات الغَربية. وبدأت دُول مجموعة «البْرِيكْسْ» (BRICS)، أي البَرَازِيل، وَرُوسيا، والهِنْد، والصِّين، وجنوب إفريقـيا، بالإضافة إلى دول أخرى مثل إِيرَان، وَكُوبَا، وَفِينِيزْوِيلَا، الخ)، بَدَأَت تَـقْبَلُ أَدَاءَ مُبَادَلَاتِهَا الاقتصادية بِالمُقَايَضَة (troque)، أو بِعُمُولَاتِهَا الوطنية، وليس بِعُمْلَة الدُّولَار الأمريكي. وهذا التَخَلِّي عن اِسْتِعْمَال عُمْلَة الدُّلَار الأَمْرِيكِي، هُو بِدَايَة سُقُوط النظَام التِجَارِي الـقَدِيم المَبْنِي على أَسَاس عُمْلَة الدُولَار الأَمْرِيكِي. وَيُهَدِّدُ بِانْهِيَّار الـقُوَّة الإقتصادية الأَمْرِيكِيَة. وَقَد شََرَعَت هذه الدُوَل الصَّاعِدَة (وأبرزها الصِّين، وَرُوسيا، والهند، الخ) في إنشاء نظام بديل لِنِظَام «اسْوِيفْتْ» (Swift) المُخَصَّص لِلَتْحْوِيلَات البَنْكِيَة. وهكذا تَتَأَسَّـسُ تـدريجيا الظروف المُلائمة لِصُعُود أَقْطَاب عالمية جديدة، وَمُنَافِسَة لِقُطْب أمريكا.

8) اِسْتِغْلَال الإِمْبِرْيَالِيَة لِأُطْرُوحَةَ "حَقّ التَدَخُّل في الشُؤُون الدَاخِلِيَّة»
في نهاية سنوات 1980، اختـرع بعض السياسيّين [مثل بِرْنَارْد كُوشْنِيرْ (Bernard Kouchner)، وأستاذ القانون مَارْيُو بِتَاتِي (Mario Bettati)] أُطْرُوحَة «حَقّ التَدَخُّل في الشُؤُون الدَاخِلِيَّة لِلدول، بِهَدف الدِّفَاع عن حُقُوق الإِنْسَان». وَانْضَمَّ «الفَيْلَسُوف» الصَهْيُونِي وَالمُزَوَّر بِيرْنَار هَنْرِي لِيـفِي (Bernard Henry Lévy) إلى الجُوقَة المُرَوِّجَة لِهذه الأُطْرُوحَة. وَزَعَمُوا أن «بعض الأوضاع الاستثنائية تُبَرِّر عدم احتـرام سِيَّادَة بعض الدول». وَمِمَّا لَمْ يُدْرِكْهُ هؤلاء الأشخاص، هو أن الدُوَل الـقَادِرَة على تَنْـفِيذ «حَقّ التَدَخُّل في الشُؤُون الدَاخِلِيَّة»، ليست هي الدُوَل الغَيُورَة حَقًّا على احتـرام «حُقُوق الإِنْسَان»، وَإِنَّمَا هي فَقَط الأَقْطَاب المُهَيْمِنَة على العالم، وهي خُصُوصًا الدُوَلَ الإِمْبِرْيَالِيَة القَوِيَة. وَتَسْتَـغِلُّ القِوَى الإِمْبِرْيَالِيَّة هذه الأُطْرُوحَة فَقَط لِخِدْمَة مَصَالِحِهَا الإِمْبِرْيَالِيَة الخُصُوصِيَة.
