روزنامة الأسبوع ـ 19 يوليو: عصر عابدين اسماعيل!‎‎


كمال الجزولي
2022 / 7 / 18 - 22:33     

الاثنين
انسحاب «المؤسَّسة العسكرية» من مفاوضات الآليَّة الثُّلاثيَّة، وحالة عدم الثِّقة تجاه هذه «المؤسَّسة العسكريَّة»، هما النُّقطتان اللتان ركَّز عليهما معظم المحلِّلين لخطاب البرهان الأخير، والذي ما يزال يثير جدلاً كثيفاً.
تكرَّر، إذن، مصطلح «المؤسَّسة العسكريَّة»، عدَّة مرَّات، في تلك المقالات، دون أن يقول كتَّابها أيَّ «المؤسَّسات» يعنون وهم يُبقون على صفتها «العسكريَّة»! ولَكَم وددت لو انهم كانوا أكثر دقَّة بحيث لا يجئ مقصدهم فضفاضاً يتماهى مع الإقصاء «المطلق» لهذه «الفئة الاجتماعيَّة»، دون أيِّ فرز «طبقي». وكنَّا قد سبق أن عرضنا لعوار هذا «الإطلاق»، من زاوية غياب التَّمييز بين «شريحة» كبار الجَّنرالات يقتسمون، مع «الطُّفيليَّة»، أنصبة معلومة من الثَّروة القوميَّة، فلا تعود لديهم مصلحة في التَّغيير الثَّوري، على العكس من عموم الجُنود، وضباط الصَّفِّ، وصغار الضُّبَّاط، الأدخل في تحالف الجَّماهير المسحوقة، والأكثر اندغاماً، من الزَّاوية الموضوعيَّة، في الكُتْلة التَّاريخيَّة لأصحاب المصلحة في الثَّورة وفي التَّغيير!

الثُّلاثاء
تحلُّ، في هذا اليوم الثُّلاثاء، الذِّكرى الأولى بعد الخمسين لحركة 19 يوليو. وبهذه المناسبة بدت لي وجاهة أن نستعيد، بتصرُّف، مذاق «السِّيناريو» البديع الذي أرشِّحه، من كلِّ بُدٍّ، لفيلم وثائقيٍّ قصير، كما أرشح لإخراجه المخرج الرَّائع الطَّيِّب صدِّبق، وكان كتبه باحترافيَّة عالية الصَّديق الرَّاحل سيد احمد الحردلو، كالآتي:
[كانت الدُّنيا سبعينات القرن العشرين، وللدِّقَّة بدايات السَّبعينات. كانت الايام، برغم الاستعمار، لا تزال سودانية، وكان السُّودانيُّون، برغم الاستعمار، لا يزالون بخير، وكانت لندن لا تزال رائعة الحسن جدَّاً. كان جمال محمد احمد قد انتهي للتَّوِّ من ترجمة «أفريقيا تحت أضواء جديدة Africa rediscovered» لبازل ديفدسون. وكان الطيب صالح قد نشر التَّرجمة الانجليزيَّة لروايتيه «عرس الزين» و«موسم الهجرة للشَّمال». وكان ابراهيم الصَّلحي وعثمان وقيع الله لا يزالان يعيدان رسم لندن بعيون سودانيَّة. وكان الجَّميع، حين يقبل الليل، يحتشدون في دارتي بنواحي همستد.
في تلك الايام هبط علينا السَّفير عابدين اسماعيل، السَّامق كنخيل بلادي، والرَّائق كنيلها، والمقاتل لأجل وطنٍ قبلةٍ للحريَّة والدِّيمقراطيَّة وحقوق الإنسان. جاء ومعه النُّبلاء: بروفيسور محمد عمر بشير، د. عز الدين علي عامر، ود. أحمد النَّجيب، وانضمُّوا إلى منتدى دارتي، وفيه، كذلك، طوماس هودجكن، بازل ديفدسون، مايكل ولفرز، انطوني سلفستر، وروي صو.
