على هامش بعض الاحداث: تأملات


احمد المغربي
2022 / 7 / 17 - 14:46     

لقد أعلنتُ في المقال السابق عن نيتي في إصدار مقالات غير دورية في إطار التفاعل و التعليق على بعض الاحداث العاجلة لكن هذا المقال وإن حمل عنوان الذي سبقه فهو يمثل شيئا آخر إذ أنه ليس مجرد تعليق على أحداث عاجلة بل هو تأمل في شهر يحمل ذكرى أحداث قديمة تَعلَّقْتُ بها ولم يكن هناك مفر من التعلُّق بها رغم أنني أنا من المغرب و هي من المشرق طالما أنها تعلَّقتْ بمصير شعوبنا و أثَّرتْ على حياتها لعقود و حينما أتأمل ذكرى تلك الاحداث من منطلق واقع شعوبنا الآن و من منطلق ما آلت له تلك الأحداث بعد مرور وقت قصير على حدوثها فلا يسعني إلا التحسر على كلٍّ من الماضي و الحاضر لا يسعني إلا التحسر على الوطن الاكبر بعد أن لوّثه أمثال حافظ الاسد و صدام حسين (هذا دون الحديث عن الملكيات الرجعية) لا يسعني إلا التحسر حين أسمع لأغنية الوطن الاكبر و أقارن التطلعات التي حملتها مع الواقع الذي نعيشه الآن لا يسعني إلا التحسر على إخواني القابعين في السجون من المحيط إلى الخليج و لا يسعني إلا التحسر على حين أرى اليمن الاشتراكي في الماضي و اليمن و سوريا الغارقتين في الدماء في الحاضر
*******
لقد حل شهر عزيز جدا على قلبي إنه شهر ثوري بامتياز ففي مثل هذا الشهر اقتحمت الجماهير الباريسية الباستيل(1789/07/14) و في مثل هذا الشهر سقطت الملكية في مصر(1952/07/23) و العراق(1958/07/14) لكن هذا الشهر لم يأتي هذه السنة لإحياء ذكرى الثورات السابقة و حسب بل حمل معه مفاجئة أبهرتني بشدة و أسعدني بمشهد الجماهير السيريلانكية و هي تلهوا في قصر رئيسها الذي أجبرته على الفرار
و قد ألهمني ذلك المشهد لدرجة أنني تساءلت بنوع من الغيرة : "لمَ لا تكون كازابلانكا مثل سيريلانكا" فإذا بالتاريخ القاحل للمغرب يُحبطني لقد رأيتُ تاريخا من الفشل دفعني لأُردد بسخرية و حسرة "المغاربة فاشلون في الثورات و حتى الانقلابات"..."لماذا لم يكن لنا ربيعنا؟" "كيف نجحتْ الملكية في تدجين جميع الاحزاب و القوى الشعبية؟"
لقد أحبطني مرور يوليو و اخوانه قبله دون أن يكون لنا نحن الثوريون المغاربة أي ذكرى لمعركة منتصرة لقد مر الشهر السابق و مرّت معه ذكرى سقوط شهدائنا في انتفاضة يونيو 1981 و ربما لا يوجد أي شهر يخلوا من ملاحم شعبنا و بطولات شهدائه لكن كل الشهور تمُرُّ و لا يحمل لنا أيٌّ منها أي ذكرى لانتصارنا و يمكن أن يصيبنا تاريخ الهزائم بوباء اليأس و التشاؤم المعادي لثورة إلا إنه بوسعنا وقاية ذاتنا بتلقيحها بالمبدأ السبينوزي الذي يقول أن "واجبنا أن نفهم لا أن نبكي أو نضحك" وآنذاك سنتأمل التاريخ بعين أخرى و ستظهر لنا حقيقة التاريخ و أحداثه على حقيقتها
