الانسان واغترابه


مالك ابوعليا
2022 / 7 / 21 - 01:40     

الكاتب: الماركسي السوفييتي تيودور اويزرمان

ترجمة مالك أبوعليا

تبرز مسألة الاغتراب من بين المسائل التي عالجها الفلاسفة في الـ25 سنة الماضية باعتبارها قد اجتذبت اهتماماً كبيراً. من المعروف أن هذه المسألة ليست جديدة: يُمكن العثور عليها في أعمال مُفكري عصر التنوير في القرن الثامن عشر والرومانسيين الألمان. إنها مسألة مركزية في الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، خاصةً في كتابات فيخته وهيغل وفويرباخ. طوّرَ ماركس وانجلز في أعمالهما المُبكرة 1844-1854 مُقاربةً ماديةً جديدةً للمسألة فيما يتعلق بأصل المُلكية الخاصة والتناقضات المتأصلة في النقود واقتصاد الأعمال.
على الرغم من حقيقة أن مسألة الاغتراب قد احتلت مكاناً بارزاً في تعاليم القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، الا أنه لم يكن لمفهوم الاغتراب أي مكانة هامة في الأدب الفلسفي منذ ثلاثين عاماً. وهكذا، على سبيل المثال، لا نجد مُصطلح الاغتراب Alienation في كتاب رادولف ايسلر Rudolf Eisler (مُعجم المُصطلحات والتعابير الفلسفية) Wdrterbuch der philosophischen Begriffe 1927-1930. الأكثر اثارةً للدهشة أن هذا المُصطَلَح لم يُعطَ أي تفسير فلسفي في كتاب الفيلسوف الفرنسي بيير اندريه لالانده Pierre André Lalande (المصطلحات التكنيكية ونقد الفلسفة) Vocabulaire technique et critique de la philosophie 1956. قد يكمن تفسير هذا في حقيقة أن مفهوم الاغتراب لم ينتمي الى تلك المقولات الفلسفية التقليدية التي انشغل بها جامعو القواميس الفلسفية. يُمكن تفسير هذا أيضاً، من ناحيةٍ أُخرى، بحقيقة أن الاغتراب ليس مُصطلحاً مُستخدماً بشكلٍ شامل. لا وجود له في الوضعية الجديدة أو الواقعية الجديدة. لكن من الواضح أن مسألة الاغتراب تحتل مكانة هامة في تعاليم الوجودية والفلسفة التوماية الجديدة واللاهوت البروتستانتي الحديث وفي أعمال عدد من نُقّاد الماركسية.
ما الذي أشعَل هذا الاهتمام الواسع، ان لم يكن العالمي، بالمسألة؟ يُمكننا بالطبع تمييز عملية بعض الأسباب النظرية المُرتبطة إرتباطاً وثيقاً بالتأثير الكبير الذي تتمتع به التعاليم المذكورة أعلاه في العالم الغربي. ولكن يكمن جوهر الأمر، برأينا، في حقيقة أن التقدم الهائل في العلوم والتكنولوجيا والصناعة خلال الخمسين عاماً الماضية قد أدى الى نتائج سلبية الى حدٍ ما والى عواقب غير مُتوقّعة كما أشار الكثيرون. ونتيجةً لذلك، بدأ بعض المُفكرين يطرحون السؤال عما ان كان مثل هذا التقدم في العلوم والصناعة سيقود البشرية الى كارثة. لم يقصر فلاسفة آخرون أنفسهم على طرح المسألة، لكنهم حاولوا إثبات أن التقدم العلمي التكنيكي يُهدد وجود البشرية ذاتها.
