الكاليبان العظيم: النضال ضد الجسد المتمرد 2


مالك ابوعليا
2022 / 7 / 15 - 00:03     

المؤلفة: سيلفيا فيديريتشي Silvia Federici

ترجمة مالك أبوعليا

الملاحظات والتفسير بعد الحروف الأبجدية بين قوسين (أ)، (ب)... هي من عمل المُترجم

عالج الجزء الأول من هذا المقال تطور اهتمام جديد بالجسد في فلسفة ونظرية القرن السابع عشر الاجتماعية، واضعاً هذا في سياق صعود الرأسمالية المركنتيلية ومحاولتها لفرض نظام ضبط عمل أكثر صرامة على قوة عاملة أكثر تمرداً. لقد جادلت، (بالعودة الى ماركس وماكس فيبر) بأن الانشغال الجديد بالجسد وتشكيله كآلة عمل، والذي يُمكن تتبع ظهوره في أعمال الفلاسفة الميكانيكيين، هو جزء جوهري من تنظيم تشكيل البروليتاريا. يستقصي الجزء الثاني هذه العملية، ويُظهر مرةً أُخرى التواطؤ بين السياسة المؤسسية وخطاب الضبط والربط وازدياد التطابق الاستعاري بين الجسد والبروليتاريا.
كانت فلسفة القرن السابع عشر الميكانيكية متوافقة مع تدخّل الدولة الذي نجح في شن هجوم لا هوادة فيه على جميع جوانب المُجتمع ما قبل الرأسمالي. تتضح أبعاد هذا الهجوم في التشريع الاجتماعي الذي طُرِحَ بحلول مُنتصف القرن السادس عشر في انجلترا وفرنسا. تم تحريم الألعاب، وخاصةً العاب الحظ، الى جانب كونها عديمة الفائدة، فإنها تقوَض الشعور بالمسؤولية تجاه العمل. تم إغلاق الحانات والحمامات العامة. تمت مُعاقبة التعرّي وكذلك جميع أشكال النشاط الجنسي "غير المُنتجة". كان من غير المسموح الشرب والحلفان والشتم(1).
في هذا السياق، يجب أن نفهم أيضاً الهجوم على السحر، وبشكلٍ عام، النظرة السحرية للعالم، والتي، على الرغم من جهود الكنيسة، استمرت في الانتشار على المستوى الشعبي طوال فترة العصور الوسطى. كان هناك، في أساس السحر، تصوّر إحيائي animistic للطبيعة والذي لم يعترف بأي فصل بين المادة والروح، وبالتالي، نَظَرَ الى الكون ككائن حي، تسكنه قُوىً غامضة، حيث كل عُنصر في علاقة "تعاطفية" مع بقية العناصر. في هذا المنظور، كان يُنظَر الى الطبيعة، كما ادّعى فوكو، على أنها شبكة من الاشارات والعلامات، والتي تُحدد الصلات غير المرئية التي يجب فك ألغازها(2). ان كل عُنصر، مثل الأعشاب والنباتات والمعادن، والأهم من ذلك الجسد البشري، يُخفي فضائل وقوىً خاصة به. وهكذا، هناك ممارسات يُمكنها أن تفك ألغاز الطبيعة وتطوّع قواها للارادة الانسانية. من قراءة الكف palmistry الى العِرافة divination، ومن استخدام السحر الى المُعالجة بالتعاطف، فقد فتح السحر مصراع بوابة الإمكانات. كان هناك سحر مُصمم للفوز بألعاب الورق، والعزف على آلات غير معروفة، ولكي يصير المرء خفياً، وكسب حب شخصٍ ما، والحصول على المِنعة في الحرب، ولجعل الأطفال ينامون(3).
كان القضاء على هذه الممارسات شرطاً ضرورياً لعقلنة العمل الرأسمالية. ظَهَرَ السحر كأداة للحصول على ما يُريده المرء بدون عمل، أي أنه كان رفضاً صريحاً للعمل. أعرب بيكون متحسراً أن "السحر يقتل الصناعة"، مُعتبراً أن أكثر شيء يُزعجه هو الافتراض القائل أنه يُمكن للمرء أن يحصل على نتائج مُعينة من خلال عددٍ قليلٍ من الوسائل السهلة والخاملة، بدلاً من عرق جبينه(4).
بالاضافة الى ذلك، استند السحر الى مفهوم نوعي للزمان والمكان حال دون تنظيم عملية العمل. لا يُمكن فرض أنماط عمل مُنظّمة على البروليتاريا التي تلوذ بالفكرة القائلة أن يوماً لك ويوماً عليك، أي أيامٍ تلك يُمكن للمرء أن يُسافر فيها، وأيام أُخرى لا ينبغي للمرء أن يُبارح فيها المنزل، أيام يتزوج فيها، وأيام يُمكنه أن يتفادى المشاريع بحذر. لم يكن مفهوم الكون الذي يعزو قوىً خاصة الى الفرد، مثل أن يختفي أو أن يُغادر المرء جسده، أو تقييد آرادة الآخرين بالتعاويذ السحرية، نقول، لم تكن هذه متوافقة بشكلٍ مُماثل مع نظام العمل الرأسمالي.
لن يكون من المفيد البحث فيما ان كانت هذه القوى حقيقية أم خيالية. يُمكن القول أن جميع المُجتمعات ما قبل الرأسمالية قد آمنت بها، وشهدنا، في الآونة الأخيرة، ممارساتٍ، كان من المُمكن أن تكون بمثابة سحر في الزمن الذي نتحدث عنه. دعونا نذكر، على سبيل المثال، الاهتمام المُتزايد بالباراسايكولوجي والتغذية الراجعة الحيوية (الارتجاع الحيوي) biofeedback(أ) التي يُطبقها الطب الرسمي المُعاصر بشكلٍ مُتزايد. إن إحياء قدر ضئيل من المُعتقدات السحرية اليوم هو أمرٌ مُمكن لأن ميكنة الجسد هو من مُكونات الفرد (على الأقل في البُلدان الصناعية)، بحيث أن إعطاء مساحة للاعتقاد بالقوى السحرية لا يُعرّض انتظام السلوك الاجتماعي للخطر. يُمكن حتى السماح بإحياء التنجيم، لأن أكثر المُستهلكين المُتعصبين للادعائات التنجيمية سوف ينظرون الى ساعتهم تلقائياً قبل ذهابهم الى العمل.
ومع ذلك، لم يكن هذا مُمكناً بالنسبة للطبقة الحاكمة في القرن السابع عشر التي لم تكن تمتلك، في هذه المرحلة الأولية المُبكرة من التطور الرأسمالي، ذلك المُستوى من الرقابة الاجتماعية اللازمة لتحييد المُمارسات السحرية، أو دمجها وظيفياً في تنظيم الحياة الاجتماعية. بالكاد يُهم، من وجهة نظرهم، ما اذا كانت القُوى التي يدّعي الناس امتلاكها أو يتطلعون الى امتلاكها حقيقيةً أم لا، لأن وجود المُعتقدات السحرية كان مصدراً للعصيان الاجتماعي.
خذ، على سبيل المثال، الاعتقاد السائد بإمكانية العثور على كنوز مخفية بمساعدة التعويذات السحرية(5). كان هذا عائقاً أمام تأسيس نظام عمل طوعي مقبول. كانت الطبقة الحاكمة تشعر أيضاً بالتهديد من استخدام الطبقات الدُنيا للنبؤات، خاصةً خلال الحرب الأهلية الانجليزية والذي كان يُساعد الناس على صياغة برنامج للنضال(6)(ب). ان النبؤات، في الواقع، لا تُعبّر فقط عن استسلام قَدَري لمُستقبلٍ مُحدد سلفاً، بل تُعبّر عن ارادة الفرد، والتي يخدم نجاحها المضمون على اضفاء الشرعية على رغبات المرء وتوفير حافزٍ على العمل. أدرك هوبز ذلك عندما حذّر من أنه "لا يوجد شيء... يُمكنه توجيه البشر بشكلٍ جيد في تعاملاتهم مثل تبصّر تتمة أفعالهم. النبوءة كانت في عديدٍ من المرات سبب الأحداث المُتنبأة"(7).
الى جانب الأخطار المُباشرة التي كانت تُشكلها النبوءة، كان على البرجوازية أن تكافح الايمان بقوة السحر لأنه قوّض مبدأ المسؤولية الفردية، بقدر ما كان هذا الايمان يضع مُحددات العمل الاجتماعي في عالم النجوم، بعيداً عن متناولهم ومدى سيطرتهم.
وهكذا، في سياق عقلنة المكان والزمان التي ميزت اندفاع التأملات الفلسفية للقرنين السادس عشر والسابع عشر، تم استبدال النبوءة بحساب الاحتمالات، التي تكمن ميزتها، من وجهة نظر رأسمالية، في أنه يمكن توقع المُستقبل بقدر ما يُمكن حساب انتظامات النظام وثباته، أي فقط بقدر ما يُفتَرَض أن المُستقبل سيكون مثل الماضي، ولن يوجد أي تغيير كبير أو ثورة ستُخرّب إحداثيات القرار الفردي. وبالمثل، كان على البرجوازية أن تُكافح الاعتقاد القائل بأنه يُمكن للمرء أن يكون في مكانين في نفس الوقت، لأن ثبات الجسد في الزمان والمكان، أي تحدّد الفرد المكاني والزماني، هو شرط أساسي لإنتظام عملية العمل(8).
ان عدم توافق السحر مع المقولات المكانية-الزمانية التي يتطلبها تنظيم العمل الرأسمالي هو أحد الأسباب التي أدت، في الهجوم ضدها، الى إظهار ارهاب الدولة بأكبر قدرٍ من العُنف-وهو الإرهاب الذي صفّق له بدون تحفّظ ممن إعتُبِروا آباءاً للعقلانية العلمية: جان بودين Jean Bodin ومارين ميرسينيه Marin Mersenne، والفيلسوف الميكانيكي وعضو الجمعية المَلَكية ريتشارد بويل Richard Boyle ومُعلّم نيوتن اسحاق بارو Isaac Barrow(9)، وحتى المادي هوبز مع أنه بقي بعيداً عن المشهد الا أنه أعطى موافقته: "لا أعتقد، فيما يتعلق بالساحرات، أنهن يملكن أية قوة سحرية حقيقية، بل أنهن يُعاقَبن بعدل على اعتقادهن الخاطئ بأنهن قادرات على ارتكاب أعمال مؤذية، وعلى نيتهن بارتكابها لو استطعن"(10). وأضاف أنه ان تم القضاء على هذه الخرافات: "سيصبح البشر أكثر استعداداً بكثير للطاعة المدنية مما هم عليه الآن"(11).