و هكذا فحين أتأمل الأمر جيدا أجد أن أول ما يمكن أن يعزي به المرء نفسه يكمن في حقيقة أن ماضينا لا يكون له ذلك التأثير الأبدي على حاضرنا و بالتالي فلا فائدة من التغني بأمجاد الماضي أو الخجل من هزائمه إذ أننا حتى لو استبعدنا التحليل الماركسي الرصين للتاريخ سيكون بوسعنا الرد على من يستندون على الماضي لإحباط الحاضر بحقيقة بسيطة تتمثل في أن مهام عصرنا مطروحة على جيل جديد في سياق جديد أما حين أتأمل تلك الاحداث التي تحسرتُ على عدم حدوث مثيلتها في المغرب فأجد أنها لا تحمل فقط دروسا يمكن و يجب الاستفادة منها بل و تحمل ذكرى سقوط الملكية في مصر و العراق مغزى أكثر أهمية فبعد مرور عقود على تلك الاحداث صرنا نرى "بعض" الفئات الشعبية تنخدع بدعاية الثورة المضادة التي تزوّر التاريخ و تُجَمل العهد الملكي الرجعي في البلدين فنرى الخونة البرجوازيين يتحدثون بلسان الثورة و المعارضة و يدّعون أن سبب مآسي اليوم كامنة في ثورتي يوليو المصرية و العراقية اللتان دفنتا الملكيات الرجعية التي يزعمون أنها كانت ديمقراطية و صحيح أن رفْع صور القائد جمال عبد الناصر خلال ثورة يناير يُطمئِن كل القوى التقدمية المناهضة للإمبريالية غير أن تحسر بعض الناس العاديين(الذين منهم من شارك في الربيع...) على العهد الملكي الذي لم يعاصروه سواء في مصر أو العراق أو ليبيا يُعبّر بوضوح عن ما يمكن أن يُشوَّه لو حاولنا التعبير عنه بالكلمات فالواقع الحالي مأساوي بنفس القدر الذي يبعث فيه الأمل
حين أتأمل ثورات يوليو سواء الفرنسية(1789) أو المصرية و العراقية و أتأمل واقع الثورات العربية سواء الموءودة أو السودانية المستمرة لحد الآن أغرق في بحر من الأسئلة و تُخيِّم على ذهني مجددا الغيرة من نصرهم و التحسر على فشلنا فبعد مرور عقد على الربيع العربي الذي سالت فيه أنهار من الدماء الطاهرة لا نجد أي بلد يعزينا بانتصار ثورتنا على أرضه رغم كل التضحيات المبذولة و لا يعزينا عن هذه الهزائم و عن شهدائنا إلا روح الربيع التي نراها لازالت حية و منتصرة رغم الارهاب الذي مارسته القوى القمعية لدفنها وحينما نحاول تحديد أسباب هزيمتنا و فشلنا و أسباب انتصار تلك الثورات فقد نقول أن افتقارنا للقوة التي استُخدِمت في تلك الثورات هو السبب غير أن هذا القول قد يكون مضللا إن فُهم بشكل سطحي إذ أن عسكرة الثورة ليست حلا أو مفتاحا سحريا للنجاح إذ أننا نرى واقع ليبيا و سوريا اللتين فُرضت على شعبهما الدفاع عن نفسه بالسلاح بعد أن لجأ النظام للجيش من أجل اخماد الاحتجاجات السلمية
و يمكن أن نقول بدون ديماغوجية أن تلك القوة التي افتقرتْ لها ثوراتنا تتلخص في شيئين : 1) إرادة النصر و الجرأة اللازمة لتحقيقه 2) قيادة الجماهير بجرأة و قد يبدوا حديثي عن القوة بهذا الشكل غريبا لكن يمكنني أن أوضح ما أقصده قدر الامكان(أي بقدر ما تسمح قدرتي للتعبير عن قصدي من خلال الحروف) فثوراتنا العظيمة كانت ثورات جماهيرية شعبية بخلاف الثورتين المصرية و العراقية اللتان كانتا انعكاسا للاستياء الشعبي دون أن يكونا تجسيدا حرفيا له مثلما كانت ثورات الربيع العربي إلا أن ما غاب عن ربيعنا و وُجد في ثورات يوليو بشكل متباين هو تلك الارادة و الممارسة الصارمة التي لا تساوم مع الاعداء و لعل أهم درس يمكن أن تفيدنا به ثورات يوليو هو فهم