هكذا دخل السَّفير عابدين اسماعيل لندن من كلِّ أبوابها، وسرعان ما تأقلم على مناخاتها الجَّهيرة والمستترة، وأقام علاقات حميمة مع الدِّبلوماسـيَّة البريطانيَّة، وتلك المعتمدة لديها. كنت، وقتها، مسؤولاً بالسَّفارة عن قسم الصَّحافة، والإعلام، وشؤون جنوب السٌّودان، وأحرص، كلَّ أسبوع، على دعوة صحفي بريطاني على الغداء في شقة للسَّفير عابدين ملحقة بالسَّفارة. وكان السَّفير يحرص، دائماً، على ذلك اللقاء الأسبوعي للتَّعارف مع الصَّحفيِّين البريطانيِّين، بل ويدعوهم لزيارة السُّودان، والتَّعرُّف على أحواله. هكذا كسبنا صحفيِّين نافذين في التَّايمز، والغارديان، والدِّيلي تلغراف، والفاينانشيال تايمز، وآفريكا كونفيدينشيال، وغيرها. وعلى أيَّامه جرت المبادرة الأولى للحوار مع الأنانيا، ممثَّلة في مادينق دي قرنق، رئيس مكتبها بلندن، وهي المبادرة التي شكَّلت مقدِّمة لاتفاقيَّة اديس ابابا 1972م. وكان شهود تلك المبادرة بروفيسور محمد عمر بشير، واللواء عوض مالك، وشخصي. فعلنا كل ذلك بدون استشارة الخرطوم، كان يكفي أن وزير الخارجيَّة ابو عيسى، والسَّفير بلندن عابدين، وهل يحتاج الهرمان صكَّاً من أبي الهول؟!
السَّابعة بتوقيت غرينتش، مساء الاثنين 19 يوليو 1971م. كنت في دارتي، مع السَّفير يعقوب عثمان وحرمه. وكنَّا بانتظار الرَّائد فاروق حمد الله، وهو صديق منذ الخمسينات، وآخرين، حين رنَّ الهاتف، وكان المتحدِّث رئيس قسم الشُّؤون الأفريقيَّة بصحيفة الدِّيلي ميرور الذي نقل لي أنهم تلقوا «فلاشاً» من وكالة الأنباء العراقيَّة بوقوع انقلاب في السُّودان بقيادة الرَّائد هاشم العطا، طالباً منِّي التَّعليق، فاعتذرت، واتَّصلت بالسَّفير، وحين لم أجده، اخطرت فاروق، فأسرع إلى شقَّة المقدَّم بابكر النُّور في نواحي بكنجهام بالاس.
صباح الثُّلاثاء 20 يوليو كان مبنى السَّفارة محاطاً بعشرات الكاميرات، وعشرات الصَّحفيِّين، فاتَّصلت بالسَّفير أسأله إن كان ذهب لزيارة بابكر وفاروق، فردَّ عليَّ بصوت حاد، ولهجة قاطعة:
ــ «ما مشيت .. وما حامشي .. الدَّايرني يجيني في سفارتي»!
كنت منهمكاً في إعداد نشرة بردود فعل أجهزة الاعلام البريطانيَّة حين اتَّصل بي الملحق العسكري السُّوداني يقول:
ــ «الجَّماعة موجودين في شقة السَّفير.. فتعال»!
أجبته بحدَّة:
ــ «أنا لا أتلقى توجيهات منك»!
واغلقت الهاتف. بعدها اتَّصل بي السَّفير قائلاً:
ــ «الملحق العسكري أحضر الجَّماعة للشَّقَّة، فتعال».
جئت، فوجدت، أيضاً، د. عز الدِّين علي عامر، وفيليب أوبانق، وأحمد نور، ووجدت أن قراراً قد اتُّخذ بعمل مؤتمر صحفي، لكن السَّفير لن يحضره بسبب ارتباط سابق!
في تمام الحادية عشرة من ليل الأربعاء 21 يوليو اقلعت طائرة الـ BOAC، وعليها المقدَّم بابكر، والرَّائد فاروق، والنَّقيب عثمان بلول. لكن عند الرَّابعة صباحاً كان جرس هاتفي يرنُّ بإلحاح، وكان المتحدِّث السَّفير عابدين الذي أخبرني بأن مدير الخطوط الجَّويَّة البريطانيَّة اتَّصل به قبل لحظات وأخبره بأن السُّلطات الليبيَّة أرغمت الطائرة على الهبوط في مطار بنين الليبي، وأن السُّلطات الأمنيَّة هناك احتجزت بابكر وفاروق، وأن الطائرة الآن عائدة إلى مطار هيثرو، وطلب منِّي أن أذهب، حالاً، للمطار لمقابلة كابتن الطائرة، ومعرفة التَّفاصيل.
