قراءة فنية في نصوص نقدية ( الأفياء نخلة والأريج عنبر) الأستاذ الدكتور صباح عباس عنوز


سعد محمد مهدي غلام
2022 / 7 / 24 - 21:44     

إنّ القراءة الفنية كما عبّر عنها النقاد هي قراءة معيار يربط الأسباب بالمسببات؛ لذلك تبحث عن تجليات منطقية في النص الشعري ,إذْ إنَّ مرتكزاتها معايير قراءة تصدر عن النص الشعري أو الفني؛ ولهذا السبب اخترتها نوعاً لقراءة الرؤية النقدية التي كتبها الناقد ( د.سعد غلام ) عن شعر ( شلال عنوز) وهو يتناول قصائد شعرية اختياراً.
إنَّ الناقدَ الفَطِن عندما يتأمّل نصّاً معيّناً ثمَّ يحلله لا يستقلّ عنده النص الأدبي بنفسه , وإنما تحفُّ به قرائنٌ محيطةٌ تؤثّرُ في البنية التكوينية له, حتّى يستوي عوده شكلاً ومضموناً ,وعلى وفق ذلك فإنَّ القراءة الفنيّة تعوّل على إتجاهات تكوينيّةٍ معينة تتغلغل سدى النص المدروس؛ لأنَّ الأخيرَ لا ينبع من فراغ ،فضلا عن ذلك فإن للنص بيئته , وتُؤخذ قيمته ممّا يأتي به المضمون مؤثراً في المتلقي , فربّما يُؤَوّلُ النص كما فعل الرمزيون وأصحاب نظرية الفن للفن, ومَنْ سارَ على مدرسة التأويلِ, وربّما تظهرُ دلالاتُه واضحةً فلا يكدُّ الذهن في استخراج المسكوت عنه, وحينئذ لا يحتاج إلى تأويل ، ولمّا كانَتْ عملية انتاج العمل الابداعي تعتمد على عناصر يوظفها الأديب بما يتماشى مع انفعاله, فإنَّ عملَ الناقدِ يأتي ليستنطق سبب وجود تلك العناصر في ذلك النصّ ,أمّا العناصر فهي: العاطفة ، الخيال ، الفكر ، اللغة ، لهذا السبب اتجه النقاد الى مناقشة ثنائية اللفظ والمعنى ، أو الشكل والمحتوى ، لأنهما يوضحان المستوى الفني للنص المدروس ؛ إذْ إنَّ حضورَ هذه العناصر في أيِّ نص تعتمدُ على سبب استعمال المتكلِّمِ لها, بما يرو مه , بناءً على موهبته التي تُفْصِحُ في الوقت نفسه عن قدراته الإبداعية. ,فلكلِّ مُبْدعٍ شخصيةٌ ترسم له سبلَ الإبداعِ الخاصَّةِ به, ولأجل الوقوف على الذات المبدعة يجب أن يتعرف الناقدُعلى أمورٍ تُعَدُّ نشاطاً كونياً له في معرفة النص منها:
الإجابة عمَّا يثار من أسئلة حول المفاهيم والمعاني المُراد التعبير عنها ذوقيَّاً ,بمعنى يعتمد على ما يجود به النص من قضايا ثقافية تحفّز ذهن المتلقي إلى المعرفةِ. وفي هذه الحال يأتي دورُ الناقدِ بوصفه باحثاً عن معنى النصِّ وخباياه, إذْ تتجلّى ثقافتاه الأفقية والعمودية , فضلاً عن قُدراتِه المعرفيّةِ في تحليل ذلك النص, بحسب الأنساق الثقافية التي يشكلها النص شكْلاً ومضْموناً.