ورغم أن هذه الـفكرة تَخْرُقُ سِيَّادَة الدول الضعيفة، وَتَتَنَاقَضُ مع الـقانون الدولي، فـقد رَوَّجَتْهَا وسائل الإعلام الغربية، ثُمَّ استـغلّتها الدول الإمبريالية القـويّة لِتَبْرِير تَدَخُّلِهَا في الشُؤُون الداخلية للدّول التي تَكُون خَصْمَة، أو عَصِيَّة، أو مُقَاوِمَة، أو مُنَافِسَة، أو هَشَّة، أو فَرِيسَة غَنِيَة بِالمَعَادِن. وهكذا حَدَثَـتْ مَثَلًا «تَدَخُّلَات» ضَخْمَة، وَعَنِيـفَة، وَمُخٍَرِّبَة، في كلّ مِن كُوبَا في سنة 1962، والشِّيلِي في سنة 1973، وفِنِيزْوِيلَا في عِدَّة مَرَّات، والعراق في سنة 2003، وفي سوريا، وفي ليبيا، في سنة 2012، وفي عِدَّة بُلْدَان إِفْرِيـقِية، الخ.
وَيَزْعُمُ بعضُ أَنْصَار الرَأْسَمَالِيَة، أن الدُوَل الغَرْبِيَة هي «المُدَافِع الوَحِيد» عَن قِيَم «الحُرِّيَة»، وَ«الدِّيمُوقْرَاطِيَة»، وَ«حُقُوق الإِنْسَان». وَأَنّ هذه الـقِيَم لَا تُوجَدُ، وَلَا تُحْتَرَم، سِوَى في الدُوَل الرَأْسَمَالِيَة الغَرْبِيَة. وَهذه مُغَالَطَة كُبْرَى. لأن الدُوَل الغَرْبِيَة (مثل الولايات المُتّحدة الأمريكية، وَدُوَل أَوْرُوبَّا، الخ)، إِنْ كَانَت تُمَارِسُ «الدِيمُوقْرَاطِية»، و«حُقُوق الإِنْسَان»، دَاخِل حُدُودِهَا، وَفي مَا بَيْنَها، فَإِنَّهَا، تُجَاهَ شُعُوب "العالم الثالث"، تُمَارِسُ سُلُوكِيَّات اِسْتِعْمَارِيَة، أو اِمْبِرْيَالِيَة، أو عُدْوَانِيَة، أَوْ مُسْتَـغِلَّة، أو حَتَّى عُنْصُرِيَة. وَهذا يَتَنَاقَض مع مَصَالِح شُعُوبِنَا.
وَتَطْبِيـقًا لأطروحة «حَقّ التَدَخُّل في الشُؤُون الداخلية»، شَنَّت أيضًا الوِلَايَات المُتَّحِدَة الأمريكية، ودُوّل أَوْرُوبَّا الغربية، حَمْلَة دِعَائِيَة ضخمة ضِدّ الصِّين، وذلك بِدَعْوَى أن «دولة الصِّين دِيكْتَاتُورِيَة»، وأنها «تَضْطَهِدُ السُكَّان اَلْوِيغُور المُسْلِمِين»، المَوْجُودِين في غرب الصِّين. وهذه الحَمْلَة هي مُجَرَّد مُنَاوَرَة مُخَادِعَة. لأن الدول الغربية الإِمْبِرْيَالِيَة تُعَادِي «حُقـوق الإنسان»، وَلَا تَحْتَرِمُهَا، بَلْ تُريد اِسْتِـغْلَال الاِخْتِلَاف النِسْبِي لِلسُكّان الْوِيـغُور عن بَاقِي السُكَّان الصِّينيّين بِهدف إِضْعَاف الصِّين. ولأن الدُوَل الغربية تُحاول تَقْسِيم الصين، عَبْرَ دَفْع السُكَّان الوِيغُور إلى الْاِنْفِصَال عن الصِّين.