الجماهير و تقدير قدرتهم كمفتاح للنصر فيوليو الفرنسي انتصرت الثورة بفضل تغلب اليسار على "المعتدلين" الذين دعوا لنزع سلاح الجماهير و حاولوا المساومة مع الملك حتى بعد هروبه وبفضل اعتماد اليسار على الفئات الفقيرة التي كان من مصلحتها القتال أكثر من هؤلاء الذين أرادوا حرمانها من حق التصويت في دستور 1789(الذي يختلف عن دستور 1793) ولم يكن بوسع الثورة الفرنسية الانتصار لولا جرأة اليعاقبة الذين جعلوا للفقراء مصلحة حقيقية في الدفاع عن الثورة و لم يسقط اليعاقبة إلا بعد فقدانهم لدعم الجماهير وكذلك توضح لنا سياسة عبد ناصر بعد ثورة 23 يوليو أهمية الجماهير التي لم يكن لينجح في إزاحة محمد نجيب لولاها إذ أنه لولا هتاف العمال ضد الديمقراطية البرلمانية خلال أزمة مارس1954 لعاد الجيش لثكنات و عاد اللصوص الليبيراليون للسلطة لكن الأساسي الذي يجب استيعابه هو أن الجماهير ليست دمى أو قطيع يتم تحريكه بالكلمات أو حتى الرشوة فلم يكن العمال و الفلاحون ليتظاهروا ضد الاحزاب لو لم يشعروا بالفرق بين حياتهم بعد سنتين من الثورة و بين حياتهم خلال سنوات من حكم حزب الوفد و حكومات القصر و بعد ثورة يوليو وضّحت الجماهير المصرية عظمتها و وفائها لمن يدافع عن مصالحها سواء خلال العدوان الثلاثي أو من خلال رفضها لاستقالة عبد الناصر بعد الهزيمة أما يوليو العراقي فهو يوضح لنا أن التردد في اللجوء للجماهير خوفا من الحرب لا ينتج عنه سوى السماح للأعداء بشن حرب من جانب واحد فالزعيم عبد الكريم قاسم فضلا عن صدامه مع الشيوعيين الذين كانوا يدعمونه رفض تسليح الجماهير للدفاع عن الثورة ضد الانقلاب الدموي الرجعي خوفا من شبح الحرب الاهلية لكن النتائج الدموية لذلك الانقلاب الرجعي(الذي تورط فيه عبد الناصر للأسف...) توضح أن ما ينتج عن التردد هو العبودية لا السلام و بوسعنا أن نُضيف أن الخطأ و الجريمة الرئيسية التي ارتكبها الاخوان المسلمون بعد الثورة تمثلت في انقلابهم على الجماهير و سعيهم للتسوية مع قيادات الجيش وقد رأينا الثمن الذي دفعوه و دفعه معه المصريون للأسف و يقدم لنا الفرق بين تظاهر الجماهير المصرية و العراقية دفاعا عن الثورة في الماضي و بين تظاهر الجماهير دعما للسيسي ضد الاخوان في 3 يوليو 2013 مثالا جيدا عن المأساة التي أشرت لها كما يقدم لنا نحن المغاربة لمحة عن المصير المأساوي الذي يمكن أن نواجهه إن وضعت ثورتنا أمثال الاخوان المصريين و حمدوك السوداني في السلطة أو في موقع مهم لقيادة الثورة وهناك العديد من الدروس التي يمكن أن تفيدنا بها الثورات السابقة للانتصار في ثورتنا غير أن هناك درسا مهما لا يجوز اهماله أثناء الحديث عن هذه الثورات الفوقية فمن الشائع الآن نقد الانقلابات العسكرية التي سادت في منطقتنا بعد أن مَهَّدتْ لتأسيس أنظمة بوليسية لم تختلف عن الانظمة السابقة في طبيعتها القمعية لكن ما يجب الانتباه له و نقده هو الفراغ الذي تركته القوى السياسية المناضلة آنذاك من خلال ترددها و تذبذبها و صحيح أنه من المستبعد أن تسود اليوم انقلابات كتلك لكن هذا مؤشر لما هو أسوء لأنه في حالة تخاذلنا اليوم فالبديل سيكون إما القوى الرجعية أو العملاء المباشرين للقوى الامبريالية العالمية و الاقليمية أو ربما تحالف بينهما