فجر الخميس 22 يوليو قدَّمتُ للسَّفير تقريراً بما حدث، فطلب منِّي إبراق الخرطوم، وتنظيم مؤتمر صحفي عند الظهر بالسَّفارة. قبيل المؤتمر احتشد الصَّحفيُّون بالقاعة الكبرى في الطابق الأرضي. واتَّصل بي صديق من القسم الانجليزي لـ «بي بي سي» يخبرني بأن نميري كان، وقتها، يتحدَّث من إذاعة أم درمان، فنقلتُ المعلومة للسَّفير عابدين، واقترحتُ عليه إلغاء المؤتمر، لكنه رفض بتاتاً! وكان نبأ عودة نميري قد انتشر داخل السَّفارة. وأخذ رجال من أعلى الرُّتب العسكريَّة والمدنيَّة يهرولون بجانبنا على السلم، يسقطون، وينهضون، وينطلقون كالرِّيح، على حدِّ تعبير السَّيِّد كارتر السَّاعي بالسَّفارة، بينما كنَّا، السَّفير وشخصي، نهبط من الطابق الثَّالث في هدوء، خصوصاً الجَّنرال عابدين، كما كان يسمِّيه السُّفراء العرب، يمشي واثق الخطو، أبيض الشَّعر، صارم القسمات، حتَّى إذا أدركنا باب القاعة دلف إليها، متقدِّماً نحو المنصَّة، وأضواء الكاميرات تسطع في المكان بقوَّة. لحظتها كان صديقي القديم الملحق الاعلامي المصري يناديني:
ــ «ياسيِّد .. ده نميري رجع»!
فأجبته بهدوء:
ــ «عارف»!
فصرخ الرَّجل:
ــ «وكمان عارف»؟!
ثمَّ ما لبث أن صفَّق بيديه مردِّداً:
ــ «لاحول ولا قوَّة إلا بالله»!
وقف عابدين كهرم من اهرامات البركل، سامقاً، شامخاً، صامداً، يقول بصوته الجَّهوري، وإنجليزيَّته الصَّافية كنعنعة الماء:
ــ «ما حدث في مطار بنين جريمة كبرى، وسابقة ليس لها سابق، إنه قرصنة جوِّيَّة، وعمل بربريٌّ تتريُّ مدان من الشَّعب السُّوداني، بل ومن كلِّ الشُّعوب المحبَّة للحريَّة»!
وفي طريقه من القاعة إلى الشَّارع الضَّيِّق الفاصل بين السَّفارة وقصر سنت جيمس، حيث تقيم الملكة الأم، سأله صحفي:
ــ «سفير من أنت .. جعفر نميري، أم بابكر النُّور»؟!
فأجاب، وهو يتقدَّم نحو سيَّارته والكاميرات تلاحقه:
ــ «أنا سفير السُّودان»!
كان المطر، وقتها، يزخُّ عنيفاً يجلد وجه الصَّبيَّة لندن، فتنهال المساحيق والألوان تحت قدميها، لتبدو ركيكة في ثيابها المبللة، وشعرها المنكوش، فلم تعد لندن هي تلك اللندن، ولا انجلترا هي تلك الانجلترا التي يقول عنها وردزورث: «هذه الأرض الخضراء، هذا الفردوس، هذه الانجلترا»! كان المطر يجلد كلَّ شيء، كأن نهر التَّايمز قد صعد إلى السَّماء، وانكفأ عاليه على سافله، فاندلق فوق جسد لندن مطراً أسود، مطراً أزرق، مطراً أحمر بلون الدَّم، وكأن نهر النِّيل يهرول عبر الخرطوم مذعوراً ومغسولاً بالدَّم. كان صوت عابدين اسماعيل يأتيني عبر الرِّيح والمطر: «ما مشيت .. وما حأمشي .. الدَّايرني يجيني في سفارتي»! وكان صوت عابدين اسماعيل يزخُّ في أذني عبر الرِّيح والمطر: «ما حدث في مطار بنين جريمة كبرى وسابقة ليس لها سابق»! وكان صوت عابدين اسماعيل يرعد في أذني، ويبرق أمام عيني: «أنا سفير السُّودان»! لحظتها، وأنا أركض، عبر الرِّيح والمطر، تحت سماء لندن الباكية، رأيتني أغنِّي: «ما أجمل ان نعيش عصر عابدين اسماعيل»].