وَإِذَا كانت الإمبرياليات الغربية تَهتمّ حقيقةً بِمُعَانَاة المُسلمين الوِيغُور في الصِّين، فَلِمَاذَا تَرْفُضُ هذه الدُول الغَربية، وَمُنْذُ عُقُود، أن تَهْتَمُّ أيضًا بِمُسْلِمِين آخرين مُضْطَهَدِين عبر العالم، مِثْل مُسْلِمِي بِلاد اليَمَن الـفَـقِيرة، الذين تُـقَاتِلُهُم دَوْلَتَيْ السعودية والإمارات الغَنِيَّتَيْن ؟ وَلماذا لَا تَهْتَمُّ الدول الغربية بِمُسْلِمِين آخرين مُضْطهدين مثل "الرُّوهِنْغَا" (Rohinghas)، الذين تَضَطَهِدُهم دولة بُورْمَا (أو بِيرْمَانْيَا، أَيْ جُمهورية اِتِّحَاد مِييَانْمَار)، مُنذ عُـقُود، وَتَحْرُمُهُم مِن جِنْسِيَتِهِم، وَتُسَلِّطُ عليهم مِيلِيشْيَات عُنْصُرِيَة وإِرْهَابِيَة، وَتَحْرُق بُيُوتَهُم، وَتَطْرُدُهم بالقوّة مِن بِلادهم الأصلية، وَتَحُثُّهُم على الهِجْرَة إلى بِلَاد بَنْغْلَادِيش المُسلمة المُجاورة ؟
وَلِمَاذَا لَا تَهْتَمُّ أيضًا الدول الغربية بِالفلسطينيّين، وَلَوْ أن هؤلاء الفَلَسْطِينِيِّين يَتكوّنون من مُسلمين وَمَسِيحيّين؟ وَلماذا تَرْفُضُ الدول الغَرْبية الإمبريالية الاِعْتِرَافَ بِاضْطِهَاد الفَلَسْطِينِيِّين مِن طَرف الإِسْرَائِيلِيِّين؟ ولماذا تَتَعَامَل الدول الغربية مع إسرائيل كَأَنَّهَا مُسْتَـعْمَرَة مُشْتَـرَكَة لكلّ الدول الغربية ؟ ولماذا ترفض الدول الغربية الاعترافَ بِحُقُوق الشعب الفَلَسْطِينِي الذي تَسْتَـعْمِرُهُ إسرائيل، وَتُهَجِّرُه، وَتَـقْتُلُه، وَتُبِيدُه ؟ وَلِمَاذا تَتَجَاهَل الدول الغَربية كلّ الجرائم التي تـرتكبها إسرائيل ضدّ الشعب الـفَلَسْطِينِي، وَتَرْفُضُ أَيَّ تَدَخُّل في شُؤُون إسرائيل ؟ بَلْ ذَهَبَت بعض الدُوَل الغَرْبِيَة إلى حَدِّ تَـقْنِين مَنْعِ نَقْد الصَهْيُونِيَة، أو إِسْرَائِيل، أو مُـقَاطَعَتَهَا.
وَبِنَـفْس التَكْتِيك المَعْرُوض سَابِقًا (أَيْ «حَقُّ التَدَخُّل في الشُؤُون الدَاخِلِيَة»)، تَحُثُّ الدول الغربية سُكّانَ جَزِيرَة طَايْوَان الصِينِيَة على الانشقاق عن الصّين. وَتُزَوِّدُهَا بِأَسْلِحَة مُتَطَوِّرَة، وَهُجُومِيَة، واستراتيجية. وَرَغم أن الـقانون الدولي يَنُصُّ على «وَحْدَانِيَة الصِّين»، وَيُؤَكِّدُ أن جَزِيرَة طَايْوَان هي جُزْء مِن الصِّين، فَقَد صَرَّحَت مِرَارًا قِيَّادَة أمريكا أنه «إذَا هَاجَمَت الصِّين طَايْوَان، فَإن أمريكا سَتَتَدَخَّل عَسْكَرِيًّا لِحِمَايَة طَايْوَان». وَيَسْتَعِدُّ قُطْبَ الإِمْبِرْيَالِيَة الأمريكية لِاسْتِغْلَال التَنَاقُض المُؤَقَّت بين طَايْوَان والصِّين، لِشَنِّ حَرْب شُمُولِيَة ضِدَّ الصِّين. الشيء الذي قَدْ يُسِّهِل اِنْدِلَاع حَرْب عَالَمِيَة نَوَوِيَة مُدَمِّرَة.