الآن أتأمل ثورات يوليو و أجد أن تجنب بعض الاسئلة التي تفرض طرحها سيكون جبنا إن لم يكن خبثا ف أجد أنه لا مفر من التفاعل مع أسئلة من قبيل "هل مصير الثورات هو الفشل في تحقيق اهدافها؟ و لِمَ تلتهم الثورة أبنائها ؟" و حينما أرى العديد من الناس العاديين يبدون حنينهم للأنظمة السابقة استحضر موقف أفلاطون من ثورات عصره و هو موقف يوحي لنا حينما نراه الآن بأن خيبة أمل الناس من الثورات التي يدعمونها في البداية راسخ مثل القوانين الطبيعية إذ يقول أفلاطون في الرسالة السابعة:
" كنت لا أزال في ريعان الشباب عندما حدث لي ما يحدث — عادةً — للكثيرِين، فقد تَطلَّعْتُ إلى الإلقاء بنفسي في أحضان السياسة بمجرد بلوغي سن الرشد (٣٢٤ﻫ)، وكانت هذه هي صورة الأحوال السياسية العجيبة التي سادت مَسقَط رأسي؛ فقد كان الناس ناقمِين على الدستور القائم، وتَمَّتْ ثورةٌ نتج عنها تركيز السلطة في أيدي واحد وخمسين رجلًا، كُلِّف منهم أحد عشر رجلًا «بتولي الوظائف العليا» في المدينة، وعُيِّن عشَرةٌ آخرون على بيرايوس، «وقد عُهد إلى هذَين المجلسَين بالإشراف على مراقبة الأسواق وغيرها من الشئون الإدارية العامة»، أمَّا الثلاثون الباقون فقد تَولَّوا زِمام السلطة المُطلَقة. وكان بعض هؤلاء يَمُتُّون إليَّ بِصلة القرابة، وبعضهم الآخر من معارفي؛ ولهذا دعوني على الفور إلى التعاون معهم، وكأن اشتغالي بالسياسة أمر مفروغ منه. ولم يكن من المُستغرَب من شاب مثلي أن يَتوقَّع منهم أن يحكموا المدينة حكمًا ينقلها من الظلم إلى العدل (٣٢٤د)؛ ولهذا رُحتُ أَرقُب ما يفعلونه بعناية واهتمام بالغَين. وسرعان ما اكتَشفْتُ أن هؤلاء الرجال قد استطاعوا — في أقصرِ وقتٍ ممكن — أن يجعلوا الحكم السابق عليهم يبدو في صورة عصر ذهبي (٣٤٢ﻫ)"
و يدرك الثوريون أن الثورة المضادة عادة ما تحاول استغلال الازمات (التي تكون في الواقع سببا لاندلاع الثورة لا نتيجة لها) لتجميل الوضع السابق كما ينقل لنا التاريخ أنه خلال فترة من فترات الثورة الفرنسية و الثورة الروسية كان مِن الجماهير المستاءة مَن يهتف بحياة الملوك المخلوعين و في مصر الآن هناك من يلعن السيسي و يعلن ندمه على مشاركته في الثورة ضد مبارك و قد يبدوا ادعاء ميكيافيلي حول تقلب الجماهير مغريا لتفسير هذه الحالات التي يحتاج كل منها تحليلا ملموسا مختلفا في الواقع لكنني أرى أن تروتسكي قد قدم تفسيرا أكثر اقناعا و تماسكا إذ يقول في أطروحاته حول الثورة و الثورة المضادة:
" 1 – كانت الثورات عبر التاريخ متبوعة دائما بثورات مضادة. ودائما، تعيد الثورات المضادة المجتمع إلى الوراء، لكن ليس أبدا إلى نقطة انطلاق الثورة. ويمثل تعاقب الثورات والثورات المضادة نتاج خصائص جوهرية لآلية المجتمع الطبقي، حيث تمكن، دون سواه، ثورات وثورات مضادة.