لقد تأكّدَ هذا الطَرح، بمعنى ما، من خلال اختراع الأسلحة النووية وتملكها. بدأ بعض الفلاسفة يلتفتون الى قوتها المُدمرة الشريرة التي تُعرّض حياة الناس على كوكبنا الى الخطر بالفعل، على أنها نتيجة حتمية لتطور العقل البشري، ونتيجة قاتلة للتقدم العلمي التكنيكي ودليل مُباشر على وجود جانب مأساوي من حياة الانسان لا يُمكن اصلاحه. ان مفهوم الاغتراب الذي وضعه هيغل في "فلسفة التاريخ" يحتوي بالفعل على تخمينات مُعينة تتعلق بالعواقب الموضوعية لحقيقة أن نشاط الانسان الهادف والمُفيد يُصبح مفصولاً عن ارادته ووعيه فيما يتعلق بالطابع المُتناقض والنسبي للتقدّم وغَلَبة العلاقات الاجتماعية على الفرد. ان تناقضية التقدم الاجتماعي مثل الأزمات الاقتصادية والحروب وخطر الأسلحة النووية، التي نشهدها في أيامنا هذه، هي أكثر وضوحاً وأوسع نطاقاً. من الواضح أن كل هذه العوامل قد زادت الاهتمام بمسألة الاغتراب، والتي أصبحت الآن مسألة التناقضات بين التقدم الاجتماعي والمُحتوى الفعلي للسلوك الانساني.
يعتبرها عدد كبير من الفلاسفة الغربيين الذين درسوا المسألة بأنها مُتأصلة في الطبيعة البشرية، ومُستقلة عن أي ظروف تاريخية. من وجهة النظر هذه، كل تشيؤ وكل تجسّد للنشاط البشري سواءاً كان مادياً أو روحياً، هو اغتراب عن الطبيعة الانسانية، هو خسارة وحرمان وانكار للذات، واستعباد للانسان من قِبَل الأشياء التي يصنعها. وهكذا، على سبيل المثال، لا يُنظَر الى اغتراب العمل على أنه نتيجة لبعض أشكال الانتاج الاجتماعي العابرة تاريخياً، ولكن كنتيجة للعمل ذاته، بغض النظر عن ظروفه التاريخية. وبالتالي يُصبح مفهوم الاغتراب مركزياً في سوسيولوجيا علاقة الذات والموضوع: طالما أن الانسان نفسه يخلق ظروف حياته الاجتماعية، فهو بنفسه يصنع الأغلال التي تُكبّله. لقد كانت الأغلال قائمة وستظل كذلك دائماً. هذا هو المغزى الذي يُعزى الى الحقيقة Fact السوسيولوجية المُتمثلة باغتراب القوى الأساسية للتطور الاجتماعي عن الانسان. هذه المُقاربة تختزل الاجتماعي الى الفردي، وتُحاول الكشف عن مصادر الاختلالات الاجتماعية في الوجود الانساني الفردي. وحتى إن لم يتم التوصل الى استنتاجات سياسية هُنا، من الواضح تماماً أنه يُنظر الى مُستقبل الانسانية القادم بشكلٍ مُتشائمٍ تماماً: لا يوجد أي شيء، ولا أي تغيّر اجتماعي، يُمكنه التغلّب على الاغتراب والاغتراب الذاتي ومشاكل الحياة الانسانية المأساوية الناتجة عنه.
هذا التفسير السلبي Negative للتشيؤ، أي كل تجسّدات النشاط البشري، يقود بعض الفلاسفة الاجتماعيين
الى تفسير وجود الانسان في ضوء متشائم. ان وجود الانسان الذي يُنظَرُ اليه أساساً على أنه وجود فردي، يتحدّد بالحياة المُغتربة التي تنتهي بالموت. ومع ذلك، الموت ليس حلاً لمأساة الفرد، لأنه، أي الموت، يُنهي وجود الفرد بالذات. من وجهة النظر هذه، الوعي الذاتي للفرد هو وعي الاغتراب، تصوّر الواقع هو قلق من الاغتراب، والموت هو النتيجة الحتمية للاغتراب. ان التواصل مع الآخرين، مهما بلغت شدته، لا يتغلّب على الاغتراب. على العكس من ذلك، هذا التواصل هو أحد أشكاله. حتى حقيقة ادراك اختلافي عن الأشياء المُحيطة بي، أي أنني أُدرك حقيقة أنني لست شجرة أو سحابة أو بغل، يتم تفسيرها على أنها نتيجة الاغتراب عن الذات، كأنها حياة في الاغتراب. بالاضافة الى ذلك، عادةً ما يتم تفسير الاختلاف بين الذات والموضوع على أنه دليل على أوّلية وجوهرية الاغتراب.