وَبِتَكْتِيك مُشَابِه لِلتَّكْتِيك السَّابِق (أَيْ «حَقّ التَدَخُّل»)، تُشَجِّعُ الدول الغربية (وكذلك إسرائيل)، وَتُسَلِّحُ، وَتُسَاعِدُ، السكّان الكُرْد (kurdes) على الْاِنْفِصَال عن العراق، وعن سوريا، بِهَدف ِتَـقْسِيم هذين البلدين، وإِضْعَافِهِمَا. وعلى خِلَاف ظُنُون بعض السِيَّاسِيِّين، مَا يَهُمُّ الإِمْبِرْيَالِيَّات الغَرْبِيَة، ليس هُو تَحْقِيـق «تَـقْرِير مَصِير الشعب الكُرْدِي»، وَإِنَّمَا هُو تَـقْوِيَة الطَائِفِيَة، وَتَـقْسِيم، وَإِضْعَاف، كُلٍّ مِن العِرَاق، وَسُورْيَا. وفي ضُعْف العِرَاق وَسُورْيَا، يَتَأَبَّدُ ضُعْف الأَكْرَاد. بَيْنَمَا المَصْلَحَة العُلْيَا لِلْأَكْرَاد، تَكْمُنُ في تَوْحِيد العِرَاق، وَسُورْيَا، وَرُبَّمَا حتّى لُبْنَان، والأُرْدُن، الخ. فَلِمَاذا لَجَأَت الوِلَايَات المُتَّحِدَة الأَمْريكِيَة إلى تَوحِيد نَفْسِهَا عَبْرَ دَمْجِ قُرَابَة 54 وِلَايَة (=54 دَوْلَة) أَمْرِيكِية، وَلِمَاذَا تَلْجَأُ أَوْرُوبَّا إلى تَوْحِيد 27 دَوْلَة في «الإِتِحَاد الأَوْرُوبِّي»، بَيْنَمَا تُرِيد الإِمْبِرْيَالِيَّات الغَرْبِيَة لِبَـقِيَة شُعُوب "العَالَم الثَالِث" أن يُحَقِّـقُوا «تَقْرِير مَصِيرِهِم» عَبْرَ اِنْـقِسَامِهِم إلى دُوَيْلَات طَائِـفِيَة، وَقَزَمَة، وَضَعِيـفَة، وَهَشَّة ؟ وَلِمَاذَا تُشَجّعُ الإِمْبِرْيَالِيَّات الغَرْبِيَة «الْاِنْـفِصَالَات»، وَ«الْاِنْـقِسَامَات» في كُلّ بُلْدَان العَالَم الثالث، بَيْنَمَا تَمْنَعُ «الاِنْـفِصَالَات» و«الاِنْشـقَاقَات» دَاخِلَ بُلْدَانِهَا الخَاصَّة ؟ أَلَيْسَ هذا «تَدَخُّل في الشُؤُون الداخلية» لِشُعُوب أخرى؟ أَلَا يَتَنَافَى هذا النوع من التـدخّل مع الـقانون الدولي؟ أَلَيْسَ هذا عمل تَـقْسِيمِي، وَعَدَائِي، وَتَخْرِيبِي، ضِدَّ هذه البلدان المُسْلِمَة أو النَاطِقَة بِالعَربية؟ وَلِمَاذَا لَا تَـقْبَل الدُوَل الغَرْبِيَة أن يَعْمَلَ أَيُّ كَان على تَشْجِيع بعض مَنَاطِقِهَا على الاِنْفِصَال (مثلًا في إِقْلِيم البَاسْك، أو إِيرْلَانْدَا الشمالية، الخ) ؟ أَلَيْسَت هذه سياسة إِمْبِرْيَالِيَة، وَعَدَائِيَة، وَمُخَرِّبَة ؟