الأربعاء
يعاني لبنان، حاليَّاً، مع نهايات عهد ميشال عون، من ضائقة اقتصاديَّة ومعيشيَّة طاحنة، حتَّى أن محلَّلين أطلقوا على الحالة اسم «الجَّحيم اللبناني»! مع ذلك أعلنت مؤسسة الكهرباء الحكوميَّة، مساء الأربعاء السَّادس من يوليو الجَّاري، عن «عودة» التَّيَّار، بعد انقطاع دام «ساعة واحدة!»، ودفع بالمتظاهرين إلى الشَّوارع .. فتأمَّل!

الخميس
استوضحني بعض القَّرَّاء حول ما سُقت، ذات «روزنامة» سبقت، من تحفُّظ على مصطلح «الخبير» الشَّائع، إذ أكثر ما يزعجني تقديمي به في بعض المناسبات! وكنت سبَّبت انزعاجي هذا بغربة «الممارسة العمليَّة» عن مستوى «التَّناول النَّظري» الذي يؤطِّر محدِّدات الخطاب، فلا يلتبس، ولا ينطمس، ولا ينبهم. وأشرت، في السِّياق، إلى التَّمييز بين «اللفظ» يعنى «لغة» مباشرة، وبين «المصطلح» يغمز بدلالة «مجاز» منضبط. فبقدر ما ينبغي تعريف «المصطلح» وفق خصوصيَّة مفاهيميَّة استقرَّت كحامل لتاريخه، بقدر ما قد تتدخَّل شروط فكريَّة وثيقة الصِّلة بهذا التَّاريخ لتفرض مراجعة «المصطلح»، إن كان ما يزال يختزل ذات الخصوصيَّة، فتصحُّ مواصلة استخدامه، أم أن ثمة احتياجاً لسكِّ «مصطلح» بديل يتَّسق مع تغيُّر الواقع. وقلت إن الخوض في هذه الإشكاليَّة ليس ترفاً، وإنَّما مسألة شائكة مِن أشدِّ وجوهها تَّعقيداً التَّعاطي غير الحذر مع مصطلح «المثقفون» أو «الانتلجينسيا»، المستمدِّ مِن اللاتينيَّة intelligens، بمعنى «عالم» أو «مفكِّر»، إشارة إلى «فئة اجتماعيَّة» تنحدر، غالباً، من الطبقة الوسطى، متخصِّصة في النَّشاط الذِّهني، وقد مهَّد لظهورها «تقسيم العمل»، وانفصال «الذِّهني» منه عن «العضلي»، وتصدَّت، منذ بواكير الحركة الوطنيَّة في السُّودان، لقيادة التَّنظيمات السِّياسية والاجتماعيَّة، حتى قيل إنها عدَّت نفسها «مبعوثة العناية الإلهيَّة لإنقاذ الشَّعب!» (تيم نبلوك؛ صراع السُّلطة والثَّروة).