من المعروف جيداً أن مفهوم الاغتراب كان ذو أهمية تشمل كُل شيء كما طرحته فلسفة هيغل. لقد لَعِبَ في فلسفته نفس الدور الذي لعبه مفهوم الفيض Emanation في فلسفات الأفلاطونيين الجُدد. تمت بمساعدة هذا المفهوم، في ابستمولوجيا هيغل، بسد الهوّة بين الكيانات المُختلفة مثل التفكير والوجود، العارف والمعرفة، المعرفة وموضوعها. أما في فلسفته التاريخية، فقد كان بمثابة أساس لقوله بأن تاريخ البشرية يُمثّل عملية مُوحّدة لتحقيق الحُريّة، وأن هذه العملية تُشكّل، بمعنىً ما، المُحتوى الأساسية للبشرية. حاولَ هيغل، في فلسفته حول الدين، عن طريق مفهوم الاغتراب، التغلّب على التناقض اللامُتناهي بين الانسان والاله. تبعاً له، كل تطوّر ينطوي على نشوء، من ثم نفي، ثم مزيد من الاغتراب على شكل نفي النفي.
وضعَ فويرباخ نهايةً للطابع المُطلَق لمفهوم هيغل حول الاغتراب وأثبَتَ أن هذا المفهوم يُصبح ذا معنىً عندما يتعلق بالنشاط الانساني فقط. كان أوّلَ من أكّدَ أن الاغتراب هو واقع يُميّز البشر وحدهم. كان هذا انجازاً فلسفياً رائعاً. ولكن، نحن نعتقد أن مُمثلي فلسفة الانسان المُعاصرين فقدوا الاتصال مع ما هو صحيح في تأكيدات فويرباخ الرائعة. على الرغم من حقيقة أنهم يتّبعون فويرباخ في التأكيد على الطابع البشري للاغتراب، هُناك مَيل بينهم (بين الوجوديين، على سبيل المثال) لاستخلاص كُل واقع وكُل "وُجود" من "الواقع الانساني". يتحوّل العالم كُله من حولنا، في هذه المُقاربة، الى تشيؤ (اغتراب) للعواطف والمشاعر الانسانية خاصةً تلك التي تتعلق بالخوف والقلق واليأس وغيرها من الاحساسات السلبية. كنتيجة لمثل هذا النوع من أنسنة كل الوُجود anthropomorphizing of all existence (أي اضفاء الصفات الانسانية عليه)، تُصبح مقولة الاغتراب أساس لنظام فلسفي ذاتي بوضوح في اتجاهاته الرئيسية. بعبارة أُخرى، نحن هنا في مواجهة شيء مثل التفسير الانثروبولوجي لنظام هيغل ولمذهبه عن الاغتراب. مثل هذا المفهوم هو عكس ما تحدّث به فويرباخ لأنه ينطلق من المثالية الانثروبولوجية وليس المادية الانثروبولوجية مثلما كان عليه فويرباخ.