وَلماذا تَـتَّـهِمُ الدول الغربية رُوسْيَا بِـ «ارْتِكَاب جَرَائِم حَرْب في أُوكْرَانْيَا»، وَفي نـفس الوقت، تَنْكُرُ الدول الغربية جَرَائِم الحرب التي اِرْتَكَبَتْهَا الولايات المتحدة الأمريكية وَحُلَفَاءُهَا في كلّ مِن العراق في سنة 2003، وفي سُورْيَا، وَلِيبْيَا، في سنتي 2011 و 2012 ؟ ولماذا تَنْكُرُ الدول الغربية جَرَائِم الحرب التي تَرْتَكِيُها إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المُحْتَلَّة، منذ سنة 1948 إلى اليوم ؟ ولماذا تَستـعمل الدول الغربية «اِزْدَوَاجِيَة في المَعَايِير» كلّما تَعَلّقَ الأمر بِالـفَلَسِْطِينِيِّين، أو بِإِسْرَائِيل ؟
وَتَدَّعِي الوِلَايَات المُتَّحِدَة الأمريكية، ودُوّل أَوْرُوبَّا، أنها «تُدَافِعُ عن شعب أُوكْرَانْيَا الذي تَعَرَّضَ لِلْاِحْتِلَال مِن طَرَف رُوسْيَا». وهذا نِـفَاق أيضًا. لأن الدول الغربية لَا تَهْتَمُّ بِمَصِير شَعْب أُوكْرَانِيَا، مِثْلَمَا لَا تَهْتَمُّ بِمَصِير شُعُوب كَثِيرَة، وَإِنَّمَا تَسْتَـغِلُّ هذا الحَدَث لِشَنِّ حَرب بِالوَكَالَة ضِدّ رُوسْيَا. وَِهَدف الدول الغربية الخَـفِـيّ، لَيْسَ هُو حِمَايَة الشعب الأُوكْرَانِي، وَإِنَّمَا هُو اِسْتِغْلَال التـناقُض بين رُوسْيَا وَأُوكْرَانْيَا لِإِضْعَاف رُوسْيَا، وَلِلْإِطَاحَة بِـالرئيس الرُّوسِي افًلَادِيمِير بُوتِين. وَلَا يَهُمُّ الدول الغربية كَوْنَهَا تُضَحِّيَ بشعب أُوكرانيا في حربها غير المباشرة ضدّ رُوسيا. وفي نفس الوقت، تَرْفُضُ الدول الغربية الإِمْبِرْيَالِيَة اَلْاِعْتِرَافَ بِحُقُوق الشعب الفلسطيني الذي تَـعَرَّضَ لِلْاِحْتِلَال، ولِلْاستعمار، من طرف الكِيَّان الصَهْيُوني الإسرائيلي.
لِنَتَسَائَل إِذَنْ : مَنْ تَدَخُّل في العِرَاق، وَسُورْيَا، وَلِيبْيَا، بِاسم «مُكَافَحَة الإِرْهَاب»، وَبِاسْم «الدِفَاع عَنْ حُقُوق الإِنْسَان» ؟ وَمَن خَرَّب تَخْرِيبًا كاملًا، كُلًّا مِن العِرَاق في سنة 2003، وَسُورْيَا وَلِيبْيَا في سنة 2011، بِهَدَف الإِطَاحَة بِأَنْظِمَة سياسية وَطَنِيَة، وَمُقَاوِمَة لِلْإِمْبِرْيَالِيَة، وَبِهَدَف إِبْقَاء إِسْرَائِيل مُتَـفَوِّقَة في المِنْطَقَة ؟ وَمَنْ أَرْجَعَ هذه البلدان الناطقة بالعربية بِمِـقْدَار سَبْعِين سنة إلى الوَرَاء ؟ وَمَن يَـفْـعَل كلّ مَا بِإِمْكَانِه لِإِبْـقَاء الشُعوب الناطقة بالعربية في تَخَلُّف مُجْتَمَعِي شُمُولِي وَدَائِم ؟ وَمَن حَوَّلَ مُجْمَل البلدان العربية المُنْتِجَة لِلنَّـفْط، أو لِلمواد الخَامّ، إلى «مَحْمِيَّات» خَاضِعَة، أو إلى «شِبْه مُسْتَعْمَرَات» مُسْتَـغَلَّة، وَتَابِعَة لِلإِمْبِرْيَالِيَات الغَرْبِيَة ؟ أليست هي الولايات المُتّحدة الأمريكية، وَدُوَل أَوْرُوبَّا الغَربية، بما فيها فرنسا، واِنجلتـرا، وَأَلْمَانْيَا، الخ ؟