وفي مقالته «تنشئة وإعداد المثقَّفين وصقلهم» أنفق أنطونيو غرامشي جُلَّ سنوات السِّجن يتقصَّى طبوغرافيا هذه «الفئة»، ويميِّز «شريحة» منها بعينها يتحرَّى معاييرها، فسكَّ مصطلح «المثقَّفون العضويُّون»، ملاحظاً أن من أبرز الأخطاء المنهجيَّة عدم الانتباه لـ «الخصوصيَّة» المائزة لنشاط هذه «الشَّريحة»، فلكأن نشاط «المثقَّفين العضويِّين» يفتقر إلى ما يمكِّن من رؤيتهم خارج «العموميَّة» التي تسِم وضعيَّتهم كـ «فئة اجتماعيَّة» في إطار الخارطة «الطَّبقيَّة». وللمضاهاة، فإن «الرَّأسماليِّين» قد يكتسبون من نشاطهم الاجتماعي «العام» كفاءة ثَّقافيَّة، لكنَّها ليست هي التي تقرِّر وضعهم «الطَّبقي»، وإنَّما يقرِّره المركز الذي يشغلونه في «الصِّناعة» و«التِّجارة»، والأمر صحيح أيضاً بالنِّسبة لـ «العمَّال» و«المزارعين»، وهلمَّجرَّا.
النَّشاط الذِّهني، إذن، هو الحقل الأكثر تمييزا لعمل «المثقَّفين»، عموما، و«المثقَّفين العضويِّين» ضمناً، رغم أن هذا التَّمييز لا يجعل منهم، «طبقيَّاً»، أكثر من «فئة اجتماعيَّة» تتوزَّع انتماءاتها إلى «شرائح» بين مختلف «الطَّبقات»، بحسب تأثيرات الفكر الاجتماعي. فلئن ظلَّت حراكات هذه «الفئة» مستقطَبة بين حدَّي التَّباين والتَّماهي، فليس من العسير ملاحظة الفارق بين كتلتي «المثقَّفون» و«الخبراء»، وبالتَّالي فضُّ الاشتباك المفاهيمي بينهما، خصوصاً إذا استصحبنا نموذج «الاستشراق» باعتباره أفضل كوَّة للنَّظر إلى هذه الإشكاليَّة، خاصَّة بعد تدقيق معرفتنا بعلاقة «الثقَّافة» بـ «العلم والتِّقانة». ولعلَّنا نجد ضالتنا في اجتهادات بعض المفكِّرين العرب، فهؤلاء أهل وجعة، وأقدامهم العالمثالثيَّة على الجَّمر!
محمد عابد الجابري، مثلا، عُني، في مبحثه حول موضوعة «الاختراق الثَّقافي»، ضمن كتابه (المسألة الثَّقافيَّة)، برفع التباسين: الأوَّل يتعلق بمنزلة «العلم والتِّقانة» من «الثَّقافة»، كظاهرة كوسموبوليتانيَّة لا يعيب «استيرادُها» استقلاليَّتها، إلا عندما يتمُّ «تصديرها» لاختراق «ثقافة» الآخر! أمَّا الالتباس الثَّاني فيتعلَّق بنوعين من هذا الاختراق، أحدهما تعرَّضت له الشُّعوب العالمثَّالثيَّة بالأمس، والآخر تتعرَّض له اليوم. النَّوع الأخير هو المحمول على وسائط المنجز «العلمي والتِّقني»، أما الأقدم فهو الذي كان جزءاً من الظاهرة «الكولونياليَّة» الكلاسيكيَّة نفسها خلال القرون 18ــ 20، عندما توسَّلت الامبراطوريَّات الاستعماريَّة الأوربِّيَّة بالبعثات التَّبشيريَّة، والرِّحلات الاستكشافيَّة، والإرساليَّات التَّعليميَّة، والبحوث الإثنوغرافيَّة، والدِّراسات «الاستشراقيَّة»، لتمهيد الطريق أمام العمليَّة الاستعماريَّة أولاً، ثم ترسيخها لاحقاً. كذلك فحص إدوارد سعيد الظَّاهرة في كتابه (الاستشراق)، فاضحاً طبيعة خدمة «المستشرقين»، سواء كخُدَّام «متروبوليِّين» قبْليِّين لدراسة جغرافيا المستعمرات المستقبليَّة، وتاريخها، وسبر أغوار أنثروبولوجياها، لغاتٍ، ودياناتٍ، وعاداتٍ، وموروثاتٍ، وتقاليد، وأمزجةٍ، حتَّى صاروا «خبراء» فيها، أو كمشغِّلين، لاحقاً، لأجهزة إدارة المستعمرات! هكذا تقاصر دور «المستشرق» عن قامة «المثقَّف»، لينحبس في سمت «الخبير» الذي يبيع «بضاعته» لحكومة بلده، أو لغيرها .. سيَّان!