2 – تتعذر الثورة بدون مشاركة الجماهير. وتستحيل هذه المشاركة بدورها ما لم تربط الجماهير المضطهدة تطلعها إلى مستقبل أفضل بالثورة . وبمعنى ما، دائما ما يكون الأمل الذي تستثيره ثورة مبالغا فيه. هذا ناتج عن آلية المجتمع الطبقي، أي عن وضع أغلبية الجماهير الشعبية المريع، وعن الحاجة الموضوعية لاستثارة أعظم الآمال وتعبئة أكبر الجهود من أجل تأمين حتى أبسط نتيجة، الخ.
3 – تنتج عن هذه الشروط ذاتها إحدى أهم عوامل الثورة المضادة- فضلا عن كونه إحدى أكثرها شيوعا. فالمكاسب المنتزعة في النضال لا تطابق، ولا يمكنها بقوة الأشياء أن تطابق، مباشرة تطلعات الجماهير المتخلفة العريضة المستيقظة لأول مرة في غضون الثورة. إن خيبة أمل هذه الجماهير، وعودتها إلى حياة الرتابة والتفاهة، يمثل جزءا لا يتجزأ من الحقبة ما بعد الثورية، شأنه شأن انتقال الطبقات “الراضية”، المشاركة في الثورة، أو فئات منها، إلى معسكر” القانون والنظام”.
4 – وبعلاقة وثيقة مع هذه الأواليات، تحدث في معسكر الطبقات الحاكمة سيرورات موازية، لكن مغايرة، وحتى متعارضة جزئيا معها،. يخيف استيقاظ كتائب عريضة من الجماهير المتخلفة الطبقات الحاكمة، لأنه يغير ما اعتادت من توازن، ويحرمها مما كانت تحوز من دعم مباشر وثقة من لدن الجماهير، متيحا على هذا النحو للثورة إمكانات أكبر بكثير من تلك التي بوسعها فعلا أن تستغلها.
5 – إن خيبة قسم كبير من الجماهير المضطهدة إزاء مكاسب الثورة المباشرة، وبصلة مباشرة مع هذا، تناقص الطاقة والنشاط الثوري الطبقي، يولدان ثقة مجددة لدى الطبقات المعادية للثورة– تلك التي أطاحتها الثورة دون أن تحطمها، وكذا تلك التي ساعدت في مرحلة ما الثورة، لكن تطور هذه اللاحق دفعها إلى معسكر الرجعية."