كانت نصائح هوبز مُفيدة. كانت العِمدان التي حُرِقَت عليها الساحرات بمثابة مُختبر حيث تم استخلاص الكثير من الضبط الاجتماعي. هنا تم القضاء على عناصر اللاعقلانية، تلك الاضطرابات التي حالت دون تحوّل الجسد الاجتماعي الى مجموعة من العناصر المُتجانسة والتي يُمكن التنبؤ بها والتحكم فيها. وفقاً لنيتشه، كان الدم والتعذيب ضروريين لترسّخ ذكرى القواعد الجديدة، و"تنشئة حيوان" سيكون سلوكه "مُصمماً ومتوحداً، نداً بين أنداده، مُنتظماً وبالتالي يُمكن تقدير عواقب تنشئته"(12).
كان أحد العناصر المُهمة في هذا السياق هو ادانة جميع أشكال النشاط الجنسي مثل الاجهاض ومنع الحمل ولكل شكل من أشكال النشاط الجنسي الأُخرى غير المُنتجة، وكان الهدف من ذلك هو تسليم رحم المرأة الى أيدي الدولة والأطباء لجعله آلة طبيعية لإعادة انتاج قوة العمل(13). تمت مصادرة أجساد البروليتاريين منهم من خلال مُهاجمة السحر، بالضبط كما تمت مصادرة أراضيهم، حيث نعني بالمصادرة هُنا تدمير مَلَكات مُعينة واخضاعها لأهداف نظام الانتاج الناشئ. على الرغم من تجاهل الماركسيين لصيد الساحرات، الا أنه يُمثل جانباً مركزياً من جوانب "تحرير قوة العمل"، باعتبار هذا الصيد، مركزياً بقدر مركزية الاجراءات التي أجبرت الفلاحين على مُغادرة أراضيهم. لأنه فقط بعد مصادرة الجسد البروليتاري، يُمكن استبدال استخدام القوة، بعلاقة العمل المبنية على "البيع الطوعي" لقوة العمل.
ومع ذلك، استمرت هذه العملية ببطئ طوال القرن السابع عشر وحتى القرن الثامن عشر، في مواجهة مقاومة بروليتاريا قوية لم يكن حتى الخوف من الاعدام يبدو قادراً على التغلّب عليها. قام بيتر لينبو Peter Linebaugh بتحليل مثال رمزي لهذه المقاومة في كتابه "احتجاجات تايبورن ضد الجراحين" The Tyburn Riots Against the Surgeons. ذكرَ لينبو أن مجموعةً من أقارب وأصدقاء شخص كان محكوماً بالاعدام قاموا باشعال فتيل معارك في أوائل القرن الثامن عشر في لندن، لمنع مساعدي الجراحين من الاستيلاء على الجثة، لاستخدامها بعد ذلك في دراساتهم التشريحية(14). كانت المعارك شرسة لأن الخوف من التشريح لم يكن أقل من الخوف من الموت. لم يكتفِ التشريح بالغاء امكانية احياء المُدان بعد الاعدام بطريقة سيئة (يُمكن ان يُعدم المرء بطريقة سيئة بحيث أنه يُمكن أن لا يكون قد مات)، كما حدث كثيراً في انجلترا القرن الثامن عشر(15)، بل أيضاً كان لا يزال هناك في أوساط الطبقة العاملة مفهوم سحري عن الجسد، والذي يتقوّم بأن الميت يعيش بعد الموت، وأن المرء يُنعَمُ عليه بقوىً جديدة من خلال الموت بالذات. كان يُعتَقَد، على سبيل المثال، أن الموتى يمتلكون القُدرة على "العودة مرةً أُخرى" والقيام بانتقامهم الأخير من الأحياء. كان يُعتَقَد أيضاً أن الجثة لها فضائل الشفاء، لذلك كانت هناك حشود من المرضى يتجمعون حول المشنقة متأملين أن تحصل لهم مُعجزةً ما عند ملامستهم لأطراف الميت مثل تلك اللمسات التي يُزعم أن الملك يُقدمها(16). بعد ذلك، ظَهَرَ أن التشريح هو عارٌ من نوعٍ آخر، وموتٌ آخر، وقضى المُدانين أيامهم الأخيرة في التأكد من أن جسدهم لن يتم تقديمه للجراحين. هذه المعركة، التي تحدث بشكلٍ ملحوظ عند عتبات المشنقة، تُظهِر كُلٍ من كم العنف الذي ساد العقلنة العلمية للعالم، وتصادم مفهومين مُتناحرين عن الجسد ومصلحتين مُتعارضتين تجاهه. من ناحية، هناك مفهوم عن الجسد يرى أنه يتمتع بالقوى حتى بعد موته بحيث لا يُعطي المرء ذلك النفور الذي سيشعر به لاحقاً تجاه الجثة كشيء عَفِن وغريب. على الجانب الآخر، هناك مفهوم عن الجسد يراه ميتاً حتى عندما يكون على قيد الحياة، بقدر ما يُنظر اليه على أنه آلة ميكانيكية يتم تشريحها وتفكيك مكوناتها. كتب لينبو: "عند المشنقة عند تقاطع طُرُق تايبورن وادغار، نجدر أن تاريخ فقراء لندن وتاريخ العلوم الانجليزية يتقاطعان". هذه ليست صدفة اعتباطية. كما أنه ليس من قبيل المُصادفة ان التقدم في علم التشريح اعتمد على قُدرة الجراحين على الاستحواذ على الجُثث من مشنقة تايبورن(17).
وسواءاً كان مسار العقلنة العلمية على علمٍ بالاثار الاجتماعية والسياسية لهذه العملية أم لا، كان هذا المسار مُرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بمحاولة الرأسمالية فرض سيطرتها على قوة عاملة مُجبَرة. كما يُجادل ديفيد ديكسون David Dickson فإن ربط النظرة العلمية للعالم بالميكنة المُتزايدة للانتاج، أي بتطور التكنولوجيا لا يخدم الا كاستعارة(18). بالتأكيد، الساعة والأجهزة الآلية (على سبيل المثال التماثيل المتحركة هيدروليكياً وما الى ذلك)، والتي أثارت اهتمام ديكارت ومعاصريه كثيراً، قدّمت نماذج العلم الجديد وتأملات الفلسفة الطبيعية حول حركات الجسد. من الصحيح أيضاً أنه بدءاً من القرن السابع عشر، تم استخلاص التشبيهات التشريحية من وِرَش المُصنّعين-يُنظَر الى الأذرُع على أنها رافعات، والقلب مضخة، والرئتين منفاخ والعينين عدسات، والقبضة مطرقة(19). لكن هذه الاستعارات لا تعكس تأثير التكنولوجيا بحد ذاتها، بل تعكس حقيقة أن الآلة أصبحت نموذجاً للسلوك الاجتماعي. ان القوة المُلهمة للحاجة الى السيطرة الاجتماعية واضحة حتى في مجال علم الفلك. ان مثال ادموند هالي edmond halley (سكرتير الجمعية المَلَكية) هو كلاسيكي في هذا الصدد. فهو بالتزامن مع ظهور المذنّب الذي سُمّيَ باسمه لاحقاً، نظّم نوادي في جميع أنحاء انجلترا لاثبات امكانية التنبؤ بالظواهر الطبيعية، وبالتالي تبديد الاعتقاد الشائع بأن المُذنبات هي نذير لاضطراباتٍ اجتماعية. يوضّح هذا المثال كيف تقاطَعت نظمنة حركة الأجسام السماوية مع نظمنة حركة الجسد الاجتماعي. وان انتقلنا من علم الفلك الى مجال العلوم الاجتماعية، فإننا نرى بوضوح أكثر أنها كانت أدواتٍ للسيطرة، وكانت انجازاتها مشروطةً دائماً بمبادرة الدولة في هذا المجال. كان تطور العلوم الاجتماعية يستند الى تجانس السلوك الاجتماعي وبناء نموذج أولي للفرد الذي على الجميع، في المتوسط، أن يتوافق معه. هذا على حد تعبير ماركس، فرد مُجرّد، مبني بطريقة موحّدة وغير مُتمايزة، كمُتوسّط اجتماعي وخاضع لنزع راديكالي لخصائصه بحيث لا يُمكن التقاط جوانبه الا في أكثر جوانبها معياريةً. كان من المُفترض لانشاء مثل هذا الفرد أن يكون الأساس لتطوير ما يُعرّفه ويليام بيتي William Petty مُستخدماً مُصطلحات هوبز، الحساب السياسي، وهو العلم الجديد الذي سيدرس كل شكل من أشكال السلوك الاجتماعي من حيث الأرقام والأوزان والمقاييس، ونحن نعني هنا تطوير الاحصاء والديموغرافيا(20) على وجه الخصوص، والتي تُجري على الجسم الاجتماعي نفس العمليات التي يقوم بها علم التشريح على جسد الفرد، لأنها تسمح بتشريح وحساب السكان من حيث ولادتهم وموتهم، وحساب هيكل الأجيال والمِهَن وتتم دراستها في جوانبها الجماهيرية والمُنتظمة. يُمكننا أن نرى بعد ذلك، من وجهة نظر عملية التجريد التي مرّ بها الفرد في عملية الانتقال الى الرأسمالية، أن تطوير "الآلة البشرية" كان القفزة التكنولوجية الرئيسية، والخطوة الرئيسية في تطور القوى الانتاجية التي حدثت في فترة التراكم البدائي. بعبارة أُخرى، نحن نرى أن جسد الانسان، وليس المُحرّك البُخاري، ولا الساعة، هو أول آلة طورها رأس المال(جـ).