ثم جرت تصفية الاستعمار القديم بعد الحرب الثَّانية، فأخذ دور «المستشرق» الامبراطوري يتراجع في مناخات التَّحرُّر الوطني، بينما يتفجَّر حراك «المثقَّف» الحُرِّ. على أن ذلك المسار سرعان ما راح يتعوَّق لعدَّة عوامل، أهمها اثنان: أوَّلهما أن دور الدَّولة الوطنيَّة في بلداننا أخذ يتراجع بعد الاستقلال السِّياسي، أكثر فأكثر، من التَّحرير إلى القمع، من أحلام الدِّيموقراطيَّة إلى كوابيس الشُّموليَّة، من حقائق التَّنمية الشَّعبيَّة إلى أوهام الاستبداد «العادل»! في هذا السِّياق لم تجد الدَّولة الوليدة سوى النَّموذج الكولونيالي نفسه، فراحت تستنسخه! أمَّا ثانيهما فهو أن هذا التَّراجع فتح شهيَّة الإمبرياليَّة لتستسهل استعادة هيمنتها السَّابقة، وإن بكيفيَّات أخرى! وبانهيار المعسكر الاشتراكي، أواخر الثَّمانينات ومطالع التِّسعينات، استكملت هذه الشَّهيَّة أقصى انفتاحها! ثمَّ وقعت كارثة11 سبتمبر 2001م لتحصل هذه الشَّهيَّة على أقوى مثيراتها! هذا الواقع أفرز نوعيَّة جديدة من المشتغلين بالعمل «الذِّهني» الذين ما برحوا ينحدرون، أكثر فأكثر، من مواقع «الثَّقافة» الحرَّة إلى مواقع «الخُدَّام» الذين يُخضعون تخصُّصاتهم لتقديم «خدماتهم» القبليَّة أو البعديَّة للحكَّام «الكولونياليِّين/القمعيِّين»، نخباً كانوا أم أفراداً! هكذا بدأ «الاستشراق الجَّديد» يزدهر، مستعيداً دور «الاستشراق القديم» بأقنعة «الخبراء الجُدد» الذين أضحت الجَّامعات، والمؤسَّسات الأكاديميَّة، ومراكز البحوث الغربيَّة تفرِّخهم بالآلاف، لخدمة «القمع»! ولاحظ إدوارد سعيد، في آخر مؤلفاته (الإنسانيَّات والنَّقد الدِّيموقراطي)، الصَّادر بعد وفاته، تأثير صدمة 11 سبتمبر على راهن «النَّقد والعلوم الإنسانيَّة»، حيث صار «الخبراء المحليُّون/المستشرقون الجُّدد» يحلُّون محلَّ «الخبراء الغربيِّين/المستشرقين القدامى». ومن ثمَّ وجب التَّفريق بين مصطلح «الخبير» المثير للرِّيبة، والذي ما ينفكُّ استخدامه يشيع الآن، وبين مصطلح «المثقَّف»، فـ «الخبرة» سلطة «قمع»، بينما «الثَّقافة» آليَّة «طلاقة»!