يؤكّد بعض نُقّاد الماركسية أن المُقاربة الماركسية للاغتراب خاطئة لأنها تتعامل مع الاغتراب كظاهرة تاريخية عابرة، يُمكن أن يتم تجاوزها بالتحويل الشيوعي الكامل للعلاقات الاجتماعية. بالاضافة الى ذلك، في هذه الحالة، وفقاً لأعداء الماركسية، يجب أن يُنظَر الى مُستقبل البشرية على أنه خالٍ تماماً من أي تناقضات أو أي توتر حيوي. من الواضح أن النقد من هذا النوع لا أساس له، ولا يُمكن الدفاع عنه، لأنه أولاً، يفترض
أن الاغتراب بطبيعته يجب أن يستمر وهو بطريقة أو بأُخرى لا يُمكن التغلّب عليه أبداً. ولكن يظهر الاغتراب، في المُقاربة الماركسية على أنه حقيقة اقتصادية واجتماعية، ويرتبط نشأته وتطوره بظروف موضوعية. يُعالج أنصار الفلسفة الأنثروبولوجية الضيقة الاغتراب كوظيفة للنشاط الحيوي للفرد. الاغتراب من وجهة النظر الماركسية هو في الأساس علاقة اجتماعية. انها اذاً مسألة علاقات اجتماعية مُغتربة، يصير القضاء عليها مُمكناً وضرورياً من خلال تطوّر قوى المُجتمع الشيوعي المُنتجة.
يترتب على ذلك بطبيعة الحال، أن التغلّب على الاغتراب، الذي يُفسّر على هذا النحو، لا يعني بأي حال التخلص من التناقضات والصعوبات والتوترات في التطور الاجتماعي. لا تتخلص الشيوعية الا من التناقضات التناحرية المُرتبطة بالمُلكية الخاصة وبوجود طبقات مُعادية، والتي تتملك أحداها عمل الطبقات الأُخرى. ولكن ما دامت الانسانية موجودة، في ظل الشيوعية، فستوجد تناقضات بين الجديد والقديم، بين الذاتي والموضوعي، الخ. ومع ذلك، لا يُمكن تسمية هذه التناقضات بالاضافة الى الصعوبات التي تواجهها البشرية في تطورها اللاحق، بأنها اغتراب. هذا الأخير له معنىً مُحدد، سيضيح حتماً ان تمت مُحاولة جعله مُطلقاً وشاملاً وسحبه ليشمل مجموعة واسعة جداً من الوضعيات.
على سبيل المثال، عندما يبني انساناً بيتاً لنفسه، فإن نشاطه يتجسّد ويتحوّل الى شيء موجود مُستقل عنه. لكن هذا الفعل بحد ذاته، عند تجريده من الظروف الاجتماعية المعنية، ليس اغتراباً أو عملاً مُغترباً. العمل هو التمظهر الطبيعي لنشاط الانسان الحيوي. كان العمل هو أهم عامل في أنسنة الانسان وتطوره اللاحق. ويصل الانسان الى نُقطة يغترب فيها ليس لأنه يقوم بعمل، ولكن لأن هذا العمل المعني هو نوع من العمل الشاق الذي يستهلك الجزء الأكبر من حياته ويمنعه من تطوير الجوانب المُتنوعة من طبيعته.
العمل المُغترب هو ضرورة مفروضة، انه وسيلة للعيش وليس الحياة نفسها. تبدأ الحياة، بالنسبة للانسان المُغترب في عمله، حينما ينتهي العمل. هذا الموقف الذي يتخذه الانسان من عمله كشيء غريب، خارجي، قسري، مشروط بعوامل عابرة تاريخياً: المستوى المُنخفض لتطور القُوى المُنتجة في مُجتمع المُلكية الخاصة لوسائل الانتاج، واللامساواة الاجتماعية والاستغلال.
عندما تُغنّي المُغنية فهي بعيدة كل البُعد عن اغتراب جوهرها. على العكس من ذلك، فهي تفعل ذلك بسعادة. بالطبع، المسألة لا تتعلق بمُجرّد الغناء أو أي نشاط فني آخر من هذا القبيل. يُمكن لكل عمل، نتيجةً للتقدم العلمي التكنيكي والاصلاحات الاجتماعية الضرورية، أن يكون نشاطاً إبداعياً، ويُصبح مصدراً للسرور وليس الاغتراب.