ولكن إن كان الجسد آلة، فإن المُشكلة التي تظهر على الفور هي كيفية جعله يعمل. يُمكن اشتقاق نموذجين للسيطرة على الجسد من نظريات الفلسفة الميكانيكية. من ناحية، لدينا النموذج الديكارتي الذي يفترض (انطلاقاً من فرضية الجسد الميكانيكي الصرف) امكانية تطور الآليات الفردية لضبط النفس (ادارة النفس، تنظيم الذات) مما يسمح بعلاقة عمل طوعية وحكومة على أساس الاتفاق. من ناحيةٍ أُخرى، هناك نموذج هوبز، الذي يُنكر إمكانية وجود جسد خالٍ من العقل، يجعل الأوامر الصادرة الى الجسد كأنها تأتيه من الخارج، وينقلها الى سُلطة الملك المُطلقة.
ان تطوير نظرية ادارة النفس، بداءً من ميكنة الجسد، هو مركز فلسفة ديكارت، الذي، يجب أن نتذكر، يُحقق نضوجه الفكري ليس في فرنسا الملكية المُطلقة، بل في هولندا البرجوازية البروتستانتية، والتي تجانست جداً مع روحه بحيث انتقاها كمقره الدائم. ان لدى مذاهب ديكارت هدفاً مُزدوجاً: إنكار أن السلوك البشري يتأثر بعوامل خارجية (النجوم، الذكاء السماوي)، وتحرير الروح من أي اشتراط جسدي، مما يجعلها ذات سيادة لامحدودة على الجسد نفسه.
كانت الخُطوة الرئيسية في اكمال هذه المهمة هي اثبات الطبيعة الميكانيكية لسلوك الحيوان. يقول في كتابه (العالم) Le Monde، لا شيء يولد الكثير من الأخطاء مثل الاعتقاد بأن الحيوانات لها روحٌ مثل روحنا. وكرّسَ عدة أشهر، من أجل تحضيره لكتاب (رسالة عن الانسان) Treatise of Man، لدراسة تشريح أعضاء الحيوان. ذَهَبَ كل صباح الى الجزاز للمساعدة في الحيوانات(21) وأجرى العديد من تجارب تشريح الحيوانات وهي على قيد الحياة، وقد كان يشعر بالراحة النابعة من اعتقاده بأن الحيوانات ليست الا وحوش "معدومة العقل" ولا يُمكن أن تشعر بألم أثناء تشريحها(22). كان إثبات وحشية الحيوانات أمراً ضرورياً بالنسبة الى ديكارت، لأنه كان يعتقد أنها تٌقدّم الاجابة على مسألته المُتعلقة بطبيعة وموقع ومدى السُلطة التي تتحكم بالسلوك البشري(23). سيُمكِّنُهُ الحيوان المُشرّح من اثبات أن الجسد قادر فقط على القيام بأفعال ميكانيكية لاارادية، وبالتالي فهو ليس من مكونات الشخصية، وهكذا، يكمن جوهر الانسان في مَلَكَات غير مادية صرف. الجسد البشري هو أيضاً آلة، ولكن ما يُميّز "الانسان" عن الوحش ويمنح "له" السيادة على العالم من حوله، هو وجود الفكر. بالنسبة للروح، التي يُزيلها ديكارت من الكون وكل شيء حسّي، تظهر مُجدداً مصحوبةً بقوى لانهائية تحت ستار العقل والارادة الفرديين.
الانسان الديكارتي، بصفته موجوداً في عالمٍ بلا روح وجسد آلي، بالضبط مثل بروسبيرو عند شكسبير، ليس فقط مسؤول عن أفعاله، انه على ما يبدو مركز كُل القُوى. الثمن الذي يجب على الذات العقلانية أن تدفعه هو فقدان أي تضامن لها مع واقعها الملموس ومع الطبيعة. ولكن هذه العُزلة، ذات نمط مَلَكي طالما أنه لا يوجد بين الرأس المُفكّر والجسد الآلي ثُنائية مُتعادلة، بل علاقة من نمط السيد-العبد، والمهمة الأساسية للإرادة هي التحكم بالجسد وتوسيع هيمنته على العالم الطبيعي. حقاً، نرى في النموذج الديكارتي نفس مركزية قيادة الوظائف التي تُميّز الشكل الجديد والحديث للدولة ابتداءاً من القرن السابع عشر. بما أن مُهمة الدولة هي السيطرة على الجسد الاجتماعي، فإن العقل يُصبح صاحب السيادة في الشخصية الجديدة.
يعترف ديكارت بأن سيطرة العقل على الجسد لا يُمكن تحقيقها بسهولة، طالما أن العقل يواجه تناقضاته الداخلية الخاصة. وهكذا في كتابه (عواطف الروح) Passions of the Soul 1650، يُطلعنا على احتمالية خوض معركة مُستمرة بين مَلَكات الروح الدُنيا والعُليا، والتي يصفها بمُصطلحات عسكرية تماماً، يُناشد حاجاتنا الى أن نكون شُجعاناً وأن نحصل على السلاح المُناسب لمُقاومة هجمات أهوائنا. يجب أن نكون مُستعدين لتحمّل الهزائم المؤقتة، لأن ارادتنا لا تكون دائماً قادرة على تغيير أو كبح عواطفها. يُمكن للارادة، مع ذلك، تحييد العواطف عن طريق تحويل انتباهها الى شيءٍ آخر، أو تقييد الحركات التي تتحكم بالجسد. يُمكن للارادة، بعبارةٍ أُخرى، أن تمنع العواطف من أن تُصبح أهواءاً(24).
يُطوّر ديكارت، عن طريق تأسيس ثُنائية العقل والجسد والعلاقة الهرمية بينهما، المُقدمات النظرية لعملية انضباط العمل الذي يتطلبه الاقتصاد الرأسمالي النامي. ان سيادة العقل على الجسد تعني أن الإرادة يُمكنها (من حيث المبدأ) التحكم في احتياجات وردود أفعال الجسد وفرض نظام على وظائفه الحيوية، وقبل كل شيء، إجبار الجسد على العمل وفقاً للظروف الخارجية المُحددة بغض النظر عن رغباته. الأهم من ذلك، انه (أي العقل) يسمح باستدخال آليات السُلطة لأنه، في تطوره، كمُعاكس للجسد الآلة، يقوم بدوره كحَكَم ومُحقق ومدير ومسؤول إداري. هنا نجد أصل الذاتوية البرجوازية حول ادارة النفس والمُلكية (المُلكية الذاتية) والقانون والمسؤولية مع لوازمها المُتمثلة في الذاكرة والهوية. هنا نجد أيضاً أصل انتشار "السُلطات الميكروية" micro-powers (د) التي وصفها ميشيل فوكو في نقده للنموذج القانوني الاستطرادي للسُلطة juridico- discoursive model of Power (هـ). ما يُظهره النموذج الديكارتي هو أن السُلطة يُمكن أن تنتشر في جميع أجزاء الجسد الاجتماعي، ولكن فقط الى الحد الذي تتركز فيه مرةً أُخرى في الشخص، وتتشكل بالتالي كدولة ميكروية فيه.
خذ في هذا السياق، أُطروحة بريان ايزليا Brian Easlea أن الفائدة الرئيسية التي قدمتها الثنائية الديكارتية للطبقة الرأسمالية الجديدة كانت الدفاع المسيحي عن خلود الروح، وبشكلٍ أعم، إمكانية هزيمة الالحاد المُتضمن في السحر الطبيعي وأنها كانت بذلك مُحمّلة بشُحنةٍ مُدمرة(25). يُجادل ايزليا، دعماً لأطروحته، بأن الدفاع عن الدين كان موضوعاً مركزياً في الديكارتية(و) والتي، لا سيما في نُسختها الانجليزية لم تنسَ أبداً "ان لم يكن هناك روح لن يكون هناك اله، ان لم يكن هناك أُسقف لن يكون هناك ملك"(26). ان حُجة ايزليا جذابة (ليست جذابة بالنسبة لي-المُترجم)، لكنها لا تُدرك أنه على المدى الطويل، كانت مُساهمة الديكارتية الرئيسية هي تطوير السيطرة على النفس، وهي أحد ألأسرار الرئيسية لنظام العمل الرأسمالي، وظروف وجوده، طالما أن تطوير آليات ادارة النفس (التنمية الذاتية) هي مطلب أساسي في نظام اجتماعي-اقتصادي تُصبح في المُلكية الذاتية هي العلاقة الاجتماعية الأساسية، ولم يعد الانضباط يعتمد فيه على الاكراه الخارجي. ان إمكانية ادارة النفس، كما رأينا، هي نتيجة مُباشرة للثُنائية الديكارتية التي هزمت الجانب النَشِط من السحر الطبيعي، بل وعوّضته أيضاً، من خلال تقديم شكل بديل للقوة لا يتم المخاطرة بأي روحٍ فيه. يستبدل ديكارت القوة غير المُتوقعة للساحر المبنية على التلاعب الخفي بالتأثيرات الفلكية والذكاء، يستبدلها بقوة أكثر ربحية مُتولّدة من ضبط النفس وادراة جسد المرء والسيطرة عليه، وبالتالي ادارة أجساد الناس الآخرين والسيطرة عليها. يُجيب هذا، على سؤال يطرحه ايزليا ولكنه لا يحله بشكلٍ مُرضٍ: لماذا كانت سيطرة الديكارتية في أوروبا طويلة الأمد لدرجة أنه حتى عندما بددت النيوتونية الايمان بعالمٍ خامل خالٍ من أي فضيلةٍ سرية، استمرت الديكارتية في تشكيل صورة العلم حتى يومنا هذا؟ لا يُمكننا أن نقول، كما يفعل ايزليا (مُكرراً النقد الذي صرّحَ به ليبنز) أن الديكارتية فشلت في أن تُتَرجم الى مجموعة من اللوائح العملية، أي أنها فشلت في أن تُظهِرَ للفلاسفة والتجار والمصنعيين كيف يستفيدون منها في مُحاولتهم للسيطرة على مسألة العالم(27). وان كانت الديكارتية قد فشلت في تقديم ترجمة تكنولوجية لتعاليمها، فإنها مع ذلك طرحت معلومات ثمينة حول تطوير "التكنولوجيا البشرية"، التي تقود من خلال تحليل ديناميات التحكم بالنفس، الى بناء مفهوم جديد عن الفرد، تشتغل فيه كسيد وعبد في نفس الوقت. وبسبب أن الديكارتية تُفسّر احتياجات نظام العمل الرأسمالي بشكلٍ جيد، فقد انتشرت في جميع أنحاء أوروبا بحلول نهاية القرن السابع عشر وكانت ناجحة جداً لدرجة أنها نجت من ظهور البيولوجيا الحيوية وتقادم النموذج الميكانيكي.