ضمن هذه الطبوغرافيا يحتلُّ مصطلح «المثقَّف العضوي» وضعيَّة خاصَّة. ومع افتراض أن هذه الوضعيَّة شاغلة لحيِّز معتبر من هموم اليسار، وبالأخص اليسار الماركسي، إلا أن الملاحظ أنها لم تشغل، في السُّودان حتَّى الآن، سوى قلَّة مستنيرة من قادة الحزب الشِّيوعي، أوَّلهم عبد الخالق الذي أبدى نظراً منفتحاً لمعالجات غرامشي، فعمل على صياغتها في موجِّهات جريئة للممارسة العمليَّة، ضمن تقريره السِّياسي (الماركسيَّة وقضايا الثَّورة السُّودانيَّة) الذي اعتمده مؤتمر الحزب الرَّابع (أكتوبر1967م). ثم ما لبث أن عاد، بعد أقلِّ من عام، للطَّرق الحثيث عليها، عندما لمس تقاعساً عن تطبيقها، في تقريره الآخر (قضايا ما بعد المؤتمر ـ يونيو 1968م). سياق إشارة عبد الخالق إلى «المثقَّفين»، في هذه الموجِّهات، يشي بأنه يعني «المثقَّفين العضويِّين»، حيث أومأ إلى قرار المؤتمر الرَّابع بضرورة «دعم قيادة الحزب وأجهزته المختلفة بمثقَّفين يعملون كمثقَّفين». واعتبر أن من معيقات ترقِّي الكادر المثقَّف داخل الحزب التَّمسُّك العقيم بالأشراط التَّقليديَّة للمشاركة في «الحركة الثَّوريَّة، والنَّشاط العملي، والميدان السِّياسي»، أسوة بنفس أشراط ترقِّي عموم الكادر الحزبي! وقال: «نحن نحتاج للمثقَّفين، والحزب هو الذي يمنحهم الصِّفات الثَّوريَّة»؛ وحذَّر من «وضع مقاييس واحدة للكادر»، فذلك يحول دون «دخول المثقَّفين للحزب، وبقائهم في صفوفه»، تماماً كالمصاعب التي توضع أمام «حركة التَّثقيف والثَّقافة في جوٍّ تُصادر فيه حريَّة النَّقد وحريَّة التَّفكير». وطالب، من ثمَّ، بإيجاد «مقاييس جديدة لترقِّي هذا النَّوع من الكادر»، مشدِّدا على أن «عدم تقدير تلك الموجِّهات يعني إبقاء اتِّجاه المؤتمر كشيء يُحفظ للتَّاريخ، وللتَّاريخ وحده»!

الجًّمعة
تحت عنوان «حمامة قبل الملامة»، تفادى صديقي عبد الله علي ابراهيم، كعادته، ضيق «الشَّمارات» إلى وُسع «الفلسفة»، وهو يتناول حكاية فتاة استوب الكلاكلة «إسلام»، الثَّلاثينية التي ملأت الدُّنيا، وشغلت النَّاس، بـ «تريند» زواجها في عقابيل وقفتها على قارعة الطَّريق، تلوِّح، الضحى الأعلى، بلافتة تطلب فيها عريساً، دون أيِّ قيد أو شرط، ولو حتَّى بشأن «التَّعدُّد» الذي حظره سيِّد الخلق، رغم «حلاله»، كشرط مسبق لتزويج ابن عمِّه، وصفيِّه، الكرَّار، من حبيبته، وفلذة كبده، فاطمة!
لكن ما يحيِّرني هو أن عبد الله، وعلى غير عادته، لم يهتم بمتابعة القصَّة، خاصَّة في تداعياتها الدراماتيكيَّة، حيث ما نشبت «إسلام» أن عادت، بعد يومين فقط، تطلب الطلاق، لأن العريس، كما قالت، «زغللت عينيه» الهدايا، فهرب إلى أهله، ثمَّ انطلقت شائعة وفاتها، قبل أن ينفيها مدوِّنو «الشَّمارات»!

السَّبت
عاد حيدر ابراهيم علي، مؤخَّراً، من القاهرة، والعود أحمد، بعد تعرُّضه لانتكاسة صحيَّة ألزمته سرير المستشفى ردحاً من الزَّمن، وأقلقت أسرته ومحبيه. وحيدر مفكِّر، وأكاديمي، وأديب، وباحث متخصِّص في علم الاجتماع الدِّيني، ومنظِّم ثقافي متميِّز تتوزَّع اهتماماته بين مناح شديدة التَّنوُّع، من أنثروبولوجيا الأدب، إلى مباحث الدِّيموقراطيَّة، والحداثة، والثَّورة، والتَّحرُّر، والتَّخلُّف، والعنف، بالتَّركيز على نقد تجربة الاسلام السِّياسي، خصوصاً في الخبرة السُّودانيَّة.
حيدر تلقَّى تعليمه بين السُّودان ومصر وألمانيا. وعمل في المملكتين السُّعوديَّة والمغربيَّة. وتحت شعار «كُن واقعيَّاً واطلب المستحيل» أنشأ بالقاهرة، عام 1992م، «مركز الدِّراسات السُّودانيَّة» الذي قاد مبادرات فكريَّة وأدبيَّة وفنيَّة مشهودة، ونقل، لاحقاً، بعض نشاطاته إلى الخرطوم، كما أسَّس ورأس تحرير مجلة «كتابات سودانيَّة».