لَوْ أُسْتُـعْمِلَت مثلًا أَمْوَال النَـفْط العربي، بِمَنَاهِجَ وَطَنِيَة، وَعَـقْلَانِيَة، خِلَال السَبْعِينَ عامًا المَاضِيَة أو أكثر، لَأَمْكَنَ تحويل مُجْمَل البلدان المُسلمة، أو الناطقة بالعربية، إلى مُسْتَوَى تَـقَدُّم سَانْغَافُورَة، أو كُورْيَا الجَنُوبِيَة، أو الصِّين. لكن الدول الغربية الإمبريالية المُحْتَالَة، تَسْتَحْوِذُ على النَـفْط، وعلى أموال النـفط، وَتَسْتَثْمِرُ هذه الأموال داخل البلدان الغربية، وَلَا تَسْمَح بِاسْتِثْمَارِ سِوَى جُزْء ضَعِيـف، أو تَافِه، دَاخل البلدان الناطقة بالعربية.

9) مَصْلَحَة الشُعُوب تَكْمُنُ في تَعَدُّد وَتَنَافُس أَقْطَاب العَالَم
استـراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية (كَقُطْب وَاحِد مُهَيْمِن على العالم) هي إِضْـعَاف مُنَافِسِيهَا (مِثْل رُوسيا والصِّين)، وَتَشْجِيع الحركات الاِنْفِصَالِيَة فيهم، وَتَـقْسِيمُهم، لكي تَبْـقَى الولايات المتّحدة الأمريكية هي دائمًا الـقُطْب الوحيد القَوِيّ، وَالمُهَيْمِن على العالم.
وَبَعْد قُرَابَة ثلاثة قُرُون مِن مُمَارَسَة الاْسْتِعْمَار، والنَهْب، والـقَهْر، والاِسْتِغْلَال، مِن طَرَف الدُوَل الغَرْبِيَة الـقَوِيَة، على شعوب "العالم الثالث"، يُصْبِحُ وَاضِحًا أن مَصْلَحَة هذه الشُعُوب، تَسْتَوْجِبُ التَحَرُّر مِن سَيْطَرَة وَاسْتِغْلَال الدُوَل الغَرْبِيَة. فَلَا تُوجَدُ مَصْلَحَة شُعُوب "العالم الثالث" في نظام عالمي ذُو قُطْب وَاحِد مُهَيْمِن، يتجسّد في الولايات المتّحدة الأمريكية، وفي حِلْفِهَا العسكري "حِلْف شمال الأَطْلَنْطِي" (NATO). لأن وَحْدَانِيَة الـقُطْب الإِمْبِرْيَالِي تَدْفَـعُ هذا الـقُطْب الوَحِيد إلى الإِفْرَاط فِي اِسْتِـغْلَال، وَاضْطِهَاد، وَقَهْر شُعُوب العالم المُسْتَضْـعَـفَة. بَلْ تَـكْمُن مصلحة شعوب العالم الثالث في أن يكون النظام العالمي ذُو أَقْطَاب مُتَعَدِّدة، وَمُتَنَافِسَة فِيمَا بَيْنَهَا. ومن مصلحة شعوب العالم الثالث أن تكون رُوسيا والصِّين دَوْلَتَيْن قَوِيَّتَين، لكي تَسْتَطِيعان مُنَافَسَة، وَمُقَاوَمَة، الدول الغربية الإمبريالية.