تتضح أسباب انتصار ديكارت عندما نقارن مفهومه عن الشخص بمفهوم خصمه الانجليزي توماس هوبز. ترفض واحدية هوبز البيولوجية افتراض وجود عقل أو روح غير مادية والتي هي في أساس مفهوم ديكارت عن الشخص، وترفض الافتراض الديكارتي بأن الارادة الانسانية يُمكنها أن تُحرر نفسها من الحتمية الجسدية والغريزية(28). وهكذا، بالنسبة لهوبز، فإن السلوك البشري عبارة عن مجموعة من الأفعال المُنعكسة التي تتبع قوانين طبيعية دقيقة، وتُجبر الفرد على السعي الدؤوب من أجل السُلطة والسيطرة على الآخرين(29). وهكذا، فإن حرب الجميع ضد الجميع (في حالة طبيعية افتراضية) وضرورة وجود سُلطة مُطلقة بوسائل التخويف والعقاب، تضمن بقاء الفرد والمُجتمع.
"في الواقع، تُشكّل قوانين الطبيعة (العدالة، الإنصاف، التواضع، الرحمة، ومُعاملة الآخرين المُعاملة نفسها التي ترتقبها منهم) نقيضاً للأهواء الطبيعية، التي تحملنا على التحيّز والغرور والانتقام، الخ"(30).
تسببت عقيدة هوبز، كما هو معروف، في فضيحةٍ بين مُعاصريه، والذين اعتبروها حطيرة ومُدمرة، لدرجة أنه لم يتم قبول هوبز مُطلقاً في الجمعية المَلَكية على الرغم من رغبته الشديدة في ذلك(31)(ز).
ليس نموذج هوبز، بل النموذج الديكارتي هو الذي كان سائداً، لأنه عبّرَ عن الميل النَشِط القائم لدَمَقرَطة آليات الانضباط الاجتماعي، من خلال اسناد وظيفة القيادة الى الارادة الفردية التي تُرِكَت في يد الدولة في نموذج هوبز.
يجب أن تكون أُسس الانضباط العام، كما أكد العديد من نُقّاد هوبز، مُتجذّرةً في قلوب البشر، لأنه في حالة عدم وجود تشريع من دواخلهم، سيُشعلون ثورةً حتماً(32). يشتكي هنري مور Henry Moore أنه "لا يوجد عند هوبز حُرية للارادة وبالتالي لا يوجد أي تأنيب للضمير أو العقل، ولكن فقط ما يسُرّ الشخص صاحب أطول سيف"(33). كان الكسندر روس Alexander Ross أكثر وضوحاً حيث لاحظَ أن "لجم الضمير هو الذي يمنع البشر من التمرّد. لا يوجد قانون خارجي... ولا قاضٍ شديد ولا جلّاد قاسٍ يُمكنه أن يكون مثل ضميرٍ يتألّم"(34).
كما يُمكننا أن نرى، لم يكن الدافع وراء نقد الحاد هوبز وماديته دينياً صرفاً. تم رفض فكرة الفرد-الآلة الذي تُحركه أهوائه وانحرافاته ليس لأنها تُلغي مفهوم الانسان المخلوق على صورة الله، ولكن لأنها تقضي على إمكانية وجود شكل من أشكال الرقابة الاجتماعية التي لا تعتمد كُلّياً على رقابة الدولة الحديدية. يجب أن نُضيف أن ابتعاد فلسفة هوبز هذا عن الديكارتية لا يُمكن تفسيره ان شددنا على العناصر الاقطاعية في فلسفة هذا الأخير، وعلى وجه الخصوص دفاعها عن وجود الله بكل ما يستتبعه ذلك من دفاع عن سُلطة الدولة. ان قضاء هوبز على العنصر الديني، هو في الواقع، رداً على الدَمَقرَطة المُتضمنة في نموذج السيطرة على النفس الديكارتي والتي أظهرت مُغامرات الطوائف البيوريتانية(حـ) خلال الحرب الأهلية الانجليزية كُل مخاطرها. بالنسبة لدعوات البيوريتانيين الى العودة للضمير الفردي، وأن يُدير المرء سلوك نفسه، وجعل ضمير المرء هو الحكم النهائي، فقد تم الذهاب بها الى أقصى حدودها على أيدي هذه الطوائف باتجاه الرفض الأناركي للسُلطة القائمة(35). لقد كان مثال الحفارين Diggers والمتشدقين Ranters(ط) والدُعاة الميكانيكيين الذين عارضوا تشريعات الدولة والمُلكية الخاصة باسم "نور الضمير"، قد أقنَعَ (أي المثال) هوبز بأن الاحتكام الى "العقل" كان سلاح ذو حدّين(36). يُمكننا أن نُشير الى أن الصراع بين "الايمان الديكارتي" و"المادية" الهوبزية سينحل في امتزاجهما المُتبادل، بمعنى أنه (كما الحال دوماً في تاريخ الرأسمالية) تم التحصّل على لامَركَزة آليات القيادة من خلال وضعها في الفرد أخيراً، فقط الى الحد الذي حدثت فيه مَركَزة سُلطة الدولة. لكي نضع هذا الامتزاج في اطار المُصطلحات التي طُرِحَ فيها النقاش أثناء الحرب الأهلية الانجليزية:لا الحفّارون ولا أنصار السُلطة المَلَكية، ولكن مزيج محسوب جيداً من كليهما، حيث يتكون المزيج من دمقرطة القيادة التي تقع على كاهل الدولة، وتكون دائماً جاهزة-مثل اله نيوتن، لفرض النظام على الأرواح التي حققت الكثير في سعيها الى تحقيق وادارة النفس. عبّرَ الديكارتي وعضو الجمعية الملكية جوزيف غلانفيل Joseph Glanvil في جداله مع هوبز، عن جوهر المسألة بوضوح بأن المسألة المركزية هي سيطرة العقل على الجسد. ومع ذلك، فإن هذا لا يفترض ببساطة سيطرة الطبقة الحاكمة (وهي العقل بامتياز) على البروليتاريا وهي الجسد، ولكن، الأهم من ذلك، تطوير القُدرة على سيطرة الفرد الذاتية على نفسه من الداخل.
ان ميكنة الجسد، كما أوضحَ فوكو بشكلٍ فعال، لم تتضمن ببساطة قمع الرغبات والعواطف أو أشكال السلوك التي كان يجب القضاء عليها تماماً. لقد تضمنت أيضاً تطوير قابليات جديدة في الفرد ستظهر كأنها (الآخر) فيما يتعلق بالجسد، وتصير عوامل تحوّله. بعبارة أُخرى، لا يُمكن أن يكون هناك اغتراب عن الجسد بدون ما يُصاحب ذلك من تطور للهوية الفردية التي من شأنها أن تطرح نفسها على أنها "الآخر" أو "شيء آخر" في مواجهة الجسد، ومن ثم تقف ضده في صراع برنامجي.
ان ظهور هذه الأنا المُتغيّرة، الأنا المُنفصلة عن موقعها المادي، وتحدُّد صراع تاريخي بين العقل والجسد، يُمثّل فعل ميلاد الفرد في المُجتمع الرأسمالي. أصبحَ الأمر نموذجياً للفرد الذي صنعه نظام العمل الرأسمالي أن يواجه جسده باعتباره واقعاً غريباً، إن لم يكن مُعادياً، من حيث أن على المرء أن ينأى بنفسه عنه باستمرار للحصول على النتائج المُتوقّعة منه.
كما أشرنا، ظل تطور ادارة النفس عند الطبقات الدُنيا باعتباره انضباطاً ذاتياً، كموضوع للتأملات النظرية من وجهة نظر أصحاب العمل. يُشار الى مدى ضآلة التوقعات الحاصلة من ضبط النفس وانضباط الذات لعامة الناس من خلال حقيقة أنه تمت مُعاقبة 160 جريمة في انجلترا بالاعدام خلال القرن الثامن عشر(37)، وتم نقل آلاف من "عامة الناس" كل عام الى المُستعمرات أو حُكِمَ عليهم في القوادس(ط). علاوةً على ذلك، كان لجوء الناس الى العقل تعبيراً عن مطالب مُعادية للسُلطة، حيث تعني إدارة النفس رفض السُلطة القائمة، وليس استدخال الدور الاجتماعي المفروض على المرء(38).
وهكذا، ظلت ادارة النفس امتيازاً برجوازياً. عندما كان الفلاسفة يتحدثون عن الانسان ككائن عقلاني، كما يُشير ايزليا، فإنهم كانوا يُشيرون حصرياً الى الذكور البيض من الطبقة العُليا. كتَبَ هنري باور Henry Power أحد أتباع ديكارت الانجليز، أن "العدد الهائل من البشر يُمثّل أعداداً من الآليين حسب مفهوم ديكارت، لأنهم يفتقرون الى أي قوة تفكير، ويُمكن أن يُطلَق عليهم بشر بشكل مجازي فقط"(39).
اتفق الناس "الأرقى والأفضل" على أن الطبقة الدُنيا كانت من فصيلة مُختلفة. لقد كان خوفهم من الجماهير يصل الى حد أن البروليتاريا كانت تظهر في عيون الطبقات العُليا على أنها "وحش عظيم" يفتقر تماماً الى العقل، و"وحش مُتعدد الرؤوس"، همجي مُزمجر مُستعد لأي اعتداء(40). تحددت الجماهير، على المُستوى الفردي، في طقوس المُفردات اللغوية على أنها كائنات غريزية صرف. يَظهَر المُتسوّل دائماً، في الأدب الاليزابيثي(ي)، على أنه "شديد" و"شهواني" و"فظ" و"متهوّر" و"غير مُنظّم". هذه مُصطلحات تتكرر باستمرار عند الاشارة الى الطبقات من عامة الناس.
