حكاية ثورة


فاضل عباس البدراوي
2022 / 7 / 15 - 16:07     

في فجر مثل هذا اليوم من عام ١٩٥٨، كنت نائما على سطح الدار كعادة البغادّة في تلك الاعوام حيث لم تكن الحرارة بمثل حرارة هذه الاعوام، فاذا يطرق سمعي صوت ضجيج ينبعث بالقرب من دارنا، قلت في نفسي ما هذا هل يُعقَل ان يتشاجر الجيران في مثل هذا الوقت المبكر؟ لا بدأت اصوات موسيقى عسكرية تتردد صداها الى سمعي من بعيد، نزلتُ الى غرفتي فتحت المذياع ووضعت المؤشر على موجة اذاعة بغداد، هنا كانت المفاجأة حيث بدأت تتردد بين فواصل المارشات العسكرية عبارة هنا بغداد اذاعة الجمهوربة العراقية، تسمّرتُ امام المذياع، قلت في نفسي ربما هذه اذاعة سرية تبث من الخارج، لكن بعد لحظات انجلى الموقف عندما بدأ المذيع يتلو البيان رقم واحد الصادر عن القائد العام للقوات المسلحة يعلن فيه عن أسقاط النظام الملكي العميل للاستعمار واعلان النظام الجمهوري، لكنني كنت حتى تلك اللحظات بين الشك واليقين، ربما هو انقلاب كسائر الانقلابات العسكرية في المنطقة والعالم، لكن زال الشك وثبُتَ اليقين عندما توالت اذاعت البيانات والقررات الصادرة عن القائد العام للقوات المسلحة، أهمها تشكيل مجلس سيادة من ثلاث شخصيات وبيان اخر وهو الذي كشف عن هوية الحركة العسكرية، المتضمن تشكيل حكومة جديدة برئاسة الزعيم الركن عبد الكريم قاسم، أذن هو قائد هذه الحركة معظم وزرائها كانوا من الشخصيات الوطنية المعروفة بمعاداتها للاستعمار ومعارضتها للنظام القائم مع وزيرين من الضباط الاحرار.
بعد تلاوة تلك البيانات بدأ المذيع يوجه نداءات الى جماهير الشعب يحثهم للنزول الى الشارع ومساندة ثورتهم الشعبية، هذه مفارقة كبيرة فهذا اول انقلاب عسكري يدعو قادته الجماهير للنزول الى الشارع فعادة عند حدوث أي انقلاب عسكري في أية دولة يُعلِن الانقلابيون منع التجوال.
ارتديت ملابسي واتجهت الى شارع غازي، الكفاح حاليا، القريب من دارنا تلبية لنداء الثورة فاذا بجماهير الشعب تتدفق الى الشوارع زرافات زرافات، خَلت البيوت من سكانها الذين استجابوا لنداء الثورة، غصت الشوارع بمئات الالاف من ابناء الشعب، نساءا ورجالا شيبا وشبابا وحتى الاطفال، النساء يزغردن ويوزعن الحلوى على المواطنين المحتفلين بالثورة واخرين يجلبون الماء البارد لتوزيعه على المحتفلين، في سويعات قليلة تحولت الحركة العسكرية الى ثورة شعبية اجهضت أية محاولة للاجهاز عليها فلولا نزول الجماهير الغفيرة بهذا الزخم الكبير من اقصى شمال العراق لاقصى جنوبه ربما لم يكن يحالف الثورة النجاح. هذا وحده كاف لدحض افتراءات بعض من مزوري التاريخ واحفاد رجالات العهد البائد من ان النظام الملكي حقق منجزات كبيرة للعراقيين وانه كان نظاما ديمقراطيا وغيرها من الاكاذيب التي انسجتها مخيلتهم واقلامهم الصفراء، اذا كان النظام الملكي يحمل تلك الصفات الحسنة بحسب ادعاءات انصاره اليوم ومعظمهم لم يكن هم وابائهم قد وِلدوا اصلا في تلك الفترة، لماذا اذن خرج ملايين العراقيين لمساندة الثورة؟ كانوا على الاقل يلازمون بيوتهم ان لم يخرجوا للدفاع عنه بدلا من الخروج لتأييد الحركة؟.
باستثناء مصرع نوري سعيد الذي هام على وجهه في الشوارع متنكرا بزي أمرأة بسبب عدم استقباله حتى من اقرب اعوانه في دورِهم لعلمهم بأنه كان مكروها من لدن الشعب، وقد وقع صيدا ثمينا بيد الجماهير الغاضبة في شارع السعدون قرب ساحة النصر حيث قُتل على أيديهم انتقاما منهم لعمالته للاستعمار وجرائمه بحق احرار العراق، والحادثة الثانية هو مقتل العائلة الملكية على يد ضابط شاب طائش لم يكن مرتبطا بحركة الضباط الاحرار انما كان يحمل فكرا قوميا، قبل ان ينتحر بسنوات لم يذكر ولو بكلمة واحدة انه كان مكلفا من أي من قادة الضباط الاحرار بقتل العائلة الملكية اضافة لنكران قادة الثورة علاقتهم بمقتل العائلة.
لم تحدث اعمال تخريب او سلب ونهب لممتلكات الدولة والمواطنين بالرغم من ان غالبية المواطنين كانوا يعانون من فقر مدقع الا انهم كانوا على درجة من الوعي اذ كانوا مدركين انها ممتلكات الشعب وليست ممتلكات النظام الذي سقط، كما ان مراكز الشرطة لم تسجل طيلة اكثر من شهر بعد الثورة اية جريمة جنائية.
في اليوم الثاني للثورة عاد الموظفون واصحاب الاعمال الى دوائرهم ومحلاتهم، يهنؤون بعضهم البعض بالثورة والجمهورية الوليدة وعادت الحياة الى طبيعتها.
لا اريد ان اسرد هنا منجزات الثورة فهي لا تعد ولا تحصى ومسجلة في الارشيف الوطني العراقي، يتقول بعض الحاقدين على الثورة ان تلك المنجزات كان مخطط لها من قبل مجلس الاعمار في النظام الملكي، هذا قول صحيح لكن طيلة ثمانية اعوام من تأسيس مجلس الاعمار لم يُنفذ منها الّا النزر القليل، فالفضل يعود لمن ينفذ فقد نفذت حكومة الزعيم تلك المشاريع التي كانت مخططة ومرسومة على الورق فما قيمة تلك المخططات ان لم تنفذ على ارض الواقع؟ واضافت حكومة الثورة اليها مئات من مشاريع اخرى غطت كامل مساحة الالوية العراقية،( المحافظات). هذه حكاية ثورة ١٤ تموز المجيدة باختصار.