وَتَـعَـدُّد أَقْطَاب العالم، وَتَنَافُسُهَا (وَلَيْسَ الـقُطْب الوَحِيد)، هو الذي يُنَمِّي ظُرُوفًا أَحْسَن لِلْمُنَاوَرَة، وَيُوَفِّر شُرُوطًا مُلَائِمَة لِنَهْضَة شُعُوب العَالَم، وَلِتَصَاعُد مُـقَاوَمَاتِهَا، وَحَتَّى لِتَنَامِي كِفَاحَاتِهَا المُتَنَوِّعَة ضِدَّ الأَقْطَاب الإِمْبِرْيَالِيَة، وَضِدَّ الأَنْظِمَة الرَأْسَمَالِيَة، بِهَدَفِ بِنَاء أَقْطَاب نَـقِيضَة وَبَدِيلَة لِهذه الْأَقْطَاب الإِمْبِرْيَالِيَة أو الرَأْسَمَالِيَة.
وَبِنَفْس المَنْطِق، نُذَكِّرُ هُنَا أنه، حِينَمَا يَـكُون المُجْتَمَع مُضْطَرًّا لِلعَيْش في نِظَام رَأْسَمَالِي، يَصْبِحُ مِن مَصْلَحَة مُجْمَل أَفْرَاد هذا المُجْتَمَع أن تَكُون أَقْطَاب الاقتصاد (أو الشَرِكَات) مُتَعَدِّدَة، وَمُتَنَافِسَة، بَدَلًا من أن يَكُون الاقتصاد خَاضِعًا إِلَى قُطْبٍ اقتصادي وَاحِد اِحْتِكَارِيّ. وَتَـفْضِيل هذا التَعَدُّد، وهذه المُنَافَسَة، لَا يَعْنِي أننا نُمَجِّدُ أَيَّ قُطْب اِقْتِصَادِيّ مَهْمَا كَان.
وحتى إذا أصبحت رُوسيا والصِّين رَأْسَمَالِيَّتَيْن، وحتى إذا كانت بعض سُلُوكِيَّات رُوسيا أو الصِّين تَتَّصِفُ بالإِمْبِرْيَالِيَة، فمن الأفضل لكل دولة في "العالم الثالث" أن يكون بِإِمْكَانها أن تختار بِحُرِّيَة بين عِدَّة أَقْطَاب عالمية مُتَنَافِسَة، لِكَيْ تَتَعَامَل هذه الشُعُوب في كلّ مرّة، مع القُطْب الذي هو الْأَقَلُّ ضَرَرًا لَهَا، أو الأَكْثَرُ نَـفْـعًا.
وهذا هو ما اِكْتَشَفَتْهُ حَدِيثًا بعض الدول الإفريقية. حيث وَجَدَت أن رُوسيا والصِّين، في مَجَال المُبَادَلَات الاقتصادية، مُسْتَـعِـدَّتَان لِمَنْح الدول الإفريقـية أكثر مِمَّا تَمْنَحُهَا الدول الغربية. وَ لَاحَظَت أن رُوسيا والصين هما أَقَلُّ تَحَايُلًا، وَأَقَلُّ غِشًّا، وَأَقَلُّ اسْتِـغْلَالًا، بالمُقارنة مع غِشّ واستغلال الدول الغربية الإمبريالية.
وبعض الدول العربية المُحافظة، مثل السعودية والإمارات، التي كانـت مِن قَبْل تُرَاهِنُ كُلِّيًا على الولايات المُتّحدة الأمريكية لِضَمَان أمنها، وَتَعَرَّضَت مَرَّات عَدِيدة لِلتَحَايُل، ولِلخِدَاع، وَلِلنَّهْب، المُمَارَس مِن طرف الولايات المتّحدة الأمريكية، والدول الغربية. ونُلاحظ اليوم (في شهر ماي 2022)، أن هذه الدول العربية المُحافظة، أَقْدَمَت على تحسين علاقاتها مع رُوسيا والصِّين. وذلك رغم ما تَتَعَرَّضُ له هذه الدول العربية المُحافظة مِن ضُغُوطات مِن طرف الولايات المتّحدة الأمريكية، لِـثَـنْـيِـهَـا عَن إِقَامَة عَلاقات عادية مع رُوسْيَا والصِّين.