في هذه العملية، لم يفقد الجسد كل دلالاته الطبيعية Naturalistic فقط، بل ونرى ظهور وظيفة للجسد، بمعنى أن الجسد صار علائقياً صرفاً، ولم يعد يُشير الى مادة مُعينة أو واقع عضوي، ولكن بدلاً من ذلك، مثّلَ كل تلك الأمور التي تقف عائقاً أمام هيمنة العقل. في حين صارت البروليتاريا جسد، صار الجسد بروليتاريا، أو حتى "أُنثى ضعيفة ("المرأة التي في داخلنا" كما سيقول هاملِت)، أو افريقي همجي، تحَدّدَ من خلال السمة المُخصصة لـ"الآخر" ولي العقل، وعومِلَ على أنه كعامل تخريب داخلي.
ومع ذلك، لم يكن النضال ضد هذا "الوحش العظيم" موجهاً ضد "الناس من الطبقات السُفلى" فقط، بل قامت البرجوازية أيضاً باستدخاله (أي النضال) في المعركة التي خاضتها ضد جسدها نفسه، ضد "حالتها الطبيعية". وليس أقل من بروسبيرو، كان على البرجوازية أيضاً أن تُدرِك أن "هذا الظلام هو مُلكي"، أي أن كاليبان هو جزء منها(41).
يسود هذا الوعي في كل النتاج الأدبي في القرنين السادس عشر والسابع عشر. المُصطلحات ذاتها التي تطورت في ذلك الوقت شاهدة على ذلك. حتى أولئك الذين لم يتبعوا ديكارت رأوا أن الجسد وحش يجب لجمه باستمرار. اعتُبِرَت غرائزه كـ"رعايا" يجب أن يكون لهم "حاكم". وكان يُنظَر الى الحواس على أنها سجن للروح العقلانية. يسأل الشاعر الانجليزي اندرو مارفل Andrew Marvel في كتابه (حوار بين الروح والجسد): "آهٌ، من سيوقظ روحاً مُستعبدة بطرقٍ عدّة، من هذه الزنزانة؟".
روحٌ مشنوقة، كما لو كانت مربوطةٌ بسلاسل
من أعصابٍ وشرايين وأوردة
هُنا مزلاجٍ من العظام وهذا القيد القائم
بالقدم، ومغلولة اليدين
هُنا معصوبة بالعين، وهناك
صمّاءٌ بقرع طبلة الأُذن(42).
ان الصراع بين الشهوات والعقل هو موضوع مركزي في الأدب الاليزابيثي(43)، في حين بدأت تظهر فكرة، بين البيوريتانيين أن "العداء للمسيح" موجودةٌ في كُل انسان. تمحورت المناقشات حول التعليم و"طبيعة الانسان" التي كانت دارجة في جميع أنحاء أوروبا في هذه الفترة، حول الصراع بين العقل والجسد، وطَرَحَت السؤال الحاسم عما ان كان البشر كائنات ذات إرادة أم بدون إرادة.
لكن لم يظل تحديد العلاقة الجديدة فيما يتعلق بالجسد، على مستوى ايديولوجي صرف. بدأت بالظهور العديد من الممارسات اليومية التي تُشير الى حدوث تحوّلات عميقة في هذا المجال: استخدام أدوات المائدة (السكاكين والملاعق)(ل)، تطور العيب والعار فيما يتعلق بالعُريّ، حلول "عادات" حاولت تنظيم كيفية الضحك والعُطاس والمشي، وكيف تتصرف على الطاولة، والى أي مدىً يُمكن للمرء أن يُغنّي ويمزح ويلعب(44). بينما كان المرء ينفصل عن جسده بشكلٍ مُتزايد، صار الأخير موضوع مُراقبة مُستمرة، كمل لو كان عدواً حقيقياً. بدأ الجسد بإثارة مشاعر الخوف والاشمئزاز. أعلن اللاهوتي والفيلسوف الأمريكي جوناثان ادواردز Jonathan Edwards الذي كان موقفه بيوريتانياً نموذجياً أن "الجسد مليء بالقذارة"(45). كانت تلك الوظائف الجسدية التي تُواجه وتُذكّر الناس "بحيوانيتهم" بغيضةً بشكلٍ خاص. أُنظر الى قضية القس الأمريكي البيوريتاني كوتن ميذر Cotton Mather الذي اعترف في مُذكراته بالاهانة التي شعر بها وهو يتبول على الحائط عندما رأى كلباً يفعل نفس الشيء أمامه: "لقد فكرت، ماهم هؤلاء أبناء البشر الحُقراء واللؤماء في هذه الحياة الفانية. كم تحط منا ضروراتنا الطبيعية وتضعنا في مكانٍ على نفس مستوى الكلاب ذاتها... وبناءاً على ذلك قررت أنه يجب أن تحضر في ذهني بعض الأفكار المُقدسة والنبيلة والالهية في كل مرة أذهب لأُلَبّي نداء الطبيعة"(46).
كما أنه يُمكن إرجاع الشغف الطبي الكبير بتحليل البُراز، في ذلك الوقت، والذي إستُخلِصَ منه استنتاجات مُتعددة حول ميول الفرد النفسية (الرذائل، الفضائل، الخ)(47)، نقول، يُمكن إرجاعها الى تصور الجسد كوعاء من القذارة والأخطار الخفية. يظهر، في هذا الهوس من البُراز، الاشمئزاز من جوانب الجسد غير المُنتجة، والتي بَرَزَت في البيئات الحضرية، ليس فقط على أنها خسارة كبيرة، بل وسببت مشاكل لوجستية خطيرة. داخل هذا الهوَس لعبت أيضاً الحاجة الى تنظيم وظائف الجسد وتطهير هذه "الآلة" من كل تلك العناصر التي تُجبره على مُقاطعة نشاطه وتخلق وقتاً ميتاً أثناء العمل. لكن تمت مُحاربة الُبراز ودراسته كثيراً لأنه كان الرمز الأول لذلك الشيء "البشع المُضحك" الذي يُفترض أنه موجود في الجسد. صار البُراز، بالنسبة الى البيوريتانيين، المظهر المرئي لطبيعة البشر الفاسدة، ونوع من الخطيئة الأصلية والتي كان لا بُد من مُكافحتها واخضاعها والتخلص منها باستمرار. ومن هنا جاء الهوس بالتطهير والأدوية المُقيّئة emetics والسوائل الشرجية enemas والتي كانت تُعطى للأطفال وكذلك "الممسوسين" لجعلهم يطردون شياطينهم(48).
نرى، في هذه المُحاولة المهووسة للتغلّب على الجسد والسيطرة عليه حتى في أكثر أوقات الراحة حميميةً، نرى أنه يعكس نفس الهوَس الذي حاول به رأس المال "استعمار" ذلك الكائن الخطير وغير المُنتج وهو البروليتاري، والتغلّب عليه. لأن البروليتاري هو كاليبان ذلك العصر. كانت البروليتاريا هي "الكائن المادي الخام" والتي أُوصِيَ أن توضعَ في يد الدولة التي "عليها تحسينها وادارتها وتشكيلها لصالحها"(49) بحكمة.
لقد جسّد البروليتاري/ة "البشع المُضحك" ووحش الخمول والسُكُر المُقرف في الجسد الاجتماعي . البروليتاريا تُعاني من الخمول، ولكن في نفس الوقت لديها عاطفة لا يُمكن السيطرة عليها وخيال جامح ومُستعدين دائماً للانفجار في حملات شغب وحركات تمرّد. وفوق كل شيء، كانت غير مُنضبطة وغير مُنتجة ولا تضبط شهواتها وفي حاجة دائمة لإشباع حاجاتها ومُتعها لدرجة أن يوتوبيتها ليست حياة مُخصصة للعمل بل أرض كوكين Cockaigne(50) حيث المنازل مصنوعة من السكر والأنهار من الحليب، ولم يكن بأمكان المرء، في هذا الكوكين، أن يحصل على ما يُريد دون جهد وحسب، بل كان يُدفَع له مقابل أن يأكل ويشرب:
يكسب المرء ستة فرنكات
مقابل نوم ساعةٌ واحدة
نومٌ عميق
بدون استيقاظ...
هذا البلد مَرِح
يكسب المرء عشرة فرنكات في اليوم
لقاء ممارسة الجنس(51).
ان تحويل هذا الكائن الكسول، الذي يحلم بالحياة ككرنفال طويل، الى عامل لا يعرف الكلل، بدا حتماً مشروعاً يائساً. كان يعني حرفياً "قلب العالم رأساً على عقب"، ولكن بطريقة رأسمالية تماماً حيث تتحول الشبقية الى قوة عمل، وتصير الحاجة افتقار وعوز أبدي.
من هنا جائت المعركة ضد الجسد التي ميّزت نظرية ومُمارسة الرأسمالية في مرحلتها الأولى. ومن هنا جاء مشروع ميكنة الجسد، الذي كان موضوعاً للفسلفة الطبيعية الجديدة ونقطة محورية تطورت حولها تجارب تنظيم الدولة الأولى. من مُطاردة الساحرات الى التأملات الفلسفة الميكانيكية، الى التحقيقات البيوريتانية المُتشددة في المواهب الفردية امتد فيها خيط واحد رَبَطَ مسارات التشريع الاجتماعي، والاصلاح الديني، والعقلنة العلمية للكون التي تبدو مُستقلة. كان هذا الخيط مُحاولة لعقلنة الطبيعة البشرية، التي كان لا بد من توجيه قوتها واخضاعها لتطوير وتشكيل قوة العمل.