و وضح تروتسكي في أطروحته التاسعة أن "أفضل ضمانة ضد إعادة المَلكية والملاكين العقاريين هي المصلحة المادية المباشرة التي لأغلبية الفلاحين في الحفاظ لنفسهم على الملكيات الكبيرة القديمة." و بهذا فهو يشير بالطبع لتفوق المنهج الماركسي و قدرته على مساعدتنا في صياغة سياسة تساعدنا على التصدي للثورة المضادة إذ أنه بدل شعارات فضفاضة يمكن و يجب تمتين ارتباط الثورة بحلفائها من خلال المصالح الطبقية الملموسة التي يجب أن تجسدها و توضح لنا تجربة ثورة يوليو المصرية و حتى تجربة ثورة يوليو العراقية أنه لا خوف على ثورة تُقدم للطبقات الشعبية مكتسبات ملموسة لكن ثورات يوليو و كل الثورات تقريبا تشير لنا لضرورة التعامل مسألة الديكتاتورية الثورية فنحن الآن مثل الجماهير الباريسية و مثل جميع الثوار نناضل من أجل الحرية و الديموقراطية لكن الثورة الفرنسية و أيضا ثورات أخرى توضح لنا أنه عشية الثورة غالبا ما يشيع "استبداد الحرية" و لا تشيع الحرية بالطريقة التي يتمناها المناضلون في البداية و هذه قضية في غاية الاهمية لأن روبسبيير و لينين و عبد الناصر و عبد الكريم قاسم متهمون بالديكتاتورية و لأن هذه الأخيرة تُصور كما لو أنها مجرد ميل شخصي لهؤلاء في حين أن تأملي للثورات يدفعني للاعتقاد بأنها تنبع من ظروف موضوعية تفرضها على الثوريين قسرا و هذه حقيقة مرعبة في ظل كون الديكتاتورية الثورية التي تحمي الثورة في البداية تصبح حفارة قبرها في وقت وجيز و لا حاجة لذكر أن روبسبيير حينما صفى الهيبرتيين(اليساريين المتطرفين) و الدانتونيين(المعتدلين) قد مهد لسقوطه بالفعل كما يمكننا أن نقول نفس الشيء عن الزعيم العراقي عبد الكريم قاسم فرغم أن هذا الرجل لم يكن دمويا و كان رحيما حتى بأعدائه الذين لم يبطش بهم بعد محاولتهم الانقلاب عليه غير أن الديكتاتورية فرضت عليه الصدام مع حلفائه الشيوعيين مما جعله ضعيفا أمام أعدائه رغم أن الحلفاء لم يتخلوا عنه و لما ينظر المرء لحقيقة أن هذا الشريرة الذي تدّعي أنها ضرورة لابد منها غالبا ما تنتهي بالتهام ابنائها فإلى جانب الاستغراق في التفكير في حلول تحُدّ من شرورها يجد نفسه يتمنى ألا تؤدي الديكتاتورية الثورية لأكثر مما أدّت له الديكتاتورية بعد ثورة 23 يوليو إذ أن عضو مجلس قيادة الثورة خالد محي الدين (الذي تم نفيه بسبب الخلاف مع رفاقه) كان محقا حينما افتخر بأن ثورتهم لم تكن دموية و لم تلتهم أيا من أبنائها رغم كل شيء أما من ناحية أخرى فحين أتأمل ثورات الربيع العربي المتعطشة للحرية و الديموقراطية يبدوا لي أن عدم انتصار الثورة في أي بلد لحد الآن هو السبب الوحيد لكوننا لم نرى الديكتاتورية الثورية و لم نرى سوى ديكتاتورية الثورة المضادة وحين أحاول التفكير في كيفية تجنب الديكتاتورية أو استبداد الحرية في ثوراتنا أجد نفسي حائرا أمام تساؤلات ملموسة لا مفر منه فهل يمكن للثورة أن تكون مسيحية و تُحب أعدائها و تعطيهم خدها الأيسر إن لطموا الأيمن؟ أ لن يصلبها أعدائها بوحشية على غرار ما فعلوا مع المسيح الذي بشّر بالمحبة و بعدم مقاومة الشر...و بأخلاق العبيد...؟ الآن يوجد صحفيين معتدلين و مدونين أكثر منهم اعتدالا في السجون فقط لانهم عبّروا عن رأي نقدي محتشم ضد النظام السائد غدا ان انتصرت الثورة في أي بلد من بلداننا هل ستسمح لمن يدافعون اليوم عن استبداد الانظمة بالحرية لنفث سمومهم ضدها ؟...لعل الجواب واضح لكن ما يتأسف عليه المرء هو أن الديكتاتورية الثورية قد لا تقف عند هذا الحد بل يمكن أن تدوس في طريقها حتى على اصدقائها الذين قد يُبدون عدم تفهمهم أو تشككهم نحوها دون أن يكونوا أعداء أو متآمرين و بالنسبة للثوريين فالواجب الاخلاقي يفرض عليهم بقوة الانتباه و الاهتمام بسلامة هؤلاء الاصدقاء الذين يمكن أن يخطئوا في حق الثورة دون أن يكونوا مجرمين
الآن و أنا أتأمل يوليو و ثوراته أجد نفسي في مفارقة عجيبة فبينما تطربني و تلهمني أنغام و أحلام أغنية "الوطن الأكبر" يحبطني و يحزنني واقع هذا الوطن الأكبر بعد عقود من الاستقلال الشكلي إنني أتساءل بحرقة و شوق عن موعد قدوم ذلك اليوم الذي تنعم فيه شعوبنا بطعم النصر و تحقق فيه حلمها القديم بالحرية و الوحدة و الاشتراكية وعلى أي حال فقد يكون موعد تحقق ذلك الحلم الذي صار ضرورة ملحة بعيدا حتى إن كان حتميا لكن موعد اندلاع انتفاضات عربية جديدة قد لا يكون بعيدا جدا و نحن الآن في منتصف يوليو فقط و لا أحد يدري بماذا يمكن أن ينتهي فقد يمر ب"سلام" و قد لا يذهب دون أن يكون بداية لأيام قد تهز العالم هنا أو في مصر أو أي بلد من بلداننا التي يخفي سكونها غليانا و وضعا ملتهبا الآن نحن في يوليو و لا شك أن السيسي المجرم سيلقي خطابا بمناسبة ثورة يوليو في مصر التي تمر بأزمة خطيرة بسبب نظامه و لا شك أن نتيجة مغامرة العجوز التونسي غير محسومة و لا أحد يمكنه الجزم بكيف يمكن أن ينتهي يوم 25 يوليو أما في المغرب الذي سحق فيه الارتفاع الجنوني للأسعار جماهير شعبنا فقد قلتُ في السنة الماضية و سأكرر الآن نفس الشيء بقناعة أكبر إن الوضع هنا يحمل في أحشائه جنين الثورة رغم السكون الظاهر و في ظل الشائعات التي تروج حول وفاة الملك فمن المحتمل أن يكون لغيابه في عيد العرش(30 يوليو) تأثير يصعب تقدير تأثيره(قد يكون للأسف حتى تأثير التعاطف) على أي حال واجبنا نحن الثوريين المغاربة هو اعداد نفسنا للمهام التي تنتظرنا ومن يدري فلعل ثورتنا تنعم بنصر سيكون في جوهره نصرا لكل الشعوب العرب فقد كان اقتحام الجماهير البارسية لسجن الباستيل في 14 يوليو 1789 حدثا ألهم و زلزل أوروبا آنذاك كما كانت و لازالت ثورة 23 يوليو فخرا للأمة العربية و لكل قوى الحرية و لعل أكثر شيء نحتاجه اليوم هو نسخة شعبية من يوليو المصرية تلهم الشعوب العربية لمحاكاتها و تشجعها بنصرها و انجازاتها فضلا عن مساعدتها المادية على غرار ما قامت به مصر الثورية مع الثورة الجزائرية و الثورة اليمنية

ملاحظات :