وفي مختلف مخاضاته النَّظريَّة والعمليَّة يتَّسم انتاج حيدر بعمق وجدِّيَّة وجرأة الطَّرح، وتوخِّي مناهج التَّقدُّم، والاستنارة، والانعتاق من شراك القوالب الجَّاهزة. ويتوسَّل، لتوصيل أفكاره ودراساته، بالكتب، والمحاضرات، والأوراق العلميَّة، والمقالات الصَّحفيَّة الورقيَّة والالكترونيَّة، والأحاديث الإذاعيَّة والتلفزيونيَّة، والمشاركة في المؤتمرات والنَّدوات داخل وخارج السُّودان. ومن أبرز إصداراته الشَّخصيَّة: «أزمة الإسلام السِّياسي» ـ «سقوط المشروع الحضاري» ـ «الأمنوقراطيَّة وتجدُّد الاستبداد في السُّودان»، بالإضافة لمذكِّراته بعنوان: «أزمنة الرِّيح والقلق والحـريَّة».
تعُّدد وتنوُّع مصادره اللغويَّة والعلميَّة والمنهجيَّة أسهم في إثراء مرجعيَّاته، وإغناء تأسيساته لشروط ومتطلبات البحث العلمي، بحيث صارت كتاباته، في مرحلة النُّضج المعرفي، خصوصاً على صعيد نقد الاسلام السِّياسي، قائمة على التَّمييز الدَّقيق بين الاسلام الكلاسيكي والاسلام اليومي، لتمثِّل مشروعاً فكريَّاً نقديَّاً متماسكاً، وعقلانيَّاً استراتيجيَّاً متكاملاً، إزاء الأنساق الباطنيَّة الماضويَّة لتخلُّفه البنيوي، وتأثيراتها على الحياة الفكريَّة والسِّياسيَّة المعاصرة، بحيث شكَّل هذا التَّعدُّد والتَّنوُّع سنداً لإسهامه في تنقية التَّجربة الإسلاميَّة الرُّوحيَّة مِمَّا علق بها تاريخيَّاً، وآليَّة لإضاءة المداخل اللازمة باتِّجاه الكشف عن العوامل اللازمة لهدم أنماط التَّأثيرات السَّالبة، والنَّماذج الجاهزة، والانعكاسات السَّائدة، وغيرها من الورطات التي ما انفكَّت تتوحَّل فيها حركة الاسلام السِّياسي في المنطقة، وفي السُّودان، كما وللتَّفريق بين الوحي وتاريخ الدَّولة الاسلاميَّة، ومن ثمَّ تفادي كلِّ ما يختزل التَّاريخ الإسلامي في ما هو روحانيٌّ خيِّر فحسب، والتَّاريخ الغربي في ما هو مادِّيٌّ شرِّير صرف.
وليس نادراً ما تعرَّضت مختلف أعمال حيدر لحظر التَّداول من جانب أجهزة الأمن السُّودانيَّة، وتعرَّض مركزه في الخرطوم للإغلاق، كما تعرَّض هو، شخصيَّاً، لملاحقة هذه الأجهزة، ما ألجأه إلى ترك البلاد، أكثر من مرَّة، والحياة والعمل بين مختلف المغتربات في العالم العربي، كمصر والمغرب والسُّـعوديَّة.
نرحِّب بعودة حيدر ترحيباً حارَّاً، سائلين الله له طول العمر، وتمام الصحَّة، وموفور العافية، ولإسهامه الثَّقافي الشَّخصي والمؤسَّسي دوام المجد، والتَّوفيق، والازدهار.

الأحد
قال ضابط برتبة فريق لقاضٍ، ممازحاً:
ــ في الحديث الشَّريف: «قاضٍ في الجَّنَّة، وقاضيان في النَّار».
فردَّ القاضي على الفور:
ــ وفي القرأن الكريم: «فريقٌ في الجَّنَّة وفريقٌ في السَّعير».

***