كان هناك في هذه العملية، كما رأينا، تسييس مُتزايد للجسد، بمعنى أنه تم نزع طبيعية الجسد وتعريفه باعتباره الآخر، وهو الحد الخارجي لمتطلبات الانضباط الاجتماعي. وهكذا، كانت ولادة الجسد في القرن السابع عشر علامةً على نهايته أيضاً. لم يعد مفهوم الجسد يُجسّد واقعاً عضوياً مُحدداً، بل صار بدلاً من ذلك دلالةً سياسية على العلاقات الطبقية، وحدود خارطة استغلال البشرالمُتغيّرة والمُعاد رسمها.

1- 1Philip Riley, “Louis XIV: Watchdog of Parisian Morality”, Historian, XXXVI, 1, 1973, p. 19ff Jos Van Ussel, La Repressione Sessuale, translated from German by M. Graffi (Milano: Bompiani, 1972) Lawrence Wright, Clean and Decent (New York: Viking Press, 1960), pp. 80–83 Keith Thomas, Religion and the Decline of Magic (New York: Charles Scribners Sons, 1971).
2- Foucault, The Order of Things: An Archeology of the Human Sciences (New York: Vintage, 1973), pp. 26–27
3- Thomas. op. cit
4- Bacon. Works III, p. 381
أ- التغذية الراجعة الحيوية هي علم زائف يدّعي بأن جسد الانسان يحتوي على مجسات استشعار تُساعده على تلقّي معلومات عن الجسم. يُقال أن هذه المعلومات المُنبعثة من الجسد تُساعد المرء على اجراء تغييرات مثل اراحة عضلات مُعينة وتقليل الآلام وتحسين الحالة الصحية والأداء البدني.
5- Thomas, op. cit., pp. 234–237
6- G.R. Elton, Policy and Police (Cambridge, MA: Cambridge University Press, 1972), pp. 142ff
ب- كانت مسألة النبؤات شائعةً في فترة صعود الرأسمالية. من بين المُتنبئين المعروفين جيداً كانت آنا ترابنيل Anna Trapnel والتي أُصيبت بحالة من فقدان الحس الجزئي لمدة 11 يوماً، غنّت خلالها وتنبأت بأحداثٍ أمام حشدٍ كبيرٍ من الناس. دفعتها حالتها هذه الى الشُهرة في جميع أنحاء انجلترا، كانت تنتقد حكومة أوليفر كرومويل بشدة، ودعت الى المساواة بين الجنسين.
سافرت آنا ترابنيل الى كورنوول بحافزٍ من أحد أحلامها. أُلقِيَ عليها القبض بتهمة الشغب عام 1654، ومُثُلَت أمام القضاء. أغرقت آنا المحكمة بالاسهاب الشديد في اجاباتها على الأسئلة الموجهّة لها، وأجابت باقتباساتٍ من الكتاب المُقدّس. أُطلِقً سراحها وواصلت بعد ذلك تنبؤاتها.
7- Hobbes, Behemot, English Works VI. (Germany: Scientia Aalen, 1962), p.399
8- يكتب هوبز: "لهذا، لا يُمكن لأي إنسان أن يتصور أي شيء الا في مكانٍ ما...كما لا يتصور أن أي شيء موجود كله في هذا المكان وفي مكانٍ آخر في الوقت نفسه، ولا أن شيئين أو أكثر يُمكن أن يكونا في مكانٍ واحدٍ في الوقت نفسه".
اللفياثان-الأصول الطبيعية والسياسية لسُلطة الدولة، توماس هوبز، ترجمة ديانا حرب وبُشرى صعب، دار الفارابي 2011، ص38
9- كان من بين مؤيّدي صيد الساحرات السير توماس براون Thomas Browne وهو طبيب ويُقال أنه من أوائل المُدافعين عن "الحرية العلمية" والذي كان لعمله في نظر مُعاصريه "طابع شكّي خطير".
See Edmund Gosse, Sir Thomas Browne (London: The Macmillan Company, 1905), p. 25.
ساهم شخصياً في مقتل "ساحرتين" كانتا، لولا تدخّله، سيُنقَذان من النيران، فقد كانت التُهَم الموجهة اليهما سخيفة.
ibid., pp. 147–149
10- اللفياثان-الأصول الطبيعية والسياسية لسُلطة الدولة، توماس هوبز، ترجمة ديانا حرب وبُشرى صعب، دار الفارابي 2011، ص31
11- نفس المصدر، ص32
12- أصل الأخلاق وفصلها، فريدريك نيتشه، ترجمة حسن قبيسي، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ص54
13- Silvia Federici, Caliban and the Witch (New York: Autonomedia, forthcoming).
14- Peter Linebaugh, “The Tyburn Riots Against the Surgeons,” in Douglas Hay, “Property, Authority and the Criminal Law,” in Hay, Linebaugh, Rule, Thompson, and Winslow, Albion’s Fatal Tree: Crime and Society in 18th Century England (New York: Pantheon Books, 1975), pp. 17–63.
15- Ibid., pp. 102–104
16- Ibid., pp. 109–110
17- أصدرت السلطات في كل بلدٍ ازدهر فيه علم التشريح في أوروبا القرن السادس عشر، تشريعاتٍ تسمح باستخدام جُثث أولئك الذين تم اعدامهم. في انجلترا، "دخلت كُلية الطب مجال التشريح عام 1565 عندما منحتهم اليزابيث الأولى حق المُطالبة بجُثث المجرمين".
See C.D. O’Malley, F.N.L. Poynter, and K.F. Russell, William Harvey: Lectures the Whole of Anatomy (Berkeley: University of California Press, 1961), p. 1
حول التعاون بين السلطات وعلماء التشريح في مدينة بولونيا الايطالية في القرنين السادس عشر والسابع عشر أنظر:
Ferrari, op. cit., pp. 59, 60, 64, 87, 88
الذي يُشير الى أنه لم يتم فقط وضع الجُثث المشنوقة جانباً من أجل التشريح، بل أيضاً جُثث "أعتى" الأشخاص الذين ماتوا في المُستشفى. في احدى الحالات، تم تعديل عقوبة السجن المؤبد الى عقوبة الاعدام لتلبية طلب الباحثين العلميين.
18- David Dickson, “Science and Political Hegemony in the 17th Century,” Radical Science Journal. 8, 1979, p. 24
19- Lewis Mumford, Technics and Civilization (New York: Harcourt Brace and World Inc., 1962), p. 32
20- Charles Wilson, “Political Arithmetic and Social Change,” in England’s Apprenticeship: 1603–1763 (New York: St. Martin Press, 1966), pp. 226ff Martin J. Cullen, The Statistical Movement in Early Victorian Britain (New York: Harper and Row, 1975), Chapter 1
جـ يُثير اهتمامنا كيف تقوم فيديريتشي بدراسة العلوم الاجتماعية واستخلاص كيف استُخدِمت بشكلٍ مُباشر لتطويع الفرد للبلترة، أي استخدامه بشكلٍ مُلائمٍ للنظام الرأسمالي، وكيف تقوم بوصف ما قد يبدو بديهياً والذي قد لن يخطر على بال الباحث العادي الا ان كان متخصصاً. ولكن في نفس الوقت نحن نرى أن فيديريتشي تخلط بين عناصر قُوى الانتاج، أي العامل والآلة. صحيح أن هذا قد يكون نوعاً من التشديد على ما قامت به الرأسمالية من اجراءات، في سياق تطورها، لإخضاع الفرد لبيع قوة عمله، ولكن لا يعني هذا أن نخلط بين الآلة والعامل، لأن سياق تطور كُلٍ منها كان له مسار خاص حتى وإن كانا مُرتبطين ببعضهما البعض.
21- وفقاً لكاتب سيرة ديكارت الأول، المنسينيور ادريان بيليت Adrien Baillet، كان ديكارت، في تحضيره لكتاب (رسالة عن الانسان) عام 1629، وأثناء وجوده في امستردام، يزور مسالخ المدينة يومياً، ويُجري تشريحات لأجزاء مُختلفة من الحيوانات: "لقد شَرَعَ في اعداد تصميمه من خلال دراسة علم التشريح، والذي كرّسَ له الشتاء كله الذي قضاه في أمستردام. لقد قال للأب ميرسين Father Mersenne أن حرصه على معرفة هذا الموضوع جعله يزور جزاراً يومياً تقريباً ليشهد عملية الذبح، وأنه كان يرغب في نقل أعضاء الذبيحة الى منزله عندما يحوز على وقت فراغ أكبر لتشريحها. غالباً ما كان يفعل الشيء نفسه في أماكن أُخرى حيث كان يمكث، ولم يجد حرجاً في الأمر أو أنه لا يليق بمقامه، في مُمارسةٍ بريئةٍ بحد ذاتها ويُمكن أن تؤدي الى نتائج مُفيدة للغاية. وهكذا، كان يسخر من بعض الأشخاص الحاقدين والحاسدين الذين... حاولوا أن يجعلوا منه مُجرماً وأتهموه "بالمرور عبر القُرى ليرى الخنازير وهي تُذبَح"... لم يتجاهل النظر في ما كتبه فيزاليوس Vesalius والمؤلفين الآخرين المُختصين بالتشريح. ولكنه علّم نفسه بطريقةً أكبر من خلال تشريحه الشخصي لمُختلف أنواع الحيوانات.
Quoted by Thomas Steel Hall, Introduction to Treatise on Man (Cambridge, MA: Harvard University Press, 1972), pp. XIII–XIV
22- L.C. Rosenfield, From Beast-Machine to Man-Machine. Animal Soul in French Letters. From Descartes to La Mettrie (New York: Octagon Books Inc., 1968), p. 8.
In a letter to Mersenne of 1633 he writes, “J’anatomize maintenant les teˆtes de divers animaux pour expliquer en quoi consistent l’imagination, la memoire.” (Cousin, Vol. IV, p. 255). Also in a letter of January 20 he refers in detail to experiments of vivisection, “Apres avoir ouverte la poitrine d’un lapin vivant . . . . en sorte que le tron et le coeur de l’aorte se voyent facilement . . . . Poursuivant la dissection de cet animal vivant je lui coupe cette partie du coeur qu’on nomme sa pointe (ibid., Vol. VII, p. 350).