وَخِتَامًا، أُسَطِّرُ الاِسْتِنْتَاجَات التالية:
- في العَصْر الحَدِيث، لَا يُمكن لِلْحَرْب أن تَبْـقَى مَحْصُورَة في مَيَادِين المَعَارِك العسكرية، وَإِنَّمَا تَمْتَدُ بِسُرْعَة إلى ميادين الاقتصاد، والمَالِيَة، والإِعْلَام، الخ.
- مُعْظَم الأَشْخَاص يُدْرِكُون أنه، إِنْ كانـت الحَرْب قَادِرَة على تَغْيِير الأَوْضَاع السياسية، فَإِنَهَا لَا تَـقْدِرُ على مُعَالَجَة المَشَاكِل السياسية. بَلْ تَأْتِي الحُرُوب بِقَتْلَى، وَجَرْحَى، وَخَرَاب هَائِل. وَتَخْلُقُ الحُرُوب مَوَازِين قِوَى جَدِيدَة، بِوَاسِطَة الـقُوَّة، والعُنْف، والاِكْرَاه، وليس بِالمَنْطِق، أو بِالعَقْل، أو بِالعُلُوم. وَلَا تَسْتَطِيع الحُرُوب إِقْنَاع الأَفْرَاد، أو الجَمَاعَات، أو الشُعُوب، بِأَفْكَار جَدِيدَة؛ وَلَا تَـقْدِرُ على مُسَاعَدَتِهِم على تَحْسِين أو تَصْوِيب أَفْكَارِهِم، أو مُعْتَـقَدَاتِهِم، أو سُلُوكِيَّاتِهم.
- إِنْ كانـت الحَرْب مَفْرُوضَة علينا، فإن مَصْلَحَة شُعُوب "العالم الثالث" تَكْمُنُ في اِنْتِصَار رُوسْيَا والصِّين على الإِمْبِرْيَالِيَات الغَرْبِيَة، وَتَكْمُنُ فِي اِنْهِزَام الاِمْبِرْيَالِيَة الأَمْرِيكِيَة وَحُلَفَائِهَا، وفي اِنْتِـقَال العَالَم مِن «قُطْب وَاحِد مُهَيْمِن على العالم»، إلى «أَقْطَاب سَائِدَة مُتَعَدِّدَة، وَمُتَنَافِسَة». وَتَبْـقَى هذه الأطروحة سديدة، سَوَاءً كانـت الأَقْطَاب الصَّاعِدَة (رُوسْيَا، والصِّين، الخ) دِيمُوقْرَاطِيَة أم اِسْتِبْدَادِيَة؛ وَسَوَاءً كانـت هذه الأَقْطَاب الصَّاعِدَة رَأْسَمَالِيَة أم اِشْتِرَاكِيَة.
- وَمَن يَرْفُضُ أُطْرُوحَة تَعَدُّد الأَقْطَاب السَّائِدَة في العالم، سَيُصْبِحُ مُدَافِعًا عن أطروحة مُنَاقِضَة، هي تَفْضِيل دَوَام هَيْمَنَة الـقُطْب الوَحِيد الحالية. مع كلّ مَا تـعنيه هذه الوضعية مِن تَنْكِيل بِشُعوب "العالم الثالث".
- وَتَـعَـدُّد الأقْطَاب الـقَـوِيَّـة في العاَلَم، وَتَنَافُسُهَا، لَا يُـعْـفِـي أَيَّ شَـعْـب مِن وَاجب الحِرْص على الاِعْتِـمَاد على النَـفْـس.
رحمان النوضة، (28 ماي 2022).