لا يشمل مفهوم الاغتراب موقف الانسان تجاه نشاطه وحسب، بل يشمل أيضاً موقفه تجاه الشيء الذي يُمثّل نتاجاً لنشاطه. كان الاغتراب، خلال مُجمل تاريخ الانسانية، أكثر وضوحاً في شكل اغتراب الطبيعة من جهة، وهيمنة نتاج عمله عليه، من جِهةٍ أُخرى. يقوم الانسان، من وجهة نظر نُقّاد الحضارة الرومانسيين ونُقّاد التصنيع والمدنية، أثناء تغييره الطبيعة وتحويلها، بتشويهها وتخريبها وحرمانها من جمالها البدائي. الآن ليس هناك من يُنكر حقيقة أن الانتاج الصناعي (في الأشكال التي اتخذها على مر القرون) قد أحدث تغيرات مرغوب فيها وغير مرغوب فيها في الطبيعة. لكن لا يوجد سبب للاعتقاد بأن هذه الأنماط الاقتصادية تُمثّل قانوناً مُطلقاً للانتاج. ان العمل المُغترب، وليس العمل بما هو كذلك، هو الذي يُشوه الطبيعة ويُدمرها. العمل الحُرّ يُثري الطبيعة. الانسان قادر على تغيير الطبيعة على طريقة الفنان، لكن الشرط المطلوب هو التخلص من الاغتراب.
ان حقيقة سيطرة نتاجات العمل على الانسان ليست بأي حال من الأحوال نتيجةً حتميةً لحقيقة أن الانسان هو من يُنتجها. يغرق عدد كبير من الفلاسفة والسوسيولوجيين والكُتّاب في اكتشافات مفادها أن الجنس البشري قد صنع وحوشاً أخضعته بدلاً من أن تخدمه. يتم عادةً طرح أمثلة مثل التصنيع والأتمته، وخاصةً الأسلحة النووية الحرارية لدعم هذا الرأي. يذهب البعض الى أبعد من ذلك، ويدّعي أن البشر، من خلال انتاجهم لأشياء جديدة، يُنتجون أيضاً احتياجاتٍ جديدة لم تكن موجودةً في السابق. يُصبح الانسان هكذا، أكثر اعتماديةً
على نتاجات عمله. تُعتبر الأشياء التي صنعها الانسان على أنها تُمثّل عالماً هائلاً من جوهر الانسان المُنسلب، والذي يُخضع الانسان والذي يُرجّح أنه سيقوده الى نهايته المأساوية.
لا يُمكن لأحد أن يُنكر حقيقة أن التقدم العلمي التكنيكي أدى الى ظهور قوى مُدمّرة مثل الأسلحة النووية الحرارية. من الواضح بنفس القدر أن الاحتياجات التي يُولّدها الانتاج الصناعي والثقافة يُمكن أن تضطهد الانسان، خاصةً ان لم تجد هذه الاحتياجات إشباعاً معقولاً. ومع ذلك، لا يوجد أي مُبرر للادعاء بأن سطوة هذه الأشياء على البشر هي نتيجة طبيعية للعمل وأنها عند تجسّدها، أي تشيؤها تكتسب استقلالاً نسبياً في شكل مواضيع. لن تتمكن الأشياء من السيطرة على البشر في مُجتمع تتوفر فيه كثرة من المواضيع المادية للجميع ويتم توزيعها بطريقة اشتراكية. لن تتكون الثروة الاجتماعية في المُجتمع المُستقبلي من أشياء ومواضيع، بل هي ستُمثّل تطور القُدرات الانسانية، وقُدرات جميع أفراد المُجتمع. تُقاس الرفاهية الاجتماعية من حيث المُمتلكات المادية فقط في مُجتمع تكون فيه هذه المُمتلكات نادرة. ان تطور القُوى المُنتجة وكذلك التحويل الاشتراكي للعلاقات الاجتماعية سيضعان الى الأبد حداً لسيطرة المُنتَج على المُنتِج مهما كان شكل تلك السيطرة. ولكن هذا لا يُقدّم أي أساس لإعطاء أي صورة شاعرية عن سيطرة الانسان على الطبيعة في المُجتمع المُستقبلي. غنيٌّ عن البيان أنه عند وضع موارد الطاقة النووية تحت تصرّف الانسان، فإن عليه أن يتصرف تبعاً لذلك ويكون مُدركاً تماماً للقوة الهائلة التي يمتلكها. هنا مرةً أُخرى، لا يُمكن فهم الحُريّة بشكلٍ صحيح الا على أنها ضرورة مُدرَكة ومُتملّكَة عملياً.