في 20 حُزيران عام 1640، في رده على ميرسين الذي سأله لماذا تشعر الحيونات بالألم إن لم يكن لديها روح، طمأنه ديكارت بأنها لا تشعر بالألم، لأن الألم يوجد في الفهم، الذي يغيب عند البهائم.
See, Rosenfield, op. cit., p. 8
أدت هذه الحُجج الى اطمئنان العديد من مُعاصري ديكارت ذوي التفكير العلمي بأن الحيوانات لا يلحقها أي ألم أثناء تشريحها وهي حية. هذه هي الطريقة التي وَصَفَ بها جان فونتين Jean de La Fontaine الجو الذي نشأ في بورت رويال من خلال الايمان بالحيوان الآلة: "بالكاد لم يكن هناك أي فرد لم يتحدث حول الآلات... قاموا بضرب الكلاب بلامبالاة تامة... قالوا أن الحيوانات كانت ساعات. الصرخات التي كانت الحيوانات تُطلقها عند ضربها مجرد صوت النوابض (الزنبركات) التي يتم ضربها، لكن الجسد كان بلا احساس. قاموا بتسمير الحيوانات المسكينة على الألواح من أقدامها الأربعة لتشريحها ورؤية الدورة الدموية التي كانت موضوع حديثٍ رائع.
Quoted by Rosenfield, ibid., p. 54
23- مثّل ايمان ديكارت بآلية الحيوانات انقلاباً تاماً على المفهوم حول الحيوانات الذي ساد في العصور الوسطى وحتى القرن السادس عشر، والذي كان يعتبرها كائنات ذكية ومسؤولة ولديها خيال متطور وحتى القدرة على التحدّث. كما أظهر الفيلسوف الفنلندي ادوارد ويسترمارك Edvard Westermarck والأكاديمية المكسيكية ايسثر كوهين Esther Cohen، تمت مُحاكمة الحيوانات واعدامها علناً في بعض الأحيان على جرائم ارتكبوها في العديد من دول أوروبا. تم تعيين مُحامٍ لها والقيام بجميع اجراءات المحكمة، واصدار الحُكم، والاعدام، مع جميع الاجراءات القانونية الشكلية العادية. طالبَ مواطنو مدينة آرل الفرنسية عام 1565، على سبيل المثال، بطرد الجنادب من بلدتهم، وفي حالة أُخرى حُرِمَت الديدان التي غَزَت الأبرشية (أي تحريم وجودها في الكنائس). عُقِدَت آخر مُحاكمة لحيوان في فرنسا عام 1845. كانت الحيوانات تُقبَل في المحكمة كشهود تبريء (تأتي الحيوانات لتشهد ببراءة شخص تحت حلف اليمين). مَثُلَ رجلٌ مُدان بالقتل أمام المحكمة مع قطته وديكه وأقسم بحضورهما أنه بريء وأُطلِقَ سراحه.
See, E. Westermarck, The Development of Moral Ideas, Vol. 1 (London: Macmillan Company, 1924), p. 254ff Esther Cohen, “Law, Folklore and Animal Lore,” Past and Present, 110, 1986
24- Descartes, Philosophical Works, Vol. 1, translated by E.S. Haldane and G.R.T. Ross (Cambridge, MA: Cambridge University Press, 1979), pp. 354–355
د- يضع ميشيل فوكو مفهومه هذا مُقابل النظرية الماركسية للسلطة والدولة. يدّعي فوكو أن الماركسية عاجزة عن تفسير "السُلطات الميكروية"، وبالتالي يبحث أيضاً عن تشكل وإعادة إنتاج بنيات معقدة للسلطة بالاعتماد على النموذج الاستراتيجي الذي بمقتضاه تفهم العلاقات الاجتماعية للسلطة ضمن سيرورة يتم من خلالها توليد بؤر للسلطة في كل مكان، مثل شبكة في نظام لا مركز له، فالسلطة لا مركز لها، ولا تتجسد في جهاز سياسي، وبالتحديد في جهاز الدولة، فهي منتشرة في كل الجسم الاجتماعي، وغير ثابتة ولا مستقرة، وتتحول من مكان لآخر. السلطة ميكروية تخترق العلاقات الاستراتيجية ضمن صراعات الحياة اليومية. وهي تضفي على السلطة طابع التعدد والكثرة، بمعنى وجود عدد لا نهائي من نقط المواجهة وبؤر عدم الاستقرار. ولكن الماركسية لا تخلط أشكال الهيمنة كلها وتضعها جميعها تحت بند مفهومٍ واحدٍ كما يفعل فوكو. إن الهيمنة السياسية، والاضطهاد البطرياركي، والتمييز العنصري، كلها تحتاج الى تحليل في تفاصيلها، ولا يمكن حشوها جميعاً تحت بند "السُلطة"، ولا يُمكن القيام بذلك دون القيام بتحليل الصراع الطبقي.
هـ- يعترف فوكو بأنه ليس أول من شكك بـ(الفرضية القمعية). كان المُحللون النفسيون يقولون بأن الرغبة تنشأ عن طريق السُلطة القمعية، ولا توجد كقوة مُستقلة. أي أن الرغبة توجد فقط عندما تكون هناك سُلطة قمعية تمنع المرء مما يُريده. رداً على النقد المُحتمل بأنه يخلط ويُشوه الأفكار القائلة بأن القانون يُشكّل الرغبة وأن السُلطة تمنع الجنس، يؤكد فوكو أن كلا الفكرتين يتمسكان بمفهوم " قانوني استطرادي حول السُلطة" يرى السُلطة أنها سلبية في الأساس وهي شيء يُقيدنا ويُعيقنا. انه يريد أن ينتقد هذا المفهوم القانوني الاستطرادي الذي يكمن وراء كُلٍ من الفرضية القمعية وموقف التحليل النفسي بأن القانون يُشكّل الرغبة. يُحدد ميشيل فوكو 5 خصائص للمفهوم القانوني للسُلطة: 1-انها تؤسس علاقة سلبية بين الجنس والسُلطة. 2- السُلطة تعمل كقانون يُحدد كيف يجب التعامل مع الجنس وفهمه. 3- السلطة تشتغل فقط لحظر وقمع الجنس. 4- تقول السُلطة أن الجنس غير مسموح به ولا يُمكن الحديث حوله، وهو حتى غير موجود. 5- يُنظَر الى السُلطة على أنها تعمل بنفس الطريقة على جميع المُستويات: يوجد قمع مُحدد في كل مكان.
ترى الفرضية القمعية أن العلاقة بين السُلطة والجنس دائماً قمعية، أما نظرة المُحللين النفسيين فترى أن الرغبة هي جُزء من السُلطة القمعية. الرغبة هي نقص. الرغبة تُعبّر عن عدم قدرة الانسان على تحصيلها، وبالتالي الرغبة موجودة لأن هُناك سُلطة تقمعها، وهكذا تُساهم السُلطة في انشاءها. هذين الموقفين هما النموذج القانوني للسُلطة. السُلطة حسب فوكو ليست قمعية وحسب بل وابداعية كذلك. السُلطة حسب فوكو ليست شيئاً خارجنا ببساطة، انها داخلنا كذلك، ورد فعلنا على السُلطات الخارجية هي جزء من ديناميكية أكبر لعلاقات السُلطة. ليس كُل سلطة تأخذ شكل القانون مثلما يقول النموذج سالف الذكر.
بالرغم من أن فوكو ينقّب بشكل مُفيد في تاريخ السُلطة، لكنه كثيراً ما يتجاهل الطابع الطبقي لها. فعلاقة الحاكمين والمحكومين ذات مستوى واحد عند فوكو، انها "علاقة سُلطة" فقط. وهو يُحاول أن يسحب مفهوم السُلطة على كل شيء ليس له علاقة مُباشرة بالسلطة. يُمكننا حسب منطقه أن نُطلق على أي فعل وأي عمل اسم (فن) مثلاً-فن السياسة، فن الادارة، فن عمل الشاي، فن العلمية، الخ. وهكذا توجد علاقات سُلطة بين كل نقطة في الجسم الاجتماعي: بين الرجل والمرأة، بين أفراد الأسرة، بين من يعرف ومن يجهل. ولكن برأينا، أنه بالرغم من أن العلاقة بين الرجل والمرأة هي علاقة اضطهادية تاريخياً نابعة من "السُلطة" الذكورية التي ترسخت في المُجتمع الطبقي، الا أن هذه العلاقة ليست علاقة "سُلطة"، فكثيراً ما يخلط فوكو من جهة بين علاقات الهيمنة المُتعددة في المُجتمع، والسلطة السياسية من جهةٍ أُخرى.
بالاضافة الى ذلك، كثيراً ما تكون تحليلات فوكو مُجرّدة للغاية. مثلاً يؤكّد أن السلطة هي دوما شكل خاص ومؤقت لصراع ما يفتأ يتكرر، والصراع المتكرر بكيفية دائمة لا يسمح باستقرار السلطة فهناك حرب لا هوادة فيها، دائمة ومستمرة من أجل السلطة، وامتلاكها رهين بالشروط المتغيرة، والاستراتيجيات المتقلبة، السلطة علاقة، والعلاقة تتغير باستمرار. ولكن برأينا هذا لا يؤكد أي شيء بخصوص السُلطة. فكل ظاهرة يُمكنها أن تكون شكلاً خاصاً اجتماعياً، يتكرر بسمات مُختلفة، وكُل ظاهرة وحدث ووضع اجتماعي يُمكنه أن يكون علاقة أيضاً، فهذا لا يقتصر على السُلطة وحدها.