وتأسيساً على ذلك يجبُ أنْ تُراعى في العملية النقدية وظيفة الناقد ,إذ إن وظيفته الأولى والرئيسة أن يكون أمينا على تبيان طبيعة النص ومميزاته بعد أن يخضعه للملاحظات الجادة التي تتناسب مع مضمون النص, لأن النصَّ يصيرُ فضاء الناقد ,وعلى الأخير يجب الإحاطة بخباياه الفكرية و الفنية ,ومن ثم الوقوف على الصواغة الأسلوبية ، وفهم غاية النص.
فالناقد الحاذقُ يُسهم في إيصال قصدية النص حين يُحدد عمله النقدي, ويراعي أطراف العملية النقدية الثلاثة وهي: ( الأثر الأدبي, المنشيء أونفسية المتكلّم ,المتلقي) .أي يكون نقده عاملاً مساعداً في ايضاح البعد التواصلي ؛ وبذلك يستطيع الناقد أن يركز على أساليب المبدع التي صنعت المعنى , فيقف عند التركيب السياقي بشقيه :الظاهري, والتوليدي وأوصافهما.
وبناءً على الرؤية والقراءة الفنية لطبيعة النقد الذي توصل إليه الناقد(د.سعد غلام ) عند تحليله لنصوص الشاعر (شلال عنوز) يدرك القاريء قدرته التحليلية التي راعت الوظيفة الافهامية , فقد توضّح ذلك بمعرفته لمرتكزات النقد الفنية. إذْ استطاع الناقد أن يعيش تجربة الشاعر النفسية ويحيا معها , فحرص على أن يكون قريباً من شعر الشاعر وتجربته ؛ ثمَّ انه امتلك الأداوت النقدية التي أهّلَتْهُ , للخوض في جوهر التجربة الشعرية وكما مثبت في أدناه :
1 . حاول الناقد أي يتبع آليات النقد التي مكّنَتْهُ منَ الغوص إلى أعماق النص فتلمس مظاهر الجدة والابتكار فيه, فهو لم يرَ النصوصَ المدروسةَ عقيمةً او ركيكةً, وإنّما اكتنزتْ بمظاهر التجديد, فرصد وتتبع أفكار النصوص برؤية فنية متناسقة نابعة من شخصيته المعرفية في تفكيك النص, وأكثر ما شاهدتُه في تحليلاته اعتماده على المنهج التفكيكي أو نظرية التفكيكية التي شاعت في القرن الثامن والتاسع عشر الميلادي بزعامة ( هايدجر ) ,فاعتنتْ بتفكيك النص وهدمه وإعادة بنائه من جديد , وقد استطاع الناقد أن يقترب من تحقيق ذلك بحسب تطبياقاته الإجرائية ,فضلا عن ذلك فإنَّ الناقد استعان أيضاً ببعضٍ من المناهج النقدية ولكن الغلبة كانت للمنهج التفكيكي.
أفاد الناقد من تجربة الشاعر (شلال عنوز), محاولاً التعبير عن عالمه الخاص , فكانت (النخلة) التي هي علامة سيميائية في تجربة الشاعر هي نفسها (النخلة) في شعور الناقد , وبمثابة الرمز الحي الذي لاقى حضورا واستجابة وجدانية عندهما, وكأنه يعيش الموقف النفسي نفسه الذي عاشه الشاعر, فرافقته حيثيات الشعور بما تمثله (النخلة) في مخيلة الشاعر, وهنا كان الناقد حريصاً بأن يوضّح في نقده أن النخلةَ شريكة ُ لهما في تجربتهيما الشعرية والنقدية .
تلمسنا إضافته البارعة الى تقنية الوصف الفنية المتمثلة في وصفه للنخلة أولا , والأمكنة الأخرى التي وردت في النصوص ,سواء أكانت أمكنة حيّة متحركة أم صامتة , فصارت عناصر المكان ومكوناته خير معين له في فهم شخصية الشاعر النفسية والاجتماعية , ويبدو لي وربما عاش الناقد تلك الأجواء الطبيعية التي عاشها الشاعر , إذ أصبحت الأمكنة حاملة لقيم شعورية مؤثرة في نفسية الشاعر والناقد المتلقي في وقت واحد , فحقًّقَتْ وظيفتها الجمالية والتفسيرية بصور فنيّة كانت دالّةً على المعاني المرادة .