تبحث الماركسية عن مصدر الاغتراب في العمل المُغترب، وهو الأرضية المُشتركة لجميع أشكال الاغتراب الاجتماعية والسياسية والايديولوجية الأُخرى. يرتبط العمل المُغترب، بأيٍ مُستوىً في تطوره، بالمُلكية الخاصة لوسائل الانتاج. من خلال هذه المُقاربة، تُعارض الماركسية كُلٍ من هيغل وفويرباخ، وكل هؤلاء الفلاسفة الذي يعتبرون الطبيعة البشرية على هذا النحو، اغتراباً. إن حقيقة أن كل فرد انساني له مصير خاص به وأنه فانٍ ويخاف الموت وما شابه، هذا لا علاقة له، من وجهة نظرنا، بمسألة الاغتراب. هل هذا يعني أننا لا نولي أي أهمية للخصائص الفردية للانسان على الاطلاق، وأننا نُقلل من أهمية الفروق الفردية، وأننا "نحل الفرد في المُجتمع"؟ بالتأكيد لا. سيكون من السذاجة للغاية التقليل من أهمية الاختلافات في الجنس والعُمر وأن يُغمض المرء أعينه عن الحقيقة المُتمثلة في أن هذه الاختلافات مُرتبطة بالعديد من المسائل المُحددة. ولكن، من المُهم أن نُلاحظ أن هذه المسائل ليس فردية وحسب، بل اجتماعية في مُحتواها أيضاً، على سبيل المثال، وضع المرأة في المُجتمع، والتعليم ما قبل المدرسي، وكبار السن، وما شابه. الفرد البشري هو دائماً إما رجل أو إمرأة، كهل أو صغير السن، الخ. ان كانت المرأة أُم، فهذا شأن اجتماعي سواءاً بالنسبة لها أم للمُجتمع. الزواج، الأًسرة وجميع المؤسسات الاجتماعية الأخرى، لا تنفصل على خصائص الطبيعة البشرية. يأخذ علم التربية والسياسة تقسيم المُجتمع في الاعتبار من حيث المجموعات. لا يُمكن تصوّر الطب والصحة العامة دون مُراعاة تمايز خصائص الأفراد. ولكن، يجب التأكيد على أن اختلافات الخصائص الفردية تلعب دوراً ثانوياً وغير مُهم عملياً طالما أن اللامساواة الاجتماعية قائمة. ستُصبح الخصائص والاختلافات الفردية أكثر أهميةً وسيتم تحفيز تطويرها في مُجتمع المُستقبل الذي سيخلق الظروف اللازمة لتطوير كافة جوانب الشخصية الانسانية. خُلاصة القول، نحن لا نرفض الاعتراف بأهمية الخصائص الفردية للانسان، ولكننا نعتقد أن مثل هذه الأمور لا تنفصل عن العوامل الاجتماعية. ان الفرد كوحدة مُستقلة جسدياً، وشخصية كظاهرة اجتماعية هما أمران مُترابطان بشكلٍ لا ينفصم. كما أن هذا لا يعني أن الحياة البشرية مُتحددة ومشروطة بعاملين مُختلفين نوعياً، أي العامل الفردي والعامل الاجتماعي. الاختلافات البيولوجية والسيكولوجية بين الأفراد ليست نتاجاً للتطور الاجتماعي، ولكن شكلها التاريخي الملموس وتطورها يتحدد، من خلال تطور الانتاج الاجتماعي في التحليل الأخير. وهكذا، على سبيل المثال، ورثت البشرية الاختلافات في الجنس عن أسلافها من الحيوانات، لكن طابع وشكل المشاعر والعلاقات الجنسية الخاص هما نتيجة التطور الاجتماعي. يُستَنتَج مما قيل أن وحدة العوامل الفردية والاجتماعية هي في تفاعل مُعقّد وفي بُنية مُحددة مع العوامل الاجتماعية كأساس عام. وهذا ما يُفسّر سبب كون الاغتراب، وهو ظاهرة اجتماعية، وله جذور اقتصادية عميقة، يبدو ظاهرياً وكأنه ظاهرة فردية أساساً. ان الخوف من الموت، الذي تعتبره الأنثروبولوجيا الفلسفية شيئاً ليس اجتماعياً، بل بيولوجياً بحتاً، له في الواقع خلفية اجتماعية عميقة، على الرغم من أنه، بالطبع، لن يكون هناك خوف من الموت لو لم يكن الانسان فانياً.