25- Easlea, op. cit., pp. 132ff
26- Ibid., p. 202
27- Ibid., p. 151
و- في الحقيقة، لم يكن الدفاع عن الدين في مركز الفلسفة الديكارتية. يجب النظر الى آرائه الفلسفية ككُل قبل اصدار مثل هذا الحُكم الخاطئ. صحيح أن ديكارت كان يقول بوجود الإله، ولكن كانت نظرته مادية ومُعادية للدين في مُجملها. "كان ديكارت مادياً في رؤيته لبُنيان العالم وأصله وتطوره... وقد وضع فرضيةً عن الارتقاء الطبيعي للكون، وحتى عن تطور الحياة على الأرض وفقاً لقوانين الطبيعة...". "لقد جائت مادية ديكارت الفسيولوجية مُتناقضة مع قوله بنفسٍ مُفارقة، غير جسمية. وكان الفيلسوف يرى أن الاله نفسه هو الذي أضفى النفس على الجسد وذلك ليُميّز الانسان عن الحيوان". ونحن نوافق تماماً على ما يقوله الماركسيين السوفييت: "وتُحاول الفلسفة البرجوازية المُعاصرة ألا تُبرٍز الا الثغرات المثالية في فلسفة ديكارت كالتسليم بوجود الإله والجوهر الروحي وبعض آرائه المثالية عن عملية المعرفة. أما الفكر التقدمي، وإن كان يُنكر على ديكارت مثاليته وثنويته، فيرى فيه مُفكراً فذاً وعالماً مُجدداً في ميادين الرياضيات والفلك والفيزياء والفسيولوجيا، وأحد مُبدعي الفهم المادي للطبيعة".
موجز تاريخ الفلسفة، جماعة من الأساتذة السوفييت، ترجمة توفيق سلّوم، دار الفارابي 1989، ص161، 164، 166
28- لقد قِيلَ أن منظور هوبز الميكانيكي أعطى مزيداً من القوى والديناميكية للجسد أكثر مما فعل ديكارت. يرفض هوبز أنطولوجيا ديكارت الثُنائية، ويرفض، على وجه الخصوص، فكرة العقل على أنه شيء غير مادي. وبالتالي، في رأيه، يعتبر الجسد والعقل سلسلة واحدية، بحيث يُمكن تفسير العمليات العقلية ونشاط الأجساد الحي على أنها تطبيق للمبادئ الفيزيائية وخاصةً الفسيولوجية. ومع ذلك، يقوم هوبز، وليس أقب من ديكارت، بتثبيط قُدرة الكائن الانساني لأنه يُنكر أي حركة ذاتية ويشرح جميع التغيرات الجسدية على أساس آليات الفعل-رد الفعل، على إثر مُقاومة عضو الاحساس الذي يُجابه النبضات الذرية القادمة من العالم الخارجي. الخيال هو احساس مُتحلل. العقل ليس سوى آلة حاسوبية. تُفهم العمليات الجسدية عند هوبز، وليس أقل من ديكارت، من منظور السببية الميكانيكية، وهي مواضيع نفس التشريع العالمي الذي ينتظم عالم المواد غير الحية في آطاره.
29- الليفياثان، توماس هوبز، ترجمة ديانا حرب وبُشرى صعب، دار كلمة ودار الفارابي 2011، ص105-106
30- نفس المصدر، ص176
ز- لم يكن رفض عضوية هوبز في الجمعية الملكية بتلك الدرجة من الأهمية التي تصفها الكاتبة. لقد كان طاعناً في السن عندما تم رفضه. أما عن السبب، فقد كانت مواقفه السياسية واللاهوتية هي التي كانت مُحرجة لعلماء الجمعية المَلَكية نظراً لأنه كان يتشارك معهم نفس النظرات الميكانيكية. كانت خلافاتهم السياسية والدينية معه سبباً في حرصهم على عدم قبوله.
31- John Bowle, Hobbes and His Critics. A Study in Seventeenth Century Constitutionalism (London: Oxford University Press, 1951), p. 163
32- Ibid., pp. 97–98
33- Easlea, op. cit., p. 159
34- Bowle, op. cit., p. 167
حـ البيوريتانيين وهم طوائف بروتستانتية متطرفة في القرنين السادس عشر والسابع عشر كانت تدعو الى تطهير الكنيسة من رجس المُمارسات الكاثوليكية.
35- Hobbes, Behemot, English Works VI, p.190
ط- الحفارين هم مجموعات من المُحتجين على النظام الاقطاعي في القرن السادس عشر كانوا يدعون الى استغلال الأرض غير المملوكة، وزراعتها وتوزيع ثمارها على الناس.
أما المتشدقون فكانوا يعتبرون أن الله خلق كل شيء، بما في ذلك الفضائل والخطايا، وأن الله أودع أسراراً في الخطايا، وعلى ذلك فإن القيام بها هو شيء يُرضي الله. لذلك كانوا يُمارسون الجنس الجماعي وشرب الخمر والرقص والتعرّي ويدعون لذلك.
36- Ibid., p. 24
37- Linebaugh, The London Hanged (Cambridge: Cambridge University Press, 1992)
ط- القوادس هي سُفن ذات مجاديف استُخدِمَت كمرافق سجون بدلاً من السُفن الحربية. تم التخلي عن ذلك عام 1748 واستُبدِلَت بسجون المُدانين في الموانئ البحرية. كان يُحكَم على المُدانين أيضاً بالعمل الشاق في هذه السفن لتجديفها. أحياناً كان مطلوباً من المحاكم توفير 260 رجلاً مُداناً لقادسٍ واحد.
38- Christopher Hill, Antichrist in Seventeenth Century England (Oxford: Oxford University Press, 1971), pp. 118ff
39- Easlea, op. cit., p. 140
من المُغري هُنا أن نقترح أن هذا الشك فيما يتعلق بإنسانية "الطبقات الدُنيا" هو السبب الذي جَعَلَ قِلّةً، من بين نُقّاد الميكانيكية الديكارتية الأوائل، يعترضون على نظرة ديكارت الميكانيكية لجسد الانسان. كما يُشير روزنفيلد "هذا أحد الأشياء الغريبة في النقاش بأكمله. لم يأخذ أي من المُدافعين المُتحمسين عن روح الحيوان في هذه الفترة الأولى الهَراوة للحفاظ جسد الانسان من لوثة الميكانيكية".
See Rosenfield, op. cit., p. 25
40- Christopher Hill, The World Upside Down: Radical Ideas During the English Revolution (New York: Viking Press, 1972), pp. 181ff Peter Linebaugh and Marcus Rediker, The Many Headed Hydra (Boston: Beacon Press, 2000)
ي- الأدب الاليزابيثي، هي مجموعة من الأعمال الأدبية التي كُتِبَت في عهد اليزابيث الأولى ملكة انجلترا (1558-1603). كلمة اليزابيثي هي مُجرّد مرجع زمني لا يصف أي خاصية مُتعلقة بذلك الأدب.
41- مسرحية العاصفة، وليام شكسبير، تعريب أنطوان رزق مشاطي، دار نظير عبود، الفصل الخامس.
42- Quoted in Christopher Hill, Puritanism and Revolution (New York: Schocken Books, 1964), p. 345
43- Tillyard, op. cit., p. 75. Christopher Hill, The Antichrist in Seventeenth Century England (Oxford: Oxford University Press, 1971), p. 143
ل- لا أعرف بالضبط ما علاقة استخدام أدوات المائدة، بالتحولات والممارسات التي تخص الجسد.
في العصور الوُسطى الأوروبية، لم يكن المضيفون يقدمون أدوات المائدة لضيوفهم، لذلك كان الناس يحملون سكاكينهم وملاعقهم معهم تحت أحزمتهم. كانوا يستخدمون السكين في وخز قطعة الطعام وأكلها وهي مُعلقة على نصل السكين، وليس تقطيعها. أقرب فكرة أمكنني تخمينها فيما يخص ما كانت تقصده المؤلفة في علاقة استخدام أدوات المائدة بالتحولات والممارسات التي طرأت بالنسبة للجسد وهي أنه ظهرت، مجموعة من الاتيكيتات المطلوبة لضبط الجسد والفم أثناء الطعام.
44- Elias, op. cit., pp. 129ff
45- Philip Greven, op. cit., p. 67
46- Ibid
47- David Hunt, Children and Parents in History (New York: Harper and Row, 1970), pp. 143–146
48- Lynn Thorndike, History of Magic and Experimental Science, VIII (New York: Columbia University Press, 1958), pp. 553ff
49- Edgar Furniss, The Position of the Laborer in a System of Nationalism (New York: Kelly and Millan, 1957), pp. 17ff
50- Peter Burke, Popular Culture in Early Modern Europe (New York: New York University Press, 1978) F. Gaus, “Social Utopia in the Middle Ages,” Past and Present, 38, 1967.
وفقاً لـ ف. غاس، ظَهَرَ اسم كوكين لأول مرة في القرن الثالث عشر، ويبدو أنه تم استخدامه في السُخرية. أول سياق عُثِرَت هذه الكلمة فيه هو تهكم على دير انجليزي في زمن ادوارد الثاني.
ibid., p. 9
يُجادل غاس الفرق بين مفهوم القرون الوسطى "أرض الروائع" Wonderland، ومفهوم "اليوتوبيا" الحديث: "في العصر الحديث، تعني الفكرة الأساسية لإمكانية بناء العالم المثالي أن اليوتوبيا يجب أن تُسكَن بكائنات مثالية تخلصوا من أخطائهم. يتميز سكان المدينة في اليوتوبيا بالعدالة والذكاء... من ناحية أُخرى، تنطلق الرؤى القروسطية اليوتوبية من الانسان كما هو وتسعى الى تلبية رغباته الحالية.
في الكوكين على سبيل المثال، هناك وفرة من الطعام والشراب، لا توجد هناك رغبة في أن يتغذى المرء حسياً وبشكل معقول، بل فقط الافراط في تناول الطعام بشكل جشع كما يتوق المرء في الحياة اليومية. في هذا الكوكين... هناك أيضاً ينبوع الشباب، الذي يدخل فيه الرجال والنساء من احدى جهاته ليخرجوا من الجهة الأُخرى شباب وفتيات جميلين. يصير الأمر وكأنه "مصباح الأُمنيات" والذي يعكس بشكلٍ جيد النظرة البسيطة للحياة المثالية. بعبارة أُخرى، لا يُجسّد نموذج كوكين أي مُخطط عقلاني أو فكرة حول "التقدم"، ولكنه "عياني" جداً، يستند الى حالة القرية.
ibid., pp. 7–8
51- Burke, op. cit., p. 190

ترجمة لمقالة:
Silvia Federici Professor and Teaching Fellow (2004) The great Caliban: the struggle against the rebel body – part two, Capitalism Nature Socialism