أوضح الناقد قدرته على إيضاح الوظيفة التخيلية والإيهامية داخل النصوص من خلال ادخال المتلقي في عالم روائي تخيّلي, وهذه التقنية قلّما نجدها عند النقاد المحدثين , ففد جعلته تلك التقنية متابعاً لسلوك وحركة الشاعر في مدة زمنية واحدة , وكأن التعبير الذي أفاض به الشاعر لقِي استجابةً وجدانيّةً عند الناقد أوّلاً, فاطمأنّت له نفسه برغبةٍ وجدانيّةٍ , إذْ عاشَ اللذّةَ والاكتشافَ معاً في تفاصيل الوصف الشعري وفضاءاته بحميميّةٍ وموضوعيّةٍ معا, وبلا اقصاء للحياديةِ, فهو لمْ ينتصِرْ للشاعرِ شخصيّاً, بلْ ساقَ رؤيتَه تجاوباً لفنيّة النصوص , فضلا عن أنه جعل من المتلقي يعيش في فضاءات النص لحظة بلحظة حين كتب نقده ,وقرّبَ أيضاَ توافقَ الشاعرِ مع المتلقي, على الرغم من أنَّ الشاعر يتجرّع آلامَه وأحزانه ويبثّها في نصوصه مرّةً, ويُعْلنُ أمانيه المليئة بالحنين والصبر والتوق تارةً .
كشف التطبيق الاجرائي للناقد بوساطةِ توغّلِ رصْدِهِ للنصوص عن مناجاة الشاعر الطويلة, كأنه يريد أن يشعرنا بأن الشاعرَ يعيشُ غربةً طويلةً عن وطنه , فهو يستذكر النخلة بوصفها رمزاً من رموز الوطن. وهذا رأي الناقد, فربّما مثّلت الغربة أشياء أخرى للشاعر. ولكنَّ الناقدَ أظهرَ قدرتَه التحليلية في إيضاح المزاوجة التي صنعها الشاعر بين المؤثرين الخارجي المتمثل بالنخلة والداخلي المتمثل بحالته الشعورية التي يمتد فيها ألمه النفسي من دون انقطاع .
رأيت الناقد يحاولُ جاهداً أن يستعمل العبارات النقدية والعاطفية معاً في تحليله للنصوص , وكأنه هو الذي كتب النص , وهذا يدل على عمق تأثر الناقد بنصوص الشاعر- كما ذكرنا سابقاً- , فهو يربط الأسباب بالمسببات , ثمَّ يتنقل من الفلسفة إلى التعليل ليساند تحليله , إذ استعان بآراء الفلاسفة والنقاد معاً , ووظفها في عرضه النقدي, لذلك اتبع منهجاً إجرائياً في نقده تمثل بتعضيد رؤاه بأقوال الآخرين ونقودهم, فأخذ منهم ما يراه متمّماً لرصده النقدي بما يُسْهمُ في تقوية رؤيته .
لهذا كانت الصيرورة النقدية عنده تقومُ على التنظير للظاهرة الشعرية, فيستعين بقصائد الشاعر توكيداً لرؤيته النقدية, فيحلّلها نقديّاً, ومن ثمَّ يعضّدُ تحليله ويقوّيه بأراء الآخرين فلاسفة أو نقاداً ,وهو لم يخالف أصحاب النقد التطبيقي الاجرائي طريقةً.
وختاماً وجدتُ الناقد قد تأثر بشعر الشاعر تواصلاً روحياً , فلم يكن ناقداً فحسب , بل تحققت استجابة وجدانية هيأته إلى كتابة هذه الرؤية النقدية بصدق فني وعفوية أدبية .
والحمد لله رب العالمين.
السبت 23/7/2022م