وهكذا، فإن اغتراب النشاط الانساني ونتاجاته، والهيمنة التي تُمارسهها نتاجاته المادية الخاصة بنشاطه، واستعبادهم من قِبَل نتاجات نشاطهم الواعي، واغتراب الطبيعة والانسان عن الانسان، هي ظواهر اجتماعية عابرة تاريخياً ويُمكن التغلّب عليها. هذا هو الاستنتاج الذي ينبثق من تحليل علمي لتناقضات التطور الاجتماعي، خاصةً كما نرى في فترتنا المُعاصرة.

* الماركسي السوفييتي تيودور اليتش اويزرمان 1914-2017 تخصّصَ في التاريخ والفلسفة في موسكو، ثم دافع عن اطروحته (المذهب الماركسي اللينيني في تحول الضرورة الى حرية) عام 1941 ودرّس في جامعة موسكو الحكومية منذ عام 1940 وعمل في القسم الاستشاري لمجلة (البلاشفة). خدم في الحرب الوطنية العظمى منذ عام 1941 وعمل كمسؤول سياسي في الجيش في فرقة الدفاع الجوي، وانتسب الى الحزب الشيوعي السوفييتي عام 1943. عاد الى التدريس بعد الحرب في معهد موسكو للاقتصاد في بادئ الأمر ومن ثم صار مساعد بروفسور ونائب رئيس قسم الفلسفة الأجنبية في معهد الفلسفة في جامعة موسكو الحكومية منذ عام 1947 وترأسه عام 1949. دافع عام 1951 عن اطروحة الدكتوراة المعنونة (تطور الفلسفة الماركسية على ضوء خبرة ثورات 1848). صار اويزرمان بروفيسوراً في المدرسة الحزبية العليا منذ أعوام 1962-1966 وبروفسور في الفلسفة في معهد الفلسفة في أكاديمية العلوم السوفييتية عام 1968، وبين أعوام 1971-1987 رئيساً لقسم تاريخ فلسفة غرب اوروبا وامريكا وبروفيسوراً في معهد دراسات العلوم الاجتماعية المتقدمة في جامعة موسكو الحكومية ومستشاراً علمياً لمعهد التربية في جامعة روسيا الحكومية وانتسب عام 1983 الى اللجنة السوفييتية لمكافحة الصهيونية، وهو عضو في أكاديمية العلوم في جمهورية ألمانيا الديمقراطية، وحصل على العديد من المناصب العلمية والثقافية الأخرى. حاصل على عشرات الجوائز والميداليات والتشريفات العلمية. لديه عشرات المؤلفات ومئات المقالات حول تاريخ الفلسفة الكلاسيكية الألمانية ونظرية العمليات التاريخية والفلسفية وحول نظرية المعرفة ومسائل نظرية تاريخ الفلسفة وتاريخ الفلسفة الماركسية ونقد النظريات الفلسفية البرجوازية ما قبل الماركسية والمعاصرة.

ترجمة لمقالة:
T. I. Oiserman (1963) Man and His Alienation, Soviet Studies in Philosophy, 2:3, 39-43