- بخصوص ثورة يوليو بالضبط أرغب أن أوضح أنها مرّت بمراحل مختلفة و يكفي أن نذكر أن الضباط الأحرار كما يقول محمد نجيب كانوا يتحفظون عن تسميتها بالثورة و كانوا يكتفون بكلمة "حركة" ثم كلمة "الحركة المباركة" فيما بعد و بالتالي فقد نزعم دون خوف من المبالغة أن الثورة لم تبدأ إلا بعد تأميم قناة السويس أما بخصوص تظاهر العمال ضد الديموقراطية خلال أزمة مارس 1954 فرغم أن ناصر قدم "رشوة" لقادة النقابات إلا أن ذلك لا ينفي أن تلك المظاهرات كانت تعبيرا صادقا عن شعور العمال و دعنا نطرح سؤالا لا يخلوا من الفجاجة لنوضح ما أقصد فهل كان يمكن مثلا تقديم رشوة للنقابات من أجل اقناع العمال بالتظاهر تأييدا للاستعمار البريطاني و هل كان ينقص الاحزاب السائدة آنذاك الخساسة للسعي لإرشاء النقابات من أجل دعمهم؟ و بالطبع فرغم إشادتي بعبد الناصر إلا أنني لا أنفي أنه ارتكب اخطاء عديدة
- عن تلك القوة التي غابت عن ثوراتنا يمكن لهذا الاقتباس من مقالي "حول السلطة و القانون و المجتمع" أن يعطي لمحة عن ما أقصده:
"(...)و قد صنعت جماهير الشرق الأوسط و شمال افريقيا ملحمة ثورية عظيمة كانت الشجاعة بطلتها الرئيسية و لم تنحصر نور و نيران تلك الشجاعة في استبداد الأنظمة بل شملت حتى ما كان يُعتبر من المحظورات و المحرمات في المجتمع إلا أن ما غاب عنها لأسباب موضوعية و ذاتية هو مسألة السلطة السياسية فرغم جرأتها في استهداف مسائل جذرية لم يكن الاستيلاء على السلطة من أهداف تلك النيران حتى في الظروف التي كانت ملائمة لها و لم يكن إغفال هذه المسألة أمرا ثانويا بل خلق ثغرة تسلل من خلالها الارتباك لمعسكر الثورة فبقوتها و صمودها استطاعت الجماهير اسقاط الطغاة لكن هذا لم يكن سوى غاية من غايات ثورتها أما الغايات الأخرى التي كان أهمها الحصول على كنوز الديمقراطية الاجتماعية و السياسية فقد كانت هناك وسيلتان لتحقيقها الأولى هي الحصول على مفتاح صندوق الكنوز عن طريق الانتصار في المواجهة مع سارقيه و الثانية هي الضغط عليهم و التفاوض معهم ليتنازلوا عن بعض الكنوز و رغم أن سير الجماهير في طريق الثورة كان يعني تبنيها للوسيلة الأولى إلا أن عدم طرح استيلاء الجماهير على مفتاح السلطة السياسية باعتباره الوسيلة الوحيدة للحصول على الكنوز سمح لبعض الاصلاحيين بالتدخل وسط المواجهة و الترويج للوسيلة الثانية باسم الواقعية و قد أثبتت كل ثورات التاريخ و المنطقة طوباوية واقعيتهم"
- سنتطرق بالتفصيل للديكتاتورية الثورية حين تسنح الفرصة لكنن سنكتفي الآن بذكر أن أخطر ما تحمله هو أنها غالبا ما يمكن أن تنتهي احتكار السلطة من طرف طاغية و ديكتاتور مطلق يدعي العصمة بحكم الضرورة و قبل وصول السيرورة لنتيجتها الحتمية تكون الديكتاتورية الثورية التي تتنشأ للدفاع عن الثورة قد شلّت القوى الثورية التي دعمتها في وقت من الاوقات (لأنه بقدر ما تستمر و تنموا الديكتاتورية الثورية تتنامى معها النزعة الاقصائية التي تميل للتشكيك في مكوّناتها و أعضائها لا فقط في حلفائها كما أن الاتهام الذي يبدأ غالبا كاتهام بالتراخي و التردد ينتهي كاتهام